الفصل السابع والعشرون
وزعت علينا «دوريس» فطائر صغيرة الحجم على شكل الجماجم والعظام البشرية تُدعى «كالافيرا»، تنتجها مخابز حي «ميشان» في مهرجان «يوم الموتى»، وهو النسخة اللاتينية من «الهالووين». ووصفت لنا كيف تزين النصف الجنوبي من الحي، الذي تُقيم به، ويضم أكثر مناطق المدينة بؤسًا وكأبة. وكيف تُوِّج الاحتفال بموكب ليلي من الشموع والأزياء التنكُّرية المرعبة. وكانت هي نفسها ترتدي، أسفل كنزة صوفية سميكة وواسعة، أوفرولًا من لون وردي فوسفوري يقترب من لون الدماء.
تطرق الحديث إلى «كريستوفر كولومبوس» الذي تصادفت ذكراه مع «الهالووين». وأبدت «دوريس» ملاحظة حول تغير النظرة إلى المكتشِف العظيم. فعندما احتفل العالم في سنة ۱۹۹۲م بالعيد الخمسمائة لاكتشاف «أمريكا» على يده سنة ١٤۹۲م، كان من رأي الكثيرين — وخاصةً في صفوف الأكاديميين الأمريكيين — أن الأمر لا يستحق الاحتفال؛ فقد اعتبروا الرجل وغدًا والأوروبيين الذين رافقوه غزاة، والسكان المحليين — ٢٥ مليونًا — ضحايا أبرياء الجشع الرجل الأبيض المفترس حامل الأمراض. وفي «بيركلي» غير مجلس المدينة اسم «يوم كولومبوس» إلى يوم «الشعوب الأصلية»، وقدم عرضًا لأوبرا اسمها «اذهب إلى الجحيم مرة أخرى يا كولومبوس». لكن هذه النظرة تتغير من جديد الآن؛ إذ ترتفع أصوات كثيرة تزعم أن هذه الاتهامات ليست إلا جزءًا من حملة سياسية، الهدف منها خلق الشعور بالذنب لدى الأوروبيين، وتبرير طلب التعويضات منهم.
قالت «شرلي» وهي تقضم جمجمة بشرية: أعتقد أن هناك قانونًا للعلاقات الإنسانية يمكن تطبيقه على العلاقات بين الأمم؛ فعندما تشعر أمة بأنها قوية لدرجة تكفي لفرض نفوذها على أمة غيرها وتحقيق المكاسب من ذلك، لا تتورع عن ممارسة قوتها.
علقت «فادية» فيما بدا لي محاولة لمد الجسور مع «شرلي»: ربما يفسر هذا كيف تحولت أوروبا إلى الهجوم ابتداءً من القرن الحادي عشر، وتحت راية الدين في البداية. الحروب الصليبية والحرب ضد المسلمين في «إسبانيا». وفي النهاية انتصرت القوة على الحضارة؛ ففي ١٢٣٦م سقطت «قرطبة» التي كانت أعظم مركز تعليمي في «أوروبا»، وتبعتها «أشبيلية» عاصمة «الأندلس» الاقتصادية الكبرى وأخيرًا «غرناطة» في ١٤۹۲م نفس تاريخ اكتشاف «كولومبوس» للعالم الجديد. وتواصلت نزعة الغزو بعدها.
اعترض «لاري» قائلًا: لكن هذا لا يفسر البربرية. عثر «كولومبوس» على شعوب عارية ما زالت تعيش في العصر الحجري، حتى إن أيديهم تمزقت عندما أمسكوا بالسيوف الإسبانية من نصالها. كانوا أبرياء تمامًا باعترافه هو نفسه؛ فلماذا أُبيدوا؟ كان الإسبان يبقرون أجساد الحوامل، ويتراهنون على مَن يستطيع فصل الجسد من وسطه بضربة سيف واحدة، ويحطمون رءوس الأطفال فوق الصخور، ويحرقون الناس أحياء باسم المسيح ورسله.
