الفصل الخامس والعشرون
مررنا من مدخل خُصص لوضع المعاطف، امتدت به طاولة طويلة غطتها ألوان لا حصر لها من الأطعمة، ميزت بينها «الطعمية» والفول المدمس، وأنواع المحشيات وطواجن «التورلي» والفريك والأرز المخلوط بالصنوبر والمكسرات وصواني «أم علي» والبسبوسة والكنافة. وأشرفت على الطاولة بضع سيدات أغلبهن أمريكيات في منتصف العمر، قدرت أنهن زوجات لمصريين من قُدامى المهاجرين.
كان «ماهر لبيب» قد أقنعني بمرافقته إلى الاجتماع الشهري لجمعية «المصريين الأمريكيين» والتحدث إلى أعضائها من الأطباء والمحاسبين والمهندسين، وكبار موظفي الشركات. وقال: إن اجتماعهم أشبه بلقاء عائلي يجري خلاله تناول الأكلات المصرية التقليدية التي يتفنَّنون في إعدادها، والتعارف بين أولادهم وبناتهم، ووضع الأساس لزيجات ناجحة في المستقبل. وأقلَّني في سيارته إلى مدرسة حكومية في أقصى جنوب المدينة، استأجرت الجمعية إحدى قاعاتها.
دلفنا إلى قاعة واسعة تضم حوالي المائة مقعد. وجلسنا في أحد الصفوف الأمامية بجوار أسرة من صبي ذي ملامح قبطية بارزة، وأم أربعينية سمراء وأبٍ نحيف مكتئب الملامح. وكان هناك عدد كبير من السيدات المصريات، أغلبهن بدينات في منتصف العمر، برءوس مغطاة.
أشار «ماهر» إلى كهل نحيف سريع الحركة، ذي ملامح صعيدية بارزة، وهمس لي أنه يعيش في مسكن من إحدى عشرة غرفة في كل منها جهاز للتليفزيون، متصل ببقية الأجهزة، بحيث لا تفوته متابعة الشاشة إذا ما انتقل من غرفة إلى غيرها. وقال: إن لديه أيضًا ماكينة المشروبات التي توجد في الأماكن العامة، وتتيح لك الحصول على كوب من أحد أربعة أو خمسة أنواع من الكولا والمياه الغازية.
دُعينا إلى تناول الطعام، فأحاط الجميع في صخَب بطاولة الطعام الممتدة. وتصاعدت صيحات الإعجاب بألوان معينة منه. واستغرق الأمر قرابة الساعة قبل أن يعود الآكلون إلى مقاعدهم، وهم يحملون أطباق الحلوى. مضوا يتناولونها على مهل ودون حماس، ممزَّقين فيما يبدو بين امتلاء بطونهم وبين عزوفهم عن التخلي عنها.
جلست هذه المرة إلى جوار شاب في ملابس رياضية، انهمك في قراءة مجلة «الموعد» اللبنانية. وسمعته يقول لجارته التي تماثله في الملبس: إن «فريد شوقي» — الممثل المعروف — مريض.
بدأ اللقاء بكلمة من مهندس متقدِّم في العمر ذي ابتسامة دائمة هو رئيس الجمعية. عرض بمزيج من العربية والإنجليزية دورها في رفع شأن «مصر» ﺑ «أمريكا». وتلاه طبيب كهل بالغ الأناقة تحدث بالإنجليزية مشيدًا بما حقَّقه أبناء الجالية من نجاح في حياتهم العملية، وكيف ضربوا المثل في الإخلاص للعمل والتمتع بالأخلاق القويمة، والبعد عن آفات العصر من خمور ومخدرات وخلافه. ثم عرضوا علينا — بالفيديو — فيلمًا قصيرًا قدَّم فيه الممثل العالمي «عمر الشريف» مشروع مكتبة «الإسكندرية»، داعيًا إلى مساندتها بالتبرعات. وأخيرًا حان دوري بصفتي ضيف الشرف، فتولَّى الرئيس تقديمي، وتعثر في نطق اسمي، وقراءة عناوين مؤلفاتي وأبحاثي.
تأملني الحضور في غير اهتمام، وأنا أتخذ مكاني خلف المنصَّة. وانهمك الجالسون في أطراف القاعة في ثرثرات جانبية. عدلت موضع زجاجة المياه، ونقلت البصر بينهم، فلحظت أن جاري الرياضي قد استغرق في النوم معتمدًا برأسه على كتف رفيقته. وفي أقصى اليمين جلستْ سيدتان جميلتان أنيقتان في العقد الثالث من العمر بمنأًى عن الجميع. كانتا حاسرتَي الرأس غارقتَين في خواطرهما. وأمامي مباشرة جلست سيدة بدينة أنيقة حاسرة الرأس، في العقد السادس، بجوار فتاة عشرينية تُشبهها.
