الفصل الثاني
كان شاي بعد القيلولة من نفس النوع الذي أفضِّله في «القاهرة»، لكن بمذاق مختلف لم أستَسِغه، وفكرت أنني في الغالب تعوَّدت على النوع المصري الذي يُعبَّأ محليًّا، وتضاف إليه شوائب عديدة، فلم أتصور أبدًا الافتراض العكسي.
حملتُ كوب الشاي إلى مكتب خشبي قديم في ركن الصالة، تركت فوقه كتبي والكمبيوتر المحمول. أوصلته بالمحول الصغير الخاص به، ثم بحثت عن مستقبِل قريب، وجدت واحدًا أسفل سطح المكتب، وعندما أردت استخدامه اكتشفت أن فَتْحتَيه أوسع من طرفي المقبس.
ضايقني الأمر؛ فمنذ تعلمت استعمال الكمبيوتر قبل خمس سنوات، انتهت العلاقة بيني وبين الورقة والقلم، طُفت بأرجاء المسكن مُتفحِّصًا الفتحات الكهربائية، فوجدتها جميعًا من نفس الحجم. عُدت إلى المكتب فجذَبت أدراجه بحثًا عن موصِّل، كان بعضها مغلقًا والبعض الآخر يحتوي على أدوات مكتبية من طُرز قديمة، تبيَّنت في هذه اللحظة أن القِدم هو الوصف الذي ينطبق على المسكن ومحتوياته؛ البوفيهات الخشبية ذات المصاريع الزجاجية التي تحوي فِضيَّات وخزفيَّات قديمة، المدفأة الحجرية المهملة، الجدران المغلَّفة بالخشب، واللون الداكن الذي يشمل كل شيء.
مضيت إلى المطبخ وفتَّشت خزائنه الخشَبية، كان كل ما بها من أدوات يَعلُوه الصدَأ، ولم يكن بالمطبخ من جديدٍ سوى البرَّاد الضخم، وماكينة قهوة و«ميكروويف»، ولم أجد أية أدوات كهربائية.
انتقلت إلى الغرفة الأخرى المطلَّة على مدخل المنزل والشارع، كانت تحوي طاولة خشبية وُضعت أسفل النافذة التي غطَّتْها ستائر خشبية بالِية، وكان ثمة أريكة من النوع الذي يتحوَّل إلى فراش عريض، وعدة خزائن خشبية قديمة بمصاريع زجاجية، كشفت عن فضيَّات وتذكارات متنوعة لأماكن مختلفة من العالم، وخاصةً في أمريكا اللاتينيَّة.
عُدت إلى المخدع، وفتحت الخزائن الخشبية المثبَّتة في جدرانه، وتضم أغطية ووسائد، تفحَّصت الطاولة المعدنية المتحركة التي تحمل جهازي التليفزيون والفيديو، ثم وَلجت «السولاريوم» العجيب؛ وهو عبارة عن غرفة صغيرة تضم طاولة خشبية بلا أدراج ومقعدين خَشبيين، وتتميَّز بفتحة زجاجية في السقف تسمح لأشعَّة الشمس بالمرور.
أوشكت أن أعود إلى مكتبي بائسًا عندما تذكرت الحمام الذي يتوسط الطُّرقة بين الصالة والمطبخ، فتحت بابه وأضأت النور، كانت يد التجديد قد انتقلت إليه فيما يبدو، ممثَّلة في حوض استحمام حديث وحوض اغتسال مُثبت في طاولة رخامية، فوقه مرآة عريضة بمساحة الجدار، يمتد بين طرفيها العلويين قضيب «فلورسنت»، انحنيتُ أتفحَّص صورة فوتوغرافية ملوَّنة في إطار خشبي بحجم البطاقة البريدية، وُضعت فوق سطح سيفون المرحاض، كانت لرجل سمين ذي وجه عريض بَاسمٍ غير واضح المعالم بسبب المسافة بينه وبين الكاميرا، قدرت أنه مستر «هوبس» بنفسه، جذبت درج الطاولة، فلم أجِد به شيئًا، وكنت على وشك إطفاء النور ومغادرة الحمام عندما لاحظت لأوَّل مرة كثرةً مراياه؛ ففضلًا عن المرآة الرئيسية فوق حوض الاغتسال، كانت هناك واحدة بعرض عشرة سنتيمترات، تمتد بطول حافة القاعدة الرخامية لحوض الاغتسال، وثُبتت ثالثة معينة التكوين في زاوية غريبة بين قاعدة الحوض وقاعدة المرحاض، وغطَّت رابعة سطح الباب من قمَّته إلى عتبتِه.
