الفصل الخامس عشر
فتحت الباب ﻟ «ميجان» وصديقها وتقدمتهما إلى الصالة. كان شابًّا أسمر رياضيًّا في عشرينياته. وخلته عربيًّا إلى أن قال إنه من «بورتريكو»، ويُدعى «هوجو». كان يرتدي سويتر قديمًا من الشامواه وحذاء «ريبوك». أمَّا هي فكانت ترتدي معطفًا طويلًا من الجلد الأسود خلعته كاشفةً عن جوبة خضراء قصيرة وجوارب سوداء شفافة.
قدمت إليهما الشاي، ثم قُدت الشاب إلى المكتب حيث كان الكمبيوتر في انتظاره. واستخرج هو من جيب سترته عدة ديسكات ورفع غطاء الكمبيوتر وشغَّله.
تركته يُجري تجاربه بعد أن أوصلت الجهاز بالتليفون. وجلست أمام «ميجان» بجوار المدفأة. سألتها عن سر ملامحها الشرق آسيوية، فقالت إن أباها ياباني.
– وُلد في اليابان؟
قالت: لأ هنا. في معسكر اعتقال.
انتزعت منها بالتدريج التفاصيل. ففي أعقاب العدوان الياباني على «بيرل هاربور» سنة ١٩٤٢م جمعت السلطات أكثر من مائة ألف من اليابانيين الأمريكيين في معسكرات اعتقال استمرَّت عدة سنوات. كانت ظروف المعتقل سيئة؛ فقد كدست العائلات في غرف ضيقة وحرم أفرادها من ممارسة شعائرهم الدينية، أو الحديث باللغة اليابانية في الاجتماعات العامة، وأُجبروا على تحية العلم وإنشاد الأغاني الوطنية الأمريكية وإعلان ولائهم ﻟ «أمة واحدة منيعة يتمتع جميع أبناؤها بالحرية والعدالة»، لكن السلطات لم تتمكن من منعهم من الإنجاب.
افترَّت شفتاها الدقيقتان عن ضحكة قصيرة، وقالت: الحروب تبرر كثيرًا من الفظائع.
التفت إليها «هوجو» قائلًا: قولي له الحقائق.
تحول إليَّ: كانت هناك أكاذيب كثيرة؛ فقد اتُّهم الكثيرون من الذين وُلدوا في «اليابان» واستقروا في «الولايات المتحدة» عدة عقود بأنهم لم يتقدموا للحصول على الجنسية الأمريكية، واحتفظوا بولائهم للإمبراطور. بينما كان القانون الأمريكي وقتها يحرِّم منح الجنسية لأي ياباني مهما طالت إقامته.
استطرد بانفعال: العملية كلها كانت نموذجًا حيًّا للرياء الأمريكي. المدعي العام لكاليفورنيا في ذلك الوقت. «إیرل وارين» اعترف في فبراير ١٩٤٢م بأن أحدًا من اليابانيين لم يرتكب حتى الآن أي عمل من أعمال عدم الولاء أو الخيانة، وأن هذا في حد ذاته دليل على أنهم ينوون ذلك في المستقبل! «وارين» هذا صار كبير قضاة المحكمة العليا، ووضع التقرير الشهير عن مصرع «كنيدي»، الذي نفى وجود مؤامرة لاغتياله.
سألته عن نوع دراسته فهزَّ كتفه: لم أدرس شيئًا.
وضعت «ميجان» ساقًا على ساق، فحرصت على تجاهلهما. قالت: المصالح الاقتصادية هي السبب. اليابانيون الأمريكان كانوا منافسين أشداء في السوق، واليمين هو الذي حرَّك الحملة ضدهم.
وهز «هوجو» رأسه في عنادٍ: غير صحيح. الجميع اشتركوا في الحملة. كان الديموقراطيون الليبراليون على رأسها.
عاد إلى عمله غاضبًا وابتسمت. بدا لي أنه نقاش متكرر بينهما. ولم يلبث أن التفت إلى ثانية وقال: خلاص. يمكنك الآن أن تستخدم البريد الإلكتروني.