كنت قد قررت أن أنأى عن الطابع الأكاديمي، وأُدلي بكلمة عامة خفيفة الطابع. فبدأت بأن التاريخ علم حي، وليس مجرد قائمة بالأحداث، وأن المؤرخين يجهدون لتفسير هذه الأحداث وتحليلها والربط بينها. وفي هذا الصدد يجدون أنفسهم أمام منهجينِ في البحث؛ أحدهما سطحي يُنسب لعلاقة ملك بعشيقة أو لشذوذه وأخلاقه عمومًا السبب في سقوط دولة أو نشوب حرب، بينما أن السقوط والصعود والحرب والسلم أمور تتعلق بعوامل أكثر عمقًا وتعقيدًا من ذلك، هي التي يجهد المنهج الثاني في الكشف عنها.
وأضفت أن هذا لا يعني تجاهل أثر الخصائص النفسية والنزعات الشخصية على ما يقع من أحداث، فلا شك أن «كليوبترا» كانت جذابةً، ونجحت في غواية «قيصر» و«مارك أنطونيو»، ثم فشِلت في غواية «أوكتافيوس»، فلم يعد أمامها سوى الانتحار، وأن الأكواب المصنوعة من مادة الرصاص قد أثَّرت في صحة الرومان، وأن «الحاكم بأمر الله» كان شخصية عصابية غير متزنة، وأن «لويس التاسع» كان يشكو من سيطرة أمِّه، ويسعى للانفراد بزوجته بعيدًا عن عينَيها، مما حمسه لقيادة الحملة الصليبية على «مصر». كل هذه أمور أثرت في مجرى الأحداث، لكنها لم تشكل أبدًا العوامل الرئيسية التي أدَّت إلى سقوط دولة «البطالسة» في «مصر»، وسقوط الإمبراطورية الرومانية من بعدها، واستفحال تناقضات الدولة الفاطمية؛ مما أدى إلى سقوطها في النهاية، وانطلاق الحروب الصليبية.
أنصت البعض إليَّ بشيء من الاهتمام، وتطلَّع إليَّ رجل باسم، أوروبي الملامح، في أقصى القاعة جاور سيدة أربعينية ذات ملامح مصرية.
صبَبت لنفسي كوبًا من المياه، وجرعت قليلًا منها ثم استطردت: ومن المرجح أن تاريخ «مصر» الحديث قد تأثَّر بقوة شكيمة «محمد علي»، ومثلية الخديوي «عباس»، ورخاوة الخديوي «سعيد»، وسفه الخديوي «إسماعيل»، وضعف شخصية الخديوي «توفيق»، وفجور الملك «فاروق»، وصلابة «جمال عبد الناصر»، وبحث «السادات» عن ذاته.
لكن المميزات الشخصية لم تكن العامل الحاسم الذي مكَّن «محمد علي» من انتزاع حكم «مصر» من الإمبراطورية العثمانية لأسرته الألبانية التي احتفظت به مائة وخمسة وعشرين عامًا. العامل الأساسي كان تطلع المصريين إلى الخلاص من الحكم الأجنبي من ناحية، وضعف طبقتهم الوسطى من ناحية أخرى مما حال بينهم وبين اختيار واحد من بينهم للحكم. ولا كانت العامل الحاسم في سقوط آخر ملوكها، «فاروق».
توقفت الثرثرة في الصفوف الخلفية، وأفاقت السيدتان من شرودهما، وبدا لي أن الجميع يُصغون إليَّ.
– عانى «فاروق» من مشاكل جسدية وعاطفية بالغة؛ ففي صباه كثيرًا ما بكى في لحظة لموت أرنب، وفي اللحظة التالية يلتقط قطة من ذيلها، ويطوح بها إلى أقرب حائط. وعندما أصبح ملكًا في سن الثامنة عشر سنة ۱۹۳۷م، كان أول قرار له هو دهان سياراته التي بلغ عددها المائة بلون سيارات الإطفاء الأحمر. وحظر على المواطنين استخدام هذا اللون حتى يمكنه أن ينطلق بأقصى سرعة في أنحاء البلاد، دون أن يتعرض له رجال المرور.
وفي تلك السن نفسها وقع في غرام فتاة تصغره بعامٍ فتزوجها، ولم تمضِ بضع سنوات حتى كانت فضائحه النسائية على كل لسان. وذاعت القصص عن شراهته في الطعام ونزواته بالإضافة إلى تصرفاته الخرقاء الأخرى؛ مثل سرقة ضيوفه وشركائه في لعب القمار، وقذفهم بكرات من الورق مبللة ببصاقه.