أغلقت الباب، وجلست فوق القاعدة البلاستيكية للمِرحاض، طالعني وجهي ثم انعكاس فخذي منقولًا عبر المرآتين الصغيرتين، نهضت واقفًا، وفككت أزرار بنطلوني، وأنزلت الكيلوت وجلست من جديد، حانت مني نظرة إلى المرآة الصغيرة المعينة الشكل، فطالعَتْني الاستدارة العارية لفخِذي وأليتي.
خرجت إلى الصالة، وتفحَّصت الكتب المصفوفة فوق المدفأة، كان أغلبها طبعات قديمة كما لو كانت مشتراة من مكتبات الكتب المستعملة، أو تنتمي إلى فترة ماضية من الاهتمام بالقراءة، وأكد لي الاستنتاجَ الأول كتابٌ عن الشعر الانجليزي الحديث، نُشر في ١٩٥٨م، يحمل اسم مالكه الأصلي مدوَّنًا على صفحته الأولى بالحبر السائل، وبقلم من النوع القديم المسنون، وكانت هناك خطوط بالقلم الرصاص تحت بعض القصائد، لكني لم ألبث أن مِلت إلى الاستنتاج اللاحق عندما فحصت البقية؛ ففيما عدا مجموعة حديثة لقصص الكُتَّاب اليهود، كانت هناك بضع روايات قديمة، منها رواية «جيمس كوبر» الكلاسيكية التاريخية عن الهنود الحمر «آخر الموهيكان»، وبعض أعمال «شكسبير»، وتمثل التاريخ بعدة كُتب عن المحرقة النازية، وواحد عن الملكة «فيكتوريا» الإنجليزية التي ارتبط اسمها بالتعنُّت الأخلاقي، وآخر عن «سيمون دي بوفوار»، وثالث عن «إنجريد برجمان» وفضيحة حَمْلها غير الشرعي من المخرج «روسيلليني» في الخمسينيات.
انتقلتُ إلى الأرفف المجاورة، فوجدت مجموعة مختلفة من الكتب، عن البَسْتنة ورعاية الحدائق، وكيفية استخدام كاميرا التصوير السينمائية ٣٥ ملم، وعن كتابة القصص القصيرة، ثم كتاب بعنوان «كيف تبيع ما تكتبه» صادر سنة ١٩٤٥م، ويحتوي بطاقات بخطٍّ دقيق واضح تضم بعض المقتطفات، وآخر عن تعليم اللغة الإنجليزية للأجانب، وثالث عن تجارة العقارات صدَرَا في نهاية الأربعينيات.
هل كان يجرب إمكانيات مختلفة لمستقبله؟ وهل استقرَّ أخيرًا على تجارة العقارات وتأجير الشقق المفروشة بما فيها مسكنه الخاص؟ وهل تزامن ذلك مع محطة الكهولة التي كشف عنها كتاب — وضعتُه جانبًا لأقرأه — بعنوان «تجربة الشيخوخة» صادر في ۱۹۸۳م؟ ومتى كانت المحطة التي يومئ إليها كتاب «علاج الشعور بالعار» من تأليف «جون برادشو»، وآخر يحمل اسمه في ركن الصفحة الأولى عنوانه «الشخصية العصابية في عصرنا» صدر عام ۱۹۳۷م، من تأليف «كارين هيرني»؟
قلَّبت صفحات الكتاب، وتوقَّفت عند الفصل الوحيد الذي امتلأ بتخطيطات أسفل أغلب سطوره، كان بعنوان «حاجة العصابي إلى الحنان»، وجاء أول تخطيط أسفل عبارة تحدد الشخص العصابي بأنه يعاني من تناقض رئيسي بين عجزه عن أن يحب، وبين حاجته لحُب الآخرين، وجاء التخطيط التالي أسفل عبارة تصِفُه بأنه دائمًا على حذَر من الآخرين، ويشعر بأن الاهتمام الذي يوجَّه لشخص ثالث هو إهمال له هو.
