الفصل التاسع عشر
اشتد المطر وهبَّت رياح عنيفة أوشكت أن تحطم مظلتي. ولم يفتَّ هذا في عضد آلاف المشرَّدين بلا مأوًى، الذين تدفَّقوا على وسط المدينة، وهم يرفعون لافتات تطالب في خط ركيك بوظائف وسكن.
كنت قد رأيت أعدادًا كبيرة منهم في الأيام السابقة التي اشتدَّ فيها البرد فجأةً، معلنًا بداية موسم الأمطار القاسي الذي يستمر ثلاثة شهور. صادفتهم منكمشين في مداخل البيوت قرب أفخم الفنادق بحي «نوب هيل»، ونائمين فوق الأرائك قرب الحوانيت الكبيرة في ساحة «يونيون سكوير»، ومتجمعين بالمئات بجوار المركز المدني وفي نواصي حي «هيت – أشبري»، وعلى أبواب مراكز الإيواء التي لا توجد بها أماكن كافية، وأمام كنيسة «سيدة الآلام» في انتظار وجبة مجانية. لكني لم أتصور أنهم بالعدد الذي قدرته صحيفة «الكرونيكل» وهو ١٦ ألف شخص، أي قرابة اثنين في المائة من سكان المدينة.
اتجهت يسارًا في شارع «ديلمسار» ثم يمينًا في «بیدمونت»، ويمينًا مرة أخرى في «أشبري». وسرعان ما بلغت التقاطع الشهير بين «هيت» و«أشبري».
تحولت قطرات المطر إلى صخور صغيرة، فاحتميت بالجدار أسفل ملصق لسلسلة مطاعم جديدة للوجبات السريعة، تصور طفلًا سمينًا يقضم في نهَم وفرَح ساندوتشًا هائل الحجم. وجاءت وقفتي إلى جوار شاب هزيل أقعى خلف كوب لجمع الفكة، ثُبتت فيه بمشبك غسيل لافتة من الكرتون تعلن أنه مصاب بالإيدز، ولا أحد يريد علاجه.
نفضت مظلتي عدة مرات، ثم أغلقتها واستندت إلى الجدار. استسلمت لمقارنات شوارعية غير مجدية، ﻓ «سان فرنسيسكو» تضم أماكن أكثر نظافة وأناقة من هذه الناصية، ومع ذلك فسطح الرصيف مستوٍ وذو نسقٍ موحدٍ، والسيارات لها مواقف معلومة ومحددة.
انتزعتني من خواطري فتاتان مرَّتا أمامي في نشاط دون أن تعبآ بالمطر. ذكَّرتاني على الفور بالمرأة المصرية في الستينيات أو السبعينيات، سافرة الوجه عارية الرأس، مزهوة برشاقتها وأنوثتها.
أما الآن فهي تمشي متعثرة مضطربة الخُطى، غالبًا ما تستند بيدها أو جسدها كله إلى أقرب جدار، تئن من الحرارة الخانقة تحت وطأة الملابس السابغة التي تغطِّي أجسامًا نفَخها طعام غير صحي، وحياة بلا رياضة تحفل بصنوف العلل، ينقضي جزء كبير منها في مقعد أمام التليفزيون، أو متمترسة في سيارة يقودها زوج مكتئب، أو منكمشة في میكروباس يحملها من عمل ممل طول اليوم إلى مسكن في حي عشوائي، وقد اكتسب وجهُها الأسمر، المنتوف الشعر جيِّدًا أسفل الحجاب، شراسةً ينطلق عنانها في معارك الصراعات الصغيرة.
مرت من أمامي مجموعة من المتظاهرين، يتقدمهم شاب عريض القامة حلق رأسه على طريقة الهنود الحمر. كان يرتدي سترةً جلدية ثُبتت بها رقعة على شكل النجمة، وبنطلونًا واسعًا على طراز «الباراشوت»، ينتهي ببوت أسود اللون. وزينت علامة السوبرمان الساق اليمنى لبنطلونه، وعبارة «طظ في الدنيا» الساق اليسرى. وحمل فوق رأسه لافتة بهذه العبارة: «أوقفوا القتل.»
