الفصل الثالث عشر
بدأ اليوم باردًا غائمًا، ثم سطعت الشمس فجأةً. كان موعدي عند الظهر فذرعت الطريق متمهلًا مستمتعًا بأشعتها.
اتجهت جنوبًا وعبرت عدة تقاطعات. وقبل شارع «فولتون» الموازي لحديقة «جولدن جيت بارك»، بدأت البحث بين أرقام المنازل حتى عثرت على مبنَى العيادة المخصصة للستينيين.
انتظرت حتى تقدَّمني عجوز أسود يستند إلى ذراع مرافق، ثم ولجت ردهة صغيرة في الطابق الأول تكدست بها الكاونترات والمقاعد. توقفت أمام أول كاونتر صادفني، وذكرت اسمي وموعدي لسوداء شابة. أومأت إلى المقاعد بأدب كي أنتظر.
اخترت مقعدًا في طرف الردهة بجوار كوم من المجلات والصحف فوق طاولة صغيرة. جلست في مواجهة كهلة سوداء في ملابس متواضعة، بسطت ساقًا متيبسة أمامها، تتأملها في تركيز كأنما تحاول بث الحياة في شرايينها. طفت بعيني بين الجالسين، فوجدت أغلبهم من رقيقي الحال، وجميعهم من العواجيز السود والمكسيكيين. رفاقي من الآن.
اقتربت مني سيدة ضخمة سوداء، أنيقة المظهر، وخاطبتني في احترام: بروفسور «شكري»؟ تفضَّل معي.
خالجني الشك في أني أول مَن ينضم إلى العيادة من هذه الفئة الاجتماعية المتميزة، وبالتالي قد أكون مؤشرًا على تغير اختياراتها، ووعدًا بأن يتبعني بقية أبنائها.
تبعتها بين أروقة صنعَتها قواطع كثيرة من الخشب، وتسلمتني ممرضة سوداء باسمة في رداء أزرق. قاست طولي ووزني وضغطي الذي كان مرتفعًا قليلًا، ثم صحِبتني إلى غرفة أخرى، استقبلتني مساعدة طبية بيضاء في أواخر العشرينيات، فارعة الطول ذات وجه ذكوري بَاسمٍ بلا زينة. خاطبتني بلغة بسيطة تنطقها في بطء، وقدرت أنها مدرَّبة على التعامل مع الأجانب والأقليات. استمعت إلى شكواي بشأن ما أشعر به من انسداد دائم في أذني، واستفسرت عن آلامي الأخرى فحدثتها عن الفتق، وحساسية الأنف، وأوجاع العنق والظهر، والخيوط التي تملأ العينين، وفطريات أصابع القدمين والضغط المرتفع، وخيانة الذاكرة.
ملأت ملفًّا بتفاصيل كثيرة عني وعن أمي وأبي، ثم سألتني: هل لجأت إلى طبيب في بلدك بخصوص أذنك؟
أومأت بالإيجاب.
كانا اثنين في غرفتين متجاورتين. الأول قصير بدين ربض خلف مكتبه كالضبع في انتظار الفريسة. طلب مني أن أقيس السَّمع في الغُرفة المجاورة، انتظرت الثاني في الردهة حتى جاء، كان ضخم الجثة دائم التجشؤ، له سمات البقَّال الفاشل الذي يريد أن يترك لدى الناس انطباعًا مختلفًا. أسرَّ لي بمجرد أن جلست أمامه أنه مهتم بي بشكل خاص فشعرت بالخطر، قاس السمع وكتب النتيجة، وأعطاني رسومًا بيانية، وقال: إني أحتاج لعلمية تصليح أنف، ونصحني بأن أعمل بنصائح الطبيب الأول؛ لأنه شاطر. وكانت النصيحة التي أعطانيها ذاك هي أن يُجري لي جراحة تحت الأذن، يُوضَع خلالها خرطوم لتسريب مياه متجمعة، كما قال.
وقالت: إنها ستصف لي دواء، وإذا لم يأتِ بنتيجة خلال شهر فستحيلني إلى جرَّاح أو متخصص.
