الفصل الثالث
ملأت الحوض وأخذت حمامًا طويلًا منعشًا، جفَّفت جسمي وأنا أتطلع إلى صورته كما عكستها المرايا المتعددة في ضوء الصباح، لم يسبق لي أن فعلت ذلك، وكنت أعجب دائمًا لصديق في نفس عمري، أستاذ بكلية الحقوق، يستمتع بالاستمناء أمام المرآة.
انتهيتُ من ارتداء ملابس الخروج عندما دقَّ جرس الباب، فتحت باب مسكني ولمحت ظلًّا كبيرًا خلف زجاج الباب الخارجي، أزلت أقفاله وجذبته، فوجدت أمامي عجوزًا سوداء ضخمة، قدمت لي نفسها على أنها المسئولة عن تنظيف المسكن، أفسحت لها الطريق وأنا أتأمل يديها المزوَّدتين بأظافر طويلة للغاية، اصطناعية في الغالب، مصبوغة بلون أبيض، اتجهت على الفور إلى خزانة أدوات التنظيف، وتنقلت في صمت بين المطبخ والحمام، بينما جلست إلى مكتبي أتصفح كتبي وأوراقي.
لمحتُ إعلان القطة الضائعة، واستقرت نظراتي على فخذَي صاحبتها ورقم التليفون، فكرت في الاتصال بها، وقلَّبْت الأمر في ذهني ثم صرفت النظر عنه.
أعلنت العجوز انتهاء عملها بعد ساعتين وانصرفت، وغادرت المسكن في أثرها، وجدت خطابات جيراني الثلاثة مرة أخرى فوق صندوق البريد، فأعدتها إلى الداخل.
مشيت إلى الجامعة في جوٍّ به برودة منعشة، مررت بعمَّال بناء انتحى كلٌّ منهم جانبًا مع صندوق طعامه، بينما اكتفى واحد منهم ذو ملامح آسيوية بتفاحة، وبدأت الحياة تدب في الشارع كلما اقتربت من «الكامبوس» حرم الجامعة؛ فقد ظهر المشرَّدون الذين يشحذون الفكَّة بصحبة كلابهم، والمعاقون في مقاعدهم المتحركة، وشبَّان بشعور طويلة معقودة خلف رءوسهم على هيئة ذيل الحصان، أو أمامها على هيئة عرف الديك، أو ملونة بالألوان البنفسجية والخضراء، أو مجثوثة من جُذورها، وفتيات بدرجات مختلفة من العري، في شورتات أو بنطلونات مرقَّعة أو أردية فضفاضة تقترب من الزي الإسلامي، يضعن خواتم وحلقانًا في الأنف والأذن وأحيانًا الحاجب، وتتغطي سواعدهن وظهورهن بالوشوم.
انبعثت روائح الأكل من المطاعم الصغيرة التي تمتلئ بالطَّلَبة الجالسين قرب النوافذ يلتهمون أطباق السلاطة، وشممت رائحة زيت القلي المتكرر الاستخدام الذي عهِدته في شوارع «القاهرة» أمام محلات «الطعمية».
أشرفت أخيرًا على مباني الجامعة، فألفيت في مدخلها منصة عالية جلس خلفها شابان أسودان وسط طبول معدنية ضخمة ومكبرات صوت كبيرة، ولجت المعهد خلف فتاة فارعة في صندل خشبي وسروال من الجينز، فوقه صديرية قصيرة أبرزت بطنًا عارية.
ابتسمت لي السكرتيرة السوداء ابتسامتها المتكلَّفة، وهي تدس يدَها في كيس من الفطائر قائلة: هاو يو دوينج؟ ولجت الغرفة الصغيرة المجاورة، وبحثت عن صندوق البريد الخاص بي، كانت صناديق الأساتذة المغلقة في جانب، وفي الجانب الآخر كُوات مفتوحة خُصصت للمعيدين والمدرسين الشبان، ولم أجِدْ في الصندوق الذي يحمل اسمي سوى بعض الإعلانات.
غادرت الغرفة وتمهَّلت أمام خزانة للمواد الكتابية التي تُتاح مجانًا للأساتذة، التقطت بضعة مظاريف صفراء من نوع نادر الوجود في «مصر»، ووضعتها في حقيبتي، ثم مضيت إلى «جيني» وحصلت منها على رقم القاعة التي سألقي بها درسي.
