الفصل الحادي والعشرون
قالت لي «شادويك» وهي تغمز بعينها: وضعت لك شيئًا في صندوقك.
توقفت عند عبارة كُتبت بالبنط الثقيل: «الرأسمالية تقوم على اعتبارات الربح، لا على تلبية احتياجات السكان. إن ثروات المجتمع من حقِّنا نحن العاملين. يجب أن تكون ملكنا، وأن نتشارك فيها.»
ألقيت نظرة على ساعتي، ومضيت إلى المصعد وأنا أقلِّب المنشور. طالعتني في ظهره العبارات التالية: ««كاليفورنيا» هي أغنى ولاية في أغنى بلد في العالم، ومع ذلك لا يتمتع سبعة ملايين نسمة بها بالرعاية الصحية، ولا يجد ثلاثة ملايين عملًا، وتنفق الولاية على إنشاء السجون أكثر مما تنفق على التعليم … إن ستة من أغنى مواطني «الولايات المتحدة» على رأسهم «بيل جيتس» — صاحب «ميكروسوفت» الذي يملك ٥١ مليار دولارًا — يملكون الآن أكثر مما يملك ٤٠ بالمئة من السكان؛ أي أكثر من ۱۰۰ مليون نسمة. الشركات الكبرى منذ خمسين سنة كانت تدفع نصف الضرائب الفيدرالية، وهي الآن تدفع أقل من ١٠ بالمئة، وممثلوها يسيطرون على كل مستويات الحكومة.»
أقلَّني المصعد إلى الطابق الأرضي، ووجدت «فيتز» في انتظاري أمام مدخل المبنى في سيارة «استوديوبيكر» قديمة من طراز «سيلفر هوك».
فتح لي الباب الجانبي وقال بمجرد أن جلست وثبت حزام الأمان: هل سمعت؟ سفاح المشردين وقع.
– لا، لم أسمع. ماذا حدث؟
– قبضوا على شاب أبيض حاول ذبح مشرَّد نائم في الحي الصيني. وقال للشرطة إنه مصاص دماء، وإنه يشرب دماء ضحاياه.
– هل اعترف بالجرائم السابقة؟
قال وهو يتجه إلى بوليفار «جيري»: ليس بعد. اطمئن! سيعترف.
على طريقتنا؟
كان يرتدي معطفًا سابغًا من الجلد الأسود، ويحيط جبهته بعصابة حمراء كالتي يرتديها القراصنة. طويت المنشور ووضعته في جيبي، وسألته عن رأيه في «جلوريا لا ريفا». قلَّب شفته في ازدراء، وقال: السياسيون … لا أثق بهم.
بلغنا البوليفار، فاستدار فيه يمينًا حتى الحي الياباني.
قلت: هل يمكن أن تنجح؟
قال: مستحيل. سبق أن رشحت نفسها لمنصب المحافظ منذ عدة سنوات. المجنونة رشحت نفسها أيضًا لمنصب نائب الرئيس منذ سنتين.
مضينا من أمام المركز الياباني، وعند كاتدرائية ضخمة على ناصية اتجهنا جنوبًا نحو مركز المدينة.
– سأريك أولًا «تندرلوين» الشهير، وبعد ذلك نذهب إلى اﻟ «كاسترو». لحسن الحظ أن الضباب خفيف اليوم.
لم نمضِ بعيدًا، فبعد عدة تقاطعات اتجهنا يسارًا، ومضى يطوف الشوارع الجانبية ببطء بحثًا عن مكان انتظار، وهو يربت على قطع نرد من حجم كبير تدلت من مرآة القيادة.
ولجنا شارعًا تجمع عند ناصيته عدد من الشبان السود. وعندما لمحونا أخذوا يشيرون لنا كي نتوقف. لكن «فيتز» أغلق النافذة المجاورة له واندفع مبتعدًا. وفوجئنا بعد تقاطعَين بأن الشارع مغلق للإصلاحات.
