الفصل العاشر
قالت «جيني» وهي تزيح كومًا من الملفات من فوق مكتبها، وتلقي بها فوق خزانة خشبية واطئة: «جون» هو الذي يستطيع مساعدتك. إنه الخبير المقيم.
أومأت إلى شاب أشقر في ملابس رياضية يجلس خلف فاصل من الزجاج أمام كمبيوتر، فغادر ركنه وانضم إلينا. كان طويل القامة بوجه به آثار جدري وعينين زرقاوين وشعر طويل جمَعه في خصلة كبيرة خلف رأسه.
ذكرت له اسم برنامج البريد الإلكتروني المثبت على جهازي، والذي كنت أستخدمه في «مصر» وعجزت عن تشغيله هنا. قال إنه لم يسمع به من قبل. سألته «جيني» إذا كان بإمكانه تثبيت برنامج آخر، فأجاب في زهو: طبعًا، أي طفل يستطيع.
اتفقنا على أن أحضر له جهازي في الغد، ومضيت إلى مكتبي، فوجدت «لاري» في انتظاري.
قال: أريد أن استشيرك في أمر رسالتي للدكتوراه.
دعوته إلى الجلوس وسألته عن موضوعها، فقال: إنها تتناول جيل المؤرخين الجدد في «إسرائيل».
قلت: إني لم أنشغل بهذا الموضوع، ولا أستطيع أن أفيده.
قال: لقد انتهيت منها. المشكلة أنها رُفضت بأغلبية ثمانية أصوات ضد صوت واحد هو المشرف.
– بأي حجة؟
– اتهموني بازدراء الحقائق التاريخية.
– والمشرف؟
– رأيه أنها رسالة جيدة.
– وما تفسيره لموقف الآخرين؟
– يعتقد أنهم يخشون أن يؤثر إقرارها على حظ الجامعة من المنح التي تقدمها الشركات الكبرى.
تأملت وجهه الأبيض الممتلئ وعويناته الثقيلة والقرط المثبت في حلمة أذنه اليسرى. استقرت عيناي على شعره الأحمر فسألته: أنت من أصل أيرلندي؟
قال: نعم.
– ماذا ستفعل إذن؟
– إما أن أتقدم إلى جامعة أخرى وأنتظر نفس النتيجة، أو أختار موضوعًا جديدًا، وأنتظر سنتين أخريين على الأقل. وهذا صعب للغاية بسبب ظروف حياتي. أنا الآن في مفترق طرق.
قلت: إني لا أستطيع أن أنصحه بشيء؛ لأني زائر عابر، وليس لي صوت في مجلس القسم، ولا أحضر حتى اجتماعاته.
سألته: هل تحدثت مع البروفسور «إستر»؟
قال مستهجنًا: هل تمزح؟
تجاهلت إشارته وقلت: على العموم هي مثلي أستاذة زائرة.
وعَدْته بأن أثير موضوعه مع «ماهر»؛ فربما يجد حلًّا، ثم خطرت لي فكرة.
قلت: لماذا لا تعرض لنا ملخصًا للرسالة؟
تهلَّل وجهه وقال: إنه مستعد في الحال.
صعِدنا إلى قاعة الدرس. كانوا جميعًا موجودين فيما عدا «روزيتا» وصديقها. ولحظت أن «دوريس» اعتنت بمظهرها، ووضعت قليلًا من أحمر الشفاه.
أشرت ﻟ «لاري» أن يبدأ، فأخرج مجلدًا ضخمًا من حافظته وقلَّب صفحاته. قال: إن ظاهرة «المؤرخين الجدد» في «إسرائيل» وُلدت نتيجة فتح بعض وثائق الدولة أمام الباحثين في بداية الثمانينيات. وإن عددهم لا يزيد عن عشرة وُلد أغلبهم بعد إنشاء الدولة في ١٩٤٨م مثل «بني موريس» و«إيلان بابي» الذي يرى أن الحركة الصهيونية تحولت إلى حركة كولونيالية استعمارية. وبعضهم خارج «إسرائيل» مثل «أفي شلايم» أستاذ التاريخ في جامعة «أكسفورد» البريطانية و«إفرایم كارش» أستاذ الدراسات المتوسطية في «كنجز كوليج» بجامعة «لندن» الذي عمل لسنوات طوال في المخابرات العسكرية الإسرائيلية.