غادرت مقعدي وانحنيت على كتفه أتأمل الشاشة. وفعلًا كان هناك مربع يطالبني بإدخال اسم وكلمة سرٍّ كي يُجري الاتصال.
سألته: كيف نجحت بهذه السرعة؟
ابتسم في زهو: الموضوع بسيط، المعالج لديك متخلِّف يحتاج إلى برنامج في مستواه، وأنا أحتفظ بكل البرامج القديمة.
نهضت «ميجان» واقفة، وبدأت ترتدي معطفها، وجمع الشاب ديسكاته، وأعادها إلى جيبه وهو يقول: إذا حدثت أي مشكلة فيمكنك أن تتصل بي عن طريق «ميجان».
سألته عما يجب أن أدفع له، فرفض أن يتقاضى شيئًا. ألححت فأصر على الرفض.
قالت «ميجان» ونحن نتجه إلى الباب: هل يمكنني أن أطلب منك شيئًا؟
كنت منتشيًا بنجاح العلمية وبجمال سيقانها، فقلت: اطلبي أي شيء.
قالت: أريد تزكية منك لأحصل على منحة دراسية.
قلت: اكتبي الصيغة المطلوبة وأنا أوقِّعها.
قالت: كتبتُها.
كانت واثقة من قبولي.
استخرجت من حقيبة يدها ورقة مكتوبة على الكمبيوتر تُفيد أني معجب بأدائها، وأرى أنها تستحق المنحة المذكورة. وقَّعتها لها وانصرفا.
أسرعت إلى الجهاز، ووضعت اسمي وكلمة سر. فتحت بريدي وحررت رسالة جماعية بالعنوان الجديد لكل العناوين التي أراسلها، وبعثت برسالة مماثلة إلى «جيني».
كانت الساعة قد أشرفت على الواحدة بعد الظهر، فتناولت غداء خفيفًا، ثم ارتديت سترتي وغادرت المسكن. لمحت فوق المائدة المجاورة للباب خطابًا موضوعًا بشكلٍ عمودي إلى جوار الجدار، ويحمل اسمي بخط كبير. فتحت الخطاب وقد بدأ قلبي في الخفقان. وجدته من جيراني اليقظِين: «كي يتم التقاط قمامتك أو مواد التدوير «الريسيكلينج»، يجب أن تضعها على الناصية اليسرى للمدخل صباح كل ثلاثاء.»
وضعت الخطاب في جيب سترتي، وانطلقت إلى الخارج.
لم يكن ثمة أثر لبسطات البيع المعهودة أمام المنازل في أيام الآحاد؛ فقد كان اليوم باردًا مظلمًا ينذر بالمطر.
خرجت إلى بوليفار «جيري»، وسرت حتى محطة الباص. وضعت دولارًا في صندوق صحيفة «نيويورك تايمز»، وأخذت نسخة. انتظرت الباص رقم ۳۸ طويلًا حتى جاء. دفعت دولارًا ونصفًا للبطاقة، وجلست أمام صبي وفتاة في سن المراهقة، لا يتعدَّى عمر كل منهما الثالثة عشرة. كانا متماسكي الأيدي، ويتبادلان نظرات والهة. وشرعا يتبادلان القُبَل العميقة دون أن يعبآ بأحد أو يعبأ بهما أحد. تابعتهما طويلًا في حسد، حتى نزلت قرب بوليفار «فان نس».
بسطت خارطة مواصلات المدينة، وحاولت أن أحدد موقعي، وأقرب وسيلة مواصلات أواصل بها رحلتي. فشلت في تتبع خطوط المترو والباص والترولي باص والترام السياحي. ولم يكن منها الكثير؛ إذ يعتمد الجميع على سياراتهم الخاصة. وبالإضافة إلى ذلك لم تكن قراءة الخرائط من نقاطي القوية.