رجع بالسيارة إلى الخلف حتى التقاطع السابق، ثم انحرف فيه وهو يقول مغتصبًا ضحكة: لم أفهم أنهم يحذروننا. في هذه المنطقة يجب أن تفترض الأسوأ دائمًا.
تركنا السيارة في مكان انتظار مجاني، وانطلقنا على أقدامنا. غطيت رأسي بالطاقية الصوفية، وزررت سترتي جيدًا. أما هو فترك رأسه عارية.
ميزت مبنى المركز المدني على مبعدة، وتعرفت على ملامح المنطقة التي اقتربت منها يوم زرت المكتبة العامة. ثم فقدت كل قدرة على التمييز؛ إذ قادني في شوارع امتلأت بالحانات الرخيصة وصالونات المساج، والبقَّالين الفيتناميين، وحوانيت الأشياء المستعملة والتالفة، والشبان الذين ثقبوا آذانهم وشفاههم وحواجبهم بمختلف أنواع الحلقان، والعائشين داخل معاطفهم فوق الأرصفة. وهاجمتني رائحة بول القطط من مدخل أحد البيوت، مختلطة برائحة الكاري، وصوت أوبرا قديمة من مدخل البيت التالي. وكدت أتعثَّر في كيس نوم ملفوف مستند إلى الحائط أسفل ملصق الطفل الذي يلتهم «البرجر» بشراهة. ولاحظت أن جل الحوانيت محاط بقضبان حديدية متينة.
انحرفنا في شارع هادئ خلا من الحوانيت، امتدَّت على جانبيه بنايات سكنية من الطوب الرمادي يتدلى الغسيل فوق أسيجة شرفاتها الصغيرة. بدا الإهمال عليها كما على كل شيء في الحي. ومرت بنا عجوز آسيوية قصت شعرها على طريقة «ماو تسي تونج». وتبعتها امرأة بيضاء طويلة في «تريننج سوت» ملون تمارس رياضة الجري.
قال: الإيجارات هنا رخيصة بسبب خطورة المكان؛ ولهذا تجد أكبر تجمع لكبار السن متحصنين خلف أبواب محكمة الإقفال، أغلبهم من «فيتنام» و«كمبوديا» و«لاوس». نجوا من الحروب ليعيشوا بقية عمرهم في رعب.
تبينت من لافتة أننا نسير في شارع «لاركين»، ثم انحرفنا يمينًا في شارع «تورك»، ثم في شارع آخر ظهرت به أضواء النيون الحمراء. مررنا بعدة حوانيت للأجهزة الجنسية التعويضية. وظهرت في الواجهات أحجام خرافية منها. وكان ثمة دمية في حجم امرأة بالغة، وبجوارها لافتة تشيد بقدرة فمها المطاطي على إشباع مَن يشتريها.
حكيت له تجربتي مع حانوت اﻟ «بيب شو». قال: هل جربت «فيديو ستريب بوكر»؟
هززت رأسي نفيًا فأوضح: تضع ربع دولار، وإذا كسبت تشاهد امرأة تخلع حذاءها. وهنا يحين موعد وضع ربع جديد، وهكذا. أما إذا خسرت فلن ترى شيئًا.
توقفت أمام كهل أسود، قرفص أمام مجموعة من الكتب المستعملة وعلب البطاريات القلمية مفروشة فوق الرصيف. ووجدت صعوبة في قراءة أسماء بعض الكتب؛ إذ كان الظلام قد حلَّ رغم أننا لم نبلغ الخامسة بعد.
قال: بعد ساعة أو اثنتين يظهر القوادون ومروجو المخدرات والأشقياء والمدمنون والعاهرات من كل لون؛ بيض وسود وصفر.
لحظت فتاة سوداء رشيقة، استندت إلى الجدار وهي تدخن وتتفرس في المارة. بكرت فيما يبدو إلى العمل.
لمح اتجاه نظرتي فقال: لا تظن أن حياتها سهلة؛ فهي تعيش في رعب دائم من التعرض للقتل أو التشويه أو «الإيدز».