توقف عند إحدى الصفحات، وقال: إن «يني موريس» يعتبر بلا جدال من أبرزهم. واستشهد بفقرة من كتابه «تصحيح خطأ» يقول فيها: «… لقد كذب زعماؤنا علينا عندما أخبرونا أن عرب «اللد» و«الرملة» طلبوا مغادرة بيوتهم بمحض إرادتهم … كذبوا علينا عندما أبلغونا بأن المتسللين الفلسطينيين إرهابيون متعطشون للدماء، وأن الدول العربية أرادت تدميرنا … أما كذبة الأكاذيب التي أسموها «الاستقلال» فهي «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض».»
واستدرك قائلًا: إن «موريس» لا يعتبر العودة إلى أرض الميعاد احتلالًا؛ ولذلك لا يستخدم تعبير «الأراضي المحتلة»، وإنما يشير إلى الأراضي الفلسطينية باعتبارها «الأرض المتنازع عليها». ومع ذلك يؤكد أن «إسرائيل» لم تكن في يوم من الأيام معنية بالسلام، وإنما بالحصول على الأرض خالية من السكان قدر الإمكان. ففي ۱۹۳۷م تحدث «حاييم وايزمان» عن مبدأ «الترانسفير» أي طرد السكان العرب بالقوة من أراضيهم ومدنهم وقراهم، وقال: إنه يمكن مثلًا ترحيل مائة ألف عربي خلال عشرين سنة، أي بمعدل خمسة آلاف عربي كل عام. وحديثًا أعلن «آرثر روبين»، أحد مؤسسي حركة «تحالف السلام»، تأييده لمبدأ «الترانسفير» بشرط أن توفر للعرب المطرودين أماكن ملائمة في الدول التي يتم ترحيلهم إليها.
حانت مني نظرة سريعة إلى مونا. كانت ترتدي جينزًا ضيقًا أبرز نحافتها ووضعت مكياجًا خفيفًا لم ينجح في إخفاء شحوب وجهها.
انتقل لاري إلى الحديث عن مصادر «موريس»، وعلى رأسها مذكرات «يوسف نحماني» أحد قادة الحركة الصهيونية المولود في أوكرانيا السوفييتية الذي أكد أن الترويع كان جزءًا من عملية إرغام العرب على مغادرة أراضيهم، وكتب يقول: «إن الأعمال الوحشية التي ارتكبها جنودنا في قرية «الصفصاف» كانت في منتهى البشاعة، فمثلًا بعد أن استولى الجنود على القرية، ورفع سكانُها الأعلام البيضاء جمعوهم وفرَّقوا بين الرجال والنساء، ثم قيدوا أيدي الرجال بعد أن أوقفوهم في صف واحد، وأطلقوا النار عليهم وقتلوهم جميعًا، وعددهم نحو ٦٠ رجلًا، ثم ألقوا بهم داخل حفرة واحدة. وبعد ذلك اغتصبوا النساء ثم نقلوهن إلى غابة مجاورة وقتلوهن، وقد رأيت امرأة مقتولة، وبين ذراعيها طفلها المقتول هو الآخر.»
وحلل «لاري» آراء «نحماني»، وكيف أنه مثل أغلب القادة الصهاينة لا يعارض طرد العرب من أراضيهم وقراهم، وإنما يطالب أن يتم ذلك بأسلوب أكثر إنسانية.
كانت «مونا» أول المعقبين فقالت: إنها تشك في صدق الاستشهادات التي أوردها «لاري»؛ إذ لا يُعقل أن تكون الحكومة الإسرائيلية قد سمحت بإذاعتها. وتوقفت لحظة ثم قالت في انفعال: إذا كان أحد في الشرق الأوسط قد تم طرده من بلده؛ فهم اليهود الذين طُردوا من «مصر» و«العراق».
حسمت النقاش بإعلان استراحة قصيرة. هبط بعضهم إلى الكافيتريا، وبقي البعض الآخر في القاعة، بينما مضيت إلى تواليت قريب يستخدمه الجميع طلابًا وأساتذة. ولجت مكانًا بالغ النظافة، فابتسمت في أسًى وأنا أتذكر قذارة المكان المماثل المخصص لطلاب كلية الآداب بجامعة «القاهرة»، بل والآخر المخصص للأساتذة والذي يحتفظ العميد بمفتاحه.
غسلت يدي وغادرت «قصر المياه». مشيت حتى نهاية الطرقة، وخرجت إلى شرفة صغيرة. وجدت «لاري» يدخن، فأشعلت سيجارة ووقفت إلى جواره.