وقررت أن أعمل بالمَثل المصري القائل بأن مَن يسأل لا يتوه. لمحت فتاة في معطف طويل تغذ السير نحوي، فاتجهت إليها، بسطت الخارطة وسألتها أن تساعدني. توقفت وأنصتت لي. قلت: إني أريد الذهاب إلى «مرفأ صائد السمك». لم تتعرف على المكان وعجبت لذلك؛ فهو من أشهر الأماكن السياحية. وقدرت أني أسأت النطق فأدرت الخارطة لأريها إياه. أحنت رأسها لتتأمل المكان الذي أشرت إليه بأصبعي. ثم تطلعت إليَّ بنظرة غريبة، واكتشفت أني كنت أعرض عليها الجانب الآخر من الخارطة الذي يصور ولاية «كاليفورنا» بأكملها. عدلت وضع الخارطة، وإذا بها تتراجع فجأة وتهرول مبتعدة.
لمحت سيارة أجرة فأشرت إليها، وأبرزت الخارطة للسائق، فأقلني إلى الطرف الشمالي الغربي للمدينة مقابل ثمانية دولارات. وألفيت نفسي وسط زحام كثيف من عائلات كاملة، وسائحين أوروبيين، وغابة من الحوانيت وأكشاك الطعام التي تعرض الأحياء البحرية؛ ومنها سرطان في حجم ضخم لا يقل ثمن الواحد منها — بعد شيِّه فوق صينية معدنية ضخمة — عن ۱۳ دولارًا. وكان هناك مبنًى يعلن عن عرض حي للزلازل التي ضربت المدينة.
عثرت بسهولة على الرصيف رقم ٣۹ الذي يطل على حوض من عشرات الفقمات الضخمة. كانت الساعة تقترب من الثالثة، وهو الموعد الذي ضربته لي الرسالة الأخيرة بعد اعتذار غامض عن إخلاف الموعد السابق. وقفت مدة مستندًا إلى السياج أتأمل الفقمات، وهي تتقلب فوق بسطات خشبية، ثم تلقي بنفسها في الماء محدثة ضجة ورذاذًا، بعد قليل بسطت صحيفة «النيويورك تايمز» وقلَّبت صفحاتها بغير تركيز.
توقفت عند إعلان على صفحة كاملة، يتضمن بيانًا من مجموعة من رجال الطيران المتقاعدين، بعنوان: «أوقفوا التغطية.»
وقد رفض مكتب التحقيقات الفيدرالي إعلان هذه الشهادات، ورفضت هيئة سلامة النقل الوطني أن يظهر واحد من هؤلاء الشهود في جلسة الاستماع النهائية عن أسباب المأساة …
لماذا السرية؟ إن أقوال شهود العيان توضِّح أن الهيئات الحكومية تغطي على السبب الحقيقي لمأساة الطائرة …
إن «أمريكا» في حاجة لأن تعرف الحقائق …»
تطلعت حولي بإمعان ثم عدت إلى الصحيفة وقلَّبت صفحاتها. اجتذبتني مناقشة غريبة عن الأسلحة المثلى؛ فقد ذكر أحد الكُتاب أن المسدسات الأوتوماتيكية من عيار ١٠ ملليمتر، هي أفضل سلاح دفاعي بفضل طاقته التي تتجاوز عيار ٩ ملليمتر، وتبلغ نصف عیار ماجنوم «الرهيب». وعارضه شرطي زاعمًا أن المسدس المذكور شديد الخطر؛ لأنه يمكن أن يصيب الأشخاص القريبين من الهدف.
طويت الصحيفة، وتأملت جموع المارة دون أن أتعرف على أحد. سرت متمهلًا ووقفت أتأمل أربعة من الشبان غريبي الهيئة، بجوار لافتة تقول: «التقطوا صورة معنا مجانًا!» كانوا شابين — أشقر وأسود — وفتاتين. الأشقر صفف شعره في ثلاث خصلات مدبَّبة كالقرون، وارتدى سترة جلدية مزخرفة بدوائر معدنية كالمسامير. وغطى الأسود رأسه بقبعة نابليونية، وارتدي سترة من الشرائط الملوَّنة فتحها بيديه ليكشف عن صديرية سوداء كُتب عليها باللون الأصفر: «طظ في الشرطة.» ولم تعبأ إحدى الفتاتين بالبرد، فارتدت فانلة بحمالتين كشفت عن ساعدين وكتفين بضين، ولوَّنت وجهها بأصباغ كثيرة، وجعلت شعرها على هيئة أشواك القنفذ النافرة، ووضعت في يدَيها قفازين بلا أصابع. أما الثانية فأزالت الشعر تمامًا من نصف رأسها، وجعلت النصف الآخر على هيئة ريش الهنود الحمر ولوَّنته بالأحمر.