تتابعت خواص الشخصية العصابية التي حظِيت بتخطيطات قارئ الكتاب؛ سعيه المرهق وراء الكمال، انطلاقًا من موقف عدائي «تبًّا لك إذا لم تكن كاملًا»، نُفوره من الشخص الذي يرتبط به في علاقة اعتمادية نابعٌ من الشعور بأن حياته تتعرض للتدمير، وإذا كان هذا الشعور طاغيًا يحمي نفسه بعدم الارتباط بأحد على الإطلاق، شعور دائم بالذنب، وهو لا يرتوي أبدًا، وتتجلي شَراهته في إقباله على الطعام والشراء والفرجة على الحوانيت والنشاط الجنسي، ويكون الأخير أقرب إلى تفريغ للتوتُّرات النفسيَّة من التعبير عن دافع جنسي أصيل، وبالتالي لا يحقق المتعة.
فقَدْت فجأةً حماسي للعمل فأطفأت الأنوار، وحملت زجاجة البيرة ووَلَجْت المخدع، أدَرت جهاز التليفزيون وقلَّبت بين القنوات القليلة، فوجدت أغلبها مشغولًا بالكارتون، ومسلسلات حرب الكواكب ومصاصي الدماء الذين تتلوَّن عيونهم بالأخضر أو الأحمر، ثم انهمرتْ عليَّ الإعلانات والبرامج الرياضية وعجَلة الحظ، توقفت عند حلقة من مسلسل «كوسبي شو» الكوميدي الذي يصور عائلة سوداء تعيش في مستوًى جيد، وكنت قد استمتعت بمشاهدة بضع حلقات منه في «القاهرة»، وعندما انتهت الحلقة وضعت فيلم «واج ذا دوج» في جهاز الفيديو.
لم أتمكَّن من فهْم اسم الفيلم إلا بعد أن قطعت شوطًا في مشاهدته، وتوصلت إلى أنه يعني «أعطِ الكلب عظمة بلاستيكية؛ لإلهائه عن الطعام الحقيقي»، والمقصود بالكلب هو الشعب الأمريكي الذي يعمد رئيسه إلى محاولة إلهائه عن فضائحه النسائية، فيُوعز إلى مخرج شهير بإخراج حرب وهمية تشغل الناس وتُنسيهم فضيحة الرئيس، وتعلن وسائل الاعلام عن احتلال دولةٍ لم يسمع بها أحد من الشعب الذي لا يعرف الفرق بين «يوغوسلافيا» و«تشيكوسلوفاكيا»، ويتصور أن «جنوب أفريقيا» تقع في «أستراليا»، ويقال للشعب في بيان رسمي إن تلك الدولة تستعدُّ لهجوم إرهابي خطير ضد «الولايات المتحدة»، وبعد شحذ الرأي العام بفترة كافية يعلن الرئيس عن توجيه ضربة عسكرية ضد الدولة الإرهابية التي لا وجود لها، ويتابع الشعب تفاصيل هذه الحرب في الصحف وعلى شاشات التليفزيون، ويتم اختلاق أبطال وهْمِيين من الجنود يتغنَّى بهم الشعب، وفي النهاية يرغب المخرج في أن يعلن على العالم دوره في العرض، فتطلب منه الرئاسة الصمت وتُحاول إغراءَه بمنصب سفير، لكنه يرفض فيتم التخلص منه، وفي اليوم التالي تعلن الصحف نبأ وفاته بأزمة قلبية.
أحسست بالرغبة في التدخين، فأغلقت الجهاز وحمَلت علبتَي السجائر والثقاب إلى الحديقة، فُوجئت بسَيلٍ من المطر عندما جذبت باب المخدع فأغلقته، انتقلت إلى الغرفة المُطلَّة على الشارع، ففتحت نافذتها، ووقفت أدخن وأنا حريص على نَفْث الدخان بعيدًا.
كان الشارع هادئًا كعادته، غارقًا في ظلام تتخلَّله أضواء المصابيح، تنفَّست في عمقٍ روائحَ الأشجار والمطر والهواء النقي، واستقرَّت نظراتي على بركة صغيرة من المياه فوق الرصيف، أغلقت عيني ثم فتَحْتهما، فلم تختفِ القطة التي وقفت تتطلع إليَّ بثَبات، كانت تشبه قطة الإعلان الضائعة بوجهها المثلَّث الشكل ولونَيها الأبيض والأسود، ولا بدَّ أن تكون هي، فليست هنا قطط مشرَّدة أو ضائعة بلا صاحب، كتلك التي تحفل بها شوارع «القاهرة»، فكَّرت أن أتصل بصاحبة الإعلان، ثم ترددت عندما وجدت أن الساعة قد قاربت منتصف الليل، وقررت إرجاء الأمر إلى الصباح.
