الفصل الثامن عشر
هتفت مواطنتي الإسكندرانية عندما رأتني: هل سمعت عن حادث القطار؟
كانت تتعمد إضفاء لهجة أجنبية على عربيتها، ولا تلبث أن تنسى الأمر بعد قليل.
قلت وأنا أتجه إلى حامل الصحف العربية: قرأت عنه في «الأهرام».
انتهت من محاسبة شاب أسود اشترى مجلة ملاكمة، ثم ناولتني صحيفة عربية تصدر من «باريس»: هناك تفاصيل جديدة.
كانت الصحيفة مطوية على أنباء الحادث، فمررت ببصري عليها: السائق أعلن لمساعده فور تحرك القطار من «الإسكندرية» وجود ضعف في الفرامل … الصحف الحكومية تلقي بالمسئولية على ظاهرة الركوب فوق سطح القطار بسبب ازدحامه، أو هربًا من دفع ثمن البطاقة. صحف المعارضة تؤكد أن الصيانة قاصرة على القطارات الفاخرة فقط … قائمة بحوادث سابقة مماثلة أشهرها مقتل ٥۲٥ عاملًا مصريًّا في العبَّارة «سالم» … صحيفة متطرفة ألقت المسئولية على «سليمان متولي» الذي يتولى وزارة المواصلات منذ ثمانية عشر عامًا، وزعمت أن صفقات التليفونات التي تمت في عهده رافقتها عمولات تقدر بملايين الدولارات.
اشتريت نسخة من الصحيفة وأخرى من «الكرونيكل»، ثم واصلت طريقي إلى المعهد. وفوجئت بتجمعات غير عادية في مدخله. تذكرت أن اليوم مخصَّص لإضراب عام احتجاجًا على إلغاء قانون «الفعل الإيجابي». وكان هذا القانون الذي صدر سنة ١٩٦٤م يحتم على الجامعات قبول نسبة معينة من السود والأقليات العرقية بين طلابها بصرف النظر عن مستواهم العلمي.
عانيت طويلًا في فهم المشكلة، فقرار الإلغاء الذي اشتُهر بالقرار ٢٠٩ صيغ بطريقة مربكة؛ إذ دعا إلى تحقيق المساواة التامة بين الطلاب بإلغاء كل اعتبار للجنس أو اللون أو العرق عند قبولهم، والاعتماد فقط على مستواهم العلمي. وبدا لي ذلك أمرًا معقولًا للغاية إلى أن اطلعت على حجج المعارضين. فهم يرون أن التميز الاجتماعي الذي يتمتع به البيض يتيح لهم التفوق في دراستهم على عكس غيرهم.
اتجهت مباشرة إلى قاعة الدرس، ووجدت «فادية» قد سطرت بالقلم الفوسفوري الأحمر على السبورة عنوان الدرس:
قراءة المدينة: «القاهرة» نموذجًا.
اتخذت مجلسي المعتاد أسفل السبورة، وطالعني على الجدار المقابل ملصق بصورة كاريكاتيرية لمحافظ «كاليفورنيا» يخطب في الطلاب قائلًا: لا أفهم لماذا يريد السود أن يصبحوا أطباء ومحامين بينما توجد وظائف كثيرة في «ماكدونالد»؟
أوشكت أن أفتتح الدرس عندما اقترح «لاري» التضامن مع الطلبة والأساتذة المعارضين للقرار ۲۰۹. سألته حائرًا: كيف؟
قال: يمكننا أن نعقد الدرس خارج الكامبوس وتبلغ الإدارة بذلك.
اعترضت «مونا» وأيدتها «شرلي»، والتزم الآخرون الصمت بما فيهم «فرنون» و«سابك».
قررت الأخذ باقتراح «لاري» وغادرنا القاعة، سبقوني إلى خارج المبني بينما مضيت إلى مكتب الإدارة.
وجدت «شادويك» مشتبكة في نقاش حاد مع أستاذ في قميص مزركش بألوان صارخة، يلوح بغليون في يده، فذكرني على الفور بالأستاذ «بيبة». أبلغتها بما قررته مع طلبتي، فطلبت مني أن أكتب مذكرة بذلك موجَّهة إلى مدير المعهد.