سمعت نداءً باسمي، وتبينت مسز «شادويك» في سيارتها المتداعية. أشارت لي أن أنضم إليها، فبسطت مظلتي وعبرت الشارع جَريًا. فتحَت لي الباب، فنفضت المظلة عدة مرات، وارتميت إلى جوارها وأنا أتنهد في ارتياح.
سألتني: إلى أين؟
قلت وأنا أثبت حزام الأمان: لا مكان! كنت أتتبع المظاهرة.
قالت: إذن ابق معي، ثم أوصلك.
قادت السيارة حتى التقاطع التالي، ثم مضَت في شارع جانبي، ودارت يمينًا في أول تقاطع، ثم يمينًا مرةً أخرى، وأصبحنا من جديد في شارع «أشبري».
قلت: تبحثين عن شيء؟
قالت: عن مكان للانتظار.
قلت: هناك لافتة في المظاهرة تطالب بوقف القتل. ماذا يقصدون؟
قالت وهي تدلف إلى شارع آخر: ألم تقرأ في الصحف عن السفَّاح الذي يتعقب المشردين، ويذبحهم من أعناقهم أثناء نومهم في مداخل البيوت؟
قلت: أنا لا أقرأ أخبار الجرائم عادة.
– هناك شائعة بأن البلدية استأجرت هذا السفاح؛ لأن العمدة وعَد بتخليص المدينة منهم.
لاحظت أنها تتجاهل أماكن خالية للانتظار، وتواصل الدوران في نفس الدائرة. وأخيرًا لمحت مكانًا قرب الناصية، فانسابت إليه.
أغلقت الموتور، وأسندت رأسها إلى ظهر المقعد وهي تتأمل المتظاهرين. كانت في هيئتها المألوفة التي تشي بالإهمال، وقد غطت جوبتها الطويلة بمعطف من الجلد امتَلَأ سطحه بالخدوش.
استطردت: يوم الجمعة الماضي بدأت سلطات المدينة تطوِّق جموعهم، وتنقلهم بعيدًا عن وسط المدينة والمناطق السياحية، مثلما فعلت مدينة «أطلنطا» أثناء الدورة الأولومبية، أو تلقي القبض على أعداد منهم، وتحتجزهم عدة أيام، ثم تفرج عنهم بكفالة مقدارها ثلاثون دولارًا، وغرامة مقدارها ثلاثون أخرى. المضحك أن المحتجَز يكلِّف المدينة في اليوم ما يزيد بنسبة الربع عمَّا تتكلفه لو وفرت له مأوًى ومأكلًا.
قلت: لكن ماذا يدفع بهم إلى الشارع؟
أزاحت خصلة من شعرها الرمادي بعيدًا عن عينها، وقالت: حسب الدراسات، ثلثهم مرضى عقليون، والثلث الثاني مدمنو مخدرات، والثلث الأخير فقَد أفرادُه وظائفهم، أو عجزوا عن مجاراة ارتفاع الأجور.
الثلث مرة أخرى!
انحنَت فجأةً، وأشارت بإصبعها إلى مجموعة من المتظاهرين: هل تري هذا الكهل؟
تتبعتُ إصبعها دون أن أميز الشخص الذي تقصده.
قالت: الذي غطى رأسه بالمخروط البلاستيكي.
كان هناك العديد منهم، لكني لم ألبث أن تبينت الشخص الذي تقصده. كان قصير القامة متين البناء، يمشي بخطوات شبه عسكرية دون أن يتطلع يمنةً أو يسرة.
قالت: كان حارسًا لدينا، وفقَدَ عمله عند تخفيض الميزانية. تشاجر مع المدير واعتدى عليه بالضرب، فقضَى بضعة شهور في السجن. وعندما خرج لم يجد مكانًا غير الشارع. ثم اشترك مع آخرين في احتلال مخزن قديم، إلى أن قام أحد الأفاقين بتقسيم المكان إلى غُرف تفصِل بينها حوائط من الخشب مدعيًا أنه يملك المبنى، وأجَّر الغرفة الواحدة بمائة دولار في الشهر، ثم جاءت شركة واشترت المكان، واستصدرت حكمًا بإخلائه من المقيمين، وقام البوليس بطردهم، فعاد إلى الشارع.