علقت «شرلي»: وماذا عن تقليد سلخ فروة الرأس لدى الهنود الحمر؟
انفعل «سابك» وقال: كذب. الحقيقة أن الرجل الأبيض هو الذي خلق عادة السلخ. لقد مارسها الإنجليز لقمع انتفاضة الأيرلنديين بين عامي ١٥٦٧م و١٥٧٠م، ثم استُخدمت كوسيلة للإحصاء عند استعمار «أمريكا»؛ فقد كانت السلطات الاستعمارية ترصد مكافأة لمَن يقتل هنديًّا ويأتي برأسه، ثم اكتفت بفروة الرأس. وتصاعدت قيمة هذه المكافأة حتى بلغت مائة جنيه في عام ١٧٠٤م. وهو مبلغ كان يعادل أربعة أضعاف متوسط الدخل السنوي للمزارع في مستعمرات «نيوانجلند». فكان بإمكان أي مستوطن عجوز أن يصطاد طفلين وثلاث نساء من الهنود سنويًّا فيصبح ثريًّا. وسرعان ما تأسست شركات — إنجليزية وفرنسية — تستأجر فِرقًا من المغامرين لقتل الهنود، والعودة بفروات رءوسهم. وصار المستوطنون يتباهون بعدد ضحاياهم، وتباهى أحدهم بأن العدد ٤٠ في الطلعة الواحدة. وتباهى آخرون — قبل زمن «هتلر» — بأن ملابس صيدهم وأحذيتهم مصنوعة من جلد الهنود. وكان الرئيس «أندرو جاكسون» الذي تزين صورتُه ورقة العشرين دولارًا من عشاق التمثيل بالجثث، وكان يأمر بحساب عدد قتلاه وإحصاء أنوفهم المجدوعة وآذانهم المقطوعة، ورعى بنفسه في ۲۷ مارس ١٨١٤م حفلة تمثيل بجثث ۸۰۰ هندي يتقدمهم زعيمهم. ووصف الرئيس «تيودور روزفلت» هذه المذبحة بأنها كانت «عملًا أخلاقيًّا مفيدًا؛ لأن إبادة الأعراق المنحطة حتمية ضرورية لا مفرَّ منها.»
هكذا عوض «سابك» في مساهمة واحدة صمته الدائم.
علق «لاري» مستشهدًا بكلمة ﻟ «تودوروف» يقول فيها: «ليس في بربرية الإسبان شيء بدائي أو حيواني، إنها الطبيعة الإنسانية تمامًا التي أعلنت مقدم العصر الحديث.»
مسد قرطه ثم أضاف: يرحمنا الله إذا كان هذا الكلام صحيحًا.
قدرت أن «كولومبوس» أخذ ما يستحق من اهتمام في ذكراه، وأخذت الكلمة.
قلت: إن حصولي على الدكتوراه كان حافزًا مشجِّعًا على الانطلاق في الطريق الذي اختططته لنفسي. أعددت دراسة عن منهاج «طه حسين» في البحث التاريخي، وأخرى عن وضع المثقفين في تاريخ كل من «مصر» و«المغرب»، وثالثة عن رحلة «خالد بن الوليد بين التاريخ والعلم»، اعتبرها كثيرون عملًا تأسيسيًّا في مجال الاستعانة بالعلوم الأخرى في تحقيق الأحداث التاريخية.
فقد ذكرت كتب التاريخ أن الخليفة «أبو بكر الصديق» أمر القائد «خالد بن الوليد» في العام الثاني عشر للهجرة بالتوجُّه من «العراق» إلى «الشام» بأسرع وقت لنجدة «أبي عبيدة بن الجراح» في معركة «اليرموك». ووجد «خالد بن الوليد» — كما زعم الرواة — أنه سيسير مدة أسبوعين في صحراء قاحلة بلا ماء. فعمد إلى تظميء الجمال وسقيها عدة مرات، وقام بربط أفواهها وآذانها؛ ليحول دون تبخر المياه. وكلما قطع الجيش مسافة وعطش رجاله ذبحوا بعض الإبل، وشربوا ما في بطونها من ماء.