أضافت: أنت تعرف طبعًا أن تأمينك لا يتضمَّن الجراحات. على العموم يمكن أن أستفسر لك عن التكاليف. ثِقْ أني سأجد لك عرضًا معقولًا.
أنا مهتمة بك بشكل خاص!
اقتادتني الممرضة الأولى لتحليل الدم والبول، ولاحظت أن الابتسامة لا تغادر وجهها، فسألتها عن السبب. ألقت نظرة على ملفي، وقالت: لأني مسلمة.
عدت إلى المنزل وحملت الكمبيوتر النقَّال، وحقيبة أوراقي وغادرته مرة ثانية. صرفت الدواء من صيدلية تابعة لسلسلة «والجرين»، ولمحت العدد الجديد من «ديلي كاليفورنيان» معروضًا في مدخل حانوت للتبغ فالتقطته، واشتريت «نيويورك تايمز»، واتجهت إلى المعهد.
صعدت الدرج إلى الطابق الأول، ووجدت باب غرفة سكرتيرة «ماهر» مفتوحًا فدخلت. كانت الغرفة خالية والباب المؤدي إلى مكتبه مواربًا، فاتجهت نحوه.
مددت يدي لأطرقه أو أدفعه، فإذا به ينفرج دفعة واحدة، وتندفع منه «شرلي» منفعلة. وظهر «ماهر» خلفها شاحب الوجه.
استدار وأعطاني ظهره، واتجه إلى مكتبه. مدَّ يده وتناول عددًا من صحيفة «الجارديان ويكلي» الإنجليزية، وناولني إياه قائلًا «شوف يا سيدي.»
وضعت الكمبيوتر فوق حافة مكتبه، وألقيت بحقيبتي فوق الأرض. حملت الصحيفة إلى المقعد المقابل وتصفحتها. كانت عددًا قديمًا بتاريخ ۲۰ سبتمبر. وكان الموضوع الذي يعنيه «ماهر» تقريرًا من مراسلها في واشنطون، «أندرو مار»، عن فضيحة «كلينتون»، امتلأ بتخطيطات من قلم أحمر اللون.
انهمك في البحث عن شيء في درج مكتبه، بينما قرأت أولى تخطيطاته. تعلقت بقضية سابقة مماثلة بطلتها «بولا جونز»، موظَّفة الاستقبال التي اتهمت «كلينتون» حينما كان حاكمًا لولاية «أركنساس» بأنه استدعاها بواسطة حارسه الخاص «فرجيسون» إلى جناحه في أحد الفنادق، وطلب منها أن تستخدم فمها في إمتاعه، ففضحته وأقامت ضده دعوى التحرش الجنسي، وتعرض «كلينتون» في المحاكمة للتهديد بأن يكشف عن قضيبه أمام الشهود بحثًا عن علامات مميزة فوقه.
تضمن التخطيط التالي فقرة من تصريحات «مونيكا»، روت فيها كيف حضرت احتفال الرئيس بعيد ميلاده الخمسين في ١٨ أغسطس ١٩٩٦م، ووقفت وظهرها إليه ثم مدَّت يدها ولمسته. ولم يكتفِ المحقق بذلك؛ فسألها «لمسته في منطقة المنفرج؟» فأجابت بالإيجاب.
لكن التخطيطات التالية كانت حول أمور أكثر جدية، كشف عنها تقرير «ستار». فعندما كان «كلينتون» حاكمًا لولاية «أركنساس» أغضى الطرف عن عملية تهريب كميات من الكوكايين، تقدَّر بأكثر من ٧٥٠ مليون دولار عبر الولاية، فحصلت حملته الانتخابية للرئاسة على عدة ملايين من الدولارات.
وخلال تلك الفترة رعى مشروعًا عقاريًّا برأسمال ۷۰۰ مليون دولار، قامت به شركة حديثة التأسيس تولت الإدارة القانونية لها شركة محاماة تشارك فيها زوجته. وتقاضت «هيلاري كلينتون» عن تسجيل عقد واحد بهذا الخصوص مائة ألف دولار. كما أنها رتبت مجموعة من القروض هي وشريكها في المكتب «فنسنت فوستر» الذي راجت إشاعات عن علاقة خاصة بينهما، ثم انتقل معها بعد ذلك إلى البيت الأبيض مستشارًا قانونيًّا للرئيس.
