الحكاية الثامنة
عثر بعض الصبية ذات يوم في أحد الأقبية على شيء يشابه في الشكل حبة القمح في وسطها شق ينتهي بنهايتها، ولكنها في الحجم تبلغ بمقدار بيضة الدجاج، فرآها بعض السابلة في أيدي الصبية واشتراها منهم ببنس واحد، ثم حملها إلى المدينة؛ حيث باعها للملك كعجيبة من عجائب الزمن.
وجمع الملك علماءه وطلب منهم أن يكشفوا له عن حقيقة تلك العجيبة، فأغرق العلماء في التفكير والبحث والتمحيص دون أن يهتدوا إلى الحقيقة، وبقي أمرها خافيًا إلى أن طارت نحوها دجاجة وهي في نافذة من نوافذ قصر الملك ونقرتها حتى نقبتها، وعندئذ انكشفت الحقيقة وانجلى السر، وعلم كل من رآها أنها حبة من القمح! فهرع العلماء إلى الملك وزفوا إليه بشرى الحقيقة.
فدهش الملك حينئذٍ وطلب إليهم أن يأخذوا في درس هذه القمحة ويخبروه في أي زمان زرعت وفي أي مكان نبتت، فعاد العلماء إلى الدرس والتفكير منكبِّين على كتبهم للوصول إلى الحقيقة، إلا أنهم لم يفوزوا بطائل، ولم يستطيعوا حل اللغز فقالوا للملك: «لا نستطيع أن نجيبك؛ لأننا لم نعثر في الكتب التي بين أيدينا على تفسير لهذا المُعَمَّى، فليأمر مولانا الملك بسؤال الزارعين في هذا الشأن؛ إذ قد يوجد بينهم من سمع شيئًا من آبائه عن زراعة القمح في مثل هذا الحجم.»
فأرسل الملك بطلب مزارع من القرويين المعمرين، فبحث عمال الملك عن رجل فيه الأوصاف المطلوبة، وكان ردًّا شاحب اللون، لم تبقِ الأيام على هيكله البالي سوى جلد مجعد على عظم دقيق، وكان منحني الظهر يتوكأ على هراوتين تساعدانه على الحركة، فلما مثل بين يدي الملك عرض عليه القمحة، فجعل يفحصها بعينيه الضعيفتين اللتين لم يبقَ فيهما سوى بصيص ضئيل من نور الإبصار، فسأله الملك: «أيها الشيخ العجوز، أتخبرنا أين تنبت مثل هذه القمحة؟ وهل تذكر أنك اشتريت قمحًا من نوعها أو زرعت في حقلك ما يماثلها؟»
وكان الشيخ الفاني مصابًا بشيء من الصمم، فلا يسمع إلا بعد جهد، ولا ينطق إلا بمشقة، فأجاب بعد عناء شديد: «كلا، إنني لم أزرع مثل هذه القمحة في حقلي، ولم أشترِ ما يشابهها، فالقمح الذي كنا نشتريه صغير الجرم كقمح هذه الأيام، ويمكن الملك أن يسأل أبي؛ إذ ربما يكون قد سمع شيئًا عن وجود مثل هذه القمحة.» فأرسل الملك في الحال في طلب أبيه حتى إذا ما مثل بين يديه رأى الملك منه شيخًا أقوى من الابن قليلًا، ينظر بعينين أكثر بريقًا من عيني الابن، ولا يعتمد في سيره إلا على هراوة واحدة، فسأله القيصر عندما عرضت عليه القمحة لفحصها: «أتعرف أيها الشيخ أين تزرع مثل هذه القمحة ومتى زرعت، وهل اشتريت ما يماثلها في زمنك؟»
وكان هذا العجوز أحسن سمعًا من الابن فأجاب على الفور: «لم أزرع ولم أحصد مطلقًا مثل هذا القمح في حقلي، أما أني اشتريت قمحًا فلم يحصل في زمني؛ لأن النقد كان غير مستعمل في عهدي، وكان كل منا يزرع ما يحتاج إليه من الحنطة، ويبادل على الحاجيات الأخرى بالقمح الزائد عن حاجته، لا أعلم أين كان يُزرع مثل هذا القمح؛ لأنني لم أرَ له مثيلًا، وفي عهدنا كان القمح أكبر حجمًا، وأوفر برًّا، إلا أنه لم يكن في هذا الحجم، غير أنني سمعت من أبي أن قمح زمانهم كان أكبر حجمًا، وأوفر برًّا من قمح زماننا، ويجدر بك أن تسأله في هذا الشأن.»
فبعث القيصر في أثر والد هذا الشيخ، وما عتم أن جاء على قدميه لا يتوكأ على هراوة، ولا هراوتين، وكان براق العينين يتكلم بوضوح بلا تلجلج، وعندما أعطاه الملك حبة القمح تناولها وجعل يقلبها بين أصابعه قائلًا: «لقد طال العهد، ولم أرَ قمحة من هذا الصنف.» ثم أخذ منها قطعة بثناياه فتذوقها، وأضاف قائلًا: «إنها بلا ريب من قمح ذلك الزمن.»
فقال له الملك: «أخبرنا يا جد الجدود أين كان ينبت مثل هذه القمحة؟ وهل اشتريت ما يماثلها في عصرك؟ وهل زرعت ما يضارعها في حقلك؟»
فأجاب الشيخ العجوز: «إن مثل هذا القمح كان يزرع في كل مكان في عهدنا، وقد نشأت عليه وزرعته بنفسي وحصدت منه بيدي طول تلك الأزمان الغابرة.»
فسأله الملك: «وهل اشتريت مثل هذا القمح في زمنك؟»
فابتسم الشيخ وقال: «لم يفكر أحد من أبناء ذلك العصر في اقتراف مثل هذا الإثم؛ إذ كنا لا نعلم شيئًا عن التعامل بالنقود، وكان كل إنسان يحتفظ من القمح بقدر كفايته.»
فقال القيصر: «إذن خبرني أيها الجد، أين كان حقلك الذي كنت تزرع فيه هذا القمح؟»
فأجاب الشيخ: «كان حقلي أرض الله الواسعة؛ فحيث أحرث أزرع، وحيث زرعت أحصد، وما كان لإنسان حقل يدَّعي ملكيته، كانت الأرض مباحة للجميع، ولا يملك الإنسان سوى عمله وكسب يده.»
فقال القيصر: «أجبني إذن عن سؤالين آخرين: أولهما: لماذا نما مثل هذه القمحة في ذلك العهد، ولم ينمُ في هذا الزمن؟ وثانيهما: لماذا جاءني حفيدك يتوكأ على هراوتين، وأبوه على هراوة واحدة، وأنت جئت بلا هراوة، براق الثغر، ثابت الجأش، متلألئ العين، فصيح اللسان؟! فما السر في كل ذلك؟!» فأجاب الشيخ العجوز: «السر في ذلك أن الناس أصبحوا لا يعوِّلون في حياتهم على العمل بأنفسهم، وإنما جنحوا إلى الاتكال والتطفل على عمل سواهم، كان الناس في زماننا يعيشون تحت ظلال شريعة الله، فكان أحدهم لا يحتكم إلا بما تجنيه يداه، ويربأ بنفسه أن يغتصب ما جناه غيره.»