الفصل الأول
انتهيت من قهوتي ووضعت الكوب الخزَفي في الحوض، ثم نزعت قمة ماكينة القهوة وأفرغت مخلَّفاتها في وعاء القمامة، نظَّفت الطاولة الخشبية المرتفعة إلى مستوى الصدر، ثم انتقلت إلى السطح الرخامي للخزانة المثبتة في الحائط، أزَلت فُتات الخبز وأزحت الاستريو جانبًا، وواصلت التنظيف، وأنا أتابع الحركة الأخيرة في سيمفونية لم أتعرَّف على مؤلفها.
مضيت إلى غرفة النوم، فتأكدت من إغلاق المصراع الزجاجي المنزلق المُطِل على الحديقة الخلفية، ألقيت نظرة على «السولاريوم»، ثم عدت إلى المطبخ، كانت الموسيقي قد توقفَت، وانطلق صوت المذيع يلهَث: «باي ناو، باي ناو.» ظننت أنه يودِّع المستمعين في عجلة، ثم أدركت أنه يَستحثُّهم على شراء شيء ما، أنصَتُّ لأعرف ماذا يبيع، لكنَّه اكتفى بأن كرَّر في حماس: «اشترِ الآن، اشترِ الآن.»
أغلقتُ الراديو وأحكمت إغلاق النافذة المُطلَّة على حديقة المنزل المجاور، انتقلت إلى الغرفة المُطلَّة على الشارع، فتأكَّدت من إغلاق نوافذها، ثم حملتُ كيس القمامة في يدٍ وكيس الفوارغ الزجاجية في الأخرى، ومضيت إلى باب المسكن، وضعتُ حملي على الأرض وأزلت السلسلة الحديدية، ثم أخرجتُ سلسلة مفاتيحي وانتقيت مفتاح القُفل الأعلى ومفتاح القفل الأسفل، دفعتُ الباب إلى الخارج وعبرتُ الردهة التي يُطلُّ عليها، ألقيتُ نظرة على باب المسكن المجاور، استخدمتُ مفتاحين كبيري الحجم لقُفلي الباب الخارجي، وجذبتُ مصراعه. عدتُ إلى الداخل، فالتقطت كيسَي القمامة، وخرجتُ إلى الحديقة الصغيرة المطلَّة على الشارع.
كانت شمس الظهيرة في قمة توهُّجها، لكن النسيم القادم من جهة المحيط حوَّل شهر «أغسطس» إلى ربيع، وبدا الشارع الذي تحفُّ بجانبَيه الزهور والأشجار بلا مارَّة أو سيارات، هبطتُ درجتين ودُرت حول واجهة المنزل في ممرٍّ يؤدي إلى الحديقة الخلفية، تغطيه سقيفة خشبية لتصنع منه جاراجًا، أودعتُ حملي في صندوقي القمامة بمدخله، وأعجبتني نظافتهما وإحكام غطاءَيهما، وعند عودتي لحظتُ الخطابات الموضوعة فوق سطح صندوق البريد، لم أكن أنتظر رسائل من أحد، لكني تصفَّحتُها محاولًا التعرف على أسماء جيراني، ثم حملتها إلى الداخل في بادِرة حُسن جوار، وتركتُها فوق طاولة خشبية بجوار الباب الخارجي مغطَّاة بالنشرات الإعلانية الملوَّنة.
أغلقتُ الباب الخارجي ووَلجت مسكني، تركتُ الباب مفتوحًا ومضيت إلى الحمام؛ فغسلتُ يدي وأنا أتأمَّل وجهي في المرأة، اتجهتْ عيناي إلى تجعيدةٍ خفيفة في جانب فَكِّي الأيسر، وخيِّل إليَّ أنها ازدادت بروزًا فامتعضتُ، تذكرتُ جاري في القاهرة وهو مهندس ري، فَرضت عليه مهنته التجوال في أنحاء البلاد إلى أن تقاعد، فصرتُ أصادفه يوميًّا عندما أتسوَّق، لفَت نظري بطريقته في السير؛ إذ يميل بكل جسمه يسارًا ويمينًا مع حركة قدميه، وبتقطيبةٍ غاضبة لا تغادرُ وجهه المتغضِّن.