لم يكن الأطفال وحدهم الذين استجابوا لدعوة الشبان الأربعة؛ فقد انضم إليهم رجل خمسيني وقور الهيئة، وقف وسطهم وناولني كاميرته راجيًا تصويره. واتخذ الشبان الأربعة أوضاعًا غريبة، وبالغوا في تعبيرات وجوههم، وحركوا أصابع أيديهم الوسطى في إشارات بذيئة.
التقطت لهم عدة صور، ثم أعدت الكاميرا إلى صاحبها الذي بدت عليه السعادة. واصلت السير مع المارة، حتى صرت في مواجهة الجزيرة البعيدة التي أقيم فوقها سجن «الكاتراز» الرهيب، حيث قضى «آل كابوني» سنواته الأخيرة.
عدت أدراجي وأنا أتطلع حولي؛ بحثًا عن مرسلة الخطاب. ومرة أخرى تصورت أنها تقف في مكان قريب يمكِّنها من رؤيتي بسهولة، وشعرت بالخزي من سلوكي الصبياني.
لكن التوتر تصاعد بينه وبين أبويه بمرور الوقت، وتُوِّج أخيرًا بأن اتخذ قرارًا بالانقطاع عن الدراسة لمدة سنة يتكفَّل بإعالة نفسه خلالها. «كانت تلك الفترة الأصعب بالنسبة لنا جميعًا … لكن خطوط الاتصال بيننا ظلَّت مفتوحة … وإذا كنا أنا وأهلي قد حقَّقنا شيئًا في السنتين والنصف سنة الماضيتين؛ فهو أننا صرنا نحترم آراء بعضنا البعض، فلم تطلب مني أمي التخلي عن مناصرة حركات المثليين ومطالبهم، ورحَّب أهلي بالرجال الذين أخرج معهم … لقد تقبَّلوني.»
وختم الشاب حديثه مؤكِّدًا أن قصته ليست نموذجًا صالحًا للاستنساخ «فما استغرق مني ثلاث عطلات أسبوعية قد يأخذ من آخرين سنوات. نصيحتي لمن لم يخبر أحدًا بعدُ أن يتريث. لا بدَّ من أن يكون على ثقة من قراره، ويواصل الحلم بروعة الحياة على الجانب الآخر من باب الخزانة.»
أشارت عقارب ساعتي إلى الرابعة، فقررت الانصراف. خطوت إلى الساحة ومررت بتمثال فضي تجمَّع حوله الأطفال. تجاوزته ثم عدت أتأمَّله بإمعان. كان رجلًا حيًّا دهن وجهه وملابسه بلون فضي وتجمَّد في مكانه، وكان هناك رجل مثله بلون ذهبي.
استأنفت السير حتى نادى عليَّ عجوز اقتعد الأرض، وأشار إلى لوحة صغيرة من الورق المقوَّى أمامه، كتب فوقها أنه لن يكذب على أحد. فما سيعطونه من نقود سيشرب بها بيرة. أعطيته بعض الفكة، واتجهت صوب المواصلات.
ازداد الهواء برودةً. لم يكن هناك مطر، لكن كثافة الضباب وبلله أشعراني برَذاذ خفيف. وكوَّنت أضواء النيون دوائر متوهجة مغبشة، وبدت الأجسام مشوهة والأصوات مبهمة.