وبمرور السنوات ازداد وضعه سوءًا، حتى فقد مكانته لدى الشعب. والواقع أن المصريين علقوا آمالًا كبيرة على شبابه — ووسامته — في التخلص من الاحتلال، وتحسين مستوى معيشتهم.
ران على القاعة هدوء تام، وسعدت بذلك؛ إذ تصورت أني تمكَّنت أخيرًا من السيطرة على الحاضرين والاستحواذ على انتباههم، وانتابتني حالة من الجسارة.
واصلت الحديث: خلق فاروق لنفسه صورة الفحل ذي القوة الجنسية الخارقة. وكانت المرأة التي تقاومه تُخطف وتُحمل إلى أحد قصوره الخمسة. وفي واقع الأمر أنه كان يخفي عن الشعب حقيقة محرجة، وهي أن أعضاءه الجنسية لم تكن كاملة النمو أو صغيرة الحجم. وكان يبدأ كل يوم بمائدة حافلة من البيض واللحوم والأسماك، الأمر الذي تسبب في سمنته وبدانته. وفي سن الثالثة والعشرين حسب ما يقول واضع سيرته «هيوج ماكليف» تعرض لنوبات من العنَّة، وربما كان ذلك هو السبب في محاولاته ممارسة الجنس مع نساء قُدر عددهن بخمسة آلاف امرأة. ودأب على استشارة إخصائيي الهرمونات والسعي وراء المشهيات والمنبهات الجنسية من أول الحشيش الممزوج بالعسل وأقراص الكافيين، إلى مسحوق قرن الخرتيت وإحليل التمساح.
أحسست بحركة في القاعة وغمغمات، وتغضن جبين السيدة البدينة التي تجلس أمامي مباشرة، وتطلعت إليَّ بشيء من الاستنكار. وخلفها استيقظ الشاب الرياضي، وأخذت رفيقته أو زوجته تدلك له عنقه.
واصلت: أصحاب المنهج السطحي في التاريخ يقولون إن فضائح «فاروق» وعربدته هي التي تسببت في سقوط عرشه، متجاهلين بذلك أن النظام كله كان آيلًا للسقوط؛ بسبب عوامل عديدة؛ فقد كانت الأسرة المالكة تستحوذ على ملكية أكثر من نصف أراضي البلاد. وكان الإقطاعيون الذين حصلوا على الأرض من الملوك الأوائل للأسرة ثمنًا لخيانتهم وخدماتهم للقصر وللاستعمار الإنجليزي، يمعنون في استغلال الفلاحين بالسُّخرة. وكانت الغالبية تعاني من ثالوث الحفاء والأمية والمرض. وعندما يفشل أي نظام في تلبية احتياجات شعبه، ويتآكل بفعل تناقضاته؛ فإنه يصبح مؤهلًا للسقوط، أيًّا كان حجم قضيب الجالس على قمته.
توقفت لحظة ورأيت السيدة البدينة تقول شيئا لابنتها، وهي تهمُّ بالوقوف. لكن الابنة الشابة هزت رأسها، وواصلت التطلع إليَّ في اهتمام، بينما غادرت أمها القاعة، وتبعها الرياضي ورفيقته وعدد من الحاضرين.
أما «أنور السادات»، الرئيس السابق للجمهورية، فنحن نعلم أنه قُتل بيد أحد أعضاء الجماعات الإسلامية، لكن ظروف الحادث ونتائجه تثير كثيرًا من علامات الاستفهام.
تناولت رشفة من المياه ثم استطردت: الواقع أن «أنور السادات» من الشخصيات المثيرة القادرة على شغل عديد من المؤرخين؛ ففي أول حياته العسكرية ضُبط في خلية جاسوسية تعمل في خدمة الجيش النازي الألماني، لكنه تمكَّن من الهرب وعمل سائقًا لسيارة نقل. وقيل إنه كان هروبًا متفقًا عليه بسبب علاقته بالحاشية الملكية. وتوِّجت هذه العلاقة بانضمامه إلى «الحرس الحديدي» الذي شكله الملك؛ للتخلص من معارضيه. واشترك في محاولة اغتيال الزعيم الوفدي الشعبي «مصطفى النحاس». ولم يلبث أن عاد إلى الخدمة العسكرية. وفي سابقةٍ لم يعرفها الجيش المصري من قبل حصل على رتبة «بكباشي» أو مقدم، ثم انضم إلى تنظيم الضباط الأحرار الذي قاده «جمال عبد الناصر»، وصار عضوًا في مجلس قيادة الثورة.