وكان القدامى في محاولتهم لتعليل قدرة الجمل على تحمل العطش، قد افترضوا أنه يقوم بتخزين المياه. ولأمد طويل اعتقدوا أن المكان الطبيعي الصالح لذلك هو بطنه. وفي سنة ١٨٠٦م قام أحد العلماء الإنجليز بتشريح دقيق لمعدة الجمل تبيَّن منها أنها عاجزة عن تخزين المياه، وكل ما يوجد بها عند امتلائها هو خمسة لترات من العصارات الهضمية. ومع ذلك ظل الفرض السابق هو السائد في الكتابات العربية، وأضيفت إليه احتمالات أخرى؛ منها أن التخزين يتم في السنام، أو أن دهون السنام هي التي تزود الجمل بحاجته من المياه عند احتراقها.
وبذلك سقطت الرواية التاريخية، وتعين البحث عن صياغة جديدة لها تفسر الواقعة أو تتحقق من وقوعها أصلًا.
توقفت وغادرت مقعدي وتقدمت من النافذة. تأملت السماء التي صَفت فجأةً، وكشفت عن شمس متوهجة، ثم استدرت مواجهًا طلابي واستأنفت الحديث.
قلت إن شهيتي تفتَّحت بعد ذلك للبحث، فانتقلت إلى موضوع آخر طالما خايلني. فكلما عثرت بصورة لإحدى الأيقونات القبطية المعروفة ﺑ «وجوه الفيوم»، وتأملت عيونها الواسعة الجازعة. تساءلت عن السر، هل هو ما شهدته من فظائع وأهوال، أم أن الأمر لا يتجاوز حالة مرضية مرتبطة بنشاط الغدة الدرقية، الذي يتأثر بنسبة تواجد مادة اليود في الطبيعة؟ أو أنه مجرد اتجاه في الفن؟
وضعت خطة للبحث في عدة مجالات؛ الطب والجيولوجيا وتاريخ الفن فضلًا عن التاريخ السياسي. لكني لم أتمكن من استكمال هذا البحث؛ نتيجة للمشاكل التي اعترضتني. وقد بدأت المشاكل في قاعة التدريس، وبسبب إحدى الطالبات.
تطلعتْ إليَّ العيونُ في انتباهٍ في انتظار واحدة من فضائحي.
وصفت لهم نظام الجلوس في قاعة المحاضرات، وما طرأ عليه من تغير. فعندما كنت طالبًا كانت الطالبات يجلسن عادة في الصفوف الأمامية. لم تكن هناك قاعدة تحتم جلوسهن في مكان معين، لكنهن كن أكثر حرصًا من الذكور على التبكير بالحضور. ويتجهن على الفور إلى الصفوف الأمامية؛ لما توفره من حسن الاستماع، فلم يكن الميكروفون قد استُخدم بعدُ، وتحوَّل الأمر بالتدريج إلى قاعدة.
وفي بداية قيامي بالتدريس لاحظت أن هذه العادة تغيَّرت؛ فقد انفردت الطالبات بالجانب الأيمن من المدرج، بينما احتل الطلاب الجانب الأيسر، وهو نفس ما حدث في أول برلمان للثورة الفرنسية، عندما تم الفرز بين النبلاء والعامة.
بدرت ضحكة من «ميجان»، وابتسمت «نادية» في تردد.
– وذات يوم وصلت إحدى الطالبات متأخِّرة، ودخلت من الباب الأيسر، وشرعت تقطع المدرج متجهة إلى الجانب الأيمن الذي تكتلت فيه زميلاتها.
شتَّت وقع خطواتها انتباهي، فأشرت إليها أن تجلس في أقرب مكان إلى جوار الطلاب. أطاعتني البُنيَّة، واتجهت إلى مكان خالٍ بجوار أحد الطلاب، وإذا به يرفض جلوسها بجواره، ويشير لها أن تتجه إلى قسم الحريم.
