الفصل الثامن والعشرون
ظهرت «شرلي» عند باب مكتبي في كنزة صوفية حمراء، تضغط صدرها الصغير وتنتهي عند الخصر، فوق حافة بنطلون الجينز الأزرق، ولاحظت أنها أضافت طبقة ثقيلة من الروج فوق شفتيها أبرزت امتلاءهما.
بادرتني: هل ما زلت تبحث عن كتاب «تومبسون»؟
أومَأْت بالإيجاب.
قالت وهي تبتسم: عصفورة صغيرة أبلغَتني بمكانه.
قلت: عظيم. اشتريه لي من فضلك. كم ثمنه؟
مددت يدي إلى جيبي، فاستوقفتني بحركة من يدها، وهي تلتفت نحو الباب المفتوح: ليس الآن. لو أحد شاهدك تعطيني نقودًا … ولم تكمل العبارة.
عرضت عليَّ أن تأخذني إلى المكتبة التي يوجد بها الكتاب فوافَقْت. ارتديت مِعطفي وحملت مظلَّتي، وانطلقت خلفها.
أخذتني في سيارة «فورد» قديمة إلى حي الشاطئ الشمالي. كانت بقايا قرع «الهالووين» ما تزال في مداخل البيوت، والعناكب والخفافيش والجماجم فوق واجهاتها.
أودعت السيارة في جاراج بشارع «كولومبوس»، وبعد قليل كنا نلج مكتبة «سيتي لايتس» الشهيرة.
أقرَّ البائع بعد استشارة الكمبيوتر بوجود الكتاب، ثم أضاف أن آخر نسخة منه بِيعت بالأمس.
ربَّتُّ على ذراعها عندما بدَت كسيفة البال، وطُفنا بأرجاء المكتبة. اشتريت مجلدًا عن الأحداث التاريخية للقرن العشرين، وقلَّبت صفحات مجلد آخر بعنوان «القرن الأميركي»، ثم اتجهنا إلى الخارج.
تلكأت قليلًا لأتصفح مجلدًا للمصوِّر الفوتوغرافي «روي ستيوارت»، تضمَّن غلافه صورة لفتاة عشرينية وقعت على ظهرها، فانكشف فخِذاها وكيلوت وردي اللون ذو منفرج ممتلئ. قلبت صفحات المجلد، وتوقفت عند صورة أخرى طوَّح فيها الهواء بجوبتها القصيرة.
شعرت فجأة بحركة خلفي، وبأنفاس ساخنة على رقبتي. انتفضتُ مذعورًا وسقط الكتاب من يدي. والتفتُّ لأجد رجلًا أربعينيًّا يمد رأسه ليتأمَّل الصورة من فوق كتفي.
غمغم معتذرًا وابتعد، فانحنيت أتناول الكتاب وقلبي ما زال يدقُّ في قوة.
غادرنا الحانوت، ولمحت مقابله مقهى «فيسيوفيو كافيه» فدعوتها إليه.
كان المقهى يشغل ناصية زقاق صغير، يحمل اسم كاتب الخمسينيات المتمرد «جاك كيرواك». وظهرت ملامح الفترة على نوافذه المزخرفة برسوم البراكين المتفجرة، وشعارات السلام، والقصائد المدونة بخط اليد. وفي الداخل طالعتنا ملصقات السِّتينيات بصور التجمعات الموسيقية الضخمة في الساحات والحدائق.
مرَرنا بين موائد للعب الشطرنج والورق، وكان البار مزدحمًا برجال أعمال وموظفي شركات في ملابس ثمينة كاملة بالصديري والحذاء اللامع، وبينهم سائحون في ملابس مهملة.
صعدنا الدرج إلى طابق مسروق أقل ازدحامًا، وجلسنا إلى مائدة بمقاعد خشبية بالقرب من شاب وفتاة يتطارَحان الغرام.
طلبت كوبًا من البيرة، واختارتْ هي عصيرًا.