صعدت إلى الطابق الرابع، وبحثت طويلًا عن القاعة دون جدوى، ثم تبيَّنت أن أرقام قاعات كل طابق تبدأ برقمه، بينما يبدأ الرقم الذي أعطتنيه «جيني» بصفر، لم أشَأْ أن أعود إليها وهبطت إلى الطابق الأرضي، لكني لم أجد به قاعات تدريس، صعدت ونزلت عدة مرات إلى أن وجدت القاعة في الطابق الثالث، أي تبدأ برقم ۳ لا صفر، وكانت بها فتاة بيضاء سمينة ذات وجه مليء بالبثور، ترتدي أوفرولًا بصلي اللون، استقبلتني مرحبةً قائلةً بعربية ركيكة: أهلًا وسهلًا.
أبديت دهشتي من معرفتها للعربية، فقالت إنها لا تعرف سوى بضع كلمات، وإنها زارت «القاهرة» منذ عامين.
لم تكن القاعة كبيرة، وقد حددتها مسز «شادويك» على أساس عدد الطلبة الذين أدرجوا أسماءهم في حلقتي، كانت تضم طاولة خشبية نظيفة تحيط بها مقاعد مريحة مبطَّنة بالجلد، وتشرف عليها سبورة واسعة مزوَّدة بأقلام فوسفورية، وضعت حقيبتي فوق الطاولة، واقتربت من النافذة، وجذبت ستارتها المعدنية، أطللت على ساحة انتشرت فيها عدة موائد ومقاعد تابعة فيما يبدو لكافيتريا في المبنى المقابل، واستقرت عيناي على طالبة خلعت حذاءها، ومدَّدَت ساقيها فوق مقعد معرِّضة كتِفين عاريَين لأشعة الشمس، كانت تقرأ في كتاب ثم تشرد قليلًا، وتهز فخذيها الممتلئين في رِفق كأنما تدعك أحدهما بالآخر.
تتابَعَ وفود طلابي، وأحصيت أحد عشر فردًا التفُّوا أمامي حول الطاولة يتأملونني في توجُّس؛ كانوا ثلاثة شبان — أحدهم أحمر الشعر — وثماني فتيات بينهن واحدة سمراء غطَّت شعرَها على الطريقة الإسلامية، وتنوعت ملامح الجميع بين صينية أو يابانية وهندية أو أفريقية فضلًا عن أوروبية.
لم أكن أقل منهم توجسًا، وعلى رأس دواعي القلق كانت لغتي الإنجليزية؛ فلأني لُقنتها في مدرسة حكومية، لم أكن في طلاقة وسلامة النطق اللتين يتمتَّع بهما خريجو المدارس الأجنبية، أو الجامعة الأمريكية.
استوقفتني واحدة ذكرت أن مجال اهتمامها هو الدراسات الجنسية، كانت تُدعى «روزيتا» ويوحي لقبها بأصول إيطالية، وكانت متوسِّطة الطول ذات رقبة طويلة منتفخة قليلًا، ووَجْنَتين جذَّابتين وشعر أسود ناعم وقصير.
كشفت العبارات القليلة التي تبادلتها معهم أن مخاوفي بشأن اللغة لا أساس لها؛ فقد كان كل واحد منهم يتكلم لهجة مختلفة عن الآخر.
استجمعت نفسي وقلت بصوتٍ حاولت أن أبُث فيه القوة: إن حلقتنا قد تبدو غير مألوفة؛ لأن موضوعها ليس حقبة معينة في التاريخ أو قضية من قضاياه الشائكة، وإنما الموضوع هو التاريخ الشخصي للمحاضر. وليس الأمر بالطبع سيرة ذاتية؛ فهذه لا تهم أحدًا غير صاحبها، إنما الفكرة هي محاولة دراسة نشاط مؤرخ عربي معاصر قضى أكثر من ثلاثين سنةً في المهنة، وتتبع العوامل التي ساهمت في توجيهه إلى دراسة التاريخ، واعتماده منهجًا معينًا في أبحاثه، ثم محاولة تقويم هذا المنهج وتقدير نصيبه من النجاح والفشل، وأضفت: إن هذا العرض سيستعين بمناهج عدة من علوم مختلفة، كما سيتيح للطالب التعرف على عديد من القضايا التاريخية، وخاصةً المتعلقةَ بمصر والعالم العربي، ويدربه على البحث.