سوَّيتُ ما تبقَّى من شعري الفِضي، وشبكت قلمًا في جيب قميصي ذي الكمين القصيرين، ثم حملتُ حافظتي الجلدية ومضيت إلى الخارج، أغلقتُ باب المسكن، وتردَّدتُ أمام سلَّة تضم عدة مِظلات، فكرتُ أن أستعير واحدةً أواجه بها تقلُّبات الطقس، ثم عدلتُ عن الفكرة وأغلقت الباب الخارجي بقُفلَيه، عبرتُ الممشَى الضيق، وخطوت إلى الطريق.
مضيتُ فوق الرصيف مبتعدًا عن الجزء المخصَّص للدراجات، وأنا أتأمَّل المنازل المصطفَّة على الجانبين، كانت كلها مثل منزلي تتألف من طابقٍ واحد، وسطحٍ مائل من القرميد البني اللون ونوافذ مسدلة الستائر، وجاراجات مفتوحة وخالية، ولم أرَ أحدًا من الجيران.
مرَّت بي سيارة قمامة أنيقة نظيفة، يقودها عامل في ملابسَ نظيفةٍ، وبلغت تقاطع بوليفار «جيري»، فانعطفت يمينًا، مضيتُ بجوار ساحة واسعة لبيع السيارات المستعملة تلَتْها مبانٍ سكنية عالية ذات واجهات حديثة ومداخل مؤمَّنة، أوشكتُ أن أهبط إلى عرض الطريق عند التقاطع التالي دون أن أنتبه إلى إشارة المرور، غالبتُ رغبةً مصرية صميمة في اقتحام المخاطر وكسر كل ممنوع، وانتظرتُ حتى مرت السيارات القليلة، تأكدتُ من خلو الشارع من السيارات، فعبرته دون أن أحفل بالإشارة الحمراء.
كررت المغامرة مرتين، حتى بلغتُ ناصية البوليفار العريض، فكبحتْ كثرة السيارات جماحي، انتظرت حتى تغيَّرت الإشارة، فقطعت البوليفار على مهَل مع اثنين من المارَّة، إحداهما امرأة بيضاء بدينة في شورت فضفاض ينتهي أسفل ركبتَيها، مرق إلى جواري مُراهق فوق زلَّاجة خشبية يقضم ساندويتشًا باستمتاع، تسليتُ بتَعداد الشوارع التي تتتابع، نزولًا من الشارع السادس عشر الذي انطلقتُ منه حتى الشارع الثاني؛ كيلومتر ونصف كيلومتر من رصيف عريض تحفُّ به الأشجار، تبدو خلفها حوانيت قليلة؛ مطاعم وصالونات تجميل وصالات عرض، كانت الحركة هادئة كشأنها في بداية النهار، فالعاملون المجدون بكَّروا بالذهاب إلى أعمالهم، والآخرون — المتمردون — لم يستيقظوا بعدُ.
مررت بحوانيت للملابس والموسيقى ومواد التجميل والأعشاب الطبيَّة، توقَّفت أمام حانوت كبير للصحف والخردوات، وفي الحال تردَّد في أذني صوت المذيع: «اشترِ الآن.» ولَجت الحانوت وطُفت بأرجائه، ثمة رُوَّاد قليلون يقلِّبون المجلات والصحف، بل ويقرءُونها كاملة دون أن يشتروا، ودون أن ينهَرهم أحد. تذكَّرت مكتبة «مدبولي» الشهيرة وسط القاهرة، حيث يقف اثنان من صِبيته أمامها، إلى جوار الصحف والمجلات المبسوطة على الأرض، ويصيحان بلهجة تهديدية «أيوه!» إذا ما تلكَّأ أحدٌ أمامها، أو همَّ بتناول إحداها.
