الفصل الرابع والعشرون
قدمت «ميجان» عرضًا طموحًا، توخى المقارنة بين نموذجين للتحديث من خلال ثلاث تجارب، تجمع بينها فترة متقاربة هي منتصف القرن التاسع عشر، وهي اللحظة التي كانت «الولايات المتحدة» تتحوَّل فيها بسرعة إلى القوة الاقتصادية الأولى في العالم.
قالت: إن «باراجواي» وقعت بعد الاستقلال عن «إسبانيا»، تحت الحكم الديكتاتوري ابتداءً من عام ١٨١٤م. كان أول ديكتاتور، دكتور «جاسبار دي فرانسيا»، يعقوبيًّا متطرفًا، معاديًا للملاك والبرجوازيين، سعى إلى إنشاء جمهورية المساواة، فقمَع النخبة الإسبانية القديمة، ومنع البيض من التزاوج فيما بينهم، وفرض عليهم أن يتزاوجوا مع الهنود والمولدين والسود.
وأراد خليفتاه، «لوبيز» الأب والابن، تحويل البلاد إلى «اسبارطة» متنورة، فجعلوا المدرسة الأولية إلزامية ومجانية، يرتدي معلموها ملابس رسمية. وأعطوا لكل تلميذ «فلوت»، تقديرًا لأهمية الموسيقى، وهي الأهمية نفسها التي أولتها مدارس «محمد علي» للموسيقى في نفس الفترة.
اعتمدت «ميجان» على أوراق تناثرت أمامها في غير نظام، وعندما جاء ذكْر «محمد علي» ابتسمت لي. ففي نقاش سابق بيننا أثناء تحضيرها للموضوع، تكشَّف جهلي باهتمامات «محمد علي» الموسيقية.
قالت: إن قادة «باراجواي» صمموا على بناء اقتصاد وطني، والحصول على السلاح الضروري للدفاع عنه، فاستوردوا من «أوروبا» القوارب والمحركات البخارية، ومسبكًا للحديد وأسلحة قديمة وصغيرة، ودفعوا ثمن المشتريات من حصيلة الصادرات الضئيلة، ومن قروض متواضعة. وشرعوا في مدِّ خط حديدي ووضْع أساس شبكة للتلغراف. لكن العمل سار ببُطء، بينما أثارت هذه التجربة الثورية استياء الدول المجاورة. هكذا تكوَّن في عام ١٨٦٤م حِلفٌ ثلاثي من «البرازيل» و«الأرجنتين» و«أوروجواي» نجح في سحق الوباء بعد ثلاث سنوات من المقاومة، مات «لوبيز» وابنه في نهايتها مع سبعين بالمائة من السكان.
ملأت كوبًا من القهوة من ترموس أحضرته معها، قبل أن تنتقل إلى النموذج المصري. شرحت كيف تهاوت الإمبراطورية العثمانية نتيجة العزلة الفكرية والتخلف التقني والتبعية الصناعية. وقالت: إن «مصر» وحدها — من بين أجزاء الإمبراطورية المترامية الأطراف — هي التي شذَّت عن ذلك، وانطلقت في عملية تحديث شاملة بعد أن نامت طويلًا في ظل المماليك حتى نسيت العجلة، التي سبق أن طارد بها فراعنتُها الغزاة.
أرجعت هذا التطور إلى الدور الشخصي ﻟ «محمد علي». قالت: إنه تميز بالطموح والخيال ولم يرَ في «مصر» ولاية محدودة المدة، وإنما ضيعة شخصية ومجال للنمو والتطور.
ونظر إلى هذا التطور كعملية متكاملة تشمل الزراعة والصناعة والتعليم. ولِيُحقق كل هذا استقدم الفنيين الأجانب. وكان أغلبهم من الفرنسيين، غير أنه اكتشف أيضًا «الولايات المتحدة» عندما سمع عن كثرة المخترعات الميكانيكية بها وقدرتها الفائقة على استغلال قوة البخار في الصناعة؛ فبعث يشتري منها مضربًا للأرز ومعصرة لزيت بذرة القطن مقابل حاصلات مصرية.