أعطتني ورقة فانتحيت ركنًا، وكتبت الإخطار المطلوب باختصار. وسمعت «بيبة» الأمريكي يقول: إن قانون «الفعل الإيجابي» الملغى يمثل تمييزًا صارخًا ضد البيض. وردَّت عليه «شادويك» بأن عدد الطلبة الذين ينتمون لأقليات عرقية قد انخفض بشكل ملحوظ منذ إلغائه.
قدمت الورقة ﻟ «جيني»، ولحقت بطلابي في الخارج. وجدتهم يقفون بالقرب من منصة خاصة بأعضاء النادي التابع للحزب الجمهوري، تعلوها لافتة عريضة تحتج على الاحتجاج.
غادرنا أرض المعهد والتجأنا إلى حديقة مجاورة، فجلسنا في حلقة فوق العشب. ولاحظت أن الطلاب احتفظوا بنفس ترتيب جلوسهم في القاعة الداخلية، فجلس «فيرنون» إلى جوار «مونا» وفي مواجهة «سابك». وجلست «شرلي» بجوار «فادية» في مواجهتي.
كان «فرنون» هو الوحيد الذي جلس متربعًا كأنه في مسجد. ومدَّ الآخرون سيقانهم أمامهم بما فيهم «ميجان» التي حرمني بنطلونها من الإطلال على ساقيها. وخلعت «دوريس» معطفًا من «النايلون» وتمددت فوقه مسندة رأسها إلى كفِّها. أما «فادية» فقد جلست معتمدة على ركبتَيها، مستندة بمؤخرتها الكبيرة إلى كعبيها. كانت قد أحاطت عينيها بطبقة كثيفة من الكحل، وصبغت فمها بلون أحمر خفيف، وغطت رأسها بوشاح ملوَّن، وارتدت بنطلونًا فضفاضًا، وبلوزة طويلة بلغت ركبتَيها تحت سويتر من الجلد.
بدأت في شيء من الارتباك بأن «القاهرة» تعتبر أقدم مدينة في العالم. صحيح أنها شُيدت قبل ألف وأربعين سنة، إلا أن موقعها كان دائمًا مركزًا لعاصمة «مصر» قبل ذلك بعدة آلاف من السنين. فطوال الألفية الأولى من العصر الفرعوني كانت العاصمة هي «منف» التي تبعد عشرين كيلومترًا عن «قاهرة» اليوم. وفي القرن السادس الميلادي شيد الفاتحون العرب للعاصمة مدينة «الفسطاط» التي صارت من أحياء «القاهرة» المعاصرة.
اعتدلت في جلستها وثنَت ساقيها إلى جانبها، فأصبحت تجلس فوق العشب. وصفت فتح «مصر» على يد الجيش الفاطمي سنة ٩٦٩م، وكيف كلَّف الخليفة «المعز» قائده الصقلي ببناء مدينة «تقهر الدنيا». وقالت: إن القاهرة لم تقهر أحدًا غير أهلها؛ فقد تتابع عليها الغزاة والمتسلطون من كل الأنحاء والأجناس. وفيما يبدو لم يؤثر ذلك في قدرتها على الاستمرار والنمو، حتى أصبحت واحدة من أكبر مدن العالم.
تبنت فادية بعد ذلك منهج «جمال حمدان» في أثر الموقع. فقالت: إن «القاهرة» تمتد بين مجموعتين معماريتين: الأولى فرعونية في الغرب، تكوَّنت حول الأهرامات، أضخم مقبرة في العالم، والثانية في الشرق حول مسجد القلعة ذي القبة والمئذَنَتين الرفيعتين، تُركيَّتي الطراز. وبذلك دمغها التدين بطابعه.
قالت: إن أقدم أجزاء القلعة شُيد منذ ثمانية قرون بواسطة «صلاح الدين الأيوبي»، الكردي الذي صار بانتصاراته على الصليبيين رمزًا لمقاومة التدخل الأجنبي، لكن البناء الفعلي تم بإشراف أحد أعوانه المسمى «قراقوش»، والذي صار اسمه مرادفًا للاستبداد الغبي.