انتقل اهتمامي إلى سيارة جلست فوق مقدمتها فتاة شقراء بمكياج ثقيل، ترتدي جوبة قصيرة وسترة صوفية كبيرة الحجم كشفت عن صدر عامر. وكانت تضع إحدى ساقيها اللتين غطتهما جوارب بيضاء فوق الساق الأخرى.
قال «فيتز»: هل يمكنك أن ترى ما بين ساقيها؟ ارتبكت وقلت: لا.
قال: لو دققت النظر سترى خصية رجل، إنها «ترانسفستايت».
كانت الجرعة المعلوماتية أكبر من طاقتي على الفهم، ومن تجربتي في الحياة. كنت أعرف بأمر مَن يتنقلون بين الجنسين؛ بحثًا عن الوضع الأمثل أو لتصحيح أخطاء الطبيعة، لكني لم أعرف بالضبط المعنى الدقيق لهذا المصطلح الذي ارتبط في ذهني بمَن يستمتع من الرجال بارتداء الملابس النسائية.
– أمامك رجل كامل، والشعر الذي تراه ليس إلا باروكة. والصدر أيضًا مستعار؟
– لا، الثديان حقيقيان، هرمونات الأنوثة. «استروجين» و«بريمارين» و«بروفيرا». نما الثديان وبقيت الحمامة. وهذا يخرجه من دائرة «الترانسفستايت» الحقيقي. الأخير يقطع تمامًا مع ماضيه ويتخلص من الحمامة والخصية.
راح ذهني إلى «البرديسي» الذي يدعو إلى «القطع التام مع الماضي»؛ من أجل تحديث العالم العربي.
تمهلنا عند الناصية لنفسح الطريق لرجل وقور ذي شعر فضي، يرتدي ملابس كاملة بالغة الأناقة. كان يسير على مهل وهو يطوح بحافظة جلدية مسطحة. وقدرت أنه موظف في بنك أو شركة كبرى.
علق «فيتز»: زبون. أغلبهم يسعون خلف الحمام الذهبي أو «الإس إم».
قلت: «الإس إم» أعرفه، لكن ما هو الحمام الذهبي؟
بدت عليه السعادة بمهمة تثقيف البروفسور القادم من الأدغال.
قال: بعض الرجال لا يستمتعون ولا حتى ينتصبون إلا إذا تبولت المرأة فوقهم. إنهم أصحاب الضمائر المعذبة.
من جديد مررنا بالمشرَّدين المقرفصين بجوار أكواب الفكة، والمنكمشين في مداخل الأبواب مستندين إلى أكياس قمامة لامعة تضم ممتلكاتهم. ولفت نظري على الناحية الأخرى مكتبة الكتب الدينية بجوار حانوت لتأجير شرائط البورنو.
بلغنا مطعمًا صينيًّا رخيصًا بجوار دار قديمة للسينما زينتها حروف الإكس الثلاثة، فذكرتني بمراسلتي المجهولة. وأمامها انتشرت مجموعات صغيرة من الشباب، من مختلف ألوان البشرة، دسوا أيديهم في جيوب معاطفهم أو ستراتهم الجلدية، وأخذوا يتقافزون فوق أقدامهم جلبًا للدفء، وهم يتطلعون حولهم كأنما ينتظرون.
التقت عيناي بعيني شاب أسمر البشرة، انتحى جانبًا وثنَى ساقه خلفه مستندًا بقدمه إلى الحائط. كان يرتدي بنطلونًا ضيقًا من «الجينز» وصديرية من الجلد فوق «تي شيرت» أسود. ويضع في أذنه سماعة «ووكمان». حدق فيَّ بنظرة ثابتة أجبرتني على إبعاد عيني.
قال «فيتز»: الأفضل ألا تنظر إلى أحد؛ وإلا وقعنا في مشاكل. هذا الشاب يبيع جسده للرجال.