سددت صادرات القطن الطويل التيلة الذي ابتكره له مستشاروه الفرنسيون كلفة طموحاته الاقتصادية والعسكرية. وجاء الباقي من محاصيل أخرى، بيعت مثل القطن من خلال وكالات حكومية، الأمر الذي جنبه الالتجاء إلى فرض المزيد من الضرائب. وابتداءً من عام١٨٢٠م، انصبَّ الجزء الأكبر من هذه المداخيل في جهد تعليمي وصناعي ضخم؛ مدارس فنية وعسكرية، مصانع للنسيج والمعادن والكيماويات والحبال والسلاح والسفن (نجحت في إنزال أول سفينة تجارية حربية من صنع «مصر» في سنة ١٨٤٨م). بل سعى إلى شراء الآلات الأوروبية وتقليدها، كما فعلت «الولايات المتحدة» بالضبط قبل نصف قرن. ولتحقيق هذا الهدف احتكر «محمد علي» تصدير محصول القطن، ووضع القيود في وجه استيراد السلع القطنية الأجنبية. وأثار ذلك جنون المصالح الصناعية والتجارية الأوروبية، ففرضوا على «مصر» «حرية التجارة» في عام ۱۸۳۸م، وجردوها من الحواجز الجمركية وقيود السوق الضرورية لحماية الصناعات الوليدة.
انضمت «ميجان» بعد ذلك إلى «لاندز» في هجومه على مَن حمَّلوا الغرب مسئولية فشل مشروع «محمد علي»، معتبرًا أن المشروع برمته كان خاسرًا من الأساس. والمشكلة الأولية في رأيه تكمن في عجز «مصر» الثقافي والاجتماعي؛ فالمستثمرون المحليون كانوا نادرين وأغلبهم من الأقليات القبطية واليهودية واليونانية. والصناعة المحلية كانت تتم في حوانيت وأكواخ يفتقر أصحابها إلى المعرفة والمال والرغبة في التحول إلى الميكنة. وحده «محمد علي» تخيل إقامة مصانع في «مصر»، وأقامها بقرار سلطوي، بينما لم تكن البلاد جاهزة لثورة صناعية، شأنها شأن «باراجواي» بعد عقد ونصف عقد، وشأن «مصر» نفسها اليوم.
التجأت «ميجان» إلى إناء القهوة مرة أخرى، وراقبت شفتَيها الدقيقتين، وهما ترتشفان السائل الأسود برهافة العصفور، قبل أن تنتقل إلى الجزء الأخير من عرضها.
قالت: إن التدخل الخارجي الذي تمثَّل في فرض حرية التجارة على «مصر» تكرر مع اليابان بعد خمس عشرة سنة؛ فقد وجَّه لها الكوماندور الأمريكي «بيري» سنة ١٨٥٣م إنذارًا بفتح أبوابها أمام التجارة الدولية. وعلى عكس ما حدث مع «مصر» اعتُبر هذا التاريخ بداية تحديث «اليابان». وفي اللحظة التي تهاوت فيها «باراجواي» بعد عقد ونصف عقد أمام التدخل الثلاثي، كان اليابانيون يبنون بتركيز ونظام يتميزون بهما.
بدءُوا باستئجار الخبراء والفنيين الأجانب وإرسال العملاء إلى الخارج؛ ليجلبوا تقريرًا عينيًّا عن أحوال «أوروبا» و«أمريكا». لم يضيعوا فرصة واحدة للتعلم؛ بريد، توقيت جديد، خدمة عسكرية للجميع أنهت احتكار فرسان «الساموراي» للسلاح، ثم محت دورهم في المجتمع. هنا بدأ التصنيع.
ومنذ البداية قرَّروا تجاوز السلع الاستهلاكية إلى صناعة الآلات والمحركات والسفن والقاطرات والموانئ. ولعبت الحكومة دورها في ذلك بتمويل عمليات الاستكشاف في الخارج، وإحضار الخبراء الأجانب وإقامة المباني والتركيبات اللازمة والمشاركة في المشروعات التجارية. لكن الأهم هو موهبة وتصميم الوطنيين اليابانيين الذين كانوا مستعدين لتغيير مهنهم ومسيرة حياتهم من أجل القضية العامة، وقنعوا بأجور بائسة وعمل متواصل بلا يوم راحة. يُضاف إلى ذلك نوعية العاملين، وخاصةً المهرة منهم، الذين تشكلت مهاراتهم من خلال عمل الفريق تحت إشراف دقيق. كل هذا صنع المعجزة اليابانية.
