الحكاية السابعة
ومن ذلك الوقت بَسَمَ له الدهر فأصبح إلياس رب ثروة وافرة، وصاحب أملاك واسعة، حسده عليها جيرانه ومواطنوه فقالوا عنه: «إلياس رجل مبخت حالفه الجد؛ فرافقته السعادة، وأقبلت عليه الدنيا، فأصبحت طوع بنانه.» ثم ذاع صيته وعلت شهرته وتهافت على زيارته كثيرون من سراة القوم، وتسابق إلى معرفته العدد العظيم ممن ودوا التقرب منه، فكان يكرم مثواهم ويذبح لهم الذبائح، ويقدم لهم كل شهي من الطعام ولذيذ من الشراب.
لم يرزق إلياس إلا ولدين وابنة كانوا عضده الأقوى أيام بؤسه، يفلحون له الأرض، ويرعون الماشية، ويباشرون كل أعمالهم بأنفسهم، أما وقد ارتاش إلياس فقد تصارعت بين نفسيهما عناصر المفاسد، ثم لقي أكبرهما مصرعه في عراك، وأدمن الآخر على تعاطي المسكرات، وانقاد لامرأته في عدم إطاعة أبيه والإذعان لأوامره، فانفصل عنه بعد أن لم يطق معه صبرًا، وقد منحه إلياس منزلًا يأويه، وجاد عليه ببعض الماشية؛ كي تعاونه على الحياة، فكانت هذه التجزئة سببًا في تصغير ثروته وفاتحة لمصائب جمة، فعلى أثرها انتشر وباء فتاك حصد كثيرًا من أغنامه، وتلا ذلك سوء محصول القمح، ثم أغارت عليه قبائل الكرغيز فسلبته الصافنات من جياده، فأتى هذا ضغثًا على آباله، وهكذا نخرت عوامل الضعف في ذلك الثراء فانهار عليه بنيانه، وأخذت عوامل التلاشي تعبث ببقايا تلك الثروة الدارسة، بينا كان إلياس يوسع الخطا نحو القبر ويئن تحت عبء الشيخوخة الثقيل؛ إذ أربى على السبعين وقد انقطعت عنه أخبار ابنه القاصي، أما الابنة فعدا عليها المنون واختطفها من بين أبويها، وبذلك فقد الشيخ وزوجه آخر نصير لهما في الحياة …
نزلت بهما كل هاتيك المصائب، وأحاطتهما الشدة إحاطة السوار بالمعصم، فألجأتهما إلى بيع كل ما عندهما من بقايا أثاث المجد القديم حتى أصبحا لا يملكان إلا ما يستر عورتهما من ثياب أبلاها الدهر والحدثان، وما هي إلا عشية وضحاها حتى كنت ترى الشيخ وزوجه في حالة يستمطران معها أكف المحسنين ويسألان العطف بعجوزين تَقوَّس ظهراهما تحت عبء الفاقة والكبَر، وهكذا أنزلهما الزمان في الحضيض بعد السنام، وصدمهما بكلكله؛ فاسترد ما أعارهما من مجد مؤثل، وعز قديم.
بجوار منزل إلياس كان يقطن محمد شاه رجل طيب القلب كريم الأخلاق، إلا أنه ليس من ذوي الثراء الواسع، ما كاد هذا الرجل يرى ما وصل إليه جاره حتى تذكر مجده الضائع، وكرمه الماضي، وعاودته ذكرى تلك السعادة التي تقلب بين أعطافها زمنًا طويلًا، فعطف عليهما وقال لهما: «هيا عيشا معي أيها الرفيقان، واشتغلا بقدر ما تسمح به قوتكما، وأنا الكفيل بأمر طعامكما ولباسكما وقضاء كل مهامِّكما.» فلم يسعهما إلا أن يشكراه على حسن صنيعه، وأصبحا من ذلك الوقت مشمولين برعايته بعد أن انتظما في سلك خدمته.