أوشكت أن أتعثر في مخلفات كلب، ثم سألته: ما الذي يدفعه إلى ذلك؟
ضحك من سذاجتي: ما الذي يدفع المومس إلى ذلك؟ الفقر والتعود. هناك أيضًا حلم التمثيل في أفلام البورنو. وهو بالنسبة للشبان حلم بعيد المنال، لا يحققه منهم إلا مَن يستطيع القذف عدة مرات.
تعرفت على مبنى «يربا بيونا» الذي حضرت فيه مع «شادويك» اللقاء مع «لا ريفا». تجاوزناه إلى حديقة واسعة خلفه. وأشار «فيتز» إلى ركن في الحديقة قائلًا: هنا رأيت لأول مرة في حياتي رجلين يتبادلان القبلات.
انتابني شعور غامض بالقلق ولم أعلِّق، سرنا في صمت في اتجاه محطة المترو، وتظاهرت بالاهتمام بواجهة حانوت للأسطوانات المستعملة، وبواجهة مسرح طليعي في بدروم بناية قديمة، ثم مررنا ببارين متجاورين أحدهما مخصص للرجال والثاني للنساء.
كأننا في المملكة السعودية!
ركبنا المترو وجلست، بينما وقف يتأمل وجهه في زجاج الباب، ويضبط العصابة التي تحيط بجبينه. كنت قد تصورت أنها جواز مرور لحي «تندر لوين»، وفكرت الآن أن «كاسترو» هو بيت القصيد.
نزلنا بعد خمس محطات، وخرجنا إلى تقاطع شارعي «كاسترو» و«ماركت». شعرت في الحال أني انتقلت إلى حي مختلف يتميز بالنظافة والهدوء. وفاجأني هذا كأنما كنت أتوقع صخبًا وعنفًا مماثلين لما تتميز به «تندر لوين»، وربما أكثر.
قلت: أول مرة سمعت فيها عن هذا الحي تصوَّرت أنه ينتسب إلى الزعيم الكوبي.
انفجر ضاحكًا وقال: «فيدل» بالذات يكره «الجييز» ويسجنهم. أما «جوزيه كاسترو» فكان من أبرز قادة المقاومة المكسيكية ضد الاحتلال الأمريكي.
مضينا على مهل من أمام حوانيت عادية، مثل أي حي عادي. ولمحت علمًا كبيرًا مرفوعًا فوق مبنًى ذي طالع رسمي. كان العلم مكونًا من خطوط متجاورة بكل درجات الألوان المعروفة. استفسرت من «فيتز» عن الأمر فقال: إنه علم الحي.
استوقفتني امرأة هزيلة القوام تعرض للبيع علب الواقي الذكري. هززت رأسي رفضًا، وعندئذ لمحت القرنين.
كانا يبرزان من رأس رجل قادم في اتجاهنا، وأسفل عباءة أرجوانية نفخها الهواء من حوله بدا عاريًا تمامًا إلا من كيلوت صغير من الجلد الأسود وبوت مماثل. وعندما حاذانا رأيت طبقة ثقيلة من الألوان فوق وجهه.
قال «فيتز» ونحن نواصل السير: الكل الآن يستعد ﻟ «الهالووين». وهم هنا يتفننون في ذلك. لو بقيت معنا حتى الصيف، سترى كيف يحتفل أهل الحي بيوم الحرية المثلية، الذي يأتي إليه الناس من كل بقاع الدنيا، ينطلقون في موكب من أمام البلدية خلف علم الحي.
لاحظت بعد قليل أن برد الخريف لم يفلح في كبح الرغبة في التعري، حتى الذين اضطروا لارتداء معاطف سابغة كانوا يكشفون خلال حركتهم عن سواعد غطتها الوشوم وسيقان جديرة بالتأمل.
