الفصل الحادي عشر
روَيت النباتات وغادرت المنزل متجنِّبًا النظر إلى صندوق البريد والخطابات الملقاة فوق سطحه. وبدلًا من الاتجاه نحو شارع «جيري» كما أفعل عادةً، اتخذت الوجهة العكسية. كانت الحوانيت القليلة مغلقة، وظهرت على أبوابها ملصقات حديثة تدعو إلى شرب اللبن، وتصوِّر رجلًا يسيل الحليب من جانب فمه.
توقفت أمام فرع لبنكي، واتجهت إلى ماكينة النقود. وضعت بطاقتي في فتحتها، وانتظرت وأنا أتلفَّت حولي، ثم ضغطت الأرقام الكودية، وسحبت خمسين دولارًا. استأنفت السير بعد أن أغلقت رقبة السويتر في مواجهة الرياح الباردة الآتية من الشاطئ الغربي. وبعد أربعة تقاطعات وجدْتُني أمام أكبر منتزه في العالم من صنع البشر.
لم أكن قد صدقت «جيني» عندما سألتها عن موقع «منتزه البوابة الذهبية»، «جولدن جيت بارك»، فأفاضت في تصوير ضخامة مساحته التي تزيد على الألف فدان، وكيف أن الأيدي البشرية هي التي حفرت بُحَيراته، وزرَعت أشجاره العملاقة وغاباته الشاسعة، وأقامت تلاله وشقَّت أنهاره ومساقط مياهها.
اتجهت يسارًا في شارع «فولتون» إلى أن بلغت «بوليفار بارك بريزيديو» بعد تقاطعين. مضيت فيه إلى داخل المنتزه دون أن أصادف أحدًا، وانحرف الطريق ناحية اليمين فوقَفت مترددًا، التجأت إلى أريكة خشبية، واسترخيت فوقها مستمتعًا بالهدوء والخضرة الكثيفة اللامتناهية.
استقرَّ بصري على أجمة من الزنابق تطل على بركة صغيرة، كان سطحها رائقًا كالمرآة تحلق فوقه الفراشات.
وخلفها امتدت مساحات شاسعة من الورود وزهور الماجنولیا والداليا.
لمحت جسمًا غريب الشكل خلف الزنابق، ثم ساعدًا عاريًا يزينه وَشْم غريب ورأس حليق انحنى إلى أسفل. حركت رأسي في عدة اتجاهات إلى أن تبيَّنت يدًا تمسك بقدمٍ عارية وتغرز فيها محقنًا، وكان بجوارها مقص وشريط لاصق. نهضت واقفًا واكتشفت ممرًّا للدراجات يتجه جنوبًا، انتقلت إليه متحاشيًا السير فوق الخضرة، وتبعته حتى بلغت ممشى «جون كنيدي»، فانحرفت معه جهة اليسار. وبلغت حديقة الشاي اليابانية بعد قليل.
دفعت ثلاثة دولارات ونصفًا عند المدخل، وولجت قطعة من الجنة. كل شيء صغير الحجم دقيق التكوين كأنما صنعه أطفال ماهرون، أو صُنع من أجلهم، بوابات ومصابيح مزخرفة، أكمات وأشجار مقزمة وبحيرات صغيرة، سمكة ملونة تعوم في كسل، مياه تكركر فوق صخور مغطَّاة بالطحالب والشلالات الصغيرة، وفي ركن تمثال «بوذا الذي يجلس تحت الشمس والمطر دون مأوًى».
انتظرت حتى انتهت مجموعة من التلاميذ من التقاط الصور فوق جسر خشبي شديد الميل، ثم عبرت جسرًا رشيقًا من البراميل إلى شرفة ذات سياج خشبي أحمر اللون تُظلِّلها السقوف التقليدية المقوَّسة، وكنت متشوقًا لكوب من الشاي الدافئ.