مشيت قليلًا على غير هدًى، ثم أخذت سيارة أجرة إلى منزلي. وجدت إعلانًا انتخابيًّا تحت عتبة الباب الخارجي، وكان يعدد فضائل أحد المرشحين لانتخابات مجلس المدينة. عرفت أنه يملك شركة للرهن العقاري رأسمالها ۲ مليون دولار، وبها ۱۲ مستخدمًا، وأنه تبنَّى مشروعًا لتوفير السكن المناسب للطلاب قرب الجامعة، ولإعادة تخطيط المنتزهات، وأنه رجل أعمال ناجح وتقدمي يناصر المشروعات الجديدة ويطالب المؤسسات الطبية الضخمة بتقليل «انعكاساتها السلبية على البيئة، ويحظى بتأييد النادي الديموقراطي ورابطة الشرطة ورجال الإطفاء. وأبرزت صورته الطائفة الأخرى التي يسعى للظفر بتأييدها؛ فقد وقف فيها إلى جوار شاب نحيف خجول، وتحتها هذه العبارة: «جورج» مع شريكه أمام منزلهما.»
دقَّ جرس التليفون بمجرد دخولي مسكني. أسرعت إليه وقلبي يدقُّ. رفعت السماعة وقلت: هالو. لم يردَّ عليَّ أحد، وسمعت صوت تنفُّس ثم انقطع الخط.
أعددت لنفسي فنجانًا من الشاي. ثم فتحت الثلاجة، وتأملت محتوياتها لأختار عشائي. ولمت نفسي على أني لم آكل في الخارج.
حملت الشاي إلى المكتب. جذبت الأوراق التي دوَّنت فيها ملاحظاتي على مؤتمر المثقفين. ثم فتحت الكمبيوتر، وقلَّبت بين محتوياته التي تضم أغلب أبحاثي وخواطري، ثم نحيت الكمبيوتر جانبًا وبحثت بين أوراقي، حتى عثرت على بطاقات التعريف التي دونها طلابي. سجلت أسماء الفتيات — بما فيهن «روزيتا» — في ورقة، وأضفت إليها أسماء «جيني» و«فيفيان» و«شادويك». وبعد تردُّد كتبت اسم «إستر»، ثم خطر لي فجأةً خاطر. بحثت في لهفة عن الرسائل الثلاث الغامضة حتى وجدتها. قرأت سطورها بإمعان، وتبينت أنها لا تضم ما يشير إلى جنس كاتبها. أوشكت أن أضحك، وأنا أتساءل: لماذا افترضت أن المرسل امرأة؟ لماذا — في مكان مثل «سان فرنسيسكو» — لا يكون رجلًا؟
انتقلت إلى مقعد التليفزيون، وأدرت قناة إخبارية. انقسمت الشاشة على الفور إلى عدة نوافذ خُصصت الرئيسية منها لحوار مع شخصية معروفة، جاء اسمه في شريط أسفلها. لم أتمكَّن من تبيُّن الاسم؛ إذ استبدل بنبأ انفجار في «كوسوفا». انتقل بصري إلى شريط آخر تحته موجز أنباء اليوم، وقبل أن أبدأ القراءة اجتذبني شريط ثالث — متحرك أيضًا — بأسعار أسهم الشركات الكبرى، ثم أحوال الطقس ومواعيد الطيران. هربت إلى نافذة متحركة في الجهة اليمنى لأحوال المرور فوق الطرق السريعة للولاية. شعرت بالدوار، فغيَّرت القناة.
تتابعت إعلانات تطالبني بأن أنضم إلى الناجحين والفائزين، وأبتعد عن الخاسرين الفاشلين. وتكرر واحد منها يشيد بمقدرة المنجِّمين على معرفة المستقبل، وأعقبها برنامج «قاضي الشعب» الذي يدير محاكمة فعليَّة تفصل في المشاكل الناشِبة بين المواطنين. استمعت إلى صاحب كلبة، حملت بدون اتفاق بينه وبين صاحب الذكر المسئول. انصبَّت شكواه على أنه صار الآن مضطرًّا للإنفاق على أولادها. واعتبر القاضي الواقعة اغتصابًا من كلب لكلبة يتطلب التعويض.