عجبت لهذا الموقف؛ ففي أيامي كان الجلوس إلى جوار طالبة حلم كل الطلاب. لم أشأ أن أدخل في مشادَّة مع الطالب، وانتظرت حتى انتقلت الفتاة إلى قسم الحريم، فواصلت حديثي.
وفي أحد الأيام تردد أذان الظهر في منتصف الدرس، وفوجئت بجماعة من الطلاب تقف وتتحرك نحو باب المدرج. وخاطبني أحدهم قائلًا: عن إذنك. سنصلي ونعود، ولم ينتظروا حتى أمنحهم الإذن، وغادروا المدرج. وفيما بعد ثارت بيني وبينهم مشادَّة، عندما قلت: إن العلم عبادة، وإن المحاضرة لها موعد محدد. أما الصلاة فمن الجائز شرعًا أن تؤدَّى في وقت لاحق.
تعددت الظواهر المماثلة، وبدأت تأخذ حجمًا غريبًا. إذا أشرت إلى «طه حسين» تصاعدت دبدبات الأقدام الاحتجاجية، وإذا أبديت رأيًا بدا لهم أنه يتعارض مع إحدى المسلَّمات، تصدوا لي واشتبكوا معي في مناقشة دينية. كنت أرد في حدود معلوماتي البسيطة في هذا المجال، ثم أقول: إني لست فقيهًا. وأتمنى عليهم أن يتعمَّقوا قراءة كتب التاريخ قدر تبحُّرهم في الكتب الدينية. واستمر الأمر على هذا المنوال إلى أن وقعت حادثة النقاب.
تقطب جبين «فادية» في استياء، لكني لم أعبأ.
كان عدد الطالبات اللاتي يغطين رءوسهن، ويلتزمن بالحجاب في درجاته المختلفة، في تزايد. ولم أهتم بالأمر، فرأيي وما زال أنه من صميم الحرية الشخصية، طالما أنه لا يعطِّل الأنشطة الحيوية لصاحبته، أو للآخرين. وهذا الموقف هو ما دفعني للاعتراض عندما تقدم لي في الامتحان جسم مغطًّى من قمة الرأس إلى أخمص القدم، عدا ثقبين رفيعين مكان العينين. أصررت على ضرورة التأكد من شخصيتها وجنسها وتمسكت هي بنقابها، وانتهى الجدل بأن صحبتها إحدى زميلاتي إلى غرفة جانبية؛ لتتأكد من شخصيتها. لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد؛ إذ شكاني الطلاب لدى العميد ورئيس الجامعة، وتلقيت رسائل تهديد وسباب.
اتسعت الابتسامات، وزادت تقطيبة «فادية»، استدرت من جديد مواجهًا النافذة. كانت الشمس قد غابت، وانتشر الضباب.
تحولت إليهم واستطردت: وبمرور الأيام تداعت الصورة المثالية التي كانت لديَّ بشأن الحياة الأكاديمية. في بداية العام الدراسي التالي، جاءني أحد ناشري الكتب الجامعية، وعرض عليَّ ٢٠ ألف جنيه؛ من أجل نشر محاضراتي في كتاب. كنت مؤمنًا بأهمية العملية التعليمية التي تجري داخل قاعة التدريس، وبضرورة تدريب الطلاب على استخدام المراجع وتشغيل عُقولهم؛ ولهذا عارضت تحويل محاضراتي إلى كبسولة مطبوعة جاهزة للحفظ. كما أن القانون يمنع تقرير كتاب معين على الطلاب. رفضت عرض الناشر فرد عليَّ بأن العُرف جرى على أن يطرح المدرس كتابه بين المراجع، بمجرد انقضاء ثلاث سنوات على حصوله على الدكتوراه، بل إن بعض الأساتذة يفرضون كتبهم على الطلاب.