ولجت قاعة مكتظَّة بالزبائن، ووجدت مائدة ذات مقعدين بجوار مجموعة من السياح الألمان، أحضر لي نادل ذو ملامح آسيوية إبريقًا مزخرفًا من الشاي الأخضر، وطبقًا من البسكويت «الكوكيز»، ارتشفت الشاي وأنا أتأمل امرأة بيضاء جلست بجوار النافذة. كانت ثلاثينية ذات وجه صَبوح وجسد رشيق، في بلوزة مخططة بنصف كُم وبنطلون جينز، وبوت أسود بكعب سميك مرتفع، وكان شعرها البني اللون طويلًا ومعقوصًا فوق رأسها، ألقت عليَّ نظرة من عينين زرقاوين، ثم أشاحت بوجهها ورفعت فنجان الشاي إلى شفتيها، خلتها وحيدةً وداعبني الأمل في أن تكون هي.
تطلعت في الساعة، ثم أخرجت الرسالة الغامضة الأخيرة: «إذا كنت ترغب في رؤيتي فاذهب يوم الأحد إلى حديقة الشاي في «جولدن جيت بارك»، سأنتظرك في الثالثة بعد الظهر تمامًا، سأتعرف عليك بالطبع وستعرفني أنت أيضًا.» طويت الرسالة المكتوبة بحروف الكمبيوتر على نفس نوع الورق الذي استُخدم في الرسالتين السابقتين، ولم يكن لديَّ شك أن كاتبة الرسائل الثلاثة هي نفس الشخص.
أعدت الصحيفة مكانها، وألقيت نظرة على ساعتي، وجدتها تقترب من الثالثة، واكتشفت أن رجلًا أبيض ذا قفًا وجسد مدهنين، وشعر مائل إلى الحمرة، قد انضم إلى المرأة.
تطلَّعت إلى الساعة مرة أخرى، وأنا ألوم نفسي. تخيَّلت أن كاتبة الرسالة واحدة من طالباتي، وأنها الآن ترقبني هي وزملاؤها، وتضحك معهم على بلاهة البروفسور الكهل القادم من أدغال «أفريقيا».
كنت قد اعتبرت الأمر مزحة «أمريكية» من أحدهم، وتمنيت في أعماقي أن تكون «روزيتا» هي باعثة الرسائل وأن … وأن ماذا؟
كل مَن عمل بالتدريس ليس غريبًا عن افتتان طلبته به أو ألاعيبهم معه. حدث ذلك معي عدة مرات، وكدت أتورط في إحداها، لكني لم أشَأ المخاطرة بسمعتي، وخاصة في ظل الظروف التي كنت أمرُّ بها.
حولت نظري إلى شاربة الشاي، فرأيت الرجل يميل برأسه ناحيتها ويوجه إليها بضع كلمات، وجرى بينهما نقاش بدَت فيه منفعلة، ورأيته يربِّت على يدها، ثم انحنى وقبَّل أذنها، ثم وقفَا استعدادًا للانصراف، ورأيته يفتح فمه ويحرك لسانه حركه سريعة، فضحكت ودفعته بيدها في دلال.
الثالثة والربع، قررت أن أنصرف بعد ربع ساعة أخرى، ثم أقنعت نفسي بالبقاء بزعم الاستمتاع بمشهد الحديقة. فكرت في الرسالة السابقة التي تتحدث عن سيقان … مَن؟ «روزيتا»، أم «إستر»؟ استعرضت ما حدث يومها، وحاولت أن أحدد الشخص الذي لاحظ اهتمامي بسيقانهما.
«العرب لا يفكرون إلا في شيءٍ واحد.»
لمحت مسز «شادويك» تعبر جسر البراميل، وهي غارقة في التفكير. حدقت إليها مذهولًا وهي تلِج القاعة وتتلفَّت حولها، وعندما رأتني تهلَّل وجهها.
نهضت واقفًا وأشرت إليها أن تنضم إليَّ فاقتربت. كانت ترتدي جوبة طويلة بلغت قدمين في حذاء مطَّاطي.
قالت: هاي.
قلت: هاي.
أبعدت الصحيفة عن المقعد الآخر، ووضعت يدي على ظهره إلى أن جلست، فجلست بدوري.