لم أجد العدد الجديد من «الحياة»، فأخذت «الأهرام» التي تحمل تاريخ الأمس و«سان فرانسيسكو كرونيكل»، التي تصدَّرَتها صورة «كلينتون»، فوق عنوان رئيسي بعرض الصفحة: «ضللتُ الناس بما فيهم زوجتي.» قلَّبت صفحاتِ العدد الجديد من «بلاي بوي» و«هاستلر»، واستعرضت بقيَّة المجلات الملوَّنة المصقولة التي تضُم صورًا عارية لفتيات وشبَّان في أوضاع متماثلة.
أدرتُ حاملًا للبطاقات البريدية المصورة، وانتقيتُ صورة لفتاتين عاريتَين تخطوان نحو بوابة الجامعة، كان ظهراهما للمصوِّر وشعورهما طويلة حتى الخصر، وكانت إحداهما تلوِّح بيدها اليمنى مهلِّلةً في اتجاه البوابة، بينما ألقَت ذراعها اليُسرى فوق كتف زميلتها، وحملت الأخيرة فوق ظهرها حقيبةً مدرسيَّة منتفِخة، تدلَّى منها شريط استقرَّ طرفه فوق الشق الفاصل بين فلقتَي مؤخرتها العارية. لم تكن الصورة تُثير غير الابتسام؛ بسبب واقعيتها الشديدة التي تبدَّت في أفخاذهما المترهِّلة.
حملتُ البطاقة والصحيفتَين إلى الكاونتر، فتأملتني البائعة بإمعانٍ، كانت خمسينيةً ممتلئة بيضاءَ البشرة.
خاطبتها بالإنجليزية فردت عليَّ بالعربية: عربي؟
أومأتُ برأسي مندهشًا وأضَفت: مصري.
قالت: وأنا كمان.
ذكرت لي أنها من «الإسكندرية»، وتُقيم في «أمريكا» من خمس وعشرين سنة، وفهمتُ أن الحانوت ملك لها ولزوجها، دفعتُ بالشيكات السياحية وغادرتُ الحانوت. واصلتُ السير بضعة أمتار، ثم انعطفتُ في شارع منحدر، واجتزتُ البوابة المفتوحة للجامعة، مشيتُ مسافة وسط مساحات واسعة من الخضرة تكاد تخلو من البشر؛ لأن الفصل الدراسي لم يبدأ بعدُ.
مرت بي فتاة دقيقة الحجم ذات ملامح آسيوية، ترتدي بلوزة رقيقة كشفت عن صدر صغير بلا سوتيان، وبدتْ حلمتاها منتفختَين.
من الحرارة والعيون، أم من احتكاكهما المستمر بالقماش؟
بلغتُ مبنى معهد التاريخ المقارن فجذبتُ مصراع الباب الخارجي، وظللتُ ممسكًا به لتتمكن فتاة سمينة من الخروج دون أن تعبأ بشكري، ارتقيتُ المصعد إلى الطابق الثاني، وخرجتُ إلى ردهة يتصدَّرها كاونتر دائري، تجلس خلفه سيدة سوداء ضخمة أربعينية كانت تحدِّق في جهاز كمبيوتر أمامها، وهي تقضم جانبًا من فطيرة بفمٍ بالغ الاتِّساع، حيَّيتها فردت بابتسامة متكلَّفة، وهي تعيد بقية الفطيرة إلى علبة حلوى وُضعت فوق حافة الكاونتر؛ ليأكل منها مَن يشاء، كان باب الغرفة المجاورة مفتوحًا فولجتُها.
وجهتُ التحية إلى ظهر شقراء ممتلئة تدق على مفاتيح الكمبيوتر بسرعة خاطفة، ردَّت دون أن تلتفت نحوي، وواصلت الدقَّ فجلستُ على مقعد مجاور لمكتبها، وواجهتني على الجدار صورة كبيرة ملوَّنة لها، مع شاب أشقر مثلها وطفلين يُشْبهانها.
لم تنتظر إجابتي وأضافت: لا تنسَ أن تُغلق بابك جيدًا، ولا تفتح لأحدٍ قبل أن تطمئن إلى هويته.
أوحتْ لي لهجتُها أنها تتمنى أن يحدث لي شيء، أو على الأقل ترغب في أن تحرمني نعمة الطمأنينة.