كانت تتحدث بحماس مبرَّر. ولم تفقد هذا الحماس عندما افتتح «فيرنون» النقاش قائلًا: إن عرضها لم يوضح سر النجاح الياباني والفشل المصري؛ فالبلَدان أطلقا عملية التحديث في نفس الحقبة التاريخية تقريبًا، لكن «اليابان» تمكنت من التمثل السريع للتكنولوجيا وطرق التنظيم الاقتصادي في حين تخلَّفت «مصر».
ردت عليه معدِّدة أسباب التفوق الياباني؛ فموقعها الجغرافي حماها من التدخل الخارجي عبر تاريخها الطويل. كما أنها تمكنت من الاستفادة من التراكم المالي والمدخرات التي جُمعت في سنوات العزلة، وهو الأمر الذي حال النظام المملوكي دون حدوثه في «مصر».
ترددَتْ لحظة ثم أضافت، وهي تنقل البصر بيني وبين «فادية»: ربما أيضا الفرق في السمات الشخصية؛ فالياباني يتميز بالانضباط والتفاني في العمل. وهناك أيضًا الديموقراطية.
وجدت نفسي مدفوعًا للتدخل. لكن «لاري» سبقني قائلًا، وقد اندفعت الدماء إلى وجهه كالعادة: «اليابان» في الظاهر بلد ديموقراطي، لكنه ليس كذلك في الواقع؛ فهو محكوم جيدًا بمجموعة قليلة متداخلة من البيروقراطيين والرأسماليين وعصابات «الياكوزا» أو المافيا. هذه المجموعة لم ينتخبها أحد. ومعظم اليابانيين يعرفون هذه الحقيقة، فلماذا يقبلون بها؟ إنه سؤال يمكن توجيهه في أماكن كثيرة مثل «الولايات المتحدة» و«مصر». لماذا يطيع الناس بإرادتهم السلطة القائمة؟
جال ببصره بيننا، ثم وجَّه الحديث وجهة أخرى. قال وهو يتحسَّس قرطه: إن لديه شكوكًا كثيرة بشأن مصطلح «المعجزة اليابانية». هناك فعلًا منجزات صناعية، لكن إلى أي مدًى هي من صنع الشعب الياباني نفسه؟ ألا يجلس الكومندوز «بيري» الآن على رأس الشركات اليابانية العملاقة؟ وألا تحتل القوات المسلحة الأمريكية أكثر من ۱۰۰ قاعدة عسكرية منتشرة في الجزر اليابانية، تضم عشرات الألوف من الجنود الأمريكيين المعفيين من الخضوع للقوانين والمحاكم المحلية؟ وألا تحتفظ هذه القوات — على الطريقة الاستعمارية القديمة — بحق قمع الاضطرابات الداخلية؟ ثم ما هو الإعجاز في الأزمات المتوالية التي يعانيها الاقتصاد الياباني؟ هذا العام وحده، ۱۹۹۸م، الذي لم ينتهِ بعد، انتحر أكثر من ثلاثين ألفًا من العمال اليابانيين، أغلبهم بسبب الطرد من العمل. وحسب المصادر اليابانية أيضًا، زادت نسبة الوفيات بين العاملين بسبب العمل المفرط والإرهاق.