قالت: مفاجأة! جميل أنك هنا، المنتزه أجمل مكان في المدينة، ليتك تراه في شهر «مارس» عندما تدب فيه الحياة، وتتفتح أزهار الكريز الأحمر! هل زرته من قبل؟
كانت تتحدَّث بسرعة، هل تداري ارتباكها؟
قلت: إنها المرة الأولى، وأوشكت أن أضيف أني جئت بناءً على دعوة، ثم ترددت وسكت.
قالت: لا بد أن تزور أكاديمية العلوم، إنها على بُعد خطوات.
أشارت ناحية الجنوب واستطردت، ستدفع ۸ دولارات ونصفًا، أو تنتظر حتى يصبح عمرك ٦٥ سنة لتدفع خمسة دولارات ونصفًا. ما زال أمامك بعض الوقت؛ أليس كذلك؟
وضحكت، فاغتصبت ضحكة بدوري.
أسندت مرفقَيها إلى المائدة، وحدجتني بعينيها الذكيَّتين من خلف نظارتها: به كل شيء عن الزلزال الأخير الذي وقع منذ تسع سنوات، ومائدة هزازة تعطيك الإحساس به، وأكواريوم وغابة أفريقية بقرودها وفهودها وأسودها وكل شيء تقريبًا.
أحضر لها النادل إبريق الشاي والبسكويت، فصبت لنفسها فنجانًا.
قالت: أنا آتي هنا كل أحد؛ فليس لدي أسرة ولا ما أفعله.
ارتشفت الشاي وأنا أتأمل وجهها، كان هناك أثر خفيف لشارب وأحمر شِفاه.
سألتني عن سير الدروس وعن علاقتي ﺑ «إستر».
رَوَيت لها التعديلات التي أدخلتها على تنظيم الغرفة، فانفجرت ضاحكة.
قالت: هي شخصية طيبة وستنسجم معها، ثم فاجأتني: ما هي حكاية «روزيتا»؟
رمقتها مبهوتًا: أي حكاية؟
وضعت كعكة في فمها، ومضغتها على مهل دون أن ترفع عينيها عن وجهي: كانت متحمسة جدًّا عندما سجلت اسمها في حلقتك، ثم لم تعد تحضر كما ألاحظ.
قلت: إنها مشغولة حاليًّا برسالة الدكتوراه، وستعوض فترة الغياب.
تحدثنا قليلًا عن بقية الطلاب وعن قضية «مونيكا» ثم توقف الحديث. انتظرت أن تقول شيئا يشير إلى علاقتها بالورود والرسائل الغامضة، لكنها غرقت في صمت شارد. تأملت شعرها الرمادي الذي انسدل في إهمال، وتطلعت إلى صدرها، ثم أشحت برأسي جانبًا لأطرد صورة ثديين مترهلين فوق بطن مجعدة، وغالبًا غابة من الشعر الرمادي، ثم عنفت نفسي.
أليس لديها نفس الأشواق والمشاعر التي أحملها في سنواتي التي تكبرها بعشر على الأقل؟
قلت: هناك شخص يضع لي ورودًا حمراء في صندوق بريدي.
قالت في غير اهتمام: لا بدَّ أن لك معجبات كثيرات.
ابتلعت آخر رشفة من الشاي، وأعادت الفنجان إلى المائدة. تلفتت حولها ثم قالت: الجو هنا أصبح خانقًا، وأنا أريد أن أدخِّن، ما رأيك في أن نغادر؟
نهضت على الفور، وسبقتها إلى دفع الحساب، ثم انطلقنا إلى الخارج.
قالت وأنا أشعل لها سيجارتها: متأكد أنك لا تريد زيارة الأكاديمية؟
قلت: ليس اليوم. عمومًا أنا لا أحب المتاحف. أشعر فيها بالدُّوار والاختناق؛ ربما السبب أني قادم من بلد متخلف.
ضحكت ووضعت يدها على ذراعي، ثم سحبتها بسرعة: لا تراعَ. أنا أيضًا أكرهها، هل وراءك شيء؟ سآخذك إلى مكان تاريخي يغنيك عن ألف متحف.
