الفصل العشرون
التصقت عيناي بشفتي «شرلي» لكني لم أستوعب ما قالته؛ لأني كنت عاجزًا عن التركيز. وظلت كلمات الرسالة التي طالعتني في الصباح ببريدي الإلكتروني تتردد في رأسي.
عبارة مثيرة أرسلت الدماء في عروقي، واقترن ذلك بشعور عارم بالارتياح؛ إذ خُيل إليَّ أنها حسمت الأمر بالنسبة لهوية المرسِل، إذا افترضنا أنه ومرسل الزهور شخص واحد. أليس انتصاب الحلمات عرضًا أنثويًّا؟ ولم ألبث أن شعرت بانقباض عندما تذكرت أن بعض النساء لا يتأثرن بمداعبة الحلمات، وأن بعض الرجال حساسون للمسها ومداعبتها.
انتبهت إلى أن «شرلي» تخاطبني: لعلك يا أستاذ لم تلاحظ أن علم «سان فرنسيسكو» وخاتمها يصوران طائر العنقاء الخرافي المصري منبثقًا من النار.
كنت قد طورت فكرة «فادية» عن المقارنة بين تاريخ «القاهرة» و«سان فرنسيسكو» إلى عرض مستقل عن كل مدينة.
اتسعت ابتسامتها وهي تضيف: وفقًا للأسطورة المصرية؛ فإن هذا الطائر الخرافي يعمِّر خمسة قرون أو ستة، ثم يحرق نفسه في نهايتها، لكنه لا يلبث أن ينبعث من رماده، وهو أتم ما يكون شبابًا وجمالًا. وهو الأمر الذي تكرر عدة مرات في تاريخ كل من «القاهرة» و«سان فرنسيسكو».
كانت ترتدي بمناسبة محاضرتها رداءً من قطعتين، وحذاءً بكعب بدلًا من الحذاء المطاطي، ووضعت طبقة واضحة من اللون الأحمر فوق شفتَيها، أبرز امتلاءهما. وفيما يبدو صفَّفت شعرها خصيصًا، وأسدلت خصلة منه فوق جبينها العريض.
قالت: إن «سان فرنسيسكو» تعرضت لكوارث عديدة منذ إنشائها في سنة ١٧٧٦م، قبل قرنين فقط، لكنها كانت تنهض من الرماد بعد كل كارثة وقد تجددت، تمامًا مثل طائر العنقاء.
جاهدت لأتابع «شرلي» وهي تستعرض الكوارث التي تعرضت لها «سان فرنسيسكو» في حياتها القصيرة. فإلى جانب الزلازل، التي وقع أحدَثُها منذ عشر سنوات فقط، احترقت المدينة عدة مرات؛ فقد كانت أغلب منازلها عشية القرن التاسع عشر من الخشب والقماش، وتضاء بمصابيح الزيت.
نفس حرف «إكس» المكرر ثلاث مرات في رأس الرسالة. من الممكن نظريًّا تتبع مصدر الرسالة، لكن هذا يتطلب خبيرًا من طراز رفيع مثل «ميجان».
حانت مني نظرة إليها، فوجدتها تتابع «شرلي» بتركيز، وهي تقشر موزة هائلة الحجم. ولاحظت أن «لاري» يسجِّل ملاحظات سريعة فوق بطاقات صغيرة نشرها أمامه، فوجهت اهتمامي إلى حديث الكوارث.
– هناك أيضًا الأزمات الاقتصادية التي بلغت حد الانهيار عدة مرات. وهو الأمر الذي يفسر الحالة النفسية لسكانها، فهم يعيشون في انتظار «الحدث الكبير» أي الزلزال الذي يتجاوز مقياسه ٧٫٥ «ريختر».
مضت تستعرض تاريخ المدينة منذ إنشائها على يد مجموعة من المستوطنين الإسبان المسلحين، حتى انهارت الإمبراطورية الإسبانية، وأعلنت «المكسيك» استقلالها في ۱۸۲۱م، فأصبحت «سان فرنسيسكو» جزءًا منها.