تحدثنا عن «شومسكي» وأفكاره، وعلمت أن «لاري» اشترك في إنتاج فيلم وثائقي عنه عام ۱۹۹۲م بعنوان «فبركة الموافقة»، بسط فيه «شومسكي» بالأدلة كيف تؤدي سيطرة أجهزة الإعلام الأمريكية على العقول إلى «موافقة» على سياسة النظام التي تكون دائمًا مفيدة لمصلحة الشركات الكبرى.
وأطفأنا سيجارتينا في علبة «كولا» ملقاة بجوار الحائط، وعدنا إلى القاعة.
استأنفت حديث السيرة فقلت: إني هجرت قاعة المحاضرات إلى ممر «سان جيتار» حيث توثقت علاقتي بعدد من الطلاب، وخاصة واحدًا منهم يُدعى «حلمي».
قاطعتني «ميجان»: ماذا حدث مع المعيدة؟
علت الابتسامات الوجوه. قلت: إنها أبعدت عن الجامعة مع عدد من الأساتذة اليساريين.
قالت «شرلي» بابتسامة خبيثة: وانتهت بذلك مغامراتك العاطفية؟
– قلت: أبدًا. بل بدأت.
كان «حلمي» يسكن بالقرب مني في مكان شعبي خلف مباني الجامعة. وكان أبوه موظفًا بسيطًا متقاعدًا له عدد لا يُحصى من الأبناء. فكان مثلي يرتدي ملابس لا تناسبه ويخلو جيبه من النقود. صرنا نخرج من الجامعة لنتجه إلى وسط المدينة سيرًا على الأقدام، فنذهب إلى الجمعية التاريخية والمنتديات الأدبية، ونزور دور الصحف لنتعرف بكُتابها، أو نستقر في حديقة «متحف الفن الحديث» لنستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية مع صديق ثالث يُدعى «رشدي»، أو نسعى وراء عشاء وكوب من الشاي في منزل صديق آخر.
ومن الطبيعي أن المرأة كانت شاغلنا الرئيسي، نتبادل بشأنها معلومات غامضة وخاطئة. أذكر أن إحدى الطالبات كانت ذات عينين جميلتين، وقال لنا «حلمي»، بلهجة العارف الخبير: إن لمعان عينيها يعني إصابتها بمرض «السوداء»، وهي الشهوة الدائمة التي لا ترتوي. يومها توهجت مشاعرنا، وحلم كل واحد منا بفرصة تحقيق ما فشل فيه جميع الرجال.
قادنا «حلمي» في درب المعرفة، فدبر لنا أن نضع أيدينا على منفرج بائعة عجوز للمياه الغازية من فوق ملابسها مقابل عشرة قروش جمعناها بصعوبة. وفي رفقته خضت أول تجربة جنسية.
مباني وسط المدينة التي تركها الأجانب واليهود عند مغادرتهم للبلاد، في أعقاب العدوان الثلاثي، المصعد الخشبي الأنيق إلى الطابق الثالث؛ الباب المتين ذو الكوتين الزجاجيتين تفتحه امرأة سمراء قصيرة معصوبة الرأس ترتدي جلبابًا منزليًّا، صالة واسعة يغمرها الضوء، مائدة من الخشب الثقيل، جزء من الأثاث الثمين لأصحاب المسكن السابقين. فوق المائدة كرنبة كبيرة. انهمكت في تقشير الكرنبة وهي تثرثر مع «حلمي». معرفة قديمة. قال لها شيئًا نهضت واقفة ومسحت يديها في ملابسه، واتجهت إلى حجرة مجاورة. تبعها «حلمي» مغلقًا الباب من خلفه. خرج بعد خمس دقائق وأشار إليَّ بالدخول. كانت مستلقية فوق ظهرها، وقد رفعت جلبابها حتى الخصر كاشفة عن فرج ناعم منتوف الشعر. خاطبتني بابتسامة لطيفة: أنت مكسوف؟ اقلع. خلعت ملابسي وتمددت فوقها. رائحة الكرنب. داعبتني بيدها دون فائدة. ابتسمت في حنان وقالت: أنت لازم بتحب. ثم أضافت: متخفش، مش حاقول حاجة لصاحبك.