عقَّبت «فادية» على الجزء الخاص ﺑ «مصر»، فقالت: إن الاستشهادات التي أوردتها «ميجان» من كتاب «لاندز» محيرة؛ فهو يفترض أن التصنيع لا يمكن أن ينجح دون حماية جمركية وإعفاءات ضرائبية وحسومات على أسعار النقل، وقوة عمل رخيصة، وتسهيلات ائتمانية وسياسات تعليمية … إلخ. وهي كلها أمور لا يمكن أن توفرها حسب قوله — سوى حكومة تتمتع بنصيب كبير من الاستقلال السياسي والمالي. ومن ناحية أخرى يقول: إن تحقيق الاستقلال السياسي والمالي يتطلب المرور بالتصنيع، تمامًا مثل قضية البيضة والفرخة، أيهما أسبق؟
أعلنت عن استراحة قصيرة دعوتهم خلالها إلى شرب القهوة على حسابي احتفالًا بعيد «الهالووين». هبطنا إلى الطابق الأرضي وغادرنا المبنى من الباب الخلفي المطل على الكافيتريا. تقدمتني «ميجان» في طابور طويل، وجاهدت نفسي حتى لا ألمس مؤخرتها الصغيرة المدكوكة التي أبرزها ضيق بنطلون الجينز. وحل دوري فدفعت حساب المشروبات، بينما تعاونت «فادية» و«ميجان» في حمل أكواب القهوة إلى الآخرين. وتبعتهما على مهل وسط الزحام حاملًا قهوتي. وعندما بلغت المائدتين اللتين تحلَّقوا حولهما وجدتهم مشتبكين في نقاش حاد حول قصاصة من صحيفة أمريكية تحملها «شرلي».
ذكرت لي «فادية» أن القصاصة تشير إلى فتوى لأستاذ بجامعة «الأزهر» المصرية بشأن مرض الصرع. فهو يزعم أنه يمكن أن ينشأ عن فعل الأرواح الشريرة. ويتم شفاؤه إذا ما خاطب المعالج الروح الشريرة باسم الله، وأمرها بالخروج من الجسد الذي تلبسته.
دافعت «فادية» عن الفتوى، وانضم «فيرنون» إليها، بينما سخر منها «لاري» و«شرلي»، وتابع «سابك» النقاش باهتمام شديد دون أن يعلِّق بشيء. وتدخلت «دوريس» قائلة: إن كثيرًا من الأمريكيين يعتقدون بوجود شياطين تسكن الإنسان، وتؤكد وجودها بما يعتريه من تقيؤ وتشنُّجات في العنق، بل يمكنها أن تُنطق الناس بلغات أجنبية.
أمن «لاري» على حديث «دوريس» قائلًا: إن أبرشية «شيكاغو» عينت طاردًا متفرغًا للأرواح الشريرة، يبارك المصاب باسم «المسيح»، ويرتل فقرات من «التوراة»، ثم يأمر الروح الشريرة بالرحيل. وأضاف: هذه ظاهرة قديمة اختفت في الستينيات، ويبدو أنها عادت الآن.
أوقفتُ النقاش المحتدم طالبًا منهم الصعود لنستأنف الدرس. وانتظرت حتى تقاطروا في بطء نحو الباب ثم تبعتهم. وعندما تجاوزت المدخل لمحت ملصقًا صغيرًا في حجم صفحة الكراس مثبتًا في لوحة إعلانات. تألَّف الملصق من صورة فوتوغرافية لرأسين حليقين متقاربين.
ظننت في البداية أنهما لفتاة سوداء وشاب أبيض إلى أن تبيَّنت الرموش الطويلة في الرأس الأبيض وملامحه الأنثوية، ثم أعدت قراءة العنوان: «رقص كويير». تذكرت أن «كويير» هو أحد المصطلحات التي تُطلق على المثليات، فأعدت تأمل الملصق. كان يحمل في أعلاه عنوانًا لموقع على «الإنترنت». وظننت أن في الأمر مزحة إلى أن قرأت في الأسفل اسم القاعة التي سيُعقد بها الحفل وتاريخه.
عدت أتأمل الصورة في فضول. كانت الفتاة السوداء عارية الكتفين. والأخرى أيضًا فيما يبدو وإن لم يظهر منها غير عنقها. خالجني انطباع بأن السوداء أطول قليلًا من البيضاء رغم تقارب رأسَيهما، ثم تبينت السبب؛ فقد كانت عيناها متجهتين إلى أسفل، إلى شفتَي الفتاة البيضاء التي ثبت قرط في إحداهما، بينما أحاطت رأسها بيد امتلأت أصابعها بالخواتم. وبدت الأخرى مستسلمة خاضعة تتأمل مترقبة شفتي السوداء المنفرجتين. كان في هيئة السوداء نوع من الاعتداد والسطوة، بينما بدت البيضاء خاضعة مستسلمة.