كان هناك جوٌّ من الحيوية الجنسية لا يمكن إخطاؤه. وكأنما شعر «فيتز» بتيار تفكيري؛ إذ قال: اليمين المسيحي والمحافظون يهاجمون الحي بصورة مستمرة. هم لا يكرهون «الجييز» لما يفعلونه في السرير، ما يستفزهم هو أن «الجييز» يستمتعون بذلك.
سكت برهة ثم قال: حادث «ماثيو شبرد» كان فظيعًا، لكن «الجييز» لم يفعلوا شيئًا لمقاومة الحقد. إنهم موزَّعون على الأيديولوجيات السياسية والعرقية، ولا يناضلون ككتلة واحدة من أجل حقوقهم.
بلغنا مقهى «فلور» الذي يحتل ناصية شارعين أخذَا شكل المثلث. ولجنا حديقة محاطة بسياج من الزجاج، امتلأت بالجالسين من الرجال والنساء أسفل المدافئ الضخمة، وأنوار النيون الساطعة. وتناهت إلينا من الداخل أصوات عالية وضحك وموسيقى معدنية ثقيلة.
جلسنا في الخارج إلى مائدة يتوسَّط سطحَها حامل صغير لنموذج من علم الحي. طلبنا من فتاة بيضاء ذات ملامح آسيوية جميلة حساء عدس، مع بيرة لي وعصير جزر له.
قال «فيتز» وهو يخلع سترته الجلدية: بعد عودتي من «فيتنام» تعرفت بواحدة مغرمة ﺑ «البونداج». عندما قيدتني أول مرة، وجدت نفسي مستمتعًا، لا من جراء الخوف وإنما من إدراكي أني عاجز عن الحركة والقيام بأي شيء. هل تفهم ما أعني؟
أطرقت برأسي. كنت أفهم جيدًا.
قال: الذكر مطارد بضرورة الأداء، الأنثى أيضًا. لكنها تستطيع أن تخفي مشاعرها بعض الشيء، وأن تتظاهر بالاستمتاع. لعنة الذكر أنه مكشوف.
تطلع حوله وقال: أروع شيء أن ترقد مستسلمًا دون أن تكون مضطرًّا لعمل شيء.
كنت على وشك أن أقول له إنه حلمٌ مشتركٌ لا بيني وبينه فقط، وإنما ربما مع أغلب الرجال. ثم أدركت أن هذا التصريح قد يورطني فيما لا أحب.
أحضرت لنا النادلة العدس، وقطعتين من الخبز. استطعمت الحساء على الفور وارتشفته في شهية وأنا أتأمل مجموعة قريبة من شابين وفتاتين، محاولًا إدراك طبيعة العلاقات التي تربط بينهم. ولم يلبث أحد الشابين أن انصرف برفقة الفتاتين. ومدد الشاب الباقي ساقَيه على مقعد، وأخذ يفك خصلة شعره المربوطة على هيئة ذيل حصان، ويعيد ربطها من جديد. ثم لفت نظري رجلان جلسا متواجهين إلى يميني. كان أحدهما شابًّا أشقر في العشرين، بينما كان الثاني في الأربعين أو الخمسين، أبيض البشرة، أسود شعر الرأس ويرتدي «بونشو» مكسيكي من الصوف. كان ممتلئ الجسم طويل القامة ذا ملامح ذكورية وسيمة، وكان الاثنان يأكلان من طبقَي سلاطة خضراء في صمت.
لاحظت أن ملامح الشاب جامدة وحركاته بطيئة وآلية. وعندما رمقتهما مرة أخرى كان الرجل ذو «البونشو» يدفع الحساب، ثم نهض واقفًا. وتبعه الشاب وهو يجذب سُوستة سترته الجلدية ليغلقها. ويبدو أن السوستة استعصت عليه؛ إذ خف الرجل إلى مساعدته، ومدَّ يده إلى بداية السوستة قرب منفرج الشاب. ولحظت أن يده تمهلت قليلًا وهو يتأمل الشاب باسمًا، ثم أحنى رأسه وقبَّله في شفتيه. لم يعنَ بأنظار الآخرين، ولا تطلَّع إليه أحد فيما عداي. ولم يظهر أي تعبير على وجه الشاب، وفي هذه اللحظة أدركت أنه مخدر.
