الفصل الثالث والعشرون
أثبتت نصيحة «شادويك» بشأن جدول محاضراتي فائدتها؛ إذ مكنتني من تلبية دعوة للاشتراك في اجتماع المركز التعاون من أجل السلام في الشرق الأوسط في «نيويورك».
وصلت مطار «لاجارديا» بعد خمس ساعات من الطيران.
واستقبلني اثنان من أعضاء المركز: شاب يهودي/أمريكي من أصل عربي، وصديقته أو زوجته الفلسطينية/الأمريكية السمراء. أقلَّتْني سيارتهما عبر شوارع متوهِّجة بالأنوار، تكدست بها أكياس القمامة السوداء، وتدوي بها طول الوقت صفارات سيارات الشرطة والاسعاف.
كان «بن» شابًّا لطيفًا ودودًا وكانت زوجته «هناء» بالغة الرقة. أخذت تشرح لي معالم المدينة إلى أن اكتشفت أني زرتها من قبل، فسألتني عن حياتي في «سان فرنسيسكو». حكيت لها ظروف سكني، وكيف أذهب إلى المعهد سيرًا على الأقدام. سكتت فترة ثم سألتني عمَّا إذا كنت أعرف قيادة السيارات. أجبت بالإيجاب. وبعد عدة دقائق سألتني عما إذا كانت لديَّ سيارة في «القاهرة».
تكرر هذا النسق طوال الطريق إلى منزلهما، تسألني عن شيء بطريقتها الهادئة الناعمة. وبعد مدة توجه سؤالًا يستكمل إجابتي، وهي تتأملني من خلف نظارة طبية خفيفة الدكنة. ولم ألبث أن شعرت أن كل كلمة أو حركة تبدر منها معدَّة سلفًا، وأن مخها يعمل طول الوقت في حساب الخطوة التالية. أما «بن» — الذي تولى القيادة — فلم يوجه لي إلا عبارات قليلة، ولم يسألني عن شيء.
توقفت السيارة أمام مبنًى سكني في منطقة عربية بحي «بروكلين». حملت حقيبة السفر اليدوية وانتظرتهما حتى أودعا السيارة جاراجًا قريبًا. وجدت نفسي بجوار حانوت للكتب صُفت في واجهته روايات «نجيب محفوظ»، وأشعار «فاروق جويدة»، وكتب «أنيس منصور». وزُينت الجدران الداخلية بصور «عبد الوهاب»، و«فريد الأطرش»، و«عبد الحليم»، و«أم كلثوم». أما الواجهة فاحتلتها صور «راغب علامة»، و«عمرو دياب» في إعلانات عن حفلاتهما.
تقدماني إلى مسكن صغير بالطابق الثاني يتألَّف من حجرتين وصالة، تميَّز بالبساطة والأناقة والترتيب. أعطياني الغرفة الأصغر التي تواجه مخدعهما. اغتسلتُ ثم انتقلت إلى الصالة، وجلست في مواجهة لوحة كبيرة من النقاط الملوَّنة تمثل مدينة «القدس»، وأحضرت لي «هناء» كأسًا من النبيذ، بينما انهمك «بن» في إعداد «بيتزا» أكلناها في المطبخ حول مائدة خشبية صغيرة وأنيقة.
لاحظت أن العلاقة بينهما بالغة التهذيب؛ فهما يتكلمان بصوت خافت، ودون انفعال كما لو كانا حديثي التعارف أو مجرد أصدقاء. ولم أتأكد من أنهما على علاقة حميمة إلا عندما رأيت يده تداعب قدمها وتتحسَّس ساقها.
سألتني «هناء» عن السبب الذي دعاني للاعتذار في البداية عن عدم الحضور. قلت: إن موضوع الاجتماع وهو «المتغيرات الثقافية بالعالم العربي في ظل الخصخصة» موضوع واسع يتطلب متخصصين لست واحدًا منهم.
قالت: وهذا هو بالضبط الهدَف من اجتماع الغد؛ تعيين المتخصصين الذين سيساهمون في ورشة العمل.
أضفت بعد لحظة: هناك أيضًا تمويل مؤسسة «كورد» للورشة المزمعة؛ فهو سيثير نفور الكثيرين بسبب سمعتها.
أطرق «بن» برأسه قائلًا: الحقيقة أن هذا الأمر كان موضع مناقشات حادة بين أعضاء المركز؛ إذ اعترض كثيرون عليه. المشكلة أننا بلا تمويل ذاتي، ونعتمد على المساهمات الخارجية من الأشخاص والمؤسسات.