قالت: لم يعجبني حديثك عن الحجاب. فمهما كانت التبريرات، أعتقد أن قلة الملابس دليل حرية.
قلت: هل تعتبرين خلع الملابس في «هوليود» حرية؟
قالت: هذا أمر آخر.
قلت: أبدًا، إنها قضية واحدة. تغطية الجسم أو تعريته لدواعي مذهبية أو تجارية تحوِّله إلى شيء.
مرت بإصبعها في حركة دائرية فوق حافة الكوب وهي تتأمله، ثم قالت: لا أعرف. ورفعت عينيها إليَّ وأضافت: «فادية» تقول إنك تقف بجوار النافذة؛ لتتأمل البنات الجالسات في الكافيتريا.
ضحكتُ وقلت: وماذا في هذا؟
بادلتني الضحك في ارتباك، وقالت وهي تفرغ كوب العصير: لا شيء. هي تعتقد أن الرجال لا يسعون إلا خلف الجنس، وأن الحب هو المشاعر، على العموم هي تبحث عن زوج.
لم أعلِّق. وضعت الكوب على المائدة، وقالت: هل تزوجت كما أرادت أمك؟
هززت رأسي: المحاضرة القادمة.
شَعرها الرمادي متناثر فوق الوسادة، وعيناها تتابعني في قلَق. نظرة لوم إذا تأخرت في الخارج. والحديث المكرر عن مصير الأولاد العاقين. وامتعاضها عندما جاءت «نجلاء». ثم شعوري بالخلاص عندما ماتت.
قالت: كنت أريد سبقًا صحفيًّا. قل لي: هل صحيح أن «عبد الناصر» و«تيتو» كانا على علاقة جنسية؟ هذا ما تقوله «مونا».
ضحكت، ولم أُعنَ بالرد.
اقترحت عليها أن نتناول طعام الغداء. غادرنا المقهى، وطلبت منها أن تختار مكانًا نذهب إليه.
مشينا بضع خطوات، وهي تتطلع حولها مفكرة، ثم ندت عنها صَرخة فرَح، وأشارت إلى حانوت في نهاية الشارع.
قالت: نأكل بسطرمة. ساندوتشات بسطرمة ساخنة مع فطيرة بطاطس ومخللات وقهوة.
مرت بنا سيارة طويلة بستة أبواب، فأبديت استغرابي.
قالت: إنها سيارة أجرة مخصوصة، يستأجرها البعض لتُقلَّهم إلى المسرح أو الكنيسة، من باب الاستعراض، ويدفعون ٣٠٠ دولارٍ في المشوار.
بلغنا الحانوت بعد خطوات. كانت واجهته بُنيَّة داكنة تشِي بالقِدَم. وفي الداخل تجمَّع الزبائن أمام كاونتر تدلَّت فوقه صفوف من قوالب البسطرمة الجافة.
توقفت مترددًا، فقالت بحماس: صاحبه يهودي. لن تجد مثله في كل «سان فرنسيسكو». يقدم لك عينات البسطرمة الساخنة لتتذوقها قبل أن تطلُب. رقيقة حمراء وطرية.
مصمصتْ بشفتَيها، وظهرت في عينيها نظرة حالمة.
قلت: أنا لا أحب الأكل واقفًا. ثم إني أكلت كثيرًا من البسطرمة في حياتي.
أشرت إلى مطعم شهير للوجَبات السريعة في نهاية الشارع، وقلت: ما رأيك؟
قلبت شفتها ازدراء، وقالت: هذا؟ إنه أردأ أنواع المطاعم.
قلت: سبحان الله! هو مطعم الصفوة عندنا.
وضعت إصبعًا على شفتها السفلى، وفكرت لحظة ثم قالت: هل تحب الطعام الياباني؟
أطرقتُ موافقًا، فقادتني إلى مطعم ياباني في شارع جانبي يتألَّف من مقصورات صغيرة متجاورة. جلسنا متواجهين في إحداها، وطلبنا قاربي «سوشي» مع «ساكي». ولاحظت أنها تتعامل مع الآخرين بثقة وجرأة، على العكس مني.