تساءلت في دهشة: أليس له أية حقوق؟ كيف أمكن طرده في البداية؟ ماذا فعلت النقابة؟
لم يكن عضوًا فيها. بص، هناك أساليب معقَّدة تضع الموظفين والعمال أمام الأمر الواقع. مثلًا تقسيم المؤسسة الواحدة إلى أقسام إدارية وإنتاجية، أو تكليف مؤسسات صغيرة ببعض أعمالها. وهنا يجري تشغيل العمال والموظَّفين السابقين بأجور أقل، وبدون تأمين صحي. عدد ضخم الآن منهم يعمل بنظام اليومية. وتحت الضَّغط المتواصل والخوف من فقدان الوظيفة، ينسحب كثير من العمال من النقابات. في كل «أمريكا» الآن لا يزيد عدد العمال النقابيين عن عشرة بالمائة من عددهم الإجمالي.
لا بد أن علامات الدهشة ظهرَت على وجهي؛ لأنها قالت: أنت من الناس الذين يتصوَّرون الجنة هنا. هل تعرف ماذا يؤرِّقني طول الوقت؟ أن أستيقظ ذات صباح لأجد نفسي عجوزًا في أسمال، غير قادرة على شراء قطعة لحم، يساعدني شاب رقيق على صعود الترام، وأتوسل لبائع الخضراوات القريب من منزلي أن يصبر عليَّ، حتى يأتي شيك الضمان الاجتماعي الهزيل.
لم أعلق بشيء وواصلت هي: هل تحب أن تسمع بعض الأرقام بين ۱۳۷ مليونًا يمثلون القوى العاملة الأمريكية؟ هناك ۳۸ مليونًا يعملون بعض الوقت، و٣٥ مليونًا يعملون وقتًا كاملًا بأجور تكفي بالكاد لإعاشتهم، ثم ٨ ملايين عاطل، و۷ ملايين أُجبروا على قبول التقاعد المبكر، فانخفضت أجورهم إلى الربع و٥ مليون داخل السجون. رأيت؟ هل تعرف أن النسبة بين أدنى أجر وأعلاه داخل المؤسسة الواحدة هو واحد إلى مائة وعشرين؟
أخذت كثافة المظاهرة في التناقص بعد أن ابتعد قلبها الرئيسي. ولفت نظري في الصفوف الأخيرة رجل تام الأناقة في معطف ثقيل أسود من الصوف. أشرت إليه قائلًا: «مروان.»
لم يبدُ عليها أنها عرفته فأضفتُ: أستاذ أدب فلسطيني، متزوج من أمريكية، التقيته عند «ماهر».
لم تهتم وواصلت: الأجانب لا يعرفون أن نصف الأمريكيين ينفقون سبعين في المائة من دخولهم على السكن الذي يمكن أن يضيع منهم بسهولة إذا تخلَّفوا عن دفع الإيجار أو قسط الملكية. عندئذ يتنقَّلون بين أصدقائهم وأقاربهم، ويتركون طفلًا هنا وآخر هناك. وبعد إقامة قصيرة في أحد الملاجئ ينتهي بهم الأمر في الشارع.
سكتت لحظة، وفتحت درج التابلوه المغطَّى بجلد حائل اللون، وتناولت علبة علكة قدمت لي قطعة منها، ثم قالت: سأقول لك شيئًا مرعبًا. في كل نصف ساعة يتسرَّب ٥٠ صبيًّا من المدارس في «الولايات المتحدة». وفي نهاية كل عام يبلغ عددهم مليونًا. كل هؤلاء يذهبون إلى الشارع.
– كيف يعيشون؟
– حياة الصراصير والفئران؛ الأرصفة، قنوات الصرف، حاويات القمامة، محطات الباص وواجهات الحوانيت ومداخل البنايات، يتبولون ويتبرَّزون إلى جوار السيارات المركونة. البعض يعيش على جمع الفوارغ وغير ذلك من محتويات القمامة. وإذا أسعدهم الحظ نالوا بعض الحساء في بدرومات الكنائس، وتمتعوا بحمَّام ساخن في أحد الملاجئ.