وبعد أيام وجَّه لي أحد الأساتذة ملاحظة عابرة أشبه بتحذير مؤدَّاها عدم الوقوف في وجه التيار العام. وكانت أُمِّي تحتاج إلى رعاية مستمرة أثناء عدم وجودي معها؛ مما أجبرني على استئجار ممرضة. وكانت تلح على ضرورة زواجي، والاستعداد لذلك بأثاث مناسب، وتغيير مكان السكنى، وشراء سيارة والاعتناء بملابسي. كل ما يتناسب مع وضعي كأستاذ جامعيٍّ.
بدت علامات عدم الفهم على وجوه البعض؛ فأوضحت لهم ضآلة راتب الأستاذ الجامعي الذي لا يتجاوز بضع عشرات من الجنيهات، والظروف التي مرت بها البلاد في أعقاب الانفتاح الاقتصادي لأواخر السبعينيات، وكيف ظهرت احتياجات جديدة لم تكُن معروفة من قبل.
– قبلت عرض الناشر، لكن العشرين ألفًا لم تغطِّ كل هذه الاحتياجات. وحال مرض أمي بيني وبين السفر للعمل في إحدى جامعات الخليج، مثل «حلمي عبد الله» وغيره. فماذا فعلت؟
شرحت لهم كيف بدأت الحقبة الخليجية في المنطقة، استنادًا إلى عائدات البترول الهائلة. وكيف صدرت دول الخليج آلياتها وأيديولوجيتها إلى «مصر»: امتلأت نوادي شارع «الهرم» الليلية بسائحين يلقون برزم من آلاف الجنيهات تحت أقدام الراقصات، وانتشر السماسرة في القرى الفقيرة يختارون زوجات صغيرات السن لعواجيز «مكة» و«المدينة». وتزاحم الآلاف أمام السفارة «السعودية»؛ جريًا وراء حلم الحصول على عقد للعمل في بلد يجمع بين نعمتين: الكعبة والنفط. وعادوا بعد سنوات قليلة ليُزهَوا بسياراتهم الفارهة المزدانة بالمصاحف، وبلحاهم وجلابيبهم البيضاء وصنادلهم، وأطال «مدحت وردة» بطل كرة السلة الشورت الذي يرتديه في اللعب حتى الركبتين؛ «لأن عورة الرجل من السرة حتى الركبة»، وامتنعت الأفلام التليفزيونية عن المشاهد التي ينفرد فيها رجل بامرأة، أو مشاهد الحب بين ممثلين غير متزوجين في الحقيقة. وأقيمت مراكز تجارية تجمع بين ملابس المحجبات، وأماكن خاصة للساونا وحمامات البخار، وتعرض للبيع أفران تتسع لخراف كاملة، وتحولت مشاريع الإسكان إلى بناء القصور، ودُفعت ممثلات إلى الاعتزال بعد أن قام بهدايتهن الشيخ «متولي الشعراوي»، الذي صار نجمًا تليفزيونيًّا إثرَ عودته من فترة عمل في «السعودية»، معلنًا أن المرأة يجب أن تكون محجَّبة حتى لا يشك الرجل في بنوة أبنائه منها، وأن خروجها للعمل إهدار لكرامة الرجل، وأن مَن ينام على صوت موسيقى «بيتهوفن» لا يعرف الله.
تحاشيت النظر إلى «فادية»، واستطردت: تبنَّى الشيخ «الشعراوي» أيضًا بدعة البنوك الإسلامية، وشركات توظيف الأموال التي لا تتعامل بالربا، وإنما تدفع لأصحاب الودائع «عائدًا» سنويًّا بلغ ٢٤٪ تحت حساب الأرباح. وهي الظاهرة التي انتشرت بسرعة، ونجحت في استقطاب مدَّخرات العاملين في دول الخليج. وبلغت هذه المدَّخرات، لدى شركة واحدة فحسب، ثمانية مليارات من الجنيهات المصرية. ثم انهارت هذه الشركات مرة واحدة. وتبين أن مشروعاتها وَهْمية، وأنها كانت تستغل إيداعات عملائها — بالتواطؤ مع كبار المسئولين — في مضاربات على الذهب والفِضَّة في الأسواق العالمية، خسرت فيها ١٥٠٠ مليون دولار.