هل جمع الاثنان بذلك خلاصة التاريخ المصري؟
استطردت: سجلت القلعة أيضًا بداية عصر فريد انعقدت فيه السلطة طوال خمسة قرون ونصف قرن لسلالات من العبيد (مغول وأرمن ويونانيين وإيطاليين وصقليين وبرابرة وسودانيين وتُرك وكرد وتركمان وشركس) جرى استيرادهم من آسيا الصغرى ووسط أوروبا بالآلاف؛ ليكونوا جنودًا مرتزقةً، ثم أصبحوا فرسانًا وأمراء. وهُم الذين نثروا حول القلعة مئات المآذن والقباب، بينما تفنَّنوا في وسائل النهب والقتل والتعذيب للمواطنين العزَّل. فلم يكد «صلاح الدين» نفسه يستولي على السلطة من الفاطميين حتى قام بأكبر مذبحة لجنودهم السود، وأحرق أحياءهم بنسائها وأطفالها. وأمر «الناصر محمد» بتنفيذ ما يقرب من ١٥٠ عملية اغتيال بالسم والتجويع والقتل. وكان السلطان «فرج بن برقوق»، الذي تولَّى السلطة في العاشرة من عمره، يستعرض المسجونين في برج القلعة ليلًا، وهو مخمور فيذبح بعضهم بيده، ثم يبول على جثثهم.
اختارت «فادية» سيرة «المؤيد»، أحد سلاطين «المماليك» المشهورين، نموذجًا لهذه الطبقة الغريبة. فقد أحضره تجار الرقيق إلى «مصر» وهو بعدُ صبي في الثانية عشرة من عمره؛ حيث عُرض للبيع في أسواقها واشتراه السلطان المملوكي «برقوق»، فعلَّمه القراءة والفقه والفروسية والمصارعة. هكذا تأهل للاشتراك في الصراعات الدائرة بين أمراء المماليك، وانتهى به الأمر إلى السجن في حفرة قذرة قيدت يديه وساقيه وعنقه إلى جدرانها بالسلاسل الحديدية. وأثناء هذه المحنة نذر لله إن تيسر له ملك «مصر» أن يجعل مكان السجن مسجدًا ومدرسة. وفيما يبدو استجاب الله للدعاء؛ إذ تولى السلطة في سنة ١٤١٢م، وشرع على الفور في تنفيذ النذر. بدأ بهدم السجن، ثم انقض رجاله على بيوت الأهالي يخلعون منها الرخام اللازم لبناء المسجد الذي يعتبر اليوم تحفة معمارية. وخلال ذلك تفشَّى في البلاد طاعون دام عامًا كاملًا. واكتملت القصة كلها بعد خمس سنوات بنهاية مألوفة، كررها «إيفان الرهيب» قيصر روسيا بعد قرن؛ إذ نمى إلى علمه أن الأمراء يرغبون في تولية ابنه بدلًا منه. فدسَّ له السم في الحلوى، ولم تنقضِ السنة إلا ولحق به ودُفن إلى جوراه.
توقفت عن الكلام ومدت يدها إلى حقيبة يدها، فاستخرجت زجاجة مياه رفعتها إلى فمها، ثم استطردت: انتهى هذا العهد المظلم على يد الفتح العثماني في ١٥١٧م، عندما استنجد المصريون بالسلطان سليم؛ ليخلصهم من مظالم السلطان «الغوري».
وانتقدت «فادية» المؤرخين من أمثال «جمال حمدان» الذين يستخدمون تعبير «الغزو» عند الحديث عن «الفتح» العثماني. واتهمتهم بأنهم لم يميزوا بين الحروب الداخلية في الأمة الإسلامية؛ طمعًا في السلطة وبين الغزو الأجنبي طمعًا في الثروة ومن أجل الاحتلال. وقالت: إن الدولة العثمانية هي التي حافظت — رغم ما تفشى داخلها من قهر وظلم وفساد — على وحدة الأمة الإسلامية ضد أطماع القوى الاستعمارية الأوروبية.
شردت أتابع مجموعة من الطلبة مع أستاذهم، يبحثون عن مكان يجلسون فيه. وكانت بينهم طالبة ترتدي شورتًا ضيقًا فوق ساقين عاريتين. وعجبت كيف أنها لا تشعر بنسمة البرد التي تتخلل الجو. وتابعتها وهي تجلس، ثم تقترض سترة زميل لها، وتبسطها فوق فخذيها، كأنما استجابت لخواطري.