عرض عليَّ ملفًّا بالتبرعات التي تحصل عليها المنظمة، ومصادرها من مؤسسات مختلفة. ولمحت قائمة بأعضاء مجلس الإدارة فتصفحتها. توقفت عند أحد الأسماء، وتذكرت صاحبته على الفور.
كانت «جنيفر هندرسون» تعمل في مكتب استعلامات السفارة الأمريكية بالقاهرة من عشر سنوات أو أكثر، وزارتني لتعرض عليَّ دعوة للقيام بجولة في «الولايات المتحدة» تستمر شهرًا. وكنت سأذهب لولا أن «حلمي عبد الله» أغار على المنحة في إحدى زياراته الخاطفة ﻟ «القاهرة».
حكيت لهما القصة فلم يعلقا بشيء. وانشغلت «هناء» بالبحث عن شريط فيديو حتى وجدَته، فوضعته في الجهاز، وهي تقول: يمكنك الحصول على منحة من «فولبرايت» لو أردت.
حمل الفيلم اسم سفينة تُدعى «أمستاد» أقلَّت الأفارقة الذين اصطادهم تجار العبيد الأمريكيون. وفي الطريق ثار الأفارقة واستولوا على السفينة. لكن جهلهم بطريق العودة مكَّن الأمريكيين من استعادة سيطرتهم، وقادوا السفينة بنجاح إلى الشاطئ حيث جرَت محاكمة المتمردين.
أعلنت رغبتي في النوم بعد انتهاء الفيلم، واستغرقت في نوم عميق إلى أن أيقظتني رائحة القهوة التي أعدها «بن». أفطرت وأنا أتصفح عناوين «النيويورك تايمز» … اقتراح توبيخ الرئيس «كلينتون»؛ لكذبه أمام القضاء، يوم الهولوكست العالمي … الذهب النازي في سويسرا … أصحاب المساكن يضاعفون حملتهم من أجل تغيير القوانين التي تحُول دون زيادة الإيجارات … دعوة للتبرع لأطفال «اسرائيل» الجوعى.
قرأت تفاصيل مصرع أستاذ جامعي نزل في منتصف الليل؛ بحثًا عن سجائر. ودخل بقالية مفتوحة، فوجد شابًّا يهدد صاحبها بمسدس. وعندما شعر الشاب بالأستاذ التفَتَ نحوه، وأطلق عليه الرصاص.
عثرت في ركن على خبرين من «سان فرنسيسكو» قرأتهما باهتمام. الأول عن عمدة المدينة الذي تعرَّض لمقذوفات من الفطائر، قامت بها جماعة تُسمي نفسها «كتيبة الخبيز البيوتكنولوجية». وأعلنت الجماعة أنها تريد جذب الانتباه إلى مشكلة المشرَّدين. وكان الثاني عن شرطي عثر في الواحدة صباحًا على مشرد عمره ۳۱ سنة نائمًا في مخيم «ألامیدا»، إحدى الضواحي، فأيقظه. وهبَّ الشاب مذعورًا، وهو يمد يده دفاعًا عن نفسه، فأطلق عليه الضابط النار في مقتل.
غادرتنا «هناء» لبعض شئونها. وأبدت أسفها؛ لأني لن أبقى للغد لتصحبني في جولة بالمدينة. حملت حقيبتي وأقلني «بن» بسيارته إلى مقر المنظمة. استقبلني شاب سوري وفتاة أمريكية بيضاء، سمينة ومرحة. وتعرفت إلى الأمينة المنتخبة حديثًا، وهي يهودية أمريكية، وإلى سيدة خمسينية ضخمة بوجه منتفخ ترأس مكتب مؤسسة «كورد» في «مصر»، ثم ولجنا قاعة صغيرة توسَّطتها طاولة طويلة التف حولها المشاركون.
بدأ الاجتماع على الفور ورأسه «لندساي»، وهو أستاذ لتاريخ الشرق الأوسط، بدأ حياته شيوعيًّا وكتب عن مصائر اليهود المصريين وعن الإسلام السياسي. كان قد خلع سترته وشمَّر كُمَّي قميصه عن ساعدين مفتولين، ولم يُضيِّع وقتًا.
قال: إن الهدف من الاجتماع هو الإعداد لورشة عمل في السنة القادمة، ستبحث خمس نقاط هي: أثر الإنفاق الحكومي على العمل الثقافي، وعلى استقلالية المثقفين. نظرة المبدعين العرب إلى أنفسهم وإلى دورهم. تأثير انتهاء الحرب الباردة على التعبير الثقافي وعلى المبدعين اليساريين بوجه خاص. تأثير تنامي الأصولية الإسلامية على التعبير الثقافي. التطبيع الثقافي مع «إسرائيل».