وكشف «ستار» أيضًا في تقريره أن محامي «كلينتون»، هددوا «بولا جونز» بكسر ساقيها؛ لكي تتنازل عن دعواها، ثم عرضوا عليها أخيرًا أكثر من نصف مليون دولار.
لكن الأخطر من هذا كله أن موظَّفي ولاية «أركنساس» الذين تم استدعاؤهم للشهادة في الفضيحة المالية التي عُرفت باسم «وايتواتر»، وقعت بينهم ۲۱ حالة وفاة منها زوجة الحارس «فرجسون»، والمدير المالي لحملة «كلينتون» الانتخابية. ثم وُجدت جثَّة «فنسنت فوستر» في مكتبه بالبيت الأبيض، وفي يده مسدس يوحي بأنه انتحر. ولم يتم إبلاغ النيابة العامة إلا بعد أن قامت «هيلاري كلينتون» بنقل ملفَّات مكتبه. واتضح أنه قبل شهور كلَّف أحد رجال التحريات الخاصة بتقصِّي وقائع القضايا المتصلة بتصرفات الرئيس عندما كان حاكمًا ﻟ «أركنساس». وعندما سمع رجل التحريات بمصرع «فوستر» قال لزوجته إنه أصبح رجلًا ميتًا هو الآخر. وبعد أيام سرقت منه أوراق الملف الذي جمع فيه نتائج تحرياته عن تصرفات الرئيس. وبعد يومين وُجدت جثته منحنية فوق مقود سيارته في إشارة مرور. وتبين أنه أصيب بطلقة من مسدس كاتم للصوت.
كان «ماهر» قد عثر على بقايا سيجار فوضعه في فمه، وأدار مقعده ليواجه النافذة.
قال: هل قرأت أو سمعت شيئًا عن نتائج التحقيق في هذه الجرائم؟
أبدًا. إنما تقرأ يوميًّا عن شفاه «مونيكا»، والتحقيق بشأن بقع الرداء الأزرق. هل رأيت هذه؟
التقط من بين الملفات المصفوفة فوق مكتبة جريدة عربية في حجم «التابلويد» تُدعى «أخبار العربي الأمريكية» وقرأ عنوانها الرئيسي: «مونيكا» تقول: «كلينتون» وضع سيجاره في فرجي ثم في فمه، وقال لي إن طعمه لذيذ.»
أثارت تعبيرات وجهي ضحكه وعلَّق: هل تتصور هذا العنوان في جريدة لديكم؟
أدركت في هذه اللحظة أني عاجز تمامًا عن فهمه.
وضعت الصحيفة جانبًا، وقدمت إليه الورقة التي دوَّنت فيها ملاحظاتي عن أوراق المؤتمر المقترح، وأنا أقول: هناك أوراق ضعيفة ليس بها جديد، بالرغم من قوة الورقة الاستهلالية. ولغو من نوع: «المتشكل المؤسساتي للكائن»، «الضرورة المنطقية لرفض التراتبية كي لا تنأسر الذات برموزها اللغوية»، «توبيء التسلط التاريخي للجهل». أشياء كثيرة تتداعى إلى الذهن، عندما نسمع عن القرن القادم، وغابت كلها عن هذه الأوراق.
ألقى نظرةً سريعة على الورقة ثم ابتسم: ألم يعجبك شيء مطلقًا؟
لم يعلق فأضفت: أنا لا أعرف الظروف التي أحاطت بانعقاد هذا المؤتمر، لكن أتصور أنه تم بالطريقة العربية، وكان يحتاج إلى مزيد من التحضير.
استمع إليَّ صامتًا، وهو يلوك طرف السيجار في فمه، ثم أطرق برأسه وقال: هل أعددت ورقتك؟
دهشت: ألم تسمع ما قلته؟
أطرق مؤمِّنًا: سمعت، لكن الوقت فات لعمل أي تعديل، وربما نعقد مؤتمرًا ثانيًا فيما بعد. المهم الآن أن ينجح هذا المؤتمر. فكِّر في موضوع.