مشينا في الطريق الذي جئت منه إلى أن بلغنا سيارتها. كانت «ستيشن واجن» يابانية قديمة تشكو الإهمال، وتناثرت داخلها الأوراق وزجاجات المياه الفارغة. انسلَّت أسفل حزام المقعد الثابت، وركبت إلى جوارها. اتجهنا إلى مدخل الطريق السريع القريب، وانطلقنا فوق جسر «جولدن جيت». وبعد أن دفعت ضريبة المرور، انحرفنا يمينًا إلى الطريق رقم ٥۸۰ في جسر جديد نقلنا إلى الشاطئ الآخر من الخليج. لزمناه جنوبًا حتى التحمنا بالطريق السريع رقم ٨٠.
سألتها عما إذا كانت وُلدت في «سان فرانسيسكو». قالت: لا، أنا من الريف، من بلدة صغيرة في الوسط الزراعي.
طلبت مني أن أفتح درج التابلوه. وجدت أنابيب رش ومفكات ودفترًا أحمر، عبارة عن الكتاب السنوي لإحدى المدارس. أشعلت ضوء السقف، وطلبت مني أن أفتح الصفحة الأولى.
طالعتني صورة التخرج لفتاة باسمة انقسم شعرُها إلى خصلتين معقودتين على جانبي الرأس. تعرفت على أوجه الشبه بينهما في صعوبة، وقرأت أسماء الجمعيات التي كانت بها، والجوائز التي حصدتها: جمعية المناظرة، نادي الشطرنج، مشجعات فريق البيسبول، فريق السباحة.
قلبت الصفحة إلى صورة شاب انسدل شعره فوق جبينه على هيئة «البيتلز».
قالت دون أن تحول وجهها عن الطريق: أول «بوي فريند». يا ألله! كنا في زهوة الشباب ومفعمين بالأمل. نلتقي في منتزه وسط المدينة، أو نتمشى على شاطئ النهر تحت أشجار البتولا والصفصاف. ندير الراديو الترانزستور المخترَع حديثًا بصوت منخفض، ونسمع «الفيس بريسلي». ندخن السجائر خلسة ونشرب «الكوكاكولا»، نتلفَّت حولنا في خوف قبل أن نتعانق، ثم يعود كل منا إلى بيته لسهرة عائلية يتخلَّلها عزف على البيانو أو ألعاب جماعية.
أشارت إلى لافتة تحمل اسم «بيركلي»، واستطردت، ثم انفجر كل شيء عندما جئت للدراسة هنا، الموسيقي الصاخبة، الهيبيون، الفهود السود، الحرية الجنسية، حرية التعبير، «فيتنام»، عنف الشرطة، الإضرابات، الاعتصامات، الشعارات المعلقة على الصدور: «أبيحوا الحشيش»، «الحب بدلًا من الحرب»، «احرقوا بطاقات التجنيد»، «قاطعوا العنب»، «تبادلوا زوجاتكم». وكانت هناك أيضا «جون باز».
التفتت إليَّ: هل سمعت أغانيها؟
أجبت بالنفي، فانطلقت تغني:
كان صوتها عميقًا جياشًا بالعاطفة حمل كل ما في كلمات الأغنية وموسيقاها من شجن، وخُيل لي أنها موشكة على البكاء، فتجنبت النظر إليها.
قالت بعد أن عبرنا إشارة مرور: ها نحن قد وصلنا الجامعة في نهاية هذا الشارع «تلغراف»، ليس هناك أشهر منه في كل «أمريكا». عندما جئت كان يشغي بالموسيقيين والمنجمين والباعة والمجانين والمخدرين والمبشرين والثوار والفوضويين والفنانين والمجرمين وأساتذة الجامعة، وكانت حوانيت الموسيقى تعرض ألبوم «جون لينون» وزوجته اليابانية بصورتهما العارية، والبعض تحمس ومشى عاريًا. كانوا رجالًا بالطبع، ولم يكن منظرهم جميلًا على الإطلاق.