لمحت ملصقًا مماثلًا في طرف اللوحة، فانتزعته وطويته ووضعته في جيبي. وصعدت إلى قاعة المحاضرات.
قمت بتقديم «مونا»، فذكرت أنها وعدتنا بدراسة عن مذبحة «دير ياسين» الفلسطينية، وأنها غيَّرت رأيها، وفضلت أن تتناول مذبحة أخرى مصرية، جرت في قرية «دنشواي» بعد ربع قرن من الاحتلال الإنجليزي ﻟ «مصر».
تناولت «مونا» نظارة قراءة من حقيبة يدها وضعتها فوق أنفها، ثم قرأت من كراستها تفاصيل الحادثة المشهورة.
ففي ١٣ يونيو ١٩٠٦م خرج خمسة من ضباط الجيش الإنجليزي للصيد في قرية «دنشواي»، فجاس بعضهم خلال أجران القمح، وأطلقوا رصاصهم على بعض الحمام، فأصابوا زوجة المؤذن. كما أصابوا جرنًا يملكه فاشتعلت فيه النيران. أهاج ذلك الزوج وبقية الأهالي، فهاجموا الضباط وتولى الغفر تجريدهم من أسلحتهم، واحتجازهم بينما تمكن ضابطان من الفرار. كان أحدهما جريحًا في رأسه، وبعد أن جرى عدة أميال في حر الظهيرة وقع أرضًا. وعثرت عليه سرية بريطانية ميتًا، وبجواره قروي يحاول إسعافه ببعض الماء. اعتقد الإنجليز أنه القاتل، فضربوه حتى الموت بكعوب البنادق.
تحرك الجهاز الإداري بسرعة، وألقى القبض على مئات من الأهالي، وقبل انقضاء سبعة أيام على الحادث تشكلت محكمة خاصة، وحُدد لانعقادها يوم ٢٤ يونيو. كان أغلب أعضائها من الإنجليز، ولم يكن بها من المصريين إلا «بطرس غالى» وزير الحقانية رئيسًا للجنة، وأحمد فتحي باشا زغلول شقيق «سعد زغلول»، الذي تزعَّم الثورة بعد ۱۳ سنة. وقدمت السلطات للمحاكمة ٥٢ متهمًا طالب الادعاء بإعدامهم.
وبعد ثلاثة أيام صدر حكم المحكمة بالإعدام شنقًا لثلاثة، وبالأشغال الشاقة المؤبدة لاثنين، وبمُدد متفاوتة لثمانية، وبالجَلد خمسين جلدة لخمسة، على أن يتم التنفيذ في اليوم التالي دون مجال لمراجعة الحكم أو تخفيفه.
نُصبت المشانق في القرية، وتم إعدام المتهمين على مرأى ومسمع من زوجاتهم وأبنائهم. وعرَتِ البلاد كلها صدمة كانت بمثابة نقطة التحول في تاريخ الاحتلال البريطاني؛ إذ انتهت بها فترة من السلام والهدوء لتبدأ مرحلة من النضال المستمر ضده.
وضعت «مونا» نظارتها من جديد، وعادت إلى كراستها قائلةً: اهتم «بيليد» بالأعمال الأدبية التي تناولت المذبحة، ومنها قصيدة مشهورة للشاعر «صلاح عبد الصبور» يقول فيها: «شبَّ «زهران» قويًّا ونقيًّا/يطأ الأرض خفيفًا وأليفًا.» أكد «بيليد» أن «زهران»، طبقًا لمحضر الحادث، كان مجرمًا موسمیًّا ذا تاريخ طويل في خرق القانون، ووصفته المحاضر بأنه زعيم العصابة الذي حث القرويين على الإساءة إلى الضباط.
واستشهد «بيليد» بقصة أخرى هي «عذراء دنشواي» ﻟ «محمود طاهر حقي»، نُشرت بعد ثلاث سنوات من الحادث. وتصوِّر القرية على أنها موطن صراعات وعداوات بين أهلها، تجعل سوء النية وحب الانتقام دوافع قوية وحقيقية لسلوكياتهم. وطبقًا للقصة فإن بعض المتهمين أدانتهم شهادات كاذبة لمواطنيهم. كما أن وكيل النيابة «إبراهيم الهلباوي» كان شرسًا في هجومه على القرويين، وأبدى خضوعًا تامًّا للبريطانيين، معبرًا عن مصري طموح مصمم على إرضاء سادته. وقدر «بيليد» أن القصة تصور الطموح الفردي على أنه مصدر مأساة «مصر»، كما تصور الغياب التام لروح الأخوة والتضامن القومي بين المصريين.