لقد بدا لهما المركز حرِجًا والعمل شاقًّا في أول الأمر، إلا أنهما ألِفاه بتأثير العادة، واستمرا يباشران كل ما يقوَيان عليه من العمل بهمة ونشاط، وكان محمد شاه يرى أن من منفعته الاحتفاظ بمثل هذين العاملين؛ لأنهما تمرنا على كثير من الأعمال، فضلًا عما كان يبدو عليهما من اليقظة والنشاط، إلا أنه من جهة أخرى كان كلما تمثلت أمام عينيه شدة السقطة التي لاقاها هذان المنكودان — سقطة المجد من أعلى قمته إلى أعماق هاوية المذلة السحيقة — هز رأسه أسفًا وحزنًا.
واتفق مرة أنْ وَفَدَ علَى محمد شاه بعضُ أقاربه القاطنين لزيارته وبرفقتهم أحد المتصوفين (ملَّا)، وبينما هم جالسون يشربون الكومس وإذا بشيخ نقض الدهر مرته يمر من أمامهم، فالتفت إليهم صاحب الدار قائلًا: «ألا ترون هذا الرجل؟» فأجابه أحدهم: «نعم، وماذا بعد؟!» فاستمر يقول: «إن اسمه إلياس، ولقد أتى عليه يومٌ كان فيه أغنى رجل بيننا، وأكبر وجيه في هذه النواحي، أما الآن وقد قلب له الدهر مجنه فأصبح مثمودًا ضريكًا فقد أشفقت عليه هو وزوجه، وشملتهما بعطفي، وأدخلتهما في خدمتي يشتغلان معي بقدر ما تسمح إرادتهما، وإني لا أخالكم قد سمعتم بهذا الاسم من قبل.»
فقال الزائر: «كيف لا وقد عبقت شهرته في طول البلاد وعرضها؟!» واستمر المضيف يقول: «وهو وزوجه يقيمان معي الآن، ويشتغلان عندي كعاملين.»
فهز الزائر رأسه بعد أن بدت على وجهه علامات الأسف وقال متأوهًا: «ما أشبه الحظ بدورة الفلك! فهو آونة يرفع المرء إلى سماء السعادة وجنات النعيم، وأخرى يؤدي به إلى مقر البؤس والنحوس، ولكن هل قلبه — يا ترى — مفعم بالحزن والأسى على تلك السعادة المفقودة والثروة الضائعة؟!» فقال محمد شاه: «ومن يدري؟! فهو يعيش عيشة يحوطها الهدوء، وتظللها السكينة، ويباشر العمل بهمة لا تعرف الكلل.»
فقال الضيف مخاطبًا صاحب الدار: «أتأذن لي ببضع دقائق أقضيها في محادثة هذا الشيخ لأستجلي بعض أسرار حياته الماضية؟!»
– «ولم لا؟!»
فناداه صاحب الدار قائلًا: «تعالَ أيها الشيخ الجليل لتشاركنا في بعض كئوس من الكومس نقدمها إليك.»
فاقترب إلياس محييًا سيده وسائر ضيوفه، ثم ناوله كأسًا إلا أنه ما كاد يأخذ منها جرعة نخب الحاضرين حتى أعادها مكانها وجلس بجانب الباب، وكذا أتت زوجته وجلست مختبئة وراء الستائر، بعدئذ ابتدأ الضيف في محادثته قائلًا: «إننا — على ما أظن — مسيئون إليك بوجودك بيننا، فإن ذلك ربما يذكرك سعادتك الماضية، ويعيد إليك أشجانك الحاضرة.» فتبسم إلياس وقال: «إن أردتم أن أحدثكم عن السعادة والشقاء فلا أظنكم مصدقيَّ، والأحرى بكم أن تسألوا زوجتي فهي امرأة، وكل ما في قلبها يظهر جليًّا على لسانها، فكلامها الصدق، وحديثها هو كل ما يختلج في أعماق فؤادها.»
فأدار الزائر وجهه نحو الستائر وسأل زوجة الشيخ: «كيف تقيسين بين سعادتك الغابرة، وشقائك الحاضر؟» فأجابته قائلة: «أصغ إليَّ؛ فسأفضي إليك بالحقيقة، قضيت أنا وزوجي نحوًا من خمسين عامًا باحثين عن شيء مفقود منقِّبين عنه في كل مكان فلم نجده إلا الآن، نعم في هاتين السنتين الأخيرتين فقط منذ فقَدنا كلَّ شيء وصرنا عاملين عثرنا على ضالتنا المنشودة، عثرنا على السعادة الحقيقية التي لا مطمع لنا بعدها.»