كانت «جيني» في بداية العقد الثالث من العمر، بوجهٍ نمطي لا يتميَّز بشيء، مليئة بالحيوية، تحبُّ أن تعطي انطباعًا بأنها عاملة مجتهدة تتميز بالكفاءة وسرعة الإنجاز.
فتَّشت طويلًا بين الملفات المرتبة بنظام فوق مكتبها وفي أدراجه، وفي خزانة مجاوِرة تَحمل فوق سطحها ماسحًا ضوئيًّا وطابعة ليزر، وأخيرًا قدمت إليَّ مجموعة من الأوراق لأملأ بياناتها؛ بطاقة هوية، دفتر تدريس، طلب استخدام مودم أو كمبيوتر، طلب الحصول على بريد إلكتروني، طلب استخدام المكتبة، طلب إعفاء من الضرائب على الدخل، طلب الحصول على مكان انتظار للسيارة، ثم مجموعة من الكتيبات الفاخرة خاصة بشركات التأمين الصحي.
أعَدتُ إليها طلب الحصول على مكان انتظار للسيارة؛ معلنًا أني لا أنوي امتلاك سيارة أو القيادة. ملأت الأوراق الأخرى، وتصفحتُ كتيِّبات التأمين الصحي في حيرة؛ فأنا من جيل نشأ على أن الدولة مسئولة عن صحته، ولم يألف بعدُ أن تتولى ذلك شركات خاصة.
نهضت واقفة وقدمت إليَّ حفنة مفاتيح؛ مفتاح باب المبنى، مفتاح المصعد، مفتاح المطبخ، مفتاح القسم، مفتاح صندوق البريد الموجود في غرفة صغيرة مجاورة، مفتاح جهاز النسخ وكلمة السر التي تمكنني من استخدامه، وسابع لِبابٍ يفصل بين الجناح الإداري وبين مكاتب الأساتذة.
احتفظتْ بأحد المفاتيح في يدها، ودارت حول المكتب قائلة: تعالَ أُريك مكتبك.
تقدَّمَتني إلى الخارج في نشاط وتوقفت أمام الكاونتر، فالتقطت قطعةً من علبة الحلوى التهمَتها، وهي تتجه بخطوات سريعة إلى طرقة طويلة تُطل عليها غُرَف مغلقة، توقَّفت أمام إحدى الغرف، وفتحت بابها، بينما كنت أقرأ لوحة معلَّقة على الجدار تتضمن إرشادات التصرف عند حدوث الزلازل.
تأمَّلتُ من المدخل غرفة صغيرة بها مكتبان معدنيان متجاوران، وطاولة في الوسط حولها أربعة مقاعد وخِزانة فارغة للكتب، ومشجب معدني، وكان هناك جهاز تليفون فوق أحد المكتبين.
أغلقت الباب بالمفتاح، وقدَّمته لي قائلة: والآن مسز «شادويك».
عدنا إلى الجناح الإداري، فقادَتْني إلى مكتب آخر، وقدمتني إلى سيدة بيضاء قصيرة القامة رمادية الشعر، وانصرفت على الفور، وتخيَّلتها تتنفس الصعداء.
كانت «شادويك» تجلس أمام كمبيوتر فوق مكتب وُضع بزاوية غربية مائلة في منتصف الغرفة، وتناثرت فوقه الأوراق والملفَّات في غير نظام، وتكوَّمت ملفات أخرى إلى جوارها على الأرض، وكان منظر «شادويك» نفسها ينطق بالإهمال والفوضى اللذين يحيطان بها.
دقت مفاتيح الكمبيوتر، فظهرت أمامها صفحة مقسَّمة إلى جداول، سألتني دون أن ترفع عينيها عن الشاشة: هل اخترت مواعيد محاضراتك؟
قلت: لا، ليس الأمر مُهمًّا، اختاريها أنتِ!
تطلعتْ إليَّ بعينين يقظتين من فوق نظارة، وقالت: الأمر مُهم بالنسبة لك. متى تفضِّل؛ الصباح أم بعد الظهر؟
قلت: الصباح؛ لأتمكن من الاستمتاع بالقَيلولة المقدَّسة.