جاء النبيذ الياباني الساخن في فناجين خزفية. رفعت فنجانها إلى شفتَيها، ونظرت إليَّ في عيني قائلة: «شيرز.»
تعلقت عيناي بشفتَيها وأنا أردد: «شيرز.»
عجزت عن التعامل مع العِصي الخشبية، فوضعت يدَيْها فوق يدي، وحاولت تدريبي على استخدامهما دون فائدة.
التجأتُ إلى الشوكة بينما عالجت هي العِصي ببراعة. وبعد قليل وضَعتها جانبًا، وتوقفت عن الأكل، بينما ظلَّت نظراتها مثبَّتة على الطعام. لاحظت استغرابي، فابتسمت في شيء من الحزن، وأومأت بذقنها إلى جسمها.
قلت مجاملًا: لا أرى شيئًا غير عادي.
مدت يدها اليمنى خلف ظهرها، ووضعتها فوق أليتها قائلةً: ثلث الأمريكيين يُعاني من السمنة.
قلت: أودُّ أن أفهم بالضبط مشكلة الثلث؛ الثلث أميٌّ، والثلث تحت خطِّ الفقر، والثلث يعاني من السمنة. ما هي الحكاية؟
لم تُجِب، ومدت يدَها إلى ملاحة خزَفية مدبَّبة الرأس كمسلَّة، فتحسستها من القاعدة إلى قمة الرأس.
قالت: نحن مهووسون بالرجيم والتمرينات الرياضية والأطعمة المُنخفِضة الدهون بلا فائدة؛ لأننا لا نكف عن الأكل، حتى إننا اخترعنا وجبةً إضافية هي «البرنش» بين الإفطار والغداء. ما فائدة أن تكون الكعكة منخفضة الدهون إذا أكلت منها صندوقًا؟
تركت الملاحة، واستخرجت من حقيبة يدها قصاصة مجلة، قالت: هذا هو حلمي.
تناولت منها القصاصة، وقرأت: «حلم الرشاقة مع كثرة الطعام يتحقَّق.»
ابتسمت وتابعت القراءة: «اكتشف علماء كلية للطب في «هيوستون» طريقة تمكِّن الجسم من حرق الدهون المسببة للسمنة؛ فقد أخضعوا عدة فئران لتعديل جيني جرَّدها من الإنزيم المسئول عن التمثيل الغذائي للدهون، وعاشت الفئران وكبرت وتكاثرت بشكل جيِّد، واحتفظت برشاقتها رغم تناولها لكميات أكبر من الطعام، وتكوَّنت على أجسامها كميات من الشحوم أقل من الفئران العادية بنسبة النصف؛ لأنها كانت تحرق الأحماض الدهنية باستمرار. والآن يمكن تطوير عقار يستهدف الإنزيم نفسه في جسم الإنسان، ويقوم بإنقاص الوزن دون حاجة إلى الإقلال من الطعام أو ممارسة المزيد من التمرينات الرياضية.»
طويت الورقة وناولتها إياها.
قالت: هذه هي مشكلتي الأولى.
– والثانية؟
– لا أستطيع الحياة دون حبٍّ.
قلت: لكنك قلت لي أن لديك صديقًا ثابتًا. حبيب يعني.
– هذا صحيح. لكني أحن دائمًا إلى تكرار لحظات الحب الأولى، لمس الأيدي والتوتر والقلق.
أحاطت الملاحة بأصابعها وأخذت تتحسَّسها من القاعدة إلى القمة المدببة، وساد بيننا الصمت.
قالت بعد برهة: هناك مطعم لبناني في نفس الشارع يقدِّم موسيقى شرقية ورقص بطن.
– راقصة عربية؟
– لأ، أمريكية بيضاء. ترقص بين المقاعد ببزة الرقص الشهيرة عندكم التي تكشف مساحات كبيرة.