لم أعلق وحدثته عن مشكلة «لاري» وما يواجهه من متاعب؛ فوعدني بأن يبذل ما في وسعه، لكن شعورًا خالجني بأنه لن يفعل شيئًا أو لا يمكنه ذلك.
مال إلى الأمام وقال: فكرتني.
خفض صوته ودعك أرنبة أنفه: ما سأقوله لك يجب أن يبقى سرًّا مكتومًا بيننا.
أومأت برأسي: بالطبع.
– هناك حديث يتردد عن جوٍّ معادٍ للسامية في حلقتك.
تطلعت إليه مدهوشًا: عندي أنا؟ كيف؟
تجهَّم وجهه وتراجع إلى الوراء: لن أقول أكثر من ذلك. وأنت حر التصرف. هذه جامعة عريقة في التقاليد الديموقراطية. وأنت لمست بنفسك أنك يمكنك أن تقول أشياء هنا لا تجرؤ على الإشارة إليها في «مصر». لكنها من ناحية أخري تعتمد على تمويل المؤسسات والشركات الكبرى؛ وإلا لن تتمكن من تجديد التجهيزات، واستقدام أساتذة مثلك من الخارج. وأغلب هذه المؤسسات، كما لعلك تعرف، ترفض كل التيارات المعادية للسامية. هل سمعت عن «توماس ثومسون»؟
– مَن هو؟
– أكان كتابه هو السبب؟
– طبعًا لأنه ذهب إلى أن الروايات التوراتية تتعارض مع الأحداث والوقائع التاريخية التي نعرفها عن طريق البينات الأثرية والوثائق التاريخية الأخرى.
قاومت رغبة في التدخين، وأنا أحاول استعادة المناقشات التي جرت أثناء دروسي.
قلت: أنت تعرف كيف أفكِّر. أنا آخر شخص يمكن أن توجه إليه هذه التهمة.
قال بلهجة مَن يغلق الموضوع: على أية حال خذ بالك.
أظن أنك تريد أن تأتي إلينا مرة أخرى؟
فكرت في الثلاثين ألف دولار التي سأحاول العودة بنصفها على الأقل، وهو مبلغ يساوي راتبي أو معاشَ تقاعدي في المستقبل القريب لأربع سنوات على الأقل.
قلت بمكر: المبلغ لا يشجع.
قال: من الممكن زيادته.
قمت واقفًا وأنا أقول: أوكي!
حملت حقيبتي وكمبيوتري، وغادرته إلى مكتبي.
دققت الباب ثم فتحت ودخلت. كنت أردد بصوت خفيض «تومسون تومبسون … تومسون تومبسون»، وقد أعجبني الايقاع.
طالعتني ثلاثة وجوه على الحائط الذي تجلس «إستر» في مواجهته؛ «بيجين» و«نتنياهو» و«شارون» في ملصق عريض. وأسفل كل وجه قائمة بالمذابح التي ارتكبها صاحبه في حق الفلسطينيين، ثم عبارة بحروف كبيرة.
قرأت العبارة بصوت مرتفع: «الدولة اليهودية هي المكان الوحيد في العالم الذي تعمل فيه فرق قتل قانونية، وتجاز فيه سياسة الاغتيال.»
انطلقت من فمي الصَّيحة الأمريكية المعهودة: واو!
استدارت نحوي في حدة، وقالت بصرامة: ماذا حدث؟
أشرت بأصبعي إلى المُلصَق دون أن أتكلم.
كانت ترتدي بنطلونًا من الجينز، وبلوزة بكُمَّين قصيرين كشفا ذراعيها اللذين أثارا إعجابي.
قالت: آه! أنت من العرب الذين يضعون كل اليهود في سلَّة واحدة. اعلم إذن أني ضد «الليكود»، وسبق أن استنكرت في بيان للصحف تصريح لأحد وزراء «نتنياهو»، وصف فيه الفلسطينيين بأنهم كلاب.
قلت: عظيم.
أعطتني ظهرها من جديد، وبدأت تدق على جهاز الكمبيوتر، ثم قالت: الفلسطينيون شعب مثل بقية الشعوب.
كنت في مزاج تكرار الإيقاعات فرددت: شعب مثل بقية الشعوب.
توقفت عن الدق والتفتت إليَّ مرة أخرى: هل تسخر مني؟
– أبدًا.