لكن الحكم المكسيكي لم يستمر أكثر من ربع قرن؛ إذ ظهرت «الولايات المتحدة» على المسرح. توافد أبناؤها أولًا في صورة تجار ثم تحولوا إلى مستوطنين. وهنا عرضت «واشنطون» على «المكسيك» شراء «سان فرنسيسكو» بثلاثة ملايين ونصف مليون دولار. وعندما رفضت شنَّت عليها الحرب في ١٨٤٦م وضمت المستوطنة مع «تكساس».
ولم تمضِ سنة إلا واكتُشف الذهب في «كاليفورنيا»، فضمتها «الولايات المتحدة» إليها. وتدفَّق عليها الباحثون عن الثراء من كافة أنحاء المعمورة، وتحوَّل سكانها بسرعة إلى خليط من الشعوب واللغات والثقافات.
ثم تكررت المعجزة بعد عشر سنوات باكتشاف أكبر منجم للفضة في التاريخ بنفس المنطقة. وتأهلت «كاليفورنيا» للثورة الصناعية.
لو استعنتُ بميجان أو أبلغت الإدارة، سأصبح أضحوكة الجميع. وماذا عن المباحث الأمريكية، «إف بي آي»؟ هذه لديها من الوسائل ما يمكنها من الوصول إلى شخص المرسِل مهما تخفَّى وراء مواقع وعناوين مزيفة. وبعد ذلك؟ لا أنكر أني صرت أستمتع بلعبة الرسائل المجهولة، وأتوقعها كل صباح في صناديق بريدي الثلاثة: بالمنزل والمعهد والكمبيوتر.
شرحت «شرلي» كيف وجدت الثورة الصناعية التي عرفتها «إنجلترا» في القرن الثامن عشر أرضًا خصبة في «الولايات الأمريكية الشمالية»، حيث الأراضي الغنية بالأخشاب والمواد الخام، وحيث الطموح الفردي والتنافس والصراع، وحيث الملكيات الصغيرة التي شجعت الاكتفاء الذاتي والاعتماد على النفس، فصار لكل مزرعةٍ ورشتها وأدواتها ومبتكراتها.
استورد الأمريكيون المحركات البخارية من «إنجلترا»، ثم أدخلوا عليها الضغط العالي. وقادت كل تكنولوجيا جديدة إلى غيرها؛ ساعات الحائط والبنادق إلى ساعات اليد وآلات الحياكة وهلمَّ جرًّا. وأصبحت الزراعة صناعة، وأدى كل هذا إلى اجتثاث السكان الأصليين عدة مرات؛ لإفساح الطريق أمام القادمين الجدد المتعطشين إلى الأراضي.
ولأول مرة في التاريخ صار بوسع الناس العاديين امتلاك السلع الصعبة المنال؛ ساعات، دراجات، تليفونات، راديوهات، أجهزة منزلية، سيارات. وتيسَّر كل ذلك بابتكارات في التسويق؛ الشراء بالتقسيط، الأوكازيونات، حق إعادة السلعة واستبدالها. وأدَّى الاستهلاك الكبير إلى تشجيع الإنتاج الكبير والعكس صحيح. وأصبحت «الولايات المتحدة» مهدَ الديموقراطية والمشروع. فماسح الأحذية يمكنه أن يصير مليونيرًا. ولم يكد عام ۱۸۷۰م يحل، حتى صارت صاحبة أكبر اقتصاد في العالم.
وكلبي …
ليس لها وجود في القاموس. أهي عربية بحروف لاتينية؟ كلب مَن أكون؟ إهانة أم تدليل؟ ألا يُعز الأمريكيون كلابهم وقططهم، وينفقون عليها ما يكفي نصفه لتأمين مياه الشرب لسكان العالم؟ هل يعرف الشخص اللغة العربية؟
حانت مني. نظرة سريعة إلى «فادية»، وعندما شعرت بنظرتي حوَّلتها إلى «دوريس» التي كانت شاردة كعادتها. استقرت نظرتي على يدَيها المبسوطتَين فوق سطح المائدة. كانت أناملهما ملوَّنة بلون قرمزي يجذب الانتباه إلى الامتلاء المدور أسفلهما.