لحظت أن «مونا» تتأملني بشبح ابتسامة وهي تمضغ قطعة «كوكيز». وعجبت لقدرتها على أن تأكل طول الوقت دون أن يظهر أثر على جسدها النحيف. رفعت عيني إلى شعرها البني الداكن، وتمعنت هيئته. لم يسعني الجزم بما إذا كان طبيعيًّا أو مستعارًا.
حولت اهتمامي إلى «فادية» التي كانت تقول: استمرَّ المماليك كطبقة حاكمة في ظل السيطرة العثمانية، وتصدَّوا بغير نجاح لحملة «نابليون بونابرت» سنة ۱۷۹۸م. وكان حرافيش القاهرة ورعاعها هم الذين أجبروا القوات الفرنسية على الانسحاب بعد ثلاث سنوات وثلاثة أشهر. وعادت السلطة للسلطان العثماني والمماليك، وعرفت مصر أربع سنوات من الفوضى أوشك فيها المصريون على تولي مقدراتهم بأنفسهم. لكن قادتهم اختاروا جنديًّا ألبانيًّا من الجيش التركي، وصعدوا به إلى «القلعة»، وفرضوه على السلطان العثماني في «إستامبول». وكان «محمد علي» هو الذي قضى نهائيًّا على طبقة «المماليك» بالمذبحة الشهيرة التي جرت في «القلعة»، ودشَّن المشروع التحديثي الأول في تاريخ «مصر» الحديث، فأقيمت المصانع والمدارس وأُرسلت البعثات إلى الخارج. لكن هذا المشروع لم يقيض له النجاح إذا أجهضه الاستعمار الغربي. كما أجهض المشروعَيْن التاليين «لعرابي» في أواخر القرن التاسع عشر و«عبد الناصر» في منتصف القرن العشرين.
تدخل «فرنون» متعجبًا: كيف تحمَّل المصريون كل هذا العذاب؟
ترددت ضحكات قصيرة، فاستطرد وهو يتأمل ورقة أمامه: إذا لم أكن مخطئًا؛ فأنت تتحدثين عن أربعة قرون من المعاناة المتواصلة.
خمسون قرنًا على الأقل تنظر إليكم!
أجابت: استطاع المماليك أن يبقوا على حكمهم تلك القرون الطويلة؛ بفضل مقاومتهم العنيدة للغزاة الصليبيين والمغول والعثمانيين.
تدخلتُ بدوري: «صادق سعد» يقدم تفسيرًا واقعيًّا لهذه الظاهرة؛ فقد تكونت طبقة ملاك واسعة ومختلطة، تضم علماء وتجارًا وحرفيين من أصول مصرية، ومملوكية شركسية وعثمانية. لهذا نجد أن العلماء والتجار والحرفيين كثيرًا ما ناصروا المماليك والعثمانيين وأيَّدوهم.
تساءل «سابك»: كيف سقطت دولتهم إذن؟
قلت: في العصر المملوكي انفردت «مصر» بسرة العالم تجاريًّا، وتحكمت في طرق التجارة. كان عصرًا ذهبيًّا من الناحية المادية والحضارية؛ فقد تجمعت لدى المماليك ثروات خرافية، أنفقوها على الحركة المعمارية والفنية والأثرية. ثم انتهي هذا الدور فجأةً عندما تم اكتشاف طريق «رأس الرجاء الصالح» في أواخر القرن الخامس عشر، وتحوَّلت إليه التجارة العالمية.
لاحظت أن البقية الذين بدوا غير مُبالِين في مستهَلِّ الدرس بدءوا يولونه اهتمامهم عندما تجلت لهم مقدرة المصريين الفذَّة على التحمل والصبر.
خاطبت «فادية» قائلًا: هناك نقطة أحب أن أشير إليها؛ فمن حقك أن تقومي بتوصيف الغزو العثماني كما تشائين، لكن الحقائق التاريخية الثابتة لا يجب تجاهلها. فقد جرَّد السلطان «سليم» مصر من صفوة الأنتلجنسيا، وحمل معه إلى «إسطنبول» ۱۸۰۰ من رجال الدين والقضاة والصناع والتجار والبناءين والحرفيين؛ مما تسبب في القضاء على خمسين حرفة وصناعة. كما قتل أكثر من مائة ألف شخص. ويُجمع المؤرخون على أن الاحتلال العثماني الذي استمرَّ ثلاثة قرون كان عصر ركود وتخلف تامَّين.