وضعت حقيبتي فوق مكتبي، وأخرجت منها أوراقي، ثم جذبت المقعد المجاور للطاولة وجلست. كانت ما تزال ملتفتة إليَّ بنصف جسدها. بسطت أوراقي أمامي، وأنا أردد: «تومسون تومبسون.»
سألتني: ماذا قلت؟
أجبت: «تومسون تومبسون.»
قالت: تقصد «توماس تومبسون»؟
قلت: أجل، هذا هو. هل قرأت كتابه؟
ترددت لحظة، ثم قالت: لا.
طرق الباب وانفرج عن «جون» الخبير الإلكتروني، ذي الجسم الرياضي الطويل، وشعر الرأس الأشقر المعقوص من الخلف في خصلةٍ على هيئة ذيل حصان.
رحَّبت به وأشرت له بالجلوس. استخرجت الكمبيوتر من حافظته هو والمحول الصغير، ثم تطلعت إلى جهاز التليفون الذي استأثرت به زميلتي فوق مكتبها، وأوصلته بجهازها.
أدركت الموقف فنهضت قائلةً: إن موعد محاضرتها أزِف. فصلت جهازها عن التليفون، وحملته ثم غادرت الغرفة.
احتلَّ «جون» مقعدها، وناولته جهازي قائلًا: أتمنى أن ننجح هذه المرة.
كانت هذه هي المرة الثالثة التي أحضر فيها الكمبيوتر؛ ليجري عليه تجاربه من أجل تثبيت برنامج للبريد الإلكتروني. وكان قد عرض عليَّ أن أتركه له يومًا كاملًا، لكني رفضت خوفًا من أي عبث بمحتوياته.
أوصل جهازي بالتليفون، واستخرج عدة أقراص من حقيبته ثم بدأ تجاربه، وعدت إلى أوراقي لكني وجدتني عاجزًا عن التركيز، فاستخرجت ما معي من صحف؛ لأتسلى بها حتى ينتهي.
استغرقت في قراءة المقال حتى النهاية، وحانت مني التفاتة إلى «جون»، فوجدته قد وضع طرفًا من جدائل شعره الطويلة في فمه وأخذ يمضغها في ضيق.
تحول إليَّ قائلًا: أنا آسف. هناك شيء لا أفهمه، لا مفرَّ من الالتجاء إلى الشركة المنتجة.
كنت قد فكرت في هذا الحل لكني تراجعت عندما علمت بتكلفته.
قلت إني سأفكر في الأمر، وشكرته على جهده. جمع أقراصه وأعادها إلى حقيبته، ثم حملها وانصرف.
فصلت الجهاز عن التليفون وأعدته إلى حافظته هو والمحوِّل. حملتها في يدٍ وحقيبة أوراقي في اليد الأخرى، وغادرت الغرفة.
لم تكن «جيني» في غرفتها، ووجدتها في كهف البريد تدس بعض المظاريف في صناديق الأساتذة. أبلغتها بما قاله الخبير الإلكتروني فلم تعلِّق. انتظرت حتى انصرفت فتقدمت من صندوقي.
كانت هناك الإعلانات الملونة المعهودة، وأسفلها رسالة جديدة مرفقة بزنبقة زرقاء.
ثم كان ذات مساء بارد في «نوفمبر»، كانت وحدتي وعزلتي قد أثقلتا عليَّ. كنت قد سمعت في الأشهر الماضية عن مكان يُدعى «كاسترو»، فقررت أن أذهب إليه. ركبت «البارت» دون أن أعرف أين يقع. ولحسن الحظ جاء مجلسي إلى جوار اثنين منهم. ورغم أني لم أجرؤ على سؤالهما عن مكان «الكاسترو» قررت أن أتبعهما. وبالفعل غادرا القطار في شارع «باول»، واستقلَّا خط الباص «ك» وأنا خلفهما. وسرعان ما كنت في قلب أمريكا المثلية.