– هل يحب الأمريكان هذا الرقص؟
– أغلب الرواد شرقيُّون أو من أصلٍ شرقيٍّ. وهم ينفعلون ويصيحون ويصفِّقون على إيقاع الموسيقى، وينثرون فوق رأسها الدولارات. سجِّل العنوان لتذهب وقتما تشاء.
قلت: لست مغرمًا بهز البطن.
قالت: لماذا؟ أنا أحبه. وعندي بزة أرقص بها أحيانًا.
– لصديقك؟
– أجل، ولك إذا أحببتَ.
تشاغلت بدفع الحساب، بينما كانت تضع بقايا الطعام في صندوق من الورق. ثم غادرنا المطعم، فأعطت الصندوق لعجوز أسود يجلس فوق الرصيف. ومشينا في صمت بخطوات بطيئة، وعندما بلغنا الجاراج تحوَّلت إليها فجأة ووضعت يدي فوق رأسها، وجذَبتها نحوي فلم تقاوم. قبَّلتها في خدها، ودفنت رأسي في شعرها وأنا أتنفس في عمق بالرغم مني، وهو أمر لم أفعله من زمن طويل. انتصبت بشدة — وهو ما لم يحدث أيضًا من زمن طويل — ثم تحسَّست خدها بخدي وأنا أتشمم رائحتها، وكانت طيبة وبها أثر من عطر خفيف. ظلت ساكنة مستسلمة، ثم انفصَلنا واتجهنا إلى السيارة، وهناك احتضَنْتها من جديد من الجانب، فاستدارت قليلًا حتى التصق فخذانا.
لمحتْ بِركْنٍ عينيَّ شابًّا يعلِّق الملصق المعهود الذي يدعو لشرب اللبن على الجدار المقابل. ثم تبينت أن وجه الرجل في الملصق قد استُبدل بوجه «مونيكا»، كما أضيفت عبارة «ليس حليبًا» أسفل اللبن الذي يسيل من شفتَيها. تطلَّع إلينا الشاب بإمعان، وفكرت أن منظرنا ملفت بسبب فارق السن الواضح، لكني لم أراعِ. ومدت هي ساعديها، فأحاطتني بقوة وجذَبَتْني إليها ثم انفصلنا.
وضعت يدها في يدي وولجنا الجاراج. تنهدتُ وأنا أجلس إلى جوارها مردِّدًا: لا أصدِّق.
أوصلتني في صمت إلى منزلي. انحنيت لأقبِّلها فأعطتني خدها.
قلت: أشكرك.
قالت: سأُتَلْفن لك.
انتظرت فوق الرصيف حتى اختفَت سيارتها، ثم ولجت المنزل. تنقلت بين الغُرَف على غير هدًى، ثم حملت زجاجة بيرة إلى الحديقة. أشعلت سيجارة وجلست أستعيد ما حدث.
دخنت عدة مرات، ثم أعادني البرد إلى الداخل. تبولت وتنقلت بين الغرفة المطلة على الشارع وغرفة النوم، ثم رويت النباتات. وأخيرًا جلست إلى مكتبي، وفتحت الكمبيوتر. أوصلت الجهاز بالتليفون فوجدت بريدي الإلكتروني فارغًا. فصَلت التليفون وفتحت الملف الذي دونت فيه ملاحظاتي على أوراق مؤتمر المثقفين … مررت بعيني على السطور، دون أن أفقه منها شيئًا. فتحت الملف الذي يحوي مسودة كتابي الجديد، وبعد لحظات أغلقت الكمبيوتر وأدَرْت التليفزيون. تابعت مناقشة حول توبيخ الرئيس عن أكاذيبه بشأن «مونيكا»، ثم أغلقته ووضعت فيلمًا في الفيديو. ولم أفقه شيئًا من اسم الفيلم أو موضوعه.
دق جرس التليفون حوالي السابعة، فأسرعت إليه، ورفعت السماعة. لم يرد عليَّ أحد.