تصاعد صوت سيارة وتمهلت واحدة «شيروكي» أمام المنزل، ثم ولجت الجاراج، وسمعت صوت فتح أبوابها وإغلاقها، ثم مرَّ من أمامي شابان، رجل وامرأة، في ملابس رياضية وصعِدا درجات المنزل، وجَّه إليَّ الشاب التحية، بينما كانت رفيقته تدير المفتاح في الباب، أدركت أنهما جيراني، وأوشكت أن أخبرَهما بالخطابات التي عثَرْت عليها ووضعتها في الداخل، لكنهما اختَفَيا بسرعة، وفكرت أنهما شاهَدَاني أدخن فقذفت بعقب سيجارتي بعيدًا وأغلقت النافذة، عُدت إلى الصالة فأضأت نورها وتناولت رواية الجاسوسية، وجلست في مقعد مريح.
حملتِ الرواية اسم «قبضة الله»، وعلمت من الغلاف أنها صدرت عام ١٩٩٤م، وتتناول أحداث حرب الخليج في عام۱۹۹۰م، قلَّبْت صفحاتها التي تجاوزت الخمسمائة، وتوقفت عند صفحة وضع قارئها السابق خطوطًا تحت سطورها.
تناولتِ السطور المخطَّطة أسلوب عمل جهاز الاستخبارات الإسرائيلي المعروف باسم «الموساد»، وذكرت أنه يستعين بشبكةٍ عالمية من المعاونين يطلَق عليهم بالعبرية «سايانيم»، وهم يهود من جهة الأب والأم، وغالبًا ما يكونون مُخلِصين للدول التي يحملون جنسياتها، لكنهم متعاطفون أيضًا مع «إسرائيل»، وذكر الكاتب أن هناك ألفين من هؤلاء في «لندن» وحدها، وأربعة آلاف في كل «بريطانيا»، وعشرة أضعاف هذا الرقم في «الولايات المتحدة»، ولا يُطلب من هؤلاء أبدًا الاشتراك الفعلي في عمليات «الموساد» وإنما تقديم بعض الخدمات، وضرَب المؤلف المثال التالي لهذه المساعدات: يصل فريق من عملاء «الموساد» إلى «لندن» للقيام بعملية ما، ويحتاج سيارة، فيطلب من أحد «السيانيم» الذي يعمل في تجارة السيارات المستعملة أن يترك واحدة مزوَّدة بالأوراق القانونية في مكان معين، بعد أن يضع المفاتيح تحت الحصيرة، وتُعاد له السيارة بعد انتهاء العملية دون أن يعلم فيمَ استُخدمت، ثم يحتاج فريق الموساد إلى «واجهة»، وهنا يؤجر «سیان» آخر حانوتًا فارغًا يملكه، ويقوم «سيان» ثالث بملئه بالحلوى والشكولاتة، وهكذا.
عُدت إلى بداية الرواية وقرأت بضعة سطور، ووجدتني عاجزًا عن التركيز فأغلقت الكتاب، أطفأت الأنوار بعد أن تأكدت من إغلاق باب المسكن ونوافذه، وأضأت نور الحمام ثم وارَبت بابه وولجت المخدع. تلمست مكان الفراش وأزَحْت الأغطية واستلقيت فوقه، تقلَّبت عدة مرات ثم التقطتْ أذناي أصواتًا مبهمة، جمدت في رقدتي، وأنصَتُّ محاولًا تحديد مصدرها، خُيل إليَّ أنها صادرة من الحديقة، قمت وأشعلت الضوء، ومضيت إلى الباب المُطل عليها فأزحت ستارته، ودققت النظر من خلف الزجاج فلم أتبينَّ حركةً ما، تأكدت من إحكام إغلاق الباب، وأسدلت الستارة ثم أطفأت النور وعدت إلى الفراش، تكررت الأصوات المبهمة، وخُيل إلى أنها صادرة عن السقف، حبست أنفاسي وأنصتُّ من جديد، تناهى إليَّ صوت كوقع أقدام خفيفة فوق رأسي مباشرة، تلاشت الأصوات بعد قليل، لكن النوم استعصى عليَّ، وانفتح الباب المألوف الذي تتسلل منه وحوش الليل.