قالت: أنصحك ﺑ «بعد الظهر»، في الصباح سيكون الطلَبة مقيَّدين بدروسهم الاعتيادية، الثالثة موعد مثالي للحلقات الدراسية.
قلت: لا بأس.
قالت: والأيام؟
قلت: هل هناك فرق؟
قالت: طبعًا، الإثنين أول الأسبوع، لن يتمكن ساكنو الضواحي والمدن القريبة من الحضور، ثم إنك ربما تكون خارج المدينة في عطلة نهاية الأسبوع، وتحتاج يومًا إضافيًّا، الثلاثاء هو الأنسب لك، وبعد ذلك يوم للتحضير، وتأخذ الخميس أيضًا.
استقرَّت عيناها على كُتيبات شركات التأمين الصحي التي كنتُ أحملها في يدي، فسألتني: هل اخترت الشركة التي ستؤمن لديها؟
قلت: لا، كيف أدفع ۳۰۰ دولار في الشهر؛ لرعاية لا تشمل العمليات الجراحية؟
ابتسمت قائلة: أقترح عليك البرنامج الخاص بمَن بلغوا سن الستين، لن تدفع سوى ستين دولارًا، تغطِّي الاحتياجات الصحية الأساسية، عدا الأسنان والعُوينات الطبية والعمليات الجراحية الكبيرة.
– وإذا لم أفعل؟ إذا فضَّلت أن أبقَى بلا تأمين صحي؟
– ستنضم إلى ٤٣ مليون أمريكي، لا تتحمل أجورهم أقساط التأمين الصحِّي التي ترتفع سنويًّا بمعدل يفوق ثلاثة أمثال التضخُّم، وستدفع دم قلبك للأطباء.
انصَعتُ لنصيحتها، وملأت أوراق التأمين الصحي بعد أن اخترت برنامج الستينيين، وعُدت إلى جيني، فأعطيتُها الأوراق، وبقِيَت في يدي ورقة زرقاء مطوية، تضمَّنت خريطة صغيرة لحرم الجامعة، وتحذيرات عديدة قرأتها في عناية:
– لا تفتَحْ باب مسكنِك لطارق قبل أن تتأكد من هُويته.
– فور دخول مسكنك أغلِق الباب وأمِّن القُفل.
– كن يقِظًا وانظر حولك قبل دخول ساحات انتظار السَّيارات.
– لا تكشِف عن مِفتاحك في مكان عام، أو تتركه بإهمالٍ فوق موائد المطاعم، أو في أماكن أخرى.
– لا تجذب الانتباه إلى نفسك بإبراز كميَّات كبيرة من النقود أو الحُليِّ الثمينة.
– لا تدعُ أغرابًا إلى منزلك.
– لا تتركْ أشياء ثمينة في سيارتك، وعندما تتوقَّف في مكان أغلِقْ نوافذها، وإذا غادَرتها فافعل هذا بسرعة، وأغلِقْ أبوابها بإحكام.
– تأكَّد من إغلاق الأبواب والنوافذ الزجاجية المنزلقة في مَنزلك.
تحولت منصرفًا، فابتسمت في خُبث قائلة: احذَر المشي في الشوارع بعد العاشرة ليلًا.
بدا عليَّ الانزعاج، فقالت: إذا شئت؛ أُعطيك رقم خدمة المرافقة البوليسية.
– ماذا تعنين؟
قالت: تتصل بالرقم من ٧ مساء إلى ٢ صباحًا، فيأتيك طالبٌ أو طالبة تحمل راديو شرطة، ومصباحًا كهربائيًّا طويلًا ورشَّاشَ فلفل، وتصْحَبك حتى باب منزلك.
وأضافت ضاحكة: الباب فقط.
سألت: هل هم متطوِّعون؟
– أبدًا، إنها وظيفة، الواحد منهم يأخذ عشرة دولارات في الساعة.