«مصرایم»؟
أم هي؟
لمت نفسي على أني لم أحصل على رقم تليفونها. حملت علبة سجائري وسماعة التليفون المتنقِّلة إلى الحديقة. دخنت سيجارة، ثم عدت إلى الداخل. ولَجت الحمام، وانحنيت أتأمل وجهي في المرآة.
الأب؟ أم هالة الأستاذ؟ أم درجات؟ أم نقوده؟
تذكرت حديث ماهر عن ألاعيب الطالبات، وتهمة التحرش الجنسي. وتذكرت أيضًا رسائل «إكس».
والاحتمالات الأخرى؟
تَلْفنت بعد التاسعة.
– هل تحب الخروج؟
أجبت على الفور: سأنتظرك أمام المدخل.
وصلت في سيارتها بعد عشر دقائق مرتديةً معطفًا أسود فوق الكنزة الحمراء، وينطلون الجينز. ركبت إلى جوارها وذهبنا إلى مقهى قريب. ركنَّا السيارة وجلسنا في الخارج، أسفل مدفأة دائرية، نحتسي قهوة باللبن. وضبطَتْني أنظر إلى شفتيها، فحوَّلت نظراتي ولمحتها بركن عيني تمصُّ شفتيها.
حركة عصبية، أم ترطبهما توقعًا لأن أقبِّلها؟
قالت: فكرت في لقاء الصباح.
«لم أتوقع أن تنسى وضعك كأستاذ، ثم إني قلت لك إني مرتبطة. أو …»
تمعنت في ملامحها، لكنها كالعادة كانت بلا تعبير.
قالت: كنت أتحدث طول الوقت، ولم أترك لك فرصة.
قلت: أنا أيضا فكرت فيما حدث، وفيما يمكن أن يسببه من ضرر. هناك أيضًا … كم عمرك بالضبط؟
– كم تظن؟
– لن تزيدي عن خمس وعشرين. لو كنت أنجبت في مقتبل الشباب، لكان لديَّ الآن ابنة في سنك.
قالت: لا أرى في ذلك مشكلة.
قلت: وهناك صديقك.
أجابت بحدة: توم؟ إنَّه لا يملكني.
غيرت الموضوع: ماذا يفعل؟
– يدرس مثلي. نحن نعرف بعضنا من أيام المدرسة، وسنتزوج قريبًا.
– هل هو غيور؟
– أوشك أن ينتحر، عندما حكيت له عن مغامرةٍ عابرة لي.
– هل تحكين له دائمًا مغامراتك؟
ضحكت: لا. تعلمت ألَّا أفعل.
– وأنت، هل تغيرين عليه؟
– مرة لاحظت اهتمامه بزميلة له. كان يتحدث عنها بإعجاب، وماذا قالتْ، وماذا فعلَتْ، فكدت أجن.
وضعت فخذًا سمينًا فوق الآخر، وتدلَّت خصلة من الشعر فوق الجانب الأيمن من جبهتها.
قلت: ربما كانت هناك أزمة ما بينكما، ليس من حقِّي استغلالها.
قالت: أبدًا! كل شيء بيننا على ما يُرام. نحن نلتقي دائمًا في عطلة نهاية الأسبوع. إما أن يأتي عندي، أو أذهب عنده.
انحنيت إلى الأمام، واخترت كلماتي بعناية: منذ فترة بدأت أتلقَّى رسائل غامضة.
قالت بحماس طفولي: هل يبتزُّونك؟
– مَن هم؟
– أي واحد. إنها صيغة في الكلام.
تأملت عينيها بإمعان، وقلت: لأ، ليس بها شيء خطير.
في البداية كانت مرفقة بالورود. إنها أقرب إلى عبَث أطفال أو مراهقين. هل لديك فكرة عمن يمكن أن يكون المرسل؟
هزت رأسها نافية، ولم يبدُ عليها ما يشير إلى أنها تكذب أو تُخفي شيئًا.