توقفت لحظة، ثم قلت: وفي يوم مشهود افترش مليون شخص مودِع، من قضاة وضباط شرطة ومهندسين وأطباء وأساتذة جامعات، شارعَ «الهرم» أمام مقر أكبر هذه الشركات صائحين: «هاتوا فلوسنا.» وكنت أنا بينهم.
حانت مني التفاتة إلى «شرلي»، فوجدت على وجهها تعبيرًا غريبًا. كانت تتطلَّع ناحيتي بنظرات ساهمة، وقد رقَّت ملامحها وفقد وجهها جمودَه المألوف، وبدت هائمة في عالم سحري.
فقدت خيط الحديث فجأةً، وأنا أتأملها صامتًا. وخفَّت «فادية» إلى إنقاذي باستفسار عن أبحاثي في تلك الفترة.
استعَدْت توازني وأجبت وأنا أحتلُّ مقعدي. قلت: إن التطورات التي شرَحْتها دفعتني بشكل غير واعٍ إلى الاهتمام مجدَّدًا بالموضوع الذي أردت أن أجعله مادة لرسالة الماجستير وهو الفتح العربي.
عنيت بدراسة التركيب الاجتماعي للجزيرة العربية عند ظهور الإسلام؛ فقد كان العرب قسمين: الأول من الفقراء المدقعين، وخاصة أبناء القبائل ذات الأصول الجنوبية واليمنية. وهم الذين احتضنوا الدين الجديد بصِفته دين المستضعفين. وتألَّف القسم الثاني من تجار أغنياء، هم وجهاء «قريش» وأعيانها، مُلَّاك العبيد والإبل والعطور وأصحاب قوافل التجارة إلى الشمال والجنوب. وقد أسلم هؤلاء قبل فتح «مكة» بقليل أو بعده، وصاروا بالتدريج سادة الدولة الجديدة، وراكموا في ظلِّها أضعاف ما راكموا قديمًا من ثروات.
فقد كان الخليفة يجمع ثروات المستعمرات في بيت المال الرئيسي، ويقوم بتوزيعها على الصفوة القرشية حسب منزلة كل واحد من أفرادها. وأصبح «الزبير بن العوام» يمتلك أرضًا في «الفسطاط»، وأخرى في الاسكندرية، ودارًا بكلٍّ من «الكوفة» و«البصرة»، وإحدى عشر دارًا بالمدينة، وأرضين في إحداهما غابة.
وجرى تسخير المصريين في شتى الأعمال؛ من أجل زيادة حصيلة الضرائب. فسخَّر «عمرو بن العاص» مائة وعشرين ألفًا من الفلاحين في إعادة حفر خليج «تراجان»، أو «قناة أمير المؤمنين»، وفي بناء الأسطول العربي وإقطاعيات وبيوت السادة العرب.
غادرت مقعدي مرة أخرى، وخطوت خلف ظهورهم وأنا أتكلم: انتقلت دراستي بعد ذلك إلى النتائج الاجتماعية والثقافية للغزو العربي؛ فقد ذكر «الطبري» أن الجيش الفاتح أسَر أعدادًا كبيرة من المصريين، وأن صفوف العبيد والجواري امتدَّت من «مصر» إلى «المدينة». والحق أن «عمر بن الخطاب» ردَّ هؤلاء المصريين، حينما صيَّرهم أهل ذمة، لكن سرعان ما ترسَّخت عبودية من نوع آخر قوامها السخرة والجزية والضرائب.