كان «فيتز» مستغرقًا في دراسة الشاب الجالس الذي يعقد خصلة شعره. ولاحظ اهتمامي بالرجلين، فتحول بجسده ناحيتهما، وراقبهما حتى انصرفا. ثم استدار نحوي وفرج ساقيه على سعتهما وهو يتطلع إليَّ في تركيز.
احتفظت بعيني في مستوى عينيه الزرقاوين، وقلبي يدق في شيء من الخوف. وعرفت في هذه اللحظة ما تشعر به الفريسة أمام الصياد.
فصل المدرسة الابتدائية الأرض الحجرية الباردة. الشرفة الصغيرة ذات المشربية، مدرس اللغة الإنجليزية الذي يسكن قريبًا من منزلنا، عيناه الصفراوان الدامعتان دائمًا خلف نظارة طبية سميكة. ساعده الأيمن المشلول وأصابع يده القابضة دائمًا على صحيفة مطوية. يكتب باليسرى ويضربنا بها على ظهر الكف بسن المسطرة. الصفوف الخلفية للطلبة كبار السن أو الذين تكرر رسوبهم. بعضهم بشوارب خفيفة وأغلبهم في بنطلونات طويلة، وأنا ما زلت بالبنطلون القصير. أحدهم يدعوني إلى الجلوس بجواره. يشعرني هذا بالأهمية، أعطانا المدرس ظهره ورفع يده اليسرى ليكتب على السبورة. وتناول جاري يدي الصغيرة ووضعها فوق قضيبه المنتفخ. وكانت هناك ابتسامات تشجيع من الجالسين في الخلف. ما حدث بعد ذلك غير واضح. هناك زيارة قام بها المدرس لمنزلنا، وأخرى قام بها أبي للمدرسة، ثم علقة ساخنة تعرض لها الولد في طابور الصباح واختفى بعدها.
سألته عن جيراني وعن شكاواهم مني. ضم فخذيه واعتدل في جلسته، وهو يجول بنظراته بين الحاضرين. قال: إنه لم يسمع منهم شيئًا جديدًا. وتلكأت نظراته عند صاحب ذيل الحصان.
حدثته عن تليفون «مصرايم» الغامض، فضحك قائلًا: هذا هو «هوبس»، يحب دائمًا مداعبة مستأجري مسكنه.
ذكرت له أمر الرسائل والورود التي أتلقَّاها، فقال في غير مبالاة: «أمريكا» هكذا. الوحدة الشديدة والعزلة التي يعيش فيها الناس تدفعهم للقيام بأشياء غريبة.
سألته مترددًا: هل تعيش وحيدًا؟ أقصد هل لديك …؟
قاطعني: أسرة؟ كلَّا.
تطلع في ساعته وقال: لن أستطيع توصيلك إلى منزلك. سأصِف لك الطريق، ويمكنك أن تذهب سيرًا على الأقدام، أو أستدعي لك سيارة أجرة. تذكَّر أن تؤمن بابها جيدًا.
قلت: لماذا؟
قال: يمكن لأي لص أن يهاجمك عند إشارات المرور.
قلت: إني أفضِّل السير؛ فأرشدني إلى الاتجاه الذي أتبعه في الشارع السابع عشر. تركته جالسًا بالقرب من الشاب صاحب ذيل الحصان، وخرجت إلى الطريق. ضغطت طاقيتي فوق رأسي ودسست يدي في جيبَي سترتي وانطلقت.
حرصت على السير في منتصف الرصيف بعيدًا عن مداخل البيوت والحوانيت، وعلى تجنُّب التحديق في أحد. سِرت بعض الوقت خلف فتاتين سوداوين أحاطتا خصرَيهما بساعدَيهما، ثم تركتهما عند الناصية واتجهت شمالًا في الطريق إلى بوليفار «جيري». كدت أصطدم برجل أسود اندفع نحوي وهو يوجه الشتائم بأعلى صوته، وشممت رائحة الخمر قبل أن أجرى مبتعدًا.