لم أشهد أثرًا لكل ذلك، فعلى جانبي الطريق قامت مبانٍ إدارية وسكنية هادئة، تبدو منها أضواء قليلة، ثم لمحت على مبعدة ثلاثة شبان في ملابس جلدية سوداء مع كلب ضخم الجثة.
استطردت: انضممت إلى حركة تحرير النساء، ونزلنا الشوارع بشعارات: «هل من الذكاء التظاهر بالغباء؟» «أنت تكسبين أكثر لو كنت عاهرة حقيقية»، «أقيموا مراكز لصحة الطفل تعمل ٢٤ ساعة»، «لا تستخدموا السوتيان».
رمقتني بنظرة جانبية، وضبطتني أبتسم، فسارعت تقول: ما الضرر في أن يكون النهدان على حريتهما حتى ولو تهدَّلا؟ مَن الذي قال إنهما يجب أن يبرزا مثل الشرفات؟ إنهم صناع السوتيانات. هاجمناهم، وهاجمنا كل أشكال التضليل الإعلاني، وكل مظاهر النفاق.
تغيرت صورة الشارع فجأة فدبَّت فيه الحركة وأضاءته الحوانيت، وهاجمتنا الروائح الخانقة للهامبورجر والجبن المحمَّر من مطاعم ومقاهٍ مزدحمة، مختلطة بصراخ مكبرات الصوت أمام حوانيت الأسطوانات.
توقفت عند إشارة مرور، فاستقرَّت عيناي على فتاة حامل استلقت فوق الرصيف أسفل عمود النور، وبجوارها زجاجة مياه، وشاب يقرأ في مجلة مصورة.
أشارت «شادويك» إلى حانوت كتب على الناصية اليسرى.
كانت هذه المكتبة المكان المفضل لالتقاء الثوار؛ فصاحبها كان من زعمائهم. أما صاحبها الآن فمن أكبر دعاة تنظيف الشارع من كل مظاهر التمرد.
واصلت السير في بطء. كان المارة يعبرون في بساطة وسط السيارات، ودوَّى صوت سيارة رياضية مندفعة، ثم انتهى الشارع؛ إذ اعترضته أراضي الجامعة.
اتجهت «شادويك» يمينًا، ثم انحرفت في شارع موازٍ ﻟ «تلغراف»، ومضت في عكس الاتجاه الذي جئنا منه، وبعد عدة تقاطعات صِرنا في منطقة شديدة الهدوء.
أشارت إلى ساحة كبيرة مظلمة تناثرت بها بضع شجيرات، وقالت: كانت أرضًا مهجورة تملكها الجامعة، فاحتلتها مجموعة منا أصبحت تلقب ﺑ «الحدائقيين»، وأعلَنا أن مُلاكها الحقيقيين هم الهنود الحمر الذين سُرقت منهم بالقوة قبل مائتي سنة. وإذا ظهر واحد منهم وطالب بها فسنتركها له على الفور بسرور. أما غير ذلك فلن نتخلى عنها، وأقسمنا أن ندافع عنها، فاشتبكنا مع جنود الحرس الوطني، ونحن نهتف: «لا للبلدوزرات»، «السلطة للشعب وبنادقه»، وانتهى الاشتباك بمقتل أحد المتظاهرين وإصابة العشرات.
– والآن؟
قالت بنبرة حزينة: كما تراها.
ثم استعادت حيويتها وقالت: أظن يكفي هذا اليوم، الآن نأكل.
انحرفنا في شارع جانبي، وسرعان ما كنا نعبر «تلغراف». ركنَّا السيارة في جاراج متعدد الطوابق، وَلَجنا ممرًّا انتشرت على جانبيه المطاعم الصغيرة المتعددة الجنسيات، من يابانية إلى تركية. اختارت مطعمًا فيتناميًّا متواضعًا، ورحبت بنا سيدة آسيوية دقيقة الحجم أجلستنا بجوار نافذة، وسرعان ما وضعت أمام كل منا إناءً متوسط الحجم من الفخار يتصاعد منه البخار، وطبقًا من براعم الفول الطازجة الخضراء وحبات الليمون وأوراق النعناع. استَسَغْت على الفور طعم الحساء الذي اشتمل على شعرية وقطع مسلوقة من لحم البقر.