للوهلة الأولي بدا لي الكاسترو حيًّا ضخمًا؛ بلوكات من الأضواء المتلألئة، وواجهات الحوانيت الجذابة، وأطنان من الرجال! كانوا جميعًا يبدون سعداء، وهم يتمشون على الأرصفة، وقد تماسكت أيديهم ويضحكون في صخَب، بينما كنت أنا وحيدًا تمامًا. مشيت وبي رغبة حارقة في الالتحاق بهذا المجتمع، لكن كيف؟ كنت غارقًا في أفكاري، فلم ألحظ رجلًا بدأ يتتبعني. وعندما توقفت لأتأمل بعض القمصان في نافذة، رأيت انعكاس صورته في الزجاج، قال: «هاي بيبي … أنت ظريف.»
قلت، وأنا أستدير لمواجهته: «شكرًا.» كان يبدو ثملًا للغاية، قال: «هل تحب أن تأتي معي الليلة؟» اقترب مني، فاجتاحتني رائحة الخمر. أجبت متلعثمًا: «كلا، شكرًا.» وأزحت اليد التي وضعها على كتفي، ومضيت مبتعدًا بأسرع ما أستطيع.
في طريق العودة تساءلت عما إذا كان هذا مصيري؛ مطاردة الرجال في الشوارع، وإغراق وحدتي في الخمر. إذا كان هذا هو ما يفعله المثليون؛ فلن أكون مثليًّا. وفي اليوم التالي، حلقت شعر رأسي، وتَلْفنت لأفضل صديقاتي، وقلت لها: إنني تأكدت من استقامة هويتي الجنسية، من أني لن أكون مثليًّا.
ودارت في رأسي مناقشة حادة حرمتني من النوم ليلًا … إذا كنت فعلًا غير مثلي، فلماذا أفكر دائمًا في الرجال؟ وأخيرًا قررت أن أحضر اجتماعًا للمثليين، شاهدت إعلانًا عنه في نُزل الطلبة، لكني لم أجرؤ على الوقوف أمام الإعلان لمعرفة مكان الانعقاد وموعده. تسللت من غرفتي لألقي نظرة سريعة على الإعلان، ثم عدت مسرعًا إلى فراشي عازمًا على الذهاب إليهم.
يوم الثلاثاء التالي مضيت مسرعًا إلى المبني رقم ۲ وأنا أتطلع إلى الخلف؛ لأتأكد من أن أحدًا لا يرى وجهتي. وعندما دخلت المبني رأيت ملصقًا يعلن عن الاجتماع ورقم الغرفة، ثم توقف قلبي عندما رأيت شابًّا يتجه إلى الملصق، وينتزعه ثم يعجنه في يده ويلقي به بعيدًا. أوشكت أن أعود أدراجي لكني تلوت صلاة سريعة، وواصلت طريقي إلى أن وجدت نفسي أمام باب الغرفة، لكني لم أجد الجرأة على فتحه.
عندما سمعت أصوات ضحك داخل الغرفة خِفت … جريت إلى الحمام، وألقيت المياه على وجهي. ومن جديد وقفت أمام الباب منتظرًا حتى يزول رعبي … وأخيرًا دخلت الغرفة. ويا إلهي! الجميع كانوا يبدون عاديين طبيعيين، وفي غاية الجمال والتكامل. لا أذكر ماذا كان موضوع النقاش ذلك الأسبوع، لكني أتذكر أني لم أفُه بكلمة، وأني حملت معي عند العودة بعض الإحساس بالأمل.
اخترت للفصل الدراسي الثاني موضوع «الهويات الجنسية البديلة في أمريكا المعاصرة» وهو أحد الفصول الأساسية للدراسات الخاصة بالمثلية والجنسانية المزدوجة والجنسانية المتحولة (أي الانتقال من جنس إلى آخر بواسطة الجراحة مثلًا). أصبحت أكثر ثقة بهويتي، لكني كنت ما أزال أنتظر، ربما إجابة حاسمة. وهذا ما حدث بالضبط؛ ففي ربيع ١٩٩٦م في الاجتماع الثالث أو الرابع للدرس لاحظت صبيًّا ظريفًا، ولاحظني هو بدوره. وفي ذلك اليوم سألني أن أعلمه كيف يستخدم الإنترنت؛ لإنجاز واجب منزلي. وبعد أيام قليلة خرجنا سويًّا في لقاء غرامي، أول لقاء لي مع رجل.»