تميز «حلمي» أيضًا بغرام شديد بكل ما هو جديد ومثير للجدل من أفكار وكتب وأفلام. صحبنا مرة لمشاهدة فيلم «فيفا زاباتا» الشهير. أعجبت بالفيلم، ورأيت فيه تمجيدًا للثورة ورفضًا للطغيان، بينما اعتبره من مخططات الاستعمار الأمريكي؛ لأنه يوحي بعبث الثورة عندما يتحول «زاباتا» بعد انتصارها إلى دكتاتور. بدا لي رأيًا متطرفًا، وما زال هذا تقديري رغم ما تكشَّف الآن من أن «إيليا كازان»، مخرج الفيلم، كان يعمل لحساب المباحث الأمريكية، ويتجسس على زملائه من الفنانين والمثقفين.
كان المرجع الرئيسي المتوفر وقتها في التاريخ المصري الحديث هو ١٤ مجلدًا من كتاب «تاريخ مصر القومي» ﻟ «عبد الرحمن الرافعي». وبالرغم من قيمته كسجل أمين ودقيق للوقائع فإنه كان متخلِّفًا للغاية عن «مقدمة ابن خلدون»؛ إذ خلا من أي محاولة لتفسير الأحداث أو الربط بينها، ومن رؤية شاملة تمنح لها اتجاهًا ومغزًى، وهي المهمة التي تصدَّى لها «شهدي»، فأراني التاريخ لأول مرة من منظور جديد كاشف.
استعنت بمنهاجه في بحث كتبته عن ثورة ۱۹۱۹م، فركزت على تحليل طبيعة الفئات الاجتماعية التي شاركت بها. واستدعاني الأستاذ «بيبة»، ووبَّخني على استخدامي لمصطلح «الطبقة» وأصرَّ على استبعاده.
لم يكن «بيبة» هو اسمه الحقيقي بالطبع، وإنما أطلقه الطلبة عليه عندما عاد من بعثة إنجلترا، واضعًا غليونًا في جيب سترته العلوي. وكان الشائع أنه فاز بهذه البعثة بفضل زواجه من ابنة وزير في آخر حكومة للعهد الملكي، اشتهر بوجه يؤكد نظرية «داروين» في أصل الإنسان. وشاع أيضًا أن وجه ابنته يفوقه في تأكيد هذه الصلة، وأن «بيبة» تزوجها طمعًا في نفوذ أبيها وثروته.
تعقدت علاقتي ﺑ «حلمي» إثر التحاقه هو و«رشدي» بإحدى المنظمات الشيوعية السرية، وعزوفي عن الانضمام إليهما. فلم أنسَ أبدًا الصفعة التي تلقيتها في أول اجتماع سياسي اشتركت به. ووصل الأمر بيننا إلى القطيعة عندما انضمَّت طالبة من كلية الحقوق إلى شلَّتنا.
نزعت غطاء زجاجة مياه ورشفت منها، وأنا أتصفح وجوه طلابي. أدركت أني نجحت بعبارتي الأخيرة في استعادة اهتمامهم الذي ذوى قليلًا.
قلت: إني أحببت «جمالات» منذ اللحظة الأولى. كانت سمراء رشيقة في طُولي أو أطول قليلًا، لها وجه مستطيل وعينان لوزيتان وأنف فرعونية مستقيمة، تتميز بمزيج غريب من الخفر والتهور، وترتدي ملابس متواضعة مثلنا وبيتها مثل بيوتنا؛ أثاث قديم متهالك وأسرة تعيش على الكفاف، وعدد كبير من الإخوة والأخوات.
أحبها «حلمي» بدوره، لكنها لم تفصح عن ميلٍ خاص لأحدنا. وفي أحد الأيام استجمعت أقصى ما أملك من شجاعة وقرَّرت مفاتحتها. عرضت عليها أن نتسكع في حديقة «الأورمان» المقابلة لمباني الجامعة. كنت أبحث عن ديكور ملائم لما أنا مقدم عليه من جنون.
اتخذت الزهور والنباتات أحجامًا فخمة وتوهَّجت ألوانها، والْتَهب خداها، وارتبكت خطوات قدميها في الحذاء الواطئ المترب.
لم تفُه بكلمة، فلم أسألها شيئًا. لم أسألها حتى إذا كانت تبادلني المشاعر. كان البوح هو السقف، وحتى الآن لا أعرف ماذا كنت أتوقع، ومع ذلك لم أتوقع أبدًا ما جرى بعد ذلك.