مدت يديها إلى نظارتها فخلعتها، وأغلقت الكراسة، وتطلعت إليَّ بثبات وبشيء من التحدي.
كنت معتادًا على ردود أفعال الطلاب ومحاولات إثبات الذات الساذجة. وكنت أعتبرها مقياسًا لتفاعلهم مع دروسي، ودليلًا على نجاحي.
قلت في هدوء: هناك نقطتان: النقطة الأولى هي حق المؤرخ في التشكك والتمحيص وتصحيح الوقائع. أنا معه مائة في المائة. وسترون كيف عانيت أنا شخصيًّا من جراء تمسكي بهذا الحق. وعلى المستوى الإنساني البحت لا يمكن إنكار العداوات المحلية والعائلية، وهي موجودة في كل مكان في العالم. وبالمثل لا يمكن إنكار ما يؤدي إليه العنف المفرط من جانب المحتل من استكانة المحتلِّين وخنوعهم لبعض الوقت، وهي ظاهرة عرفتها جميع الشعوب. وكون «زهران» كان مجرمًا موسميًّا لا يغير من حقيقة ما حدث، فضلًا عن أن هذا النوع من الإجرام شديد الالتباس، إذ إنه غالبًا ما يكون مختلطًا بأشكال من التمرد الطبقي.
النقطة الثانية أن «بيليد» يحاول الإيحاء بأن الحادث لم تكن له علاقة بالسياسة، وبأن الشعور الوطني كان منعدمًا لدى المصريين.
وتوقفت لحظة وأجلت البصر في وجوههم، ولم يدهشني شرود البعض. حتى «لاري» الذي يتابع دائمًا كل كلمة أتفوَّه بها ويسجلها على الفور، بدا غير مبالٍ.
قلت مخاطبًا «مونا»: حقيقة الأمر أن هناك محاولة لتصوير «مصر» الحديثة كمجموعة من الأخلاط والمجموعات الجنسية المتباينة؛ من مسلمين وأوروبيين وأفريقيين، أكثر منها أمة موحدة، أو وحدة سياسية واحدة.
وتوضع القضية هكذا: لم تكن هناك قومية مصرية، ولا شعور وطني؛ لأنه لم يكن هناك نظام برجوازي. وبالتالي فإن ضم «مصر» أو أجزاء منها إلى دول أخرى، أو تقسيمها إلى مناطق دينية أو عرقية، يصبح أمرًا مشروعًا وطبيعيًّا.
فالشائع أن القومية لا تتحقق إلا في ظل النظام البرجوازي، عندما يتم توحيد السوق الداخلية. لكن هذه الفكرة السديدة لا تنطبق على الحالة المصرية في رأي كل من «حمدان» و«سعد» على اختلاف منظورَيهما. فمنذ قبل المرحلة الفرعونية كانت الكتلة المصرية متجانسة في التكوين النفسي والصفات الجسمية، في ظل سوق واحدة، بحكم السيطرة المركزية للدولة عليها.
ولا يعني هذا أن «مصر» لم تعرف فترات من الصعود والهبوط، من الضعف والقوة، من الخضوع لقهر الاحتلال الأجنبي، ومن محاولة التخلص منه بحسب ما يقتضيه الحال من أشكال، بالثورة ضده أو بالاستعانة بأجنبي آخر. وكون أن الصدمة التي أحدثتها «دنشواي» في الرأي العام المصري ساهمت في تصعيد المقاومة للاحتلال وصولًا إلى ثورة ۱۹۱۹م، لا ينفي وجود مقاومة له قبلها. الخلاصة أنه من الممكن التشكيك في المغزى السياسي للمواجهة التي وقعت في «دنشواي» وفي صحة بعض تفاصيلها، لكن من الخطأ محاولة الخروج بنتائج عامة ذات طابع عنصري.