تلاشى ذيل المظاهرة، واستأنف الشارع حركته العادية. لاحظت أن اهتمامها موجه إلى جماعة من الشبان احتموا من المطر بواجهة مطعم للبيتزا. فتاة بيضاء بشعر أشقر ملبَّد بلَّله المطر، وبنطلون جينز ممزق، وبوت عسكري، وسترة جلدية تبدو منها بلوزة بوشم صيني. رجل أصلع أربعيني أو خمسيني يرقد كلب ضخم تحت قدميه. شاب ثلاثيني صفف شعر رأسه على هيئة رماح، وارتدي سويترًا كبير الحجم غطَّى يديه ورقبته. فتاة صغيرة لا تتجاوز العاشرة بجوار لعبة على شكل أرنب كبير وضعَتْه في حامل أطفال جرار.
استأنفت «شادويك» الكلام بصوت هادئ متأمل: أغلب هؤلاء الشبان يعانون من حياة عائلية مفككة. الأب والأم يتشاجران طول الوقت، أو مشغولان بنفسيهما. لا تشعر الطفلة أنها في بيت. تأخذ شرائطها الموسيقية وتغادر المنزل. تترك المدرسة وتبدأ حياة الشارع. في الرابعة عشرة يُقبض عليها بتهمة السرقة من حانوت، وبعدها بثلاثة شهور بسبب السُّكْر في الطريق. في الخامسة عشرة يُقبض عليها مرة ثالثة بتهمة حيازة «ماريجوانا»، وبعدها بسبعة شهور تبدأ في استخدام المخدرات الثقيلة. «الكراك» رخيص ويحدث إدمانًا في الحال. يلتقطها قوَّاد. في السادسة عشرة يُقبض عليها بتهمة الدعارة، ثم بتهمة سرقة ترانزستور. ثم تلد طفلًا في الثامنة عشرة، ويُقبض عليها بعد شهرين بسبب الدعارة. خلال ذلك تكون فقدت القدرة على القراءة. يجد لها أصحاب القلوب الطيبة عملًا في تفريغ السلع بمتجر كبير. عشرون ساعة في الأسبوع مقابل أربعة دولارات ونصف في الساعة. بعد فترة لا تحتمل وتعود إلى الشارع.
تابعت شجارًا نشِب بين أفراد المجموعة وصاحب مطعم البيتزا، وانتهى الشجار بأن حملت الفتاة الشقراء بطانية وكيس نوم متآكل الأطراف، وثبتت على ظهرها حقيبة مدرسية، ثم انتقلت مع رفاقها إلى الرصيف المقابل.
قالت «شادويك» بصوت منخفض كأنما تخشى أن تسمعها الفتاة: هل ترى الأساور التي تغطي رسغيها؟ الهدف منها إخفاء آثار المحاقن. يداها قذرتان وأظافرها سوداء مثل الفحم. جلدها دائمًا ملتهب، وهناك آلام مستمرة في رسغيها وكعبيها وقدميها نتيجة النوم فوق الأسفلت.
وضعت الفتاة حقيبتها إلى جوار الجدار، واستندت إليه، ثم مدت يدها إلى المارة.
امنحني الفكة.
غمغمت «شادويك»: أيام العطلات والأعياد موحشة، المدينة كلها تحتفل، المساكن مضاءة بالدفء والطعام والأسرة. وهي في الشارع.
تعجبت: لماذا لا تذهب إلى أهلها؟
– أحيانًا تفعل. عندما تضجر وتحنُّ إلى البراد وورق التواليت، ثم تغادر بعد قليل. لم تعد تحتمل الجدران أو غسل الصحون. تبكي في حضن أمها؛ تريد الخلاص، لكن كيف؟ أصبحت مدمنة للشارع.
أشارت إلى الشاب ذي الرماح: كم تقدر عمره؟
بدا لي في حوالي الثلاثين.
قالت: لم يتجاوزِ العشرين! وأسفل هذا السويتر آثار غزات المحاقن في يديه وعنقه. يحقن نفسه بمزيج قذر من الكوكايين والهيرويين والماء أربع مرات يوميًّا. الجرعة ثمنها ١٥ دولارًا؛ ولهذا يبيع الماريجوانا.
– هل هو صديقها؟
– تقصد هل ينام معها؟ إنه لا يهتم بالجنس، ولا يستطيعه.
– لكن كيف عرفت كل ذلك؟
قالت وهي تدير مفتاح الموتور وتدقق النظر في المرآة الجانبية: إنها ابنتي.