توقفت لحظةً وجُلت بنظراتي بينهم، ثم استطردت قائلًا: إن كل طالب سيكون ملزمًا بأن يقدم عرضًا شفويًّا لأحد الموضوعات المرتبطة بقضايا السيمنار، أما الأبحاث الختامية فستكون من عشر صفحات لطلاب المرحلة الجامعية وعشرين لطلاب الدراسات العليا.
كان أدائي سيئًا وبلا حماس، وبدا الكلام ممجوجًا، ووجدت نفسي أحيانًا عاجزًا عن تذكر ما قلته من ثوانٍ، كنت مرهقًا وجائعًا وغير واثق من نفسي، وزاد إحباطي عندما أعلنَتْ طالبة إيرانية أنها لن تواصل معي؛ لأن مواعيد دروسها الأساسية تتعارض مع مواعيد محاضراتي، كما انسحبت أخرى بيضاء طويلة القامة ذات وجه شاحب عصابي، يشبه وجوه مدمني المخدرات، وبينما تقاطروا نحو الباب منصرفين اقتربت مني «روزيتا» الإيطالية، وأعلنت أنها لم تحسِم بعدُ أمرها بشأن الانتظام في الحلقة.
تطلعت إليَّ من خلف نظارة طبية أخفَتْ ضيق عينيها، بل وأعطتهما شيئًا من الجاذبية. وبدت فيهما نظرة ماكرة، وهي تقول: دراستي الأساسية تستغرق كل وقتي، لكني في حاجة أيضا إلى درجات إضافية.
تخيَّلت انسحابهم واحدًا بعد الآخر، فقلت في تهوُّر: تعالي وقتما تشائين، وسأعطيك ما تحتاجين إليه من درجات.
حملت مشكلة الكمبيوتر إلى السكرتيرة الشقراء بعد انتهاء الدرس، كانت منحنية على شاشة الكمبيوتر وظهرها لي، تبادلنا «هاي» دون أن تلتفت نحوي.
وقالت بعد أن شرحت لها مشكلة المقبس: ابحث في السوبر ماركت.
قلت: بحثت ولم أجِدْ.
هزَّت كتفها وواصلت عملها دون أن تعبأ بي.
استدرت منصرفًا، فالتقيت بمسز «شادويك» مندفعةً إلى مكتبها المجاور.
قالت: تبدو تعيسًا.
شرحت لها مشكلة الكمبيوتر، وتبِعْتها إلى داخل غرفتها.
قالت: المهاجرون الأوروبيون الأوائل أرادوا أن يجعلوا كل ما هو أمريكي مختلفًا عن كل ما هو أوروبي، جعلوا التيار الكهربائي ۱۱۰ فولتًا بدلًا من ۲۲۰، وضاعفوا سمك قضبان المقابس، هل لاحظت طريقتنا في كتابة التاريخ؟ العالم كله يبدأ باليوم فالشهر فالسنة، إلا نحن: الشهر أولًا ثم اليوم ثم السنة.
قلت: والحل؟
قالت: هناك حانوت باكستاني في شارع «فولتون» عنده كل شيء.
وصفت لي كيف أجده فشكرتها، واتجهت إلى المصعد، وجدت أمامه زحامًا من الطلاب، فهبطت الدرج، التقيت «ماهر» خارجًا من مكتبه بالطابق الأول، فدعاني إلى شرب القهوة.
قلت: بشرط أن تكون في الخارج.
استمهلني حتى يبلغ سكرتيرته، ثم هبطنا سويًّا.
قال: كيف حال الدرس؟
قلت: لا بأس، عندي طالبة تغطي رأسها.
قال: هذه مصرية، وُلدت في مصر من أبوين مصريين.
كان «ماهر لبيب» مصريًّا من الجيل التالي لي مباشرة، وقمت بالتدريس له عندما كنت معيدًا في جامعة «القاهرة»، وكان متفوقًا في دراسته فتلقَّى منحة من جامعة «كولومبيا»، ونال الدكتوراه بامتياز، ثم رفض العودة واستقر في «أمريكا»، وحصل على الجنسية الأمريكية، وصار منذ سنتين مديرًا لمركز الدراسات الذي استضافني، كان ممتلئَ الجسم أنيقًا على الطريقة الأمريكية الخادعة بالمظهر البسيط، وتكلَّلَتْ هامته بشعر مجعَّد انتشر به اللون الأبيض.
غادرنا المعهد، ومضينا وسط المساحات الخضراء الواسعة التي تغطِّي أرض