وجهت اهتمامي إلى «شرلي» التي كانت تتحدث عن ازدهار «سان فرنسيسكو» في ظل النظام الأمريكي. وكيف صارت الآن من أحدث المدن وأكثرها تقدمًا تكنولوجيًّا؛ رغم أن عدد سكانها لا يتجاوز ٨٥٠٠٠٠ نسمة. حقًّا إنها لا تستطيع أن تفخر بآثار الماضي مثل «القاهرة»، لكن لديها آثار من نوع آخر ذي فائدة عملية. ففيها يقع مقر شركة «ليفي شتراوس» الذي اخترع بنطلونات «الجينز» الأزرق من قماش الخيم أثناء حُمَّى البحث عن الذهب. وبها أيضا حي «كاسترو»، الذي يتركز فيه المثليون.
أغلقت «شيرلي» كراستها، وهي تختم قائلةً: إن «الجينز» و«الكاسترو» يعبران عن المدينة؛ الاختراع، الطموح الفردي، الحلم بالفرصة الثانية الذي جذب المهاجرين من كل مكان، وفرض عليهم التعايش، ثم الحرية. بوسعنا أن نعتبر هذه السمات مدخلًا مناسبًا لقراءة المدينة، مثلما كان التدين — حسب «فادية» — هو المدخل بالنسبة ﻟ «القاهرة».
لحظت أن وجه «لاري» احمرَّ عند ذكر «الكاسترو»، وأرجعت هذا إلى انفعاله وهو يستعد للنقاش.
جذب إحدى البطاقات التي سودها قائلًا: العدد الأكبر من الحرائق التي عرفتها المدينة في مستهل تاريخها له قصة يمكنها أن تُلقي الضوء على ماضيها وحاضرها.
استعرض ظروف نشأة المدينة، وكيف اعتمد النشاط التجاري بها على البضاعة القادمة من الساحل الشرقي. وكانت هذه البضاعة تأتي بشكل اعتباطي، فلم تكن لدى تجار الساحل الشرقي فكرة عن نوع الطلب الذي ينتظرها. ولو علموا به؛ فإن الزمن الذي يستغرقه النقل في البحر حول القارتين الأمريكيتين — الوسيلة الوحيدة وقتها — قد يجعلها بلا فائدة.
لهذا اختار تجار «سان فرنسيسكو» أن يكونوا وكلاء للشاحنين الشرقيين مقابل عمولة على الأرباح. فإذا بِيعت البضاعة بسعر أعلى من التكلفة حقق الجانبان مكسبًا. أما إذا فُقدت البضاعة في الطريق أو بيعت بأقل من تكلفتها؛ تحمَّل الشاحن الشرقي الخسارة وحده، ولم يتعرض التاجر المحلي إلى أذًى.
وضع البطاقة جانبًا وتناول غيرها، وقال: ولم يلبث تجار المدينة أن اكتشفوا طريقة يحققون بها مكاسب هائلة.
توقف لحظة وهو يدير بصره بيننا، ثم استطرد: فإذا قام حريق ضخم في مخازن سلع معينة ارتفعت أسعارها. حتى أضأل السلع ثمنًا يمكن إكسابها قيمة الندرة بتنظيم حريق مناسب، ويصيح التجار مطالبين بشنق «المجرمين» بينما هم الذين دبَّروا الحريق.
عرض بالتفصيل بعد ذلك كيف جمع أربعة بقَّالون في «كاليفورنيا» عُرفوا ﺑ «الأربعة الكبار»، هم «ستانفورد» و«هوبكنز» و«كروكر» و«هنتنجتون» ثروات هائلة من الحرائق الملائمة، ثم كوَّنوا شركة لمد خط حديدي إلى الساحل الشرقي لم يتكلَّف سوى ٥٨ مليون دولارٍ، بينما حصلوا له من الحكومة على ۱۲۰ مليون دولار.