توقفت عند حلقة جديدة من المسلسل الوثائقي عن «الإسكندر الأكبر»، خُصصت بالكامل لغزو «مصر». ومع بداية التعليق اعتدلت جالسًا في انتباه.
فقد استهلَّ المعلق حديثه قائلًا: إن «الإسكندر» «حرر» مصر من الحكم الفارسي سنة ۳۳۲ق.م. ومضى يصف كيف رحَّب المصريون بالفاتح العظيم الذي اعتبروه حليفًا لهم في صراعهم مع الفرس.
كان هناك كثير من التجنِّي في هذا العرض يتنافى وحقائق التاريخ. فالذين رحَّبوا ﺑ «الإسكندر» هم مواطنوه أساسًا. فعندما تدهورت الدولة الفرعونية استعان ملوكها الضعاف بمرتزقة أجانب من الإغريق الذين انهمروا على البلاد، واستوطنوها، وساعدوا الجيش الفارسي على احتلال «مصر»، ثم أتاحوا ﻟ «الإسكندر» غزوها. لم يكونوا وحدهم؛ فقد تواطأ معهم كهنة «آمون» الذين انفصلوا عن الشعب وكوَّنوا طبقةً من الأثرياء لا يعنيها غير الحفاظ على نفوذها وثروتها، ولو بالاعتماد على الأجنبي. هكذا استقبلوا «الإسكندر» بالأحضان، وتوَّجوه ابنًا للإله المصري «آمون»، ثم التفوا حول «بطليموس» — أحد قوَّاده — عندما استقل بمصر، مؤسسًا حكم البطالسة الذي استمر ثلاثة قرون.
تغنَّى العرض أيضًا بازدهار «مصر» البطليمية؛ فقد صارت أكبر مزرعة قمح في العالم القديم، وكان ما يُرسل منه كل عام إلى «روما» يطعم سكانها لمدة أربعة شهور. لكنه تجاهل كيف احتكر البطالمة أكثر أنواع التجارة، واحتكر ملوكُهم ملكية جميع الأراضي الزراعية، وفرضوا الضرائب الباهظة على المصريين. وظلَّ هؤلاء طبقة غريبة مستعبدة، يثور أبناؤها بين الحين والآخر، ويلجئُون إلى أشكال متعددة من المقاومة، من الإضراب عن العمل إلى الهروب الجماعي في الصحراء. واعتبرهم كهنة «آمون» شعبًا غير نظيف. وبلغت احتجاجاتهم ذروتها قبل ميلاد المسيح بنصف قرن. وأدت إلى خلع الملك، فاستنجد بالجيوش الرومانية لإعادته إلى العرش.
هذا هو الجو الذي وُلدت فيه «كليوبترة»، آخر ملوك البطالة، والتي خصَّص لها العرض مساحة هامة؛ بسبب ما أحاط باسمها من هالةٍ خلقَتها أسطورة السجادة والثعبان، وغذَّتها السينما. ركَّز على غرامياتها، وكيف أن استهتارها هو الذي أدَّى إلى ضياع عَرشها، ووقوع «مصر» تحت الحكم الروماني. وتجاهل بذلك استمرارها في سياسة استنزاف الشعب، واعتمادها على «روما». وقد قادتها هذه السياسة إلى أحضان «يوليوس قيصر» الذي كان في ضعف عمرها، ثم إلى «مارك أنطوني» وانتحارها.
سجَّلت على ورقة إشارةً إلى الموضوع، لأتناوله في محاضراتي. وتناهى إلى سمعي دق طبول متكرر، تبينت أنه صادر عن مسكن جيراني. تابعت إعلانات المساج والمرافقات التي أكدت أن هناك فتيات ساخنات متلهفات على مرافقة مَن يشاء في الفندق أو المنزل، وعلى استعداد للقيام بكل ما يطلب منهن. تفرَّجت بعض الوقت على صورهن، ثم أغلقت التليفزيون، وقمت أبحث عما يؤكل.