سجَّلتُ الرقم وهبطت إلى المكتبة بالطابق الأرضي، كانت تحتل مساحة واسعة، وتُشرف عليها فتاة صغيرة السن.
طُفت بمحتويات المكتبة التي عُرضت في صفوف منسَّقة يمكن استخدامها مباشرة، ثم جلستُ أمام كمبيوتر ودرستُ التعليمات الخاصة باستخدامه، وسجلتُ في مفكرتي حروفَ المفاتيح الخاصة بالبحث، والمفتاح الخاص بالكتب العربية القليلة.
شعرت فجأةً بالرغبة في استنشاق الهواء فغادرت المبنى، مشيتُ على مهل في خطٍّ مستقيم، عبرت البوليفار وواصلتُ السير، ثم عبرت شارع «كاليفورنيا»، وسرعان ما بدأت الأرض تصعد، ولمَحت بعد قليل قمة «البريزيديو» الذي شيَّده الإسبان منذ قَرنين لحراسة مدخل الخليج.
عبرتُ الطريق وعُدت أدراجي على الناحية المقابلة حتى شارع «جيري»، فانعطفتُ يمينًا وسرتُ في اتجاه شارعي، مررتُ بحانوتٍ للملابس المستعملة، وآخر ضخم للأجهزة الصوتية، ولمَحت حانوتًا لشرائط الفيديو فوَلَجته.
كان هناك ركن به عدَّة أجهزة كمبيوتر يمكن استخدامها في التعرُّف على المحتويات، لكنِّي فضَّلت أن أتنقَّل بين الصفوف التي كُرِّست لتنسيقات متنوعة، فكان ثمة قِسم لأشهر المخرجين، وجدت فيه أهم أفلام «فيلليني»، و«بتروليتشي»، و«فورمان»، و«بازوليني»، و«كوبولا» وغيرهم، وآخر لأفلام «جيمس بوند» و«رامبو»، وعلى رأسها فيلم «النسر الحديدي»، الذي يصور نَجاح مجموعة كوماندوز أمريكية في نسف محاولة إقامة مفاعل نووي عربي، ثم فيلم «نافي سيلز» الذي تقوم فيه مجموعة كوماندوز أخرى بتدمير مجموعة إرهابية عربية تملك صواريخ «ستينجر»، وتهدد بها المدنيين الأبرياء، وفيلم «أكاذيب حقيقية» الذي أُنتج بعد حادث ضرب مركز التجارة العالمي في ۱۹۹۲م، ويصوِّر مجموعة إرهابية عربية تُخطِّط لتدمير مفاعل نووي بالولايات المتحدة.
انتقلتُ إلى قسم مُخصَّص للأفلام الوثائقية، وآخر مُنزوٍ للأفلام الإيروتيكية، وثالث للأفلام الموسيقية، استقرَّ اختياري على فيلم «موتسارت» لفورمان، وفيلم «واج ذا دوج» الذي نبَّهني البائع الشاب إلى ضرورة إعادته خلال يومين بسبب الإقبال عليه.
ترددتُ أمام حانوتٍ صغير مجاور تكدَّست فيه برادات المشروبات، وحاملات الأكياس الملوَّنة، بدا مظلمًا خاليًا من الزبائن، ولمَحت بائعًا أسمر البشرة منزويًا خلف كاونتر تكوَّمت فوقه السِّلع، عدلت عن دخوله، وواصلت السير متجنبًا الاصطدام بامرأة بيضاء ملبَّدة الشعر، بالغة السمنة، ترتدي بنطلونًا أحمر ضيقًا أبرَز غمازات أَليتيها، ورافقها شاب بَدين بشعر أَشْقر قذِر، وشارب كثِيف تدلَّى فوق فمِه.