قاطعته «شرلي» بانفعال قائلةً: هذا الخط هو الذي جعل الانتقال بين الساحلين الشرقي والغربي يتم في سبعة أيام، بعد أن كان يستغرق من أربعة شهور إلى ستة. والفضل في ذلك يعود إلى ما تميز به هؤلاء الأربعة من خيال واستعداد للمخاطرة.
لم يتأثر «لاري» بانفعال «شرلي» وردَّ بهدوء: هذا صحيح. وقد جَنوا الثمار بسخاء. فبالزيادة المسروقة من الخزانة الفيدرالية شيَّد الأربعة إمبراطورية تجارية ومالية قامت على الاحتكار. بدءُوا بشراء الخطوط الحديدية الصغيرة التي كانت تربط خليج «سان فرنسيسكو» بالأقاليم المجاورة، كما اشتروا أغلب العابرات والقوارب والسفن العاملة في الخليج. وفي النهاية أحكموا قبضتهم على وسائل النقل وأسعار الشحن. وبرشوة المشرعين والساسة حصَلوا مجانًا على أراضٍ غنية بالأخشاب والتربة الخصبة. ومكَّنتهم الأجهزة التنفيذية من طرد المزارعين من أراضيهم، وتوجت عمليات الطرد بمذبحة «ماسل سلوج» في سنة ١٨٨٠م التي هيأت لهم إقامة إمبراطوريات عقارية.
توقف وأخذ يبحث بين البطاقات حتى استخرج واحدة، وقال: هناك أيضًا قدر كبير من المبالغة في الحديث عن «سان فرنسيسكو» كمدينة التسامح والتعايش؛ فقد قامت المدينة عمليًّا فوق جثث الهنود الحمر، وتعرض المهاجرون الشيليون الأوائل للاضطهاد من جانب المستوطنين البيض. وعندما اكتمل بناء خط حديد الشرق وقعت أزمة اقتصادية حادة، فألقى هؤلاء باللوم على المهاجرين الصينيين الذين عملوا في بنائه. وجرى اضطهادهم وملاحقتهم ووشمهم بالحديد المحمِي، أو قطع ألسنتهم وآذانهم وحرق محلاتهم. وتكرر الأمر بعد ذلك خلال الحرب العالمية الثانية مع اليابانيين، ثم مع السود الذين حلوا محلهم. حتى منتصف الستينيات، كانت بعض المطاعم تعلق على أبوابها لافتة «ممنوع دخول الزنوج والكلاب».
ظهرت ابتسامة غامضة على شفتي «فرنون».
قالت «شرلي» وهي تتحسس القلم بيدها من أسفل إلى أعلى: هذا كله أصبح من أمور الماضي.
أجابها لاري: الحاضر ابن الماضي وأبو المستقبل؛ ولهذا ندرس التاريخ. ما رأيك في الأب «سيرا»؟
قطبت حاجبَيها وقالت: ما له؟
– هو كما تعرفين الذي أمر ببناء «ميشان دولوريس» على ناصيتي «ميشان»، والشارع السادس عشر في ۱۷۹۱م. وتعرفين أيضًا أن له تمثالًا بقاعة المشاهير في «واشنطون»، وأن الكنيسة أعلنته من الأبرار الخالدين منذ عشر سنوات. وسيكون غالبًا أول قديس كاثوليكي في الولاية نتيجة ذلك. وربما تعرفين أيضًا أنه كان يتلذَّذ بتعذيب الهنود الحمر وشنقهم بالجملة، وكان صاحب الدعوة الشهيرة إلى ذبح كل العرق الهندي.
قالت: كيف إذن وُجد «سابك» بيننا، و«فيرنون» أيضًا؟
قال وهو يتطلع إلى الحائط الذي التصق به وجه محافظ «كاليفورنيا» الكاريكاتوري: هذا الوجود صار الآن مهددًا بعد إلغاء قانون الفعل الإيجابي.
