الفصل الرابع عشر
شغل الحانوت مساحة واسعة حفلت بكافة أنواع الأجهزة الصوتية. وفي نهايتها وقف شاب أسمر ملتحٍ في بداية الثلاثينيات خلف مكتب واطئ من الخشب. ابتسم لي وسألني بالعربية عن أحوالي. كان مصريًّا من «أسيوط»، تعرَّفت به في الأسبوع الأول من وصولي عندما كنت أبحث عن بطاقة للتليفون، وهو الذي أرشدني إلى البطاقات التي تتيح الاتصال عبر الأقمار الصناعية بأسعار زهيدة، لا تتجاوز ثمانية سنتات داخل «الولايات المتحدة» و٥٦ سنتًا ﻟ «مصر». كما باعني راديو صغيرًا أنيق الشكل بأقل من عشرة دولارات. ويبدو أنه كان يريد التخلص منه أو شعر بأن هذا المبلغ هو مستوى مشترياتي.
سألته عن مشروعاته بالنسبة لرأس السنة. قال إنه ينوي زيارة «مصر» لأول مرة منذ ١١ سنة.
قلت: ياه! مدة طويلة.
قال: كنت مطلوبًا للتجنيد. أما الآن فقد سويت أموري، ودفعت الغرامة المقررة.
– حصلت على الجنسية طبعًا؟
اتسعت ابتسامته وهو يرفع يده مبسوطة في وضع القسم: أقسم بالولاء ﻟ «الولايات المتحدة» أولًا وأخيرًا، وأن تكون المصلحة الأمريكية فوق كل اعتبار، وأن أراعي المصلحة والأمن القومي الأمريكيين، سواء كنت هنا في الوطن أو في «مصر».
قلت: بصحيح؟
قهقه ضاحكًا: ده إجراء شكلي للحصول على الجنسية، مصلحة يعنى. الوطن هو «مصر» فقط.
أردت أن أهوِّن عليه، فقلت: الوطن هو المكان الذي يشعر فيه الواحد بالأمان.
قال: تمام. الجنسية الأمريكية أمان في «مصر» كمان. أنا لي اثنين قرايب اختلفا حول ملكية قطعة أرض في الصعيد. واحد منهما عنده الجنسية الأمريكية. تعرف ماذا حدث؟ استنجد بالسفارة فتدخلت لدى وزارة الداخلية المصرية، وعلى الفور راحت قوات الأمن المركزي موقع الأرض، ومكنته من ملكيتها. شفت؟
أعربت عن إدراكي لحقائق الحياة، واشتريت بطاقة تليفون جديدة. غادرت الحانوت، واتجهت إلى مشرب على الرصيف المقابل. انتظرت حتى مرت مجموعة من اليهود الأصوليين بملابسهم السوداء السابغة، ولِحاهم وقبعاتهم، بينهم سيدة غطَّت رأسها فيما يشبه الحجاب الإسلامي. ولجت حديقة داخلية غير مسقوفة، انتشرت بها المدافئ الكهربية الضخمة. جلست في ظل إحداها، وطلبت من نادلة سوداء جميلة كوبًا من القهوة الممزوجة باللبن.
رفعت الكوب إلى فمي وأنا أستعيد درس اليوم الذي قدمت فيه حلقة جديدة من مسيرتي. لم يكن ثمة شك في أني نجحت في الاستحواذ على اهتمام الطلاب بحكاياتي الفضائحية التي انتهيتُ من إحداها قبل ساعة.
كنت قد بدأت محاضرتي بمدخل استفزازي. قلت إني ألفت في طفولتي أن أسمع تعبير «أمريكاني» يطلق على أي سلعة ذات مظهر برَّاق وسريعة التلَف؛ فقد خلقت الحرب العالمية الثانية طلبًا على سلع واحتياجات لم تعد الصناعة الإنجليزية أو الألمانية قادرة على تَلْبِيتها. وغُمرت الأسواق بمنتجات سعى صُنَّاعها الأمريكيون وراء ربح سريع، فلم يعتنوا بجودتها، ولم أتصور أن الأمر شمل البشر أنفسهم إلى أن التقيت ﺑ «ربارة».
ظهر الاهتمام على وجوه طلابي وتأهبوا لاعترافاتي الفضائحية، فلم أخيب ظنهم.