بلغتُ ساحة انتظار واسعة تكدَّست بها السيارات، أمام سوبر ماركت ضخم من طابق واحد، جذبت عربة معدنية ووَلَجت مكانًا رَحبًا مكيَّف الهواء، تُضيئه أنابيب الفلورسنت القوية، مررتُ بصفوف من الفواكه والخضروات المتنوعة لم أتعرَّف على أكثرها، كان كل شيء نظيفًا مرتبًا يفتح الشهيَّة، ويشجِّع على الاستجابة لنداء مذيع الموسيقى الكلاسيكية، لكني تجنَّبت الطماطم والخوخ والفراولة، وكل الثمار ذات الأحجام الكبيرة والألوان الساطعة التي عرَفناها أخيرًا في «مصر» بلا طعم، وقادرة على تحريك الأمعاء. وجدت ركنًا لخضراوات استُخدمت في إنباتها الأسمدة العضوية الصحِّية، كانت أسعارها تتجاوز مثيلتها غير الصحية بعدَّة أضعاف. عدتُ إلى الأخيرة وانتقيتُ حزمةً من البصل الأخضر المغسول، ثم لفافةً من اللحم البارد، وأخرى من النَّقانق المكسيكية، ورغيفًا من الخُبز الأسود، وعلبةً بلاستيكية تضمُّ عشرين بيضة، ودفَعت عرَبتي نحو الخزينة.
استقبلتني فتاة سوداء بتحية آلية: «هاو يو دو؟» وضعت مشترياتي فوق الكاونتر المتحرك، وعندما جاء الدور على علبة البيض انزاح غطاؤها، وظهرت بيضة مكسورة، تناولت الفتاة العلبة، وألقَتْ بها كلها في صندوق للمخلفات قائلة: خذ علبة أخرى من فضلك.
شيَّعت البيض المدلوق في حسرة، ومضيت إلى رفِّ البيض، فالتقطت علبة وتأكدت من سلامة محتوياتها، عدتُ سريعًا فاستقبَلَتني الفتاة بابتسامة واسعة، مرَّرت بطاقة الائتمان في الفتحة المخصَّصة لها، بينما أشاحَت بوجهها ريثما ضغَطْت أزرار رقمها، ثم خيَّرَتني بين الأكياس الورقية والبلاستيكية، فاخترت الأولى، حملتُ مشترياتي، وغادرت الحانوت.
كان شارعي هادئًا مهجورًا كما عهِدته منذ ساعات، ولم أصادف من المارَّة غير امرأة مسنَّة تُنزِّه كلبًا، وعندما اقتربت من منزلي لمَحت ورقةً مثبَّتة بدبوس إلى جذع شجرة تحمل صورة منسوخة بالأبيض والأسود لفخِذين عاريين استقرَّت فوقهما قطة سوداء، وخطَّت يد بجوار الصورة رقم تليفون، ونداءً لمن يعثر على القطة المسماة «بويزي»، وجدت مثلها فوق صندوق البريد فالتقَطْتها ووَلَجت المنزل.
هاجمتني رائحة حيوانية منفِّرة انبعثت من موكيت الردهة البالي، كانت الخطابات التي وضعتها على الطاولة في مكانها، فلم يعُدْ جيراني المجتهدون من عملهم بعدُ، أغلقت الباب الخارجي، وتقدَّمْت من مسكني، ففتحت بابه، خطوت إلى الداخل ووضعت مشترياتي على الأرض، ثم أغلقته بالمفتاح، وثبَّت السلسلة المعدنية، ولم يُفِد كل هذا بشيء.
فعندما استدَرْت إلى الداخل عبر بصري الممر الطويل المؤدِّي إلى المخدع، وواجهته المنزلقة المُطلَّة على الحديقة، واستقرَّ على جسم ضخم يتحرك بها.
تركتُ الكِيسين مكانهما، وخطَوتُ في تردُّد وقلبي يدق بسرعة نحو غرفة النوم مارًّا بالحمام والمطبخ، وفراغ صغير به خزانة لأدوات النظافة، عبَرت المخدع، ووقفتُ خلف بابه المنزلق.
طالعَتْني رقبة قوية أسفل شعر أشقر، وفوق بِنية ضخمة يرتدي صاحبها سروالًا من الجينز الأزرق اللون، وفانلة بنفس اللون قصيرة الكُمَّينِ برزَت منهما عضلات قوية.
استدار نحوي بوجه ممتلئ بالتجاعيد لرجل قد يكون في الخمسين أو الستين، يتدلى من أذنه اليمنى قُرط، أزحت الباب جانبًا وقلت: هاي.