قالت، وهي تتأمل سطح الحساء منتظرة حتى تخف سخونته: كانت لي وقتها صديقة من القياديات قطعت دراستها، وتفرغت للعمل الثوري. وعندما انتهت حرب «فيتنام» شعرت بالضياع. كان الكفاح ضد الحرب هو أهم شيء في حياتها، ولم تنجح في إحلاله بشيء آخر، جربت الهنود الحمر بعض الوقت وغيرها من القضايا بلا فائدة، ثم التحقت بمركز لتعليم اليوجا، وتركته إلى دراسة الأعشاب الطبية ثم الباراسيكولوجي، وأخيرًا ذهبت إلى «إسرائيل» وانضمت إلى الجيش.
– الإسرائيلي؟
– أهناك غيره؟
أتينا بسرعة على محتويات إناءَينا، وأحضرت لنا السيدة الفيتنامية طبقَي حلوى من الفاصوليا والأرز باللبن.
سألتها: وأنت؟ أي قضية اخترت؟
قلبت بملعقتها في طبق الحلوى، ثم قالت في تردد: أنا عضو في اللجنة النقابية لموظفي المعهد، وفي عدة لجانٍ أخرى.
تطلعت في ساعتها، ثم أضافت: هناك اجتماع الليلة لنصرة «العراق»، تأتي معي؟
أصرت أن تدفع حسابنا، قائلة إنه مبلغ زهيد. وأخذنا السيارة من الجاراج، بعد أن دفعت ستة دولارات لساعتين انتظار. انطلقنا إلى الطريق السريع رقم ۸۰، فأخذنا الاتجاه العكسي حتى مفترق طرق، انحنَينا يمينًا، وسرعان ما صرنا فوق جسر الخليج. كان مزدحمًا بالسيارات العائدة من العطلة، فظلت قدمها فوق الفرامل.
انحنت تعبث بمفاتيح الراديو، حتى وجدت أغنية لم أتبيَّن كلماتها إلى أن رافقتها بصوت عالٍ أقرب إلى الصراخ: «لم يقل أحد أبدًا أن الأمر سيكون سهلًا. ولم يقل واحد أبدًا أنه سيكون بهذه الصعوبة».
تحسَّن المرور بعد قليل ثم شعرت فجأةً، كأنما استطالت سياج الجسر، وأصبحنا نسير في نفَق مظلم. وأوضحت لي أن الضباب يحل مرة واحدة قادمًا من المحيط، ويلف الجسر كالبطانية.
احتفظت بسرعة لا تتجاوز العشرين كيلومترًا في الساعة، وأشعلت التكييف الساخن عندما انخفضت درجة الحرارة، وشعرت بضغط الرياح على هيكل السيارة عندما تركنا الجسر إلى شوارع مركز المدينة المشتعل بالأضواء.
تركنا السيارة في جاراج متعدِّد الطوابق، ومشينا حتى شارع «ميشان». مررنا من أمام مبانٍ عتيقة وجدران لطَّخَتها الكتابات، وبدت آثار الزلزال الأخير على بعض المباني.
تناهت إلى سمعي موسيقى إسبانية من أحد المنازل، ولاحظت أن الطابع «اللاتيني» يغلب على ملامح المارة وأسماء الحوانيت.
أشارت «شادويك» إلى نقطة بعيدة في الشارع الطويل وقالت: المربع المكوَّن من أربع بلوكات عند الشارع السادس اسمه «مربع الشيطان»، سكانه من السكارى والعاهرات والمشردين والمسنين الذين طردتهم المشروعات المعمارية في أجزاء أخرى من المدينة.
أدركت أنها تتحدث عن نفس المنطقة التي حذرني منها «ماهر».