شرحت لهم كيف أن صدمة «جمالات» لم تتلاشَ سريعًا كما حدث مع «رجاء»، وكيف فشلت محاولاتي في العثور على فتاة تثير اهتمامي، أو تتقبل عاطفتي. وكنت قد تخرجت سنة ١٩٦٠م بتقدير جيد، فسجلت اسمي في الدراسات العليا. وكنت أتردد على منزل أحد الأساتذة؛ لأرتب له بطاقات بحث يقوم به. وهناك التقيت صديقة أمريكية لزوجته الأيرلندية حلَّت ضيفة لديهما مع ابنتها، في زيارة صيفية قصيرة. ومن الطبيعي أني أحببت الفتاة، والحقيقة أني أحببتها من قبل مجيئها، فلم يكن لزوجة أستاذي من حديث طوال شهرين سوى الزيارة المرتقبة.
كانت الفتاة في سني، ومغرمة بالرسم أي مشروع فنانة، شقراء قصيرة ذات فمٍ ملتوٍ قليلًا، وأظافر عريضة لأصابع اليدين والقدمين، لكنها تمتعت بعينين زرقاوين جميلتين، ورائحة عطر خفيف أحاطها بجو ساحر، خصوصًا وأن العطور الأجنبية كانت غير متوافرة في ذلك الوقت باعتبارها من الكماليات.
أخذتها إلى «خان الخليلي» والأهرامات والمساجد والقلعة. استعرضت معلوماتي، ولو أني أشك أنها فهمت شيئًا من إنجليزيتي المتواضعة، كما كنت بالمثل أجد صعوبة في تمييز لكنتها الأمريكية المضغومة. وفي ليلة قمرية استأجرنا قاربًا وقمنا بنزهة نيلية، وانتهزت الفرصة لأفضي لها بحبي. لم تعلق بشيء، ثم سألتني بعد قليل: ثم ماذا؟ السؤال المعهود عن الاستراتيجية التي لم أفكر فيها مطلقًا.
أعدتها إلى المنزل محبطًا، واعتبرت أني خسرت المعركة، وبدأت أنسحب لاعقًا جراحي فتوقفت عن التردد على منزل أستاذي. وكان أن اتصلت بي بنفسها ودعتني إلى السينما.
كنت يومها مصابًا بأنفلونزا ودرجة حرارتي مرتفعة، لكني ذهبت. لم يخطر ببالي أنها ربما كانت تسعى وراء ما يسمى في بلادها «نكنج»، أي بضع قبلات ولمسات، وربما مساعدات متبادلة؛ فلم تكن لي خبرة بهذا الشكل من المغازلة، ثم إن درجة حرارتي كانت تشل أي رغبة؛ لذلك لم أستجب لها عندما قربت رأسها مني في الظلام، وألصقت فخذها بفخذي.
بعد يومين رافقتها هي وأمها وزوجة أستاذي إلى الأقصر. ذهبنا بالطبع إلى معبد «الدير البحري». مررنا بتماثيل «حتشبسوت» في صورة «أبي الهول»، وصعدنا المدرجات العريضة الثلاثة. ولأول مرة أجدني في حضرة المعبد العظيم الذي أُقيم في سفح الجبل. ووقفت مبهورًا بالجمال القائم على إحساس رفيع بالتناسب والتناسق.
أفرغت كوب القهوة، وأشرت للنادلة كي تحضر لي غيره. تذكرت المشاعر التي غمرتني ساعتها، وكانت مزيجًا من الروع والغشية. ولعل الشمس بأُوارها المصبوب هي التي هيَّأت لي أن الحياة دبت في المكان؛ فقد رأيت المئات من قاطعي الأحجار وعمَّال الذهب يتسلَّقون الحبال تحت فرقعة السياط، ويتساقط منهم العشرات تحت الأقدام، ثم يتوسط «رع» المنيع السماء، بسطوته التي تخذي العين، فيتوقف العمل، ويتلقون الخبز والبصل فرحين، بينما ينساب النهر كالفضة الساكنة، وتتساقط المياه نقطة نقطة في الساعة المائية، ونقطة نقطة يرتفع مستواها حتى العلامة الخامسة فيهبط «رع» إلى مرقده، ومن المباني الواطئة المسقوفة بالقَش التي تضم ورشات المعبد، يتقاطر العمال بأجسادٍ حناها التعب، قطاع الحجر المغطون بغبار الجرانيت، عمال التحنيط المحاطون بروائح النطرون والتوابل، ناسخو البرديات ونساجو الأقمشة، الزجَّاجون والصياغ، الفخاريون والنجارون، أفرادًا وجماعات يخرجون إلى الشوارع، وأكواخ طينية تغطيها أوراق البردي وتظللها الأشجار.