استرخيت في مقعدي، وقلت: كيف تنطقين لقبك؟ «نايستروم»؟
– «نايسترووم» بنقطتين فوق حرف اﻟ «أو»، هذا اسم نَرويجي، جَدِّي جاء من هناك.
– وماذا يفعل أبوك؟
– لا شيء.
– كم عمره؟
– فوق الستين.
استخرجت حافظة صغيرة من كيسها، وأرتني صورة له. تأملت الوجه ولاحظت أوجه الشبه بيننا.
– متقاعد؟
– تقريبًا.
– كيف؟
أخذت تعبث بكوب القهوة ثم قالت: قصته عادية. كان يملك مكتبًا صغيرًا للتصميمات المعمارية. ونجح، وأخذ يتوسع، حتى إنه خطَّط لافتتاح فرع في «لوس أنجلوس». وفي تلك اللحظة كانت شركة المقاولات العملاقة «سولام» قد بدأت تشتري الشركات المنافسة، ثم انتقلت إلى المكاتب الهندسية، ووضعت عينها على شركة أبي. قدمت له عرضًا مغريًا، لكنه رفض مفضلًا أن يبقى في السوق.
وفجأة فقدَ عقدًا ضخمًا لتصميم مطار، وتلاه عقد آخر. وكان يعتمد على هذين العقدين في التوسع. ولثقته في الحصول عليهما كان قد اقترض بضمان الشركة. استطاع أن يقنع البنك بتأجيل السداد شهرين بِرهْن المنزل، ثم انتشرت الأنباء بأنه يواجه مشكلة سيولة، وأبلغه البنك بأنه سيحجز على مدَّخراته، وحسابه، والشركة، والمنزل، وسيارتين إن لم يسدِّد القرض.
صمتت فسألتها: ماذا فعل؟
– لم يفعل شيئًا. استولى البنك على كل شيء، وانتقلنا إلى مسكن صغير. وبعد قليل آلت الشركة إلى «سولام».
– وأبوك؟
– فقَدَ النطق. ولولا أمي لصِرنا في الشارع؛ فهي التي تنفق على المنزل من راتبها في التدريس.
– وأنت؟
– أنا أدبِّر نفسي جيدًا، فالدراسة بمنحة، ثم إني أقوم ببعض أعمال النسخ للطلاب. التعليم الجامعي أصبح فوق متناول الأُسر ذات الدخل المنخفض. المِنَح الآن نصفُ ما كانت عليه من عشرين سنة.
رفعت فنجاني إلى شفتي، ثم خطر لي خاطر فأعدته إلى المائدة، وسألتها: عندك كمبيوتر؟
– اشتركنا أنا و«دوريس» في واحد؛ فنحن نسكن معًا.
ألقت نظرة على ساعتها، وقالت: الوقت تأخر، يجب أن أذهب.
حملتُ قائمة الحساب إلى الداخل ودفعت، ثم غادرنا المقهى.
احتضنتها عند باب السيارة، ودعكت خدي بخدها، وامتصصت وجنتها ثم أُذُنها. وهمستُ لها إن بشرتها ناعمة وشفَّافة.
قالت: عندي دائمًا إحساس أن جلد وجهي سيتهاوَى مرة واحدة.
قبَّلتها في شفتيها، لكنهما كانتا جافتين ولم تستجيبا لي. حاولت مرة أخرى، فسمحت لي — دون حماس — أن ألتقط السُّفلى وأمتصها.
تخلصت مني برفق، وفتحت باب السيارة وركبت. مدَّت يدها، فأزالت صمام الباب الآخر وهي تقول: اركب.
قلت: أفضل أن أمشي، أعرف الطريق من هنا. أغلقَت الباب وأنزلَتْ نافذته، وهي تقول: أوكي، باي!
ثم مدت رأسها خارج النافذة، وأضافت: أرجوك ألا تغضب مني أبدًا مهما حدث.