تطلعت حولي في انتظار الأسئلة والتعقيبات، وعندما لم ينطق أحد أنهيت الدرس.
تبعتني «شرلي» إلى الخارج قائلةً: هل يمكن أن أمشي معك؟
قلت وأنا أتجه إلى الدرج: مرحبًا بك.
قالت: الحقيقة أني أودُّ من زمن أن أتحدث إليك؛ فأنا معجبة بمحاضراتك وبالخصوص صراحتك بالنسبة لحياتك الشخصية. لم أتخيل واحدًا من تلك المنطقة …
لم تكمل العبارة؛ إذ شعرت بعدم لياقتها. بدأت هبوط الدرج دون أن أعلق. فاستطردت معتذرةً: كثير من الأمريكيين لا يعهدون هذه الصراحة. أصدقائي مثلًا يصدمون عندما أتكلم. وكثير منهم يستنكرون آرائي.
كانت في مثل قامتي، وعندما التفتُّ إليها وجدت فمي قريبًا من شفتيها.
– الأسبوع الماضي عشت دراما صغيرة. صديقة لي أحبت شابًّا باكستانيًّا وتزوجته، ثم اضطرت للعمل في ولاية أخرى. وهناك قامت علاقة بينها وبين زميل لها في العمل. ثم عادت واعترفت لزوجها، فثار واعتبرها خائنة وصمَّم على الطلاق. تحدثت إليه وحاولت إقناعه بأن الموضوع بسيط، ويكفي أنها اعترفت، ويجب أن ينسى الأمر. وقلت له: إني مررت بتجربة مماثلة، فأنا أيضا لي «بوي فريند» يعيش في ولاية أخرى. صدمته صراحتي، واعتبرني بلا أخلاق، وقاطعني وطلق زوجته.
بلغنا الطابق الثاني، واتجهت إلى مكتبي وهي إلى جواري. قلت: إن الأخلاق نسبية ومتغيرة، ثم هناك ثقافات مختلفة وتكوينات نفسية مختلفة أيضًا داخل هذه الثقافات.
طرقت باب الغرفة ثم أدرت المقبض. كان الباب مغلقًا بالمفتاح، ففتحته بمفتاحي.
دعوتها إلى الدخول وتبعتها. وأسندت مصراع الباب بقائم خشبي صغير مثلث الشكل، كي يظل مفتوحًا.
جلست إلى الطاولة وأشرت إليها أن تجلس بدورها، فاحتلت المقعد المواجه لي. كانت ترتدي كنزة صوفية زرقاء برقبة عالية، وتكتفي من الزينة بالروج القرمزي في شفتيها. وسقط ضوء النافذة على جانب وجهها، فأضاء بشرتها الصافية.
قالت: لاحظت في الفترة الأخيرة أنك تتحفَّظ في الحديث عن تجاربك العاطفية، وتتجنب التفاصيل، وفي رأيي أن التفاصيل مهمة. لم تقل لنا ما حدث بالضبط بينك وبين «جمالات». كيف جرت الأمور؟ ماذا قالت وفعلت؟ وكيف كانت مشاعرك؟ كل هذا مهمٌّ؛ فهو يلقي ضوءًا بالتأكيد على شخصيتك.
قلت: الآن فقط وأنت تتكلمين أدركت أن هذه التجربة كان لها تأثير بالغ في حياتي.
قالت في شبه انتصار: أرأيت؟
قلت: أعدك بأن أذكر التفاصيل في المستقبل. ابتسمت في خبث: هل هناك كثيرات بعد «جمالات»؟
وقبل أن أجيب نهضت واقفة، وهي تقول: عطلتك بما فيه الكفاية.
قلت: بالعكس، لقد استمتعت بحديثنا؛ فأنا أفتقد الأحاديث الحميمة التي عهدتها مع أصدقائي.
قالت وهي تتجه إلى الباب: أنا تحت أمرك عندما تريد أن تتحدث.