ما تفوهت المرأة بهذا الحديث حتى التفت كل من الجالسين إلى الآخر التفاتة دلت على ما داخَلهم من الاندهاش، إلا أنها استمرت في حديثها بكل تؤدة وهدوء: «مكثنا نصف قرن كاملًا ونحن نفتش عن السعادة بين رياش الغنى، وفي قصور الثراء، فلم نعثر عليها إلا الآن؛ حيث ولَّت هاتيك الأيام كالأشباح، وانصرمت تلك الأوقات المشعشعة بأنوار الثروة.» فسألها الضيف: «كيف ذلك؟! وماذا تعنين بالسعادة؟!»
فأجابته: «ما أشرقت علينا شمس الغنى حتى ظهرت من ورائها المتاعب الجمة، وتوالت علينا الهموم العديدة، كنا نجلس لنفكر في الاهتمام بأمر أنفسنا قليلًا، ونود لو تفرغنا لتأدية الصلاة، ولكن هيهات! كنا نحاول النوم ولكن من أين لنا ذلك وجيوش الأفكار تتقفانا؛ فتطرد عن أعيننا الكرى، وأشباح المخاوف والوساوس تتأثرنا فتبعث بنا في ظلمة الليل وسكونه إلى حيث نخاف أن يفترس الذئب فلوًا أو عجلًا، أو يسرق اللصوص بعض خيولنا ونعاجنا، وهكذا كلما خامر فؤادنا الريب، ولعبت بنا الهواجس؛ دفعَنا الحذر إلى الاستيقاظ عدة مرات.
كان يقصدنا الضيوف على اختلاف مشاربهم وتباين طبقاتهم، فكنا نضطر إلى تضييفهم بما نقدمه لهم من أنواع الطعام ومختلف الشراب، وما نتحفهم به من الهدايا الفاخرة؛ حتى نحبس ألسنتهم فلا نكون هدفًا لسهام لعنهم، ونسد أفواههم فلا يُنزلون علينا وابلًا من قذائف اللوم والتقريع.
وفضلًا عن ذلك لم يكن هناك توفيق بيني وبين زوجي، فكنا على تباين تام، وكان هذا مبعثًا لاضطرام نار الشحناء التي كانت تتأجج ساعات وأيامًا، هذه كانت حياتنا سلسلة شقاء متواصل، فمن أين إذن تطرق السعادة بابنا؟! وكيف نتمتع بالرخاء والهناء وهذه حالنا؟! أما الآن فنستيقظ من نومنا متبادلَين تحية الصباح، ثم نتناول طعام الإفطار ونخرج إلى العمل؛ حيث نقضي سحابة نهارنا في هدوء شامل لا يكدر صفوه مكدر، وعند الأوبة من العمل نلقى أمامنا من الطعام ما نأكله مريئًا، ومن الشراب ما نلذ به هنيئًا، وأمامنا متسع من الوقت يمكننا من الاهتمام بأنفسنا وتأدية فرائض العبادة لله، وإذا دلفنا إلى فراشنا ننام ملء جفوننا لا تزعجنا الأحلام، ولا ترهبنا المخاوف والأوهام، فها هي السعادة التي نقبنا عنها نصف قرن ولم نعثر عليها إلا في هذه الأيام.»
ما أتمت المرأة حديثها حتى سخر منها الحاضرون، إلا أن إلياس استفزه الغضب فقال لهم: «لا تسترسلوا في ضحككم أيها الرفاق؛ فليس في الأمر ما يستوجب المجون والمزاح، وما هي إلا حقائق الحياة نسردها لكم، لقد تملكَنا الجهل بادئ بدء؛ فانسجمت عبراتنا حزنًا على ذلك العز الضائع، ولكنها الحقيقة أراد الله أن يريَنا إياها ناصعة، فنحن الآن نقصها عليكم؛ لا لمنفعة نترقبها؛ أو فائدة ننشدها، إنما هي لفائدتكم، وذكرى لمن يذَّكر.»
فقال الملَّا: «إن هذه لموعظة بالغة، وقول إلياس الصدق؛ إذ هو موافق لما ورد في الأحاديث المأثورة.» فأمسَكوا عن الضحك، وأطرَقوا كلهم يفكرون فيما دار بينهم من الحديث.