غادرنا الحديقة في صمت وعُدنا إلى الجامعة. وجدنا «حلمي» ينتظر في «سان جيتار». ويبدو أن شيئًا ما في وجهَينا وشَى بما جرى بيننا؛ فقد وجم وقضينا الوقت في ثرثرة فارغة، ثم انصرف كل منا إلى منزله. وفي اليوم التالي أعلن أنه اتفق معها على الزواج.
كانت هذه هي ميزته؛ اتخاذ القرار. بالطبع ساعدته ظروفه، كان أحدَّ ذكاءً مني وأسرع في الاستيعاب؛ ولهذا سبقني بسبب تكرار مرات رسوبي، وأوشك على التخرج. وبالتالي كان من الناحية العملية مستعدًّا لمثل هذه الخطوة، وقد أتبعها بخطوة مفاجئة أخرى.
في ذلك العام تمت الوحدة المصرية السورية، وجرى اتهام الشيوعيين بمعاداتها. وأقامت الكلية مهرجانًا بهذه المناسبة تحدث فيه عدد من الأساتذة والطلاب، وفوجئنا ﺑ «حلمي» بين المتحدثين. وإذا به ينقلب على الشيوعيين ويهاجمهم. وبعد شهور تخرج وعُين على الفور معيدًا بالكلية، وظهر لأول مرة في بزة جديدة كاملة.
أصبحت «جمالات» تتجنبني. سعيت عدة مرات للانفراد بها دون أن أدري بالتحديد ما أنوي عمله. وفي أحد الأيام اعترضني قائلًا: إنها اشتكت من ملاحقتي لها، وإنه ينصحني بالكف عن محاولة رؤيتها. وأشفعَ النصيحة بالصفعة الثانية في حياتي. كان أقوى مني، ولم يسبق لي أن تعاركت مع أحد، فاتبعت النصيحة.
توقفت عند هذا الحد، ودفعتني ابتسامات الطلاب إلى أن أعلق في صرامة: أحب أن ألفت نظركم مرة أخرى إلى أن الهدف من هذا العرض ذي الطابع الذاتي هو تبيان العوامل المختلفة التي ساهمت في تكوين مؤرخ محدد.
فتحت باب التدخلات. واقتصر أغلبها — وخاصة من «فادية» — على استفسارات بشأن تلك الفترة من تاريخ مصر والعالم العربي.
شرع الطلاب في الانصراف عندما أعلنت نهاية الدرس. وبينما كنت أضع أوراقي في الحقيبة وأغلقها، اقتربت مني «دوريس» وهي تحمل في يديها مجلة مصورة.
قالت وهي تبتسم في خجل: هذه هي المجلة التي اشتركت في إصدارها.
ناولَتني عددًا من مجلة «تايم» الأسبوعية الشهيرة. كان الغلاف التقليدي المعروف للمجلة، المحاط بإطار أحمر عريض، يتألف من صورة فوتوغرافية كبيرة لساقي رجل ضخم غطاهما العلم الأمريكي. وبجوارها عنوان الموضوع الرئيسي للعدد: «هل الله أمريكي؟»
ضحكت في جذل طفولي، وقالت: إنها مجلة طلابية اسمها «سبووك»، تصدرها جامعة «أموري» بمدينة «أتلنتا». ويصدر كل عدد على هيئة إحدى المجلات الشهيرة؛ ليسخر من طريقة تحريرها والأفكار التي تروج لها.
قلبت صفحات المجلة فوجدت الأبواب التقليدية ﻟ «تايم» الأصلية، وبنفس التنسيق والإخراج. عدت إلى الصفحة الداخلية الأولى وقرأت فهرست المحتويات التي تصدرته صورة مصغرة للغلاف أسفل عبارة «المجلة الاختبارية التي تصدر خصيصًا للمواطن الأمريكي العادي». وذكر اسم المجلة هنا هكذا: «تايم … للبلهاء» وتحته عبارة «الجديد في أحط مستوًى بين المجلات.»
مزقت طرف المظروف واستخرجت نشرة من إصدارات المعهد. أوشكت أن أودعها حقيبتي عندما لمحت اسم «البرديسي» في صدر صفحتها الأولى. كانت هناك رسالة موجهة إليه من «مارك ويبر» مدير المعهد، يستنكر فيه اتهامًا وجهه «البرديسي» للمعهد بمعاداة السامية. وأكدت الرسالة أن التحريف الصهيوني للتاريخ لا يقتصر فقط على تاريخ «فلسطين»، بل يتضمن أكاذيب تاريخية بشأن أوروبا في القرن العشرين.
طويت النشرة واتجهت إلى المصعد.