جمع بطاقاته ومضى يرتبها، بينما أخذ «سابك» الكلمة. كان يرتدي بزة كاملة كعادته في المناسبات، تضم قميصًا مزركشًا بألوان صارخة اختفَتْ داخله سلسلة تحيط بعنقه.
قال: ليس صحيحًا أن «سان فرنسيسكو» تخلو من الآثار القديمة؛ فعلى مبعدة عدة شوارع من هنا توجد مقابر هنود «الأوهلون» الذين ربما عاصروا المصريين القدماء، لكنهم على عكس الفراعنة لم يتركوا خلفهم قلاعًا أو مبانيَ دائمة. لم يحفظوا أي سجلات لماضيهم؛ ربما بسبب تخلف حضارتهم أو انعدام الأعداء أو خوفهم من ذكر الموتى. ولحسن الحظ أن الأمريكيين يحوِّلون كل شيء إلى فرجة واستثمار. فأقاموا قرية كاملة في موقع إحدى قُراهم البائدة التي يرجع تاريخها إلى ٤٠٠ سنة قبل الميلاد. وأتاحوا لمَن يشاء — مقابل ثلاثة دولارات ونصف للسيارة — أن يشهد ويتعلم إعداد عصيدة من جوز البلوط، وتقليم رءوس السهام، وصنع الحبال والسِّلال والشباك من الحشائش، وبناء القوارب.
كان يتحدث في بطء شديد، كأنما يستعصي عليه التعبير أو يخشى الوقوع في خطأ لغوي.
– كانوا مسالمين وأنتجوا ثقافة رقيقة موسيقية وغير حربية. كانوا متخلِّفين؛ ولهذا استقبلوا المستوطنين الإسبان المسلحين في ذهول، وقد ظنوهم آلهة وخضعوا لهم بسهولة. لكنهم سرعان ما اكتشفوا الحقيقة؛ فقد اهتم الإسبان بتحويلهم إلى المسيحية وتجريدهم من أراضيهم لإنقاذ أرواحهم، وباستخدامهم في الزراعة والحصاد وتربية الماشية لتغذية أرواح الإسبان أنفسهم. وسار الحكام المكسيكيون (من البيض) على نفس المنوال، ولم يتغير الموقف بعد أن ضمت «الولايات المتحدة» المدينة إليها.
وصف بالتفصيل كيف كان يتم احتجاز الهنود في حظائر أشبه بحظائر الكلاب، لا يخرجون منها إلا للتغوط الجماعي في حُفر مفتوحة، أو للعمل الإجباري في الحقول والطواحين. فكانوا ينفقُون بعد أسابيع قليلة من الإجهاد وسوء التغذية. أمَّا مَن تمكنوا من الهرب، فكان الجنود يطاردونهم كما يطارد رعاة البقر الجاموس البري. وخلال جيل واحد تم مَحْو قراهم وتقاليدهم القديمة وأغلب أبنائهم. ورقد خمسة آلاف هندي في قبور بلا شواهد في كنيسة «میشان دولوريس» سيدة الآلام.
اختتم سابك حديثه قائلًا: «الأوهلون» ليسوا إلا قطرة في بحر من ۱۲۰ مليون إنسان في أنحاء «الولايات المتحدة» تمَّت إبادتهم عن عمد في جريمة لم يَعرف التاريخ الإنساني مثلها.
قالت «شرلي»: الأوروبيون جلبوا معهم أمراضًا جديدة دون قصد. ما حدث للهنود الحمر يُعتبر مأساة، لكن يجب اعتبارها من قبيل الأضرار الهامشية التي تواكب انتشار الحضارة.
هزَّ «سابك» رأسه عدة مرات ناحية اليمين وناحية اليسار، فسقط شعره الغزير فوق عينيه. وتخيلتها أسفل تاج من الريش.