نقلت البصر بين الجالسين. كنت أعرف بعضهم بالاسم، والتقيت باثنين منهم على الأقل من قبل في «مصر» والخارج. إحداهما مصرية سمراء دقيقة الحجم، تقيم بالولايات المتحدة، نسيت اسمها. وكان أغلبهم من جيل واحد يصغرني بعقدين أو عقد ونصف، ويحملون درجات علمية عالية في تخصصات مختلفة، وممَّن يوصفون بالراديكالية، ويعرفون اللغة العربية، فيستخدمون كلمة منها بين الحين والآخر.
بدأ النقاش حول أهداف الورشة المقترحة، والجمهور الذي تتوجَّه إليه. ونوَّه «لندسای» بأهمية التركيز على الجوانب العملية.
تدخلت ممثلة «كورد» قائلةً: لن نقول للمبدعين العرب ما يجب أن يفعلونه، ونحن لا نشجع أي اتجاه فكري أو فني.
وقبل أن تنتهي من حديثها، تلقَّت هزات رأس متفهمة من أستاذة للعلوم السياسية، لها دراسة معروفة عن العلاقة بين الخطاب الرسمي والممارسات الثقافية في سوريا.
اعترضت المصرية مطالبة بموقف واضح مما أسمته «فساد التوجهات الثقافية للعهد الناصري».
تذكرت اسمها؛ إذ سبق أن أثارت ضجة بكتاب لها عن «الإسلام وكتابة الجسد».
انتقل النقاش إلى نقطة جديدة، وتابعت بإعجاب أسلوب «لندساي» في إدارة الاجتماع بكفاءة واقتدار.
أخذنا فسحة قصيرة فهرعوا إلى مائدة صغيرة في المدخل، صُفت فوقها زجاجات المياه، وأواني القهوة والشاي، وبعض الساندوتشات والفطائر. وتبادلت الحديث مع أستاذ شاب في التاريخ المقارن بإحدى جامعات الجنوب يُدعى «روجرز» ذكر لي أنه يعمل في بحث عن «التأسيس الاستعماري والقومي للخطاب الجمالي في مصر القديمة».
استغرقت بعض الوقت في محاولة استيعاب مدلول العنوان الطويل، وخفَّ هو إلى نجدتي قائلًا، وهو يضع يده على ذراعي: لا تراعَ؛ إنه مجرد عنوان ولا أعرف بعدُ ما سأكتبه تحته.
ضحكنا وقدَّمني إلى زميلة له ذات وجه نحيف وعينَين غائرتَين، متخصصة في الأنثروبولوجيا، قائلًا إنها تعد دراسة كبيرة عن طرد اليهود من «مصر».
استفسرت: الأسطورة القديمة أم الحديثة؟
ابتسمت: الخمسينيات.
أنقذني «لندساي» من جدل لا طائل من ورائه؛ إذ دعا الجميع إلى الطاولة.
دار النقاش المركَّز حول الاعتبارات العملية؛ المدى الزمني للتحضير، ولانعقاد الورشة ذاتها، طبيعة البحوث المطلوبة والرحلات الميدانية. ثم انتقل إلى تحديد مكان عقد الورشة. وقالت المصرية: إن المكان المقترح هو «القاهرة»، لكنها تشك في أنه يمكن أن يحفز المصريين على الاشتراك، واقترحت عقدها في «إيطاليا» أو «إسبانيا».
بدا أن الجميع يميلون للأخذ بهذا الرأي، فانتقل النقاش إلى تحديد الشخصيات التي ستوجَّه إليها الدعوة.
أخذ «لندساي» يستعرض الأسماء المرشَّحة. بدأ ﺑ «البرديسي» وأكاديمي مصري معروف بالدراسات الإسلامية، وآخر متخصص في تاريخ الفنون يقيم في «الولايات المتحدة»، مخرج مسرحي مصري يقيم معظم الوقت في «فرنسا»، ومخرج سينمائي سوري ذي شهرة عالمية، مفكر لبناني يساري، عالمة اجتماع أردنية، اشتُهرت بكتاباتها عن قهر المرأة، أديبة لبنانية تكتب بالفرنسية والإنجليزية، مدير فلسطيني لمركز دراسات بالأراضي المحتلة.
تأملت الجالسين الذين نجح «لندساي» في تعبئتهم، وبث فيهم النشاط والحماس. كانوا يتحدثون في تركيز واختصار، وهم يفتحون أقواسًا في الهواء بأصابعهم، بينما عيونهم معلَّقة بشِفاه السيدة المانحة.