لم يعبأ الرجل بي، وواصل طريقه وهو يصيح ويسب بأعلى صوته. توقفت عن الجري وأنا ألهث وتطلعت خلفي. لم أجد له أثرًا ولمحت سيارة أجرة فأشرت إليها.
كان السائق أسمر البشرة، وعانيت صعوبة في فهم لهجته. كررت عدة مرات اسم شارعي إلى أن استوعبه بعد أن عطشت حرف الجيم، وقاد السيارة في صمت خُيل إليَّ أنه مشوب بالتوتر.
بلغنا شارعي بعد عشر دقائق. أوقف السيارة على الناحية المقابلة المنزلي قائلًا: سأطلب منك النزول هنا لأواصل في هذا الاتجاه.
أعطيته ستة دولارات، وغادرت السيارة. عبرت الشارع المهجور، وفتحت الباب الخارجي. وجدت باب مسكني مفتوحًا على مصراعيه ومصباح الصالة مُضاء.
وقفت مأخوذًا برهة عاجزًا عن الحركة. أنصت لأي صوت في الداخل، فلم أسمع غير موسيقى الطبول لدي جيراني. شعرت بقليل من الاطمئنان، فكرت أني ربما نسيت إطفاء النور وإغلاق الباب عندما غادرت المنزل في الصباح.
تقدمت في خطوات حذرة وقلبي يدق، طُفت بأرجاء المنزل، فلم أجد شيئًا غير عادي. عدت إلى الباب فأغلقته بقُفليه. مضيت إلى الحمام فتبولت وغسلت يدي، ثم أسرعت إلى جهاز الكمبيوتر فشغلته. ضغطت على أيقونة البريد الإلكتروني، واستعرضت قائمة محتوياته. كانت تتألف من المجموعة المعهودة التي تُغِير على البريد رغم كل وسائل الحماية من مبتكرات حماية جديدة، ومزايا موهومة الأنواع من بطاقات الائتمان، ووعود بأرباح فورية بمئات الألوف من الدولارات إلى عروض مغرية من مواقع البورنو.
ألفت أن أزيل كل هذه الرسائل بانتظام خوفًا من الفيروسات، ولانعدام ثقتي في وعودها. ولم يفُتَّ ذلك في عضد أصحاب مواقع البورنو بالذات. ولعل الحيرة أصابتهم في شأني، فجربوا معي المواقع المتخصصة؛ بحثًا عن لوني بين ألوان قوس قُزح؛ الأثداء الكبيرة في حجم كرة القدم، الصغيرة في حجم الليمون، الشقراوات والسوداوات والصفراوات واللاتي لا لون لهن، الواعدات بمتعة لم يسبق لها مثيل من أفواههم أو في مؤخراتهم، المثليون والمثليات، الخاضعات والمسيطرات، التلميذات، الأطفال، المحارم، الكلاب والجياد والقرود، السياط والسلاسل، ربات البيوت، والمشاهير.
كنت أُمنِّي النفس بسيجارة أدخنها في الحديقة، لكن المطر لم يتوقف فقررت التمرد. دخلت الحمام وأغلقت بابه عليَّ، ثم واربت المصراع الزجاجي لنافذته، وجلست فوق قاعدة المرحاض، وأشعلت سيجارة. طالعتني صورتي في المرآة المواجهة، وتناهى إلى سمعي دق الطبول لدى جيراني. كنت قد لاحظت أنهما يديران هذه القطعة الموسيقية بالذات مرة في الأسبوع قبل ميعاد النوم، وخطر لي أنها ترافق عزفًا من نوع آخر، وأنهما قد يكونان الآن في أحضان بعضهما البعض.
في أي وضع؟ وأي لون من ألوان الطيف؟
وأيها لوني؟