ومنذ البداية يحاول التقليل من أثر النهب الاستعماري في هذا التباين بين مصائر الأمم، بل ويقطع بأن الاقتصاديات الأوروبية لم تكسب على الإطلاق من المستعمرات، ولا يمل من اتهام المعادين للإمبريالية والرأسمالية والعنصرية والرق (ويسمي على رأسهم «إدوار سعید» و«سمير أمين» و«نعوم شومسكي» و«حليم بركات») بأنهم «تبريريون». وإذا كان يعترف أحيانًا كثيرة بآثام النظام الغربي في حق بقية الشعوب، فإنه لا يلبث أن يتملَّص من نتائج هذا الاعتراف. فمستوطنو الجزائر الفرنسيون، في عُرفه، كانوا أبرياء؛ لأنهم أحبوا شعبها وطبيعتها، وصُدموا عندما وُوجهوا بالكراهية من جانب الوطنيين! والهولنديون والإنجليز كانوا يسعون إلى التبادل لا الاحتلال، لكنهم رفضوا أن يتعرَّضوا للسرقة والاستغلال بواسطة التجار والرسميين المحليين، وعندما واجهوا المتاعب طلبوا العون من حكوماتهم! ونماذج التنمية المستقلة «دون كيخوتية». وهو يتجنب بالمرة ذكر المشروع الناصري والعدوان الإسرائيلي الذي أجهضه، اللهم إلا في إشارة عابرة يقول فيها عن العرب: «لو لم تكن «إسرائيل» موجودة؛ لأمسكوا برقاب بعضهم البعض.» كما يدَّعي أن ظاهرة الإمبريالية تلاشت في النصف الثاني من القرن العشرين.
لكن «لاندز» لم يكن ذلك المؤرخ الموضوعي الذي ينحاز إلى جانب الحقيقة انحيازًا مطلقًا، فهو يقول في نهاية الكتاب: «كان معظم الأوروبيين في مصر يعيشون وفقًا للمبادئ … غير أن الجميع كانوا متفقين على أن المجتمع المصري متخلف، وأن مقاييس السلوك المقبولة في «أوروبا» — قيم الأمانة والتعامل العادل والتعقل … إلخ. التي تشكل على الأقل المبدأ في العلاقات الاجتماعية والمالية في الغرب — ينبغي أن تعدَّل حتى تناسب ظروف هذه البيئة الغريبة! وقد لاحظ «عبد العظيم أنيس» بحقٍّ في تقديمه لترجمة الكتاب أن المؤلف، رغم كل منهجه العلمي وعرضه الصريح وأمانته التاريخية، لم يبرأ من تأثير الدعاية الاستعمارية. وهو تعقيب مهذَّب يضعُه في موقع الضحية البريئة، على عكس ما كشف عنه مؤلفه الأخير.
ويقول «سعد»: إن التحول الرأسمالي كان في بدايته عندما قام حكم «محمد علي»، وفي ظله قطع هذا التحول شوطًا واضحًا، لكنه لم يصل إلى النضج، وظل النسق المصري محتفظًا بالكثير من السمات الانتقالية. وأدَّى تقيد نظام محمد علي بأهداف التصدير إلى إدخال الاقتصاد المصري في النطاق الرأسمالي العالمي بأزماته، كما أن التحولات التي حدثت كلفت الشعب المصري ثمنًا هائلًا (ثقل الضرائب وإحلال القطن محل الزراعات الغذائية، ثم الأوبئة والحروب، وبدء انهيار النظام الصناعي المصري منذ ١٨٤٠م؛ لضخامة التكاليف، وتعبئة العمال في الجيش) وتمخضت من ناحية أخرى عن تكوين طبقة كبار الملاك، والسيطرة التجارية الأجنبية على «مصر»، والتي صارت بعد ذلك مالية ثم عسكرية أيضًا.
ويعارض «صادق سعد» الأطروحة المنتشرة في الحركة الوطنية المصرية، والتي ترى أن الاستعمار دون غيره سبب التخلف؛ ففي رأيه أن هذه الفكرة تنطلق من فرضية غير تاريخية وغير علمية، تقول: إن «مصر» كانت في سبيل النهضة لو لم يتدخل الاستعمار. لقد كانت «مصر» متخلفة قبل الاستعمار الأجنبي وبفعل نظامها الخاص، ثم عملت الطبقات القديمة مع القوى الأجنبية على استمرار التخلف المصري وجعله مزمنًا.