أعادتني أم «بربارة» إلى الواقع، متشكِّية من الحرارة، معلنةً سخطها على تاريخ تحوَّل إلى أحجار. ولجنا المعبد، وطفنا بالجدران التي انتزع ذهبها وشوهت نقوشها. ومع ذلك أمكننا أن نتبين قصة مولد «حتشبسوت» من الإله، عندما تقمص «آمون» صورة «تحتمس الأول»، وضاجع زوجته الملكة لتحمل بها. وأوشكت الأم أن تشتبك معي عندما قلت إنها القصة نفسها التي تبنَّتْها المسيحية.
أحضرت لي النادلة السمراء كوب القهوة الثاني، ومعه فاتورة الحساب. وأشعلت سيجارة وأنا أتذكر بقية الرحلة، وكيف واصلنا الرحلة إلى «أسوان»، وحللنا بفندق «كاتاركت» القديم. انطلقنا على الفور إلى موقع العمل في «السد العالي»؛ حيث كان يجري تحويل مجرى «النيل» ليصنع بحيرة واسعة تُقام فوقها محطة كهرباء ضخمة. كنت فخورًا بالمشروع الذي يضع أساس التصنيع والتنمية، بينما عمدت الأم إلى التهوين من أمره بتعليقات متعالية استفزتني، ودار بيننا جدال عنيف نددت فيه بموقف بلادها عندما دفعت البنك الدولي إلى سحب عرض تمويل المشروع. هنا أسفرت الأم عن عدائها لي، وحرصت ألا تتيح لي الانفراد بابنتها. وصرت أصحبهن بغير حماس وفي وجوم.
في اليوم التالي ذهبنا في الصباح إلى متحف صغير في جزيرة «الفنتين» الواقعة وسط النيل. أخذنا قاربًا من أمام الفندق إلى شاطئ الجزيرة. طفنا بأرجاء المتحف والفتاة تنظر إليَّ بين الحين والآخر باسمة. كانت تتعمد الالتصاق بي بعد أن تبحث بعينيها عن أمها؛ لتتأكد من مكانها. وكان التصاقنا سهلًا بسبب امتلاء ردفيها وضيق المكان. لكني كنت يائسًا محبطًا، أكاد أختنق من الحرارة والرطوبة. لهذا رحبت عندما اقترحت العودة، بحثنا عن أمها وزوجة أستاذي، فلم نعثر لهما على أثر. عرضت أن ننتظرهما لكن «بربارة» قالت إنهما سبقتانا في الغالب. هكذا عدنا وحدَنا إلى الفندق، وهي تتقدمني في عجَلة، وطلبت مني أن أنتظرها في حجرتي ريثما تأخذ دوشًّا. أخذت أنا الآخر دوشًّا سريعًا وانتظرت. ولم تلبث أن فتحت الباب ودخلت. كان هناك شيء في عينيها دفعني إلى احتضانها، وفوجئت بلسانها في فمي، لكن الأمور لم تسرِ كما هو متوقع.
عند ذلك توقفت عن الحديث متجنبًا نظرات «فادية» و«فيرنون» التي بدا فيها الاستهجان. ثبت عيني على الحائط المواجه في صمت، وأنا أعيش التجربة من جديد.
هل ساعدتها على خلع ردائها أم هي التي خلعته؟ لم تكن ترتدي تحته شيئًا. علت شفتيها ابتسامة مترددة، وهي تتابع نظراتي إلى ثدييها الصغيرين، وأردافها المكتنزة، وكتلة الشعر الأسود بينهما. ولم يخطر ببالي وقتها أن هناك تناقضًا بين لونَي شعري رأسها وعانتها.
جذبتها إلى الفراش، وهي تتمنع قائلة: «وي مست نُتْ، يجب ألا نفعل. أو ذكرت أن أمها ستبحث عنها وتعثر علينا. انهلت بالقبل على ثدييها، وأنا أردد: العصفوران الصغيران. عبارة تذكرتها من إحدى الروايات فيما أعتقد. احتضنَتْني بقوة ورقدت فوقها: قالت: تيك كير، خذ بالك. أدركت أنها تخشى الحمل، فطمأنتها وقررت أن أنتبه. لكن المشكلة حُلت بطريقة أخرى؛ إذ قذفت بمجرد أن لمستها. ويبدو أنها ارتاحت إلى هذه النتيجة؛ فقد هبت واقفة وارتدت ثوبها، وغادرت الغرفة مسرعة.