قال ببطء وهو يقطِّب جبينه: اعذرني إذا جئت بدون إنذار، اسمي «فيتز»، صديق مستر «هوبس» صاحب البيت، وأنُوب عنه في رعاية الحديقة وكل شيء.
وأومأ إلى خرطوم مياهٍ في يده.
التقطت أنفاسي، وقلت: أهلًا بك.
قال: أرجو ألا أسبِّب لك ازعاجًا بحضوري بين الحين والآخر.
كانت له عَينان في لون سِرواله، وشعرت أن البطء الذي يتحدَّث به يشمل أيضًا طريقة التفكير.
رحَّبت به نافيًا أي إزعاج، ثم سألتُه إن كان يحب أن يشرب شيئًا.
قال وهو يستأنف العمل: لا، أشكرك.
قلت: الجو حار، وعندي بيرة مثلَّجة.
رفَع رأسه وقال: أنا لا أشرب الكُحوليات.
مضيت إلى المطبخ، وأحضرت له زجاجة عصير برتقال وكوبًا.
قال: أشكرك، سأشرَبُها بعد أن أنتهي من نباتات الدَّاخل.
كان يقصد أُصص النباتات الصغيرة الموزَّعة في كافة أرجاء المسكن.
قلت بسرعة: لا عليك … سأتولَّى أنا أمرها.
قال: ألن يزعجك هذا؟
قلت: أبدًا.
قال: مرتان فقط في الأسبوع.
وأضاف: رقم تليفوني عندك في عقد الإيجار، لا تتردَّد في الاتصال بي إذا احتَجْت شيئًا.
شكرته وعُدت إلى المطبخ، أخرجت زجاجة بيرة من البرَّاد وفتحتها، وجرعت منها مباشرةً. تذكَّرت مشترياتي فأحضرتها من أمام باب المسكن، وباشرت بغسلها ووضعها في البرَّاد، ثم أعددت طبقًا من السلاطة الخضراء، قطعت عدة شرائح من رغيف الخبز الأسود، ووضعت علبة المستردة أمامي، ثم فتحت لفافة اللحم البارد، وانتزعتُ شريحة وضعتها فوق الخبز.
لمحت حركة عند النافذة بزاوية عيني، والتفت لأراه يمضي إلى الخارج، بسطت الصحيفة، وبدأت باعترافات «كلينتون».
انتهيتُ من الأكل، وأزلت فُتات الخبز من فوق المائدة، وأعَدْت لفافة اللحم إلى البرَّاد هي وعلبة المستردة، حملت علبة سجائري وإعلان القِطة الضائعة، واتجهت إلى المخدَع. خطوت إلى الحديقة وأغلقت المصراع المنزلق خلفي؛ كي لا يتسرَّب دخان السجائر إلى الداخل، كان الطابع البرِّي يغلب على الحديقة فيما عدا شبكة من السِّلك تغطِّي شجرة تين لتحميها من الطيور، وكانت تلتحم بحديقة المنزل المجاور من الخلف فتصنع امتدادًا أخضر جميلًا، وقُربَ سياج من السلك يفصل بين الحديقتين استقرَّت أريكة حديدية، تأكدت من جَفافها وجلست، أشعلت سيجارة، وأنا أتأمل نوافذ المسكن المجاور التي أسدلت فوقها ستائر بلاستيكية انعكست عليها أشعة الشمس الغاربة، حوَّلْت اهتمامي إلى إعلان القطة، كان الفخذان اللذان اقتعدتهما متناسقين ومشدودين يُوحيان بأنهما لامرأة شابة مُستلقية فوق فِراشها، وقد تدلَّى طرف غلالة خفيفة قُرب مُنفرجها، لم يكن ثمةَ شك في أن الصورة منسوخة من أخرى فوتوغرافية، وأن صاحبتها تعمَّدت إخفاء وجهها عند النسخ. لماذا إذن لم تفعل المثل بفخذَيْها، وتكتفي بصورة القطة وحدها؟!