استأنفت «فادية» العرض، فوصفت أحوال «القاهرة» في عهد «محمد علي»، وكيف تأثرت بمشاريعه، وبدأت تخرج من أَسر الحواري الضيقة المظلمة والقذرة. ووضع حفيده «إسماعيل» مشروعًا شاملًا لتطوير المدينة على غرار النموذج الغربي. وكان يعتمد مفهومًا مغايرًا للتحديث عن ذلك الذي اتبعه جده، يقوم على التبعية والمظهرية، بدد به ثروات البلاد وأغرقها في الديون.
أعجبني تقويمها لعصر «إسماعيل» الذي اختلف بشأنه الباحثون، وإدراكها لدور الحرب الأهلية الأمريكية، التي فتحت السوق العالمي أمام القطن المصري، في انتعاش طبقة وسطى أعلنت موقفها على لسان قائد الجيش «عرابي» أمام القصر الفخم الذي شيَّده «إسماعيل» على نسق قصر «باكنجهام» الإنجليزي.
قالت: لم تكن المواجهة متكافئة، وتمخضت عن الاحتلال الإنجليزي الذي دام ثلاثة أرباع القرن (۱۸۸۲–١٩٥٤م) تدعم فيه الجزء الأوروبي من المدينة. وفي عام ١٩٥٢م احترق هذا الجزء مما عجَّل بثورة الجيش وإسقاط النظام الملكي وإنهاء الاحتلال.
توقفت لتلتقط أنفاسها، ثم قالت: ولأول مرة منذ العهد الفرعوني تمتعت «مصر» بالاستقلال الكامل، في ظل حاكم مصري من أبنائها.
انتقلت بعد ذلك إلى تطور «القاهرة» في العهد الجمهوري. قالت: إن الثورة بادرت بوضع خطط متكاملة للتنمية الشاملة على النموذج الغربي تركز أغلبها — للأسف — في العاصمة. وأدى التوسع في التعليم ومشروعات التنمية الزراعية والصناعية إلى تحسُّن أوضاع طوائف واسعة من مستأجري الأراضي الزراعية وصغار الملاك والعمال الصناعيين والحرفيين فانتقلوا إليها. ولم ترحب «إسرائيل» بأن تصبح «مصر» قوة صناعية فشنَّت الحرب عليها في ١٩٦٧م، واضطرت البلاد إلى تأجيل كثير من المشروعات السكنية والخدمية. وهجر أكثر من مليون ونصف مليون مصري مدنهم التي دمَّرها العدوان، وتزاحموا في الوادي الضيق الذي يشكِّل ٣٪ فقط من أرض مصر بينما يضم ٩٦٪ من سكانها. وكانت «القاهرة» هي وجهتهم المفضلة لأن كل شيءٍ مركَّز بها: نصف الكم الصناعي الوطني جميعًا، وربع أطباء البلاد وأكثر من ثلث صيدلياته، وقرابة الثلثين من مجموع وسائل النقل والمواصلات السلكية واللاسلكية، والتليفزيون ودور السينما الراقية والمسارح.
وتسارعت هذه العملية في السبعينيات نتيجة الانفتاح والهجرة الداخلية والخارجية على السواء. وتمخضت هذه التطورات عن صعود نخبة من المضاربين والسماسرة ووكلاء الشركات الأجنبية، قفزت على تضحيات البلاد واستغلَّتها لصالحها، وتخلَّت عن أي خطط استراتيجية للتنمية في صالح المكاسب الآنية، فأوصلت «القاهرة» إلى مشهدها الحالي؛ مدينة صاخبة لا تهدأ بالنهار أو الليل، يبيت بها قرابة ١٣ مليونًا من القاطنين، يصبحون بالنهار ۱۹ مليونًا، يشكلون قرابة ربع سكان البلاد، يتحركون مكتئبين وسط السيارات المتلاحمة والباصات المكدَّسة والزمامير الحادة، أسفل كبارٍ علوية، بين أبراج سكنية ضخمة بألوان قبيحة تعلوها الديشات، تطل على مقابر سكنية تبرز منها هوائيات التليفزيون، أو على ناس يطهون في الهواء الطلق وسط أكوام القمامة، أو يقلبون بينها بحثًا عن شيء يوازنون به دخولهم المتواضعة، وآخرين يخوضون في مخلَّفات متعفنة بينما يتحدثون في تليفونات محمولة. ويبدو المرور في فوضى، وشرطته في عجز كامل وهم يحاولون إيقاف السيارات بأيديهم بعد أن فشلت المصابيح الحمراء في ذلك.