تطلعت إليَّ ثمانية أزواج من العيون في ترقب، فهربت منها إلى النافذة.
ماذا لو قلت لهم ما حدث بعد ذلك؟ وكيف انحنيت على الفراش أجمع ما تناثر من شعر عانتها، وأضعه في ورقة أودعتها جيب قميصي إلى جوار القلب تمامًا؟
قلت متجاهلًا التفاصيل إنَّ شيئًا لم يحدث بيننا، ولم أكتسب معارف جديدة سوى ما تعلق بألوان شعرها واختلافها بين الرأس وبقية الجسد. وظننت ذلك أمرًا طبيعيًّا عند الأمريكيات. وعدنا إلى «القاهرة» في المساء. وفي الصباح التالي كنت قد حصلت على مفتاحِ مسكن أحد أصدقائي، وملأت براده باللحوم والفواكه وزجاجة نبيذ، ثم اتصلت بها فجاءت.
كان منظرها نذيرًا بالشؤم؛ فقد كانت واجمة، ولفت جبهتها بشريط ملون رافعةً شعرها القصير إلى أعلى. احتضنتها، فتخلصت من ذراعي في رفق وأبعدت وجهها عندما أردت تقبيلها. جلسنا في الشرفة، ورفضت أن تأكل أو تشرب، وقالت: إنها مضطرة للانصراف بعد قليل.
جرى بيننا نقاش عقيم. ونفد صبري في النهاية، فقلت لها إني لا أفهم مسلكها. قالت: إنها لا تحبني. احتددت عليها قائلًا: بماذا تفسرين إذن ما حدث في «أسوان»؟
تجنبت النظر إليَّ وقالت: الحر كان السبب.
انفجر الجميع ضاحكين. انتظرت حتى توقفت ضحكاتهم، ثم قلت: انتهى الأمر ورافقتها صامتًا إلى منزلها، وسافرت في اليوم التالي. وبعد أيام لاحظت زوجة الأستاذ اكتئابي، فنصحتني بألا أبتئس، وقالت إنها أرادت أن تحذرني من قبل؛ لأن الفتاة لا تحب الرجال، وتعيش مع صديقة لها بترحيب من الأم التي تخشى أن تفقدها إذا ما ارتبطت برجل.
تعالت الضحكات من جديد وعندما هدأت انتقلت إلى الجانب الأكاديمي. كنت قد سجلت نفسي للحصول على درجة الماجستير لدى أستاذ جديد عائد من البعثة، لكن الأستاذ «بيبة» استدعاني، وقال إنه يفضل أن يتولى الإشراف على رسالتي بنفسه، وابتسم ابتسامة صفراء. لم يسعني أن أرفض؛ لأنه كان يتمتع بنفوذ ضخم وعلاقة وثيقة بأجهزة الأمن. وكان الشيوعيون يملئُون السجون، وبينهم كثير من معارفي خاصةً صديقي «رشدي». وساد جوٌّ من الرعب والنفاق الذي لم يخدع أحدًا. حتى «حلمي عبد الله» اعتُقل عدة شهور، رغم أنه أصدر كتابًا عن القومية العربية يردد المعزوفة السائدة.
استهواني حديثه، فقررت أن أقتحم هذا المجال برسالة الماجستير، وكانت القوانين الاشتراكية قد تتابعت في تلك السنة؛ قانون توزيع الأرباح على عمال الشركات والمؤسسات، ومشاركتهم في مجالس إدارتها، ومنع فصلهم تعسفيًّا، وقانون الحد الأعلى للمرتبات، وقانون تخفيض إيجارات المساكن، وقانون جديد للإصلاح الزراعي، وآخر يمنع الأجانب من تملك الأراضي الزراعية. لكن الأهم كان تأمیم ١٤٩ شركة تجارية وصناعية وإسقاط التزام شركتي «ترام القاهرة» والكهرباء الأجنبيتين.