وحرص بعد ذلك على تأكيد ولائه للرئيس «عبد الناصر»، بينما أقام شبكة من العلاقات المريبة؛ فقد تولى إدارة مصالح أحد أمراء «الكويت»، وارتبط بعلاقة وثيقة ﺑ «كمال أدهم» رئيس المخابرات السعودية، وضابط الاتصال بينها وبين المخابرات الأمريكية. وبمجرد توليه رئاسة الجمهورية في ۱۹۷۰م عمل على تصفية العلاقة العسكرية بالاتحاد السوفييتي، وتحجيم «حرب أكتوبر»، وإجهاض الانتصار الذي حققه الجيش المصري فيها، ثم وقَّع معاهدة «كامب ديفيد» في ۱۹۷۸م التي نصَّت على بقاء شبه جزيرة «سيناء» المصرية أرضًا منزوعة السلاح، وفصلت «مصر» عن الجبهة العربية. ثم انقلب على قانون الإصلاح الزراعي وشجع طرد الفلاحين الفقراء من أراضيهم؛ لكي تعود إلى ملكية كبار الملاك الأغنياء، وفتح الباب للوجود الأمريكي، وأطلق سياسة الانفتاح الاقتصادي والخصخصة، واعدًا كل مصري بالكرتونة. ولم تلبث المنتجات الغربية أن دخلت السوق الداخلي، وزالت موجة العداء الغربي ﻟ «مصر»، وهي العملية التي حدثت من قبل مع «محمد علي»، كما غرقت مصر في مستنقع القروض الأجنبية — التي ذهب الجانب الأكبر منها إلى جيوب أسرته وأعوانه — وهي العملية التي حدثت من قبل مع الخديوي «إسماعيل».
ميزة نموذج «السادات» أنه قادر على إعادتنا لبداية الحديث؛ فهناك من الكتَّاب والباحثين مَن يعتقدون أنه شخصيًّا مسئول عن التطورات الأخيرة. ويستدلون على ذلك بطباعه: غرامه بالملابس الأنيقة، ومجالس الملوك والأباطرة، وبالوقوف أمام الكاميرا مدخنًا الغليون، وهو يربت على ظهر كلب ضخم، تمامًا مثل لوردات «بريطانيا»، وافتتانه — هو وزوجته — بالحلم الأمريكي، ونجومه مثل المغني «إيجلاسيوس» والممثلة «اليزابيث تيلور».
إلا أني لا أميل إلى التهويل من أثر هذه الصفات الشخصية على الأحداث. فما وقع كان يمكن أن يقوم به غيره، الأمر الذي تحقق بعد اختفائه؛ فالطبقة الجديدة التي أنتجتها الثورة ضجت بالقيود المفروضة على طموحاتها في الثراء والسلطة، وبالتضحيات التي يتطلَّبها تحديث البلاد في مواجهة الضغوط الأجنبية. كل ما فعلته صفات «السادات» الشخصية هو إضفاء مِسحة من الهزل على هذه التطورات تجلَّت آخر صورها يوم مصرعه، في ٦ أكتوبر ۱۹۸۱م، عندما ظهر بالملابس الهتلرية ومشى مشية الإوزة، فاستحق وصف أديب «مصر» العظيم «نجيب محفوظ» له في إحدى قصصه بأن الملابس ﻟ «هتلر» والمسلك ﻟ «شارلي شابلن». وللحق فإن فرص الضحك لم تتلاشَ باختفائه، ففي عهد خليفته …
انتبهت فجأةً إلى أن القاعة أوشكت أن تخلو تمامًا من الجالسين فيما عدا السيدتين الأنيقتين في اليمين، و«ماهر»، والرجل الباسم في أقصى القاعة الذي كان يطرق بذقنه مؤمنًا على حديثي إذا ما تطلعت إليه. وترامت إلى سمعي أصوات احتجاج عند المدخل.
عجزت عن مواصلة الحديث وعن التصرف، فلم يسبقْ لي أن واجهت موقفًا مماثلًا. وغادر «ماهر» مقعده، وتقدم مني، وعلى شفتيه ابتسامة غامضة أقرب إلى أن تكون ساخرة. تمتم ببضع كلمات لم أتبيَّنْها، وبقيت واقفًا أنظر أمامي في بلاهة.
ظهر الكهل صاحب التليفزيونات الإحدى عشر عند المدخل، وولج القاعة متجهًا نحوي. قال عندما صار أمامي، وهو يهز حفنة من المفاتيح في يده: هل هذا الهذَر هو ما تقوم بتدريسه في «مصر»؟
وقبل أن أحاول الرد اقترب مني الرجل الباسم الذي كان يجلس في أقصى القاعة مع رفيقته. خاطبتني بالعربية شاكرة ومعجبة بالمحاضرة، وقدمت زوجها. شد الرجل على يدي، فشكرته على مشاعره، وعبرت له عن تقديري لحسن استماعه.
اتسعت ابتسامته، وقال لي بالإنجليزية: أنا متأكد أن حديثك قيم، لكني للأسف لم أفهم منه كلمة واحدة؛ فأنا لا أعرف العربية.