قاومت شعورًا جارفًا بالاكتئاب، وألقيت نظرة على ساعتي. حسبت الوقت الباقي على إغلاق أبواب متحف «المتروبوليتان»، وانتبهت على صوت «لندساي» يطلب رأيي؛ فاقترحت بعض الأسماء، ثم خطر لي خاطر، فابتسمت وأنا أقترح اسم «حلمي عبد الله».
انتهى الاجتماع بعد نصف ساعة، وخرجت برفقة «روجرز» وزميل له، أعلنا رغبتهما في مرافقتي إلى المتحف.
بدا نهداها مستديرَين ومتباعدَين، وبطنها جميلة التكوين ذات لمسة حسية واضحة.
هل أرادت حقًّا أن تكون رجلًا؟
اكتشفت عندما غادرنا المتحف أن رفيقيَّ يجهلان المدينة. وبدونا مثل ثلاثة من القرويين في محطة «مصر».
سمعتهما يتحدثان عن معرض للصور يريدان مشاهدته، وخلع «روجرز» حقيبة يده المعلقة من كتفه بحزام رفيع، ثم أعادها مكانها بعد أن لفَّ الحزام حول عنقه.
قال له صديقه: ما فعلته خطَر. ألم تسمع عن الممثلة العجوز التي لقيت مصرعها في «بارك أفنيو» الأسبوع الماضي؟
لم يسمع «روجرز» بالخبر، فروى صديقه التفاصيل. كانت المسكينة حريصة، فربطت حزام الحقيبة حول عنقها لتحول دون اختطافها من يدها. وبينما هي تستعد لعبور الطريق عند التقاطع امتدت يد من نافذة سيارة وتعلقت بالحقيبة. وانطلقت السيارة فجذبت العجوز خلفها، واختنقت بحقيبتها.
خلع روجرز الحقيبة من جديد وأمسكها بيده وهو يتلفَّت حوله. وتعلقت عيناي بملصق ملوَّن يمثل طابورًا من الرجال والنساء والأطفال يتصدره عنوان كبير: «انضموا إلى المعركة ضد الأمية». وقرأت في ذيل الملصق: «في عام ۲۰۰۰م سيكون اثنان من كل ثلاثة أمريكيين أُمِّيين. هذا صحيح. فهناك اليوم ٧٥ مليون بالغ لا يستطيعون القراءة.»
ولَجنا محطة لمترو الأنفاق، وعكف رفيقاي على دراسة خارطة للاتجاهات. تبينَّا الطريق أخيرًا فاتجهنا إلى الرصيف. مررنا بشاب أسود في بزة سوداء كاملة، يعرض في أدبٍ مجلة «النداء الأخير» الصادرة عن حركة المحترم «لويس فاراخان»، فأعطيته دولارًا، وأخذت المجلة المعطرة برائحة البخور. كانت صفحتها الأولى تحمل نبأً عن حي «بروكلين» مفاده أن المنظمات السوداء والسمراء، بدعوة من الملك «تون»، قائد «منظمة الشارع للملوك اللاتين»، اتَّفقت فيما بينها على تجنُّب العنف، وعددت زاوية خاصة بعضًا من تعاليم المحترم «إيليا محمد»: السود هم شعب الله المختار، البعث يتمثل في تحريرهم، ولا بدَّ من الانفصال عن البيض بتقسيم «أمريكا» بينهم وبين ٢٠ مليون أسود. وتلا ذلك إشارة إلى نجاح الحركة في تنظيم مسيرة من مليون مسلم منذ شهور.
أقلَّنا المترو إلى «القرية»، حي المثقفين والأدباء والفنانين. تجولنا قليلًا في الشوارع المزدحمة التي تحف بها بيوت قديمة واطئة، ثم جلسنا في بار غريب اسمه «ك ج ب»، على اسم جهاز المخابرات السوفييتي الشهير، تمتلئ جدرانه بملصقات السنوات الأولى من الثورة البلشفية، وصور «لينين» بمعطفه الأسود وقلنسوته الشهيرة يخطب في العمال والجنود، وزوجته «كروبسكايا» في ملابس عسكرية.
شربنا بيرة مكسيكية، وانتقلنا إلى معرض الصور. ولجنا مكانًا واسعًا من عدة قاعات، تناثرت في أنحائها تماثيل من الزجاج، تصور لقاءً جنسيًّا بين رجل وامرأة في أوضاع مختلفة. واحتلت الجدرانَ صور فوتوغرافية ملونة، في أحجام ضخمة، تمثل ذات الرجل والمرأة في نفس الأوضاع.
طفنا بجميع القاعات على مهَل ثم خرجنا. وشرعنا نبحث عن مكان نتناول فيه طعام العشاء.