ابتسمت وأنا أتصورها تعوم في شوارع «القاهرة» بعد «كاليفورنيا» ذات المرور المنضبط وحقوق المشاة المقدسة.
واصلت: … ويتزايد سكانها بمعدل مائة ألف في الشهر، تفتك الأمراض والتلوث بأعداد كبيرة منهم. ويضطر أكثر من مليون شخص للحياة داخل عشش كرتونية أو في المقابر بينما فيها وحدها مليونا شقةٍ مغلقة. وتعيش الغالبية تحت خط الفقر بينما ترتفع نفقات المعيشة يوميًّا في خط موازٍ لخطوات تنفيذ طلبات صندوق النقد الدولي. وينخرط مليونا مصري في أعمال هامشية؛ باعة جائلون، منادو سيارات، حمَّالون، عمال نظافة، ماسحو أحذية … إلخ. ويهرب الأطفال من المدارس إلى الشوارع. وتقدر المصادر الرسمية المصرية عددهم ﺑ «٨٠٠٠٠٠» بينما يضيف «اليونيسيف» مليونَين آخرَين.
توقفت وتناولت زجاجة المياه من حقيبة يدها فدفعتها إلى شفتيها، ثم مسحتهما بمنديل ورقي. شرعت في تلخيص العرض الذي قدمته، واختتمت بالنتيجة النهائية التي توصلت إليها، قالت: إن جغرافية «القاهرة» وتاريخها يؤكِّدان أن التدين هو سمتها الأساسية، وأن التغريب أدى إلى فشل مشروعات التحديث.
لم أكن متفقًا معها تمامًا في هذه النتيجة، ولم يحُلْ هذا دون إعجابي بالجهد الذي بذلته واستفادتها من الإرشادات التي قدمتها إليها.
قالت «شرلي»: بوسعي أن أفهم ظاهرة الصحوة الدينية التي أشارت لها «فادية»؛ فهي موجودة الآن بوضوح في المجتمع الأمريكي أيضًا، لكن ما لا أفهمه أو أستسيغه هو الحجاب.
الموضوع المفضل لديهم جميعًا.
أجابت «فادية» على الفور في حدَّة: هو أحد فروض الدين الإسلامي، نصَّت عليه آية في القرآن.
رفعت يدي معترضًا وقلت: هذه قضية لم تُحسم؛ فكثير من العلماء يؤكدون أن التعاليم الإسلامية الأساسية لا تنص عليه. وفي رأي أنه ظاهرة تاريخية لا دينية، بدليل تغير النظرة إليه من فترة إلى أخرى. فالسلطان المملوكي «قايتباي» — وهو واحد من ألمع سلاطين المماليك، ولعله الوحيد الذي تولى السلطة مرغمًا وأراد أن يتخلى عنها طوعًا أكثر من مرة — منع النساء من تغطية الرأس بالطرحة أو المنديل الحريري المحلَّى بالجواهر. وكان السلطان الذي اشتُهر بالتقوى بالغ الحزم، فأصدر أوامره بأن يضرب رجال المحتسب أي امرأة تخالف قراره. وسرى الخوف بين النساء، فصرن يخرجن حاسرات الرءوس، وعند عودتهن إلى منازلهن يستمتعن بارتداء الغطاء المحرم!
التفت إلى «شرلي»، وقلت: الحقيقة أن الرجل المعاصر هو الذي تحجب! لقد اختار الانسحاب لنفسه ولأسرته من حياة معقدة مربكة، والارتداد إلى صورة عن ماضي أكثر بساطة وأيسر على الفهم فضلًا عمَّا يعد به هذا الارتداد أيضًا من سلام وطمأنينة ينتظرانه في الجنة. الانسحاب هو بديل للجنون والانتحار والمخدرات. وبالنسبة للمرأة هو أكثر هذه الأشكال أمانًا وقبولًا من المجتمع، وهو على أية حال اختيار أقل درامية من ذلك الذي تُقدِم عليه أختها المسيحية عندما تدخل الدير!