أحدثت هذه القوانين صدمة هائلة. وبقدر ما استجابت لمطامح الطبقات الشعبية وأعطتهم الأمل في المستقبل، بقدر ما أثارت ذُعر الملاك وسخطهم. ومنهم بالطبع حمو الأستاذ «بيبة». وترددت أصوات خافتة تستنكر الاعتداء على حق الملكية باعتباره تاريخيًّا ومقدسًا.
لم يكن هذا صحيحًا فيما يتعلق بتاريخ «مصر» التي لم تعرف الملكية الفردية للأرض طوال خمسة آلاف سنة؛ ففي العصر الفرعوني كانت الأرض كلها ملكًا للفرعون، وصارت بعدها للملوك والسلاطين، واقتصر اقتطاع بعضها على حق الانتفاع. وفي العصر الحديث أعلن «محمد علي» نفسه المالك الوحيد لها تاركًا للفلاح حق الانتفاع وحسب. ثم بدأ في إقطاع أجزاء منها لأفراد أسرته الألبانية ولمن رضي عنهم من المصريين. ولم تتحوَّل إلى ملكيات فردية حقيقية إلا في عهد حفيده «سعيد». وكانت هذه الملكيات غير الشرعية هي الأساس الذي قامت عليه بعد ذلك بقية أشكال الملكية من تجارية وصناعية. وظلت الأخيرة حكرًا لدائرة ضيِّقة من المتمصرين وأعوان الإنجليز الذين غدروا ﺑ «عرابي»، وساعدوا على احتلال البلاد في ۱۸۸۱م. ووصل الأمر قبل ثورة ١٩٥٢م أن كان نصف في المائة من مجموع السكان يملكون نصف الدخل القومي.
هنا قال «لاري» ساخرًا: إن «الولايات المتحدة» في وضع أفضل؛ لأن الفئة الثرية بها لا تقل عن خمسة بالمائة من السكان.
واصلت حديثي قائلًا: إن التأميم لم يكن تصحيحًا لظلم تاريخي بقدر ما كان حلًّا لمشكلة اقتصادية؛ فالرأسمالية المصرية كانت ضعيفة وجرَّدها هذا الضعف من الجرأة والخيال. فبدلًا من الإقدام على مشروعات ضخمة تؤتي أُكُلَها بعد عقود، اقتصرت أحلامها على الربح السريع الذي يتحقَّق من المشروعات الخدمية والاستيراد؛ ولهذا لم يكن أمام الدولة، المقبلة على خطة تصنيع وتحديث طويلة الأمد، إلَّا أن تضع يدها على الأصول الضرورية لذلك.
المهم أني قررت القيام بدراسة مقارنة لتاريخ الملكية الفردية للأرض في «مصر»، وفوجئت بالدكتور «بيبة» يرفض. انصبَّ اعتراضه على أن التاريخ المقارن ليس من المواد المقررة، وأن كتاب «هارنشو» «علم التاريخ» هو أساس منهج البحث المعتمَد في جامعتنا، وهو منهج يلتزم بالإطار الوصفي للحدث دون محاولة تفسيره بدعوى الحرص على حِياد الباحث، لكني اشتممت عداءه الشخصي لموضوع التأميم.
اتجه اهتمامي إلى الحضارة الفرعونية ومرحلة سقوطها التي استمرَّت طوال ستة قرون حتى الغزو الفارسي. واعترض الأستاذ «بيبة» مرة أخري بدعوى أن الموضوع الفرعوني ليس مستحبًّا بسبب القومية العربية. كما أن الفترة التي اقترحتها تتضمَّن سيطرة أُسَر ليبية ونوبية على مصر الأمر الذي يثير نفس الحساسية.
خيرته بين الفترة الفارسية التي استمرَّت قرنَين حتى دخول «الإسكندر»، والفترة التالية التي حكم فيها البطالسة اليونانيون البلاد لمدة ثلاثة قرون. اعترض مرة أخرى مستخدمًا حجة التقسيم المعتمد في البحث الأكاديمي لمراحل التاريخ المصري، ثم وصل إلى بيت القصيد. كان يريدني أن أعمل في موضوع عن «تاريخ الشعوبيين في اليمن» وهو تعبير راج في تلك الفترة، وكان يوصم به كل مَن يشتمُّ منه اعتراض، أو معارضة للصورة التي أراد بها «عبد الناصر» فرض الوحدة العربية. وعرفت أنه يقوم بدراسة كبيرة عن الحركات «الشعوبية» في الوطن العربي، ووزع أجزاءها على طلاب الماجستير؛ ليتمكن من استغلال ما يتوصلون إليه من نتائج.