وبالنتيجة هجر الفلاحون — وخاصةً مَن لم يسلم منهم — القرى، والتحقوا بالأديرة التي كانت مُعْفاة من الضرائب في سنين الفتح الأولى. لكن الجزية لم تلبَث أن فُرضت على الرهبان ورجال الكنيسة، فتغيَّر موقف المصريين من العرب. وتأزَّمت العلاقة عند فرض تعريب الدواوين في ٨٥ هجرية/٧٠٤م. واشتدت وَطْأة الضرائب في عهد الخليفة الأموي «سليمان بن عبد الملك»، الذي اشتهر بنهَمه الدائم إلى الطعام. فقد أوصى والِيَه على خراج مصر بقوله «احلبها حتى ينقيك الدم، فإذا أنقاك الدم فاحلب حتى ينقيك القيح، لا تُبقِها لأحد بعدي». وأدى ذلك إلى انفجار الثورة عام ۱۰۷ هجرية، وتجددها عدة مرات طوال قرن كامل بمشاركة من فقراء المستوطنين العرب من القبائل القيسية واليمنية. واستمرَّت الثورة الأخيرة قُرابة ثمانية أشهر، حتى قمعها الخليفة العباسي «المأمون» بوحشية في ۲۱۷ هجرية/۸۳۲م. وعاد إلى «بغداد» بأربعة مليارات من الدنانير الذهبية، بعد أن ملَأَ بها كَفَّ كل جندي من جنوده. كل هذا كانت له آثار ثقافية واجتماعية بعيدة المدَى.
تجهَّم وجه «فادية»، واتسعت ابتسامة «مونا»، وقالت في جذَل: هذه شجاعة منك يا أستاذ؛ أن تعترف بهشاشة الأساس الذي يقوم عليه ما يسمَّى بالقومية العربية.
سارعت بالرد: أنت مُخطئة. يجب أن نفرق بين شيئين؛ البحث التاريخي كما سبق أن كررت مرارًا يُعنى بالحقائق ويتقصَّاها. أزعم أن الفتح العربي ﻟ «مصر» الذي تمَّ تحت سِتار الدين كان غزوًا، له دوافعه الاقتصادية والسياسية. لكن التطورات التالية التي شكلتها عوامل عديدة خلقت واقعًا جديدًا. وعلى مدَى أكثر من ألف سنة تكوَّنت بين شعوب المنطقة وحدة ثقافية، عمادها اللغة والدين والتاريخ والجغرافيا، وأساسها المصالح المشتركة الراهنة الاقتصادية والسياسية. هذا هو الأساس القوي للقومية العربية.
ثم أضفت: بالنسبة لأي مصري أو كويتي أو مغربي؛ فإن القومية العربية هي الضمان الوحيد للمستقبل. حتى ولو لم يدرِك البعض منهم ذلك. العدوان العراقي على «الكويت»، والتدخُّل الأمريكي كان يمكن تجنبهما لو اندمج أُمراء النفط في القاعدة العربية.
تدخلت «شرلي»: وماذا عن الزواج؟ هل تحقَّقت رغبة والدتك؟
شعرت بإرهاق مفاجئ فقلت وأنا أتأمل شفتيها الممتلئتَين: نؤجل الحديث عن ذلك إلى الدرس القادم.
ترددتْ فجأةً قعقعةٌ مرعبة، ورأيت زجاجة المياه تجري أمامي ثم تختفي. ومالت الطاولة وتساقطت الكتب والحقائب التي تحملها. اهتزت الغرفة بشدَّة، وسمِعت صوت زجاج يتكسَّر، وصاح أحدهم: زلزال.
استغرق الأمر كله عشرين ثانية. جرَيت إلى النافذة. كانت أجراس الإنذار تدوِّي في كل مكان، وتكررت القعقعة، ثم هدَأَ كل شيء مرة واحدة، وساد سكون غريب كأن الكون حبس أنفاسه. ثم انطلق عويل سيارات الإسعاف والشرطة.
طالعني وجه «شرلي» الشديد الشحوب. أنصتت في تركيز، ثم هتفت: الحمد لله، هذه المرة لا يزيد عن خمسة «ريختر».