شعرت من العيون التي حدقت فيَّ أن هناك ضرورة للإيضاح، فاستأنفت حديثي: لقد ورث الرجل المصري مركز السيد في المجتمع، لكنَّه عجز عن ممارسته، فما حققته المرأة من مكاسب في ميدان التعليم والحياة العامة هدَّد هذا المركز، بمثل ما هدده عجزه عن التكيف مع مجتمع في حالة تغيُّر مستمر، على كافة المستويات، لم يستقر بعدُ على «شفرة» مقبولة من الغالبية تضمن الحياة الآمنة.
انظروا إلى ما تعرَّض له المصري على مدى العقود الأربعة الأخيرة … تحمَّل التضحيات في الكفاح من أجل الاستقلال إلى أن خرج آخر جندي إنجليزي من البلاد في ١٩٥٤م، وتحمَّل تضحيات أخرى عندما عادوا بعد عامين، في صحبة الإسرائيليين والفرنسيين، وحتى خرجوا من جديد، ثم تحمَّل أعباء المشروع التحديثي الذي تبنَّته الطبقة المتوسطة بقيادة «جمال عبد الناصر»، مؤمنًا بالفلسفة التي طرحتها هذه الطبقة حول التصنيع والعدالة الاجتماعية، سعيدًا بما توفَّر له من سكَن رخيص، وفرصة للعمل، وتأمينات اجتماعية، ورعاية صحية وتعليم مجاني لأولاده، قانعًا بالحصول على احتياجاته الأساسية من مؤسسات القطاع العام، متنازلًا عن الكماليات، غير عابئٍ بالقيود التي فُرضت على حريَّته في إبداء الرأي. وتحمَّل نصيبه من جديد في النتائج الفادحة للعدوان الذي قامت به «إسرائيل» عام ١٩٦٧م، وفي حرب الاستنزاف التي تلَتْه ثم حرب التحرير في ۱۹۷۳م، التي اعتبرها نهاية المطاف، وإيذانًا بأن تتحقق الأماني القديمة في مستقبل أفضل.
لكنه فوجئ بنفس الطبقة الحاكمة تقول له: إن سياسة التصنيع والتخطيط والقطاع العام هي السبب فيما يعانيه من متاعب، وأن فرصة التقدم الوحيدة أمامه تكمن في «الانفتاح الاقتصادي» و«الخصخصة»، واتباع نصائح البنك الدولي. ومن جديد آمن بالفلسفة المعروضة عليه، وانتعشت آماله عندما رأى السلع الأجنبية تغرق السوق، رغم عجزه عن شرائها، وبدا مستعدًّا للتغاضي عن ارتفاع تكاليف المعيشة وفساد الجهاز الحكومي، واتساع الهوة بين الطبقات وزيادة التبَعية للخارج، في انتظار المستقبل الزاهر الموعود.
لكن الأعوام تمر لا تحمل معها سوى الوعد بمزيد من المعاناة …
فقدت الخيط فجأةً فتوقفت. وعندما طال صمتي خاطبت «دوريس» «فادية» متسائلةً: ما لا أفهمه هو موقف سكَّان «القاهرة» من نظافتها. عندما زرتها منذ عامين راعتني قذارة الشوارع.
ظهر الارتباك على «فادية»، وأنقذها المطر الذي بدأ يتساقط خفيفًا. أعلنت نهاية الدرس ونهضت واقفًا، وانطلقت نحو المعهد برفقة «فادية» و«فرنون».
بسطت «فادية» مظلتها لتحتوينا، فتناولتها منها ورفعتها فوق رأسينا. سألتها عن ابنتها فقالت: إنها تسأل عني دائمًا، وتريد دعوتي إلى المنزل.
افترقنا في مدخل المبنى، واتجهت إلى مكتب «ماهر». لم أجده فصعدت إلى مكتبي. الْتقيت مسز «كلين» في صحبة الأستاذ الإيراني، ولمحتني «جيني» فظهرت في عينيها نظرة متفكهة، تجاهلتها وولجت كهف البريد بعد أن وجهت التحية ﻟ «فيفيان». وجدت الأستاذ الروسي أمام صندوقه المجاور لصندوقي. انتحى جانبًا بسرعة، وهو يعتذر بصورة مبالغة، وكأنه يعتذر عن بقائه على قيد الحياة. ولم يكن في صندوقي سوى مظروف تنبعث منه رائحة غريبة. واستخرجت منه جريدة مطوية معطرة برائحة البخور.