انتظرت حتى عبرنا الطريق، ثم استطردت: هناك أيضًا البوهيميون الذين اجتذبتهم أجور السكن الأقل، وافتتحوا مسارح طليعية، ومعارض للفن الطليعي، ومقاهي تشرب فيها «الإسبريسو» وأنت تستمع إلى الشعر، وحوانيت للكتب السياسية المتطرفة والأدب النسائي، ونوادي ليلية مشروعة وغير مشروعة. يمكنك أن تشتري أي شيء هنا، وأن تجد أي شيء كما يمكنك أن تفقد نقودك وحياتك وبالنهار أيضًا.
بلغنا مبنًى حديثًا يضم مركز «يربا بوينا» للفنون. صعدنا سلمًا عريضًا، واجتزنا بوابة زجاجية إلى ردهة واسعة وقف عدة أشخاص عند بابٍ في نهايتها. كان أغلبهم في منتصف العمر، ويغلب عليهم التردد والخجل.
تقدمنا من طاولة صُفت فوقها بضع نشرات صادرة عن «مركز الفعل الدولي»، وبجوارها لافتة تطلب التبرع بمبلغ يتراوح بين خمسة دولارات وعشرين دولارًا. علقت: مَن ليس معه لا يمنع من الدخول.
دفع كل منا خمسة دولارات، وولجنا قاعة عرض صغيرة تضم حوالي ثمانين مقعدًا. وعندما امتلأ نصفها صعد إلى المنصة شاب ذكَرَ أنه عائد لتوِّه من «الخرطوم» مع بعثة لتقصِّي الحقائق، رأسها المدعي العام الأمريكي السابق «رامزي كلارك». وقال: إن جولة البعثة كشفت كذب مزاعم الإدارة الأمريكية، وإن مصنع «الشفاء» الذي قصفته يوم ۲۰ أغسطس لا شأن له بإنتاج غازات الأعصاب.
أعقبته سيدة بيضاء أربعينية تُدعى «جلوريا دي لاريفا»، ترتدي نظارة طبية لم تنجح في إخفاء قصر نظرها. هاجمت العقوبات المفروضة على «العراق» والتي يُتوفى بسببها خمسة آلاف طفل كل شهر. وعرضت لنا شريطًا للفيديو يصور رحلة إليه، قام بها ٩٠ شخصًا في خرق صريح للحصار وللقانون الأمريكي. وقدمت البعثة للسلطات العراقية ما قيمته أربعة ملايين دولار من الأدوية. وتفقد أعضاؤها ما خلَّفه القصف الأمريكي من دمار، وزاروا المستشفيات ومنشآت المياه.
تحدث عدد من الحاضرين في نفس الاتجاه، ثم انتهى الاجتماع. وتركتني «شادويك» بضع دقائق تبادلت فيه الحديث مع «دي لاريفا» وزملائها، ثم غادرنا المكان واتجهنا إلى الجاراج.
علقت على لقطات الشريط التي صورت في المستشفيات، وظهر فيها أطفال هزيلون جاحظو العيون يعانون نقص الغذاء. قلت: هل لاحظت الطبيب العراقي الذي رفع أحد الأطفال أمام الكاميرا؟
– ما له؟
– هل رأيت كيف كان شديد الامتلاء يتفجَّر صحة؟
توقفت عن السير، وسألت: ماذا تقصد؟
قلت: مجرد ملاحظة، ربما كان من رجال المخابرات.
أضفت عندما رأيتها مقطبة: أنا أتحدث كمؤرخ. التاريخ لم يعُد يكتفي بتسجيل الوقائع، وإنما يفتش خلفها.
قالت بنبرة ساخرة: وماذا تقترح إذن؟ أن نمتنع عن مساعدة الشعب العراقي؟
قلت: لا أعرف، أنا لست سياسيًّا، أنا مؤرخ وفقط.
لم تعلق ومشينا في صَمت، وشعرت أنها غاضبة.
كنا قد بلغنا مدخل الجاراج، فقلت: سآخذ تاكسي من هنا.
تقدمتني إلى الداخل قائلةً: لا ضرورة. سأوصلك.