أزاح شعره عن عينيه، وقال: قبل أن يبني «جورج واشنطون» عاصمته كان متفرغًا للاستيلاء على أراضي الهنود والمضاربة بها، وجمع ثورة هائلة. وفي عام ۱۷۸۲م وافق الكونجرس على مشروعه الذي يتلخص في خردقة الأراضي الهندية بالمستوطنين. فامتد المجال الاستيطاني من شاطئ الأطلسي في القرن السابع عشر إلى شواطئ الهادي في منتصف القرن ۱۹.
وفي ۱۸۳۰م سن الكونجرس قانون «الترانسفير» أو الترحيل القسري، فجرى ترحيل الهنود بالقوة من شرق «المسيسيبي» إلى غربه، وصار من حق كل مستوطن أن يطرد الهندي من بيته وأرضه، وأن يقتله إذا لم يستجب لصوت العقل. ووجه «توماس جفرسون» رسول الحرية الأمريكية، وكاتب وثيقة الاستقلال إلى وزير دفاعه عبارة شهيرة: «سنُفنيهم ونمحو آثارهم من هذه الأرض. إننا مجبرون على قتل هؤلاء الوحوش أو طردهم مع وحوش الغابات إلى الحدود.»
تحوَّل إلى «شرلی» واستطرد: الأمر لا يقتصر على الماضي. في سنة ١٩٧٤م اكتشفت طبيبة هندية في سجلات المستشفى الذي تعمل به في ولاية «أوكلاهوما» عمليات تعقير تجري على نطاقٍ واسعٍ للهنديات بذرائع مختلفة.
تحدَّته قائلة: لماذا لا تقول لنا كيف وصلت أنت إلى هنا؟
انفعل «سابك»، وفكَّرتُ أن أتدخل لإيقاف النقاش، لكنَّه تمالك نفسه بسرعة، وأجاب ضاحكًا: أنا لست من «الأوهلون». ولهذا بقيت على قيد الحياة.
استطرد: لكني وُلدت في معزل مخصص للهنود، وجرى على الفور ترحيلي مع غيري من الأطفال إلى معسكرات مدرسية، حيث قاموا بغسل أمخاخنا. منعونا من الحديث بلُغتنا أو ممارسة شعائرنا الدينية أو ارتداء ملابسنا التقليدية، أو تزيين شعورنا على عادة الآباء والأجداد. علمونا كيف نستمتع بمشاهد قتل الهنود في أفلام الكاوبوي. إنها الخطة التي وُضعت للتذويب الثقافي بإعادة صياغة ذاكرة الهنود ووعيهم.
التفت إلى «شرلي» وقال: هل عرفت إذن كيف وصلتُ إلى هنا؟
وقبل أن تتمكن من الرد، انتزعت «دوريس» عينَيها من النافذة، والتفتت نحوي قائلةً: هناك سؤال يطرحه هذا النقاش. المصريون والهنود الحمر تعرَّضوا للغزو الخارجي. لكن المصريين — فيما يبدو— حافظوا على أنفسهم كتلة متماسكة، بينما تم إفناء الهنود الحمر. فلماذا؟
لم تكن إذن غائبةً عنَّا.
أجبتها: المؤكد أن هناك عوامل عديدة لذلك. وفيما يتعلق بالمصريين، أريد أن أذكركم بحديثنا السابق عن خصائص النمط الآسيوي للإنتاج كما في «العراق» و«الصين». أهم هذه الخصائص هي خاصية الاستقرار التي تسمح باستيعاب الغزاة، وخاصية التجانس. كان المصريون دائمًا أمة واحدة بينما توزَّع الهنود الحمر على مائة شعب وأمة.
قالت «فادية» وهي تسوي غطاء رأسها: وماذا بشأن الفلسطينيين؟ يبدو لي أنهم معرضون للانقراض مثل الهنود الحمر تمامًا.
اعتدلت «مونا» في جلستها استعدادًا للنزال.
قلت وأنا أجمع أوراقي وأعيدها إلى حقيبتي معلنًا نهاية الدرس: هناك دائمًا شيء من التضليل في الانسياق وراء قياس التمثيل عند دراسة التاريخ.