بسطت الجريدة فطالعني اسمها «النداء الأخير»، الصادرة عن حركة المحترم «لويس فاراخان»، المسماة ﺑ «أمة الإسلام». قلَّبت صفحاتها القليلة بسرعة، وتوقفت عند إعلان عن «مزارع محمد» التي تهدف إلى تشجيع الشعب الأسود في «أمريكا» على الاستقلال بإنتاج طعامه وملبسه ومأواه. وذكرتْ سطور الإعلان أن المحترم «لويس فاراخان» قد التقط عباءة المحترم «إيليا محمد»، وأن منظمة «أمة الإسلام» اشترت عام ١٩٩٤م مساحة ١٦٠٠ أكر من الأراضي الزراعية في ولاية «جورجيا» كان يملكها في السابق المحترم «إيليا محمد». وأن هذه الأرض ستعطي هذا العام بطيخًا وكنتالوبًا، وذرة حلوة وجزرًا وكرنبًا زُرعت كلها دون استخدام الكيماويات.
وكان هناك إعلان عن كتاب «رحلة حياتي في السفر مع الرجل الحكيم المحترم إيليا محمد»، للأم «تاينيتا محمد»، ثم شرح لآيات من القرآن؛ جاء فيه أن الله قد حلَّ في شهر «يوليو» من عام ۱۹۳۰م في شخص سيدنا «فرد محمد»، الذي يستحق الثناء إلى الأبد، وهو المسيح الذي انتظره طويلًا المسيحيون و«المهدي» الذي انتظره طويلًا المسلمون.
طويت المجلة مبتسمًا لأقرأها على مهل، وأتعرف على الإسلام الأمريكاني. ثم عدت فبسطتها ودققت النظر في صدر صفحتها الأولى. كانت هناك إشارة إلى أنها تصدر في «نيويورك». ولم أكن قد لمحت أثرًا لها بين الصحف الموزعة في «سان فرنسيسكو». قلبت المظروف الذي احتواها، فلم أجد عليه طوابع بريد، أو أية بيانات عن المُرسِل مما يوحي أنه وُضع باليد.
هل وزَّع على كل الصناديق، أم استهدفني شخصيًّا بالتحديد؟
لن تتذكر «فيفيان» شيئًا بالطبع. أجَلت البصر حولي في الصناديق. لم يكن ثمة أثر لمظروف مشابه في صناديق المساعدين المفتوحة. أما تلك الخاصة بالأساتذة فكلها مغلقة.
انحنيت على الصندوق الذي يعلو صندوقي وشممت رائحته. وانتقلت إلى الصندوق الذي يعلوه ثم بقية الصناديق المغلقة، وأنا أتلفت نحو المدخل خوفًا من أن يراني أحد في هذا الوضع المضحك.
شممت تقريبًا أغلب الصناديق دون أن ألتقط رائحة البخور المميزة.
«فرنون عبد الرحمن»؟
أم «فيفيان»؟
وما أهمية الأمر؟
ماذا جرى لي؟
طويت الجريدة من جديد وغادرت الكهف.
وتؤكد «المرنيسي» أن الرسول أصرَّ على أن تكون علاقته بالمرأة متميزة فيها مشاركة وتبادل الرأي، وحياة خاصة مفتوحة على الناس. كان رجلًا حييًّا بالغ التهذيب يرفض العنف الجسدي ضد المرأة، وقد فاجأ المحيطين به برقته مع نسائه؛ لأن الكثيرين من الصحابة وعلى رأسهم «عمر» لم يترددوا في صفعهن. بل ورفض قتل الأسرى أو التمثيل بالمهزومين، ورفض وجود رجال دين، مشجعًا المسلم على أن يتدبر وحده فهم النص الذي يجب فك رموزه بالعقل. واستعمل أعداؤه هذه الميزة ليهاجموه، وخاصة في السنوات الحرجة التي قارب فيها الستين من عمره، وتدهورت فيها أحواله الصحية؛ بسبب السِّن وبسبب تعرض المدينة للحصار من قبل المشركين.