لم أشعر بميل للموضوع الذي اقترحه، وأدركت في نفس الوقت أن معاداته لن تجلب لي غير الضرر، فتوصلت معه إلى حل وسط، وهو أن أتناول فترة الفتح العربي ﻟ «مصر».
خيمت عليَّ الكآبة عندما وصلت إلى هذه النقطة من درس اليوم ومن ذكرياتي. ودبَّت البرودة في أطرافي رغم حرارة المدفأة، فقررت الانتقال إلى الداخل. حملت كوبي وألقيت نظرة على فاتورة الحساب. وجدت إشارة إلى أن البقشيش غير مدرج، وعبارة تقول: «نقترح دولارًا». ولجت القاعة الداخلية مبتسمًا؛ إذ تذكرت الاتهام الموجه إلى المصريين بأنهم أمة البقشيش.
كانت القاعة على شكل مستطيل، استقرَّ في نهايته بار مرتفع أسفل جهاز تليفزيون ضخم الحجم، وتوزع عدد غير كبير من الرواد حول الموائد الخشبية وعيونهم معلَّقة بالجهاز. استقرت عيناي على ظهر فتاة بيضاء ممتلئة سوداء الشعر تجلس فوق أحد مقاعد البار العالية. كانت ترتدي بلوزة وبنطلونًا متباعدين يكشفان لحم ظهرها العاري. وإلى جوارها شابٌّ أبيض ممتلئ لفَّ ذراعه حول وسطها. كانا يضحكان ويتبادلان قُبلات عميقة وطويلة. ورأيتها تميل برأسها على صدره، ثم اعتدلتْ ضاحكة، وهبطت عن مقعدها واتجهت نحوي. مرت بي في خطوات سريعة عنيفة تشبه خطوات الفرس الجامح. كانت تبتسم بوجه متهلل تجمَّعت دماؤه في حمرة قانية فوق الوجنتين. ولاحظت أنها لا تحمل حقيبة يدٍ أو كيس نقود فتوقعت عودتها. وبالفعل عادت بعد قليل إلى مقعدها بجوار رفيقها الذي كان يتابع مباراة كرة في التليفزيون. وعاد يحيطها بذراعه، ويهمس لها دون أن يرفع عينَيه عن الجهاز.
انتقل بصري إلى شاب وفتاة بملامح فيتنامية في طرف البار. كانت قد استدارت نحوه، فكشفت جوبتها القصيرة عن ساقَين بديعتَين، لكن وجهها نطق بالغباء والضجَر. أما هو فانصرف بكليته لمشاهدة المباراة، وهو يتحسس ساقيها.
جُلت بنظراتي بين الموجودين، فوجدت الرجال يتابعون المباراة في استغراق، والنساء يتململن في جلستهن. استقرت عيناي على ظهر نصف عارٍ لوحته الشمس، لامرأة أربعينية بجوار رجل ضخم رمادي الشعر، وطفل في الخامسة أو السابعة ترَك مقعده إلى حجرها. انحنت فوقه وقبَّلته وقبلها هو عدة مرات، ثم بسط جسده بحيث استقر رأسه في حجرها، وأراح ساقيه فوق حجر الرجل. ووضع الرجل يده على ساقي الطفل وأخذ يربت عليهما. انحنت المرأة على الطِّفل من جديد، وأغرقته بالقبلات بينما استقرَّت يدها فوق ظهر يد الرجل تداعبها بأصابعها.
كان وجه الطفل في مجال رؤيتي، وتعلقت عيناي بملامحه الوادعة حتى بدأ يسبل عينيه في طمأنينة.
وذكر الأستاذ أن استيراد أوروبا للفضة والذهب من أمريكا إثر اكتشافها، وبخاصة عن طريق الإسبان، أحدث ثورة نقدية أثرت على العملة الفضية العثمانية التي تدنَّت قيمتها، وتدنت بالتالي القدرة الشرائية للعساكر، فدفعته إلى الثورة. ومن شأن هذا التكامل في الأحداث والأسباب والعوامل أن ينقلنا من التاريخ القطري إلى العربي فالعثماني فالأوروبي لإدراك العوامل العميقة التي أثارت مثل هذه التمردات في فترات متقاربة، وعلى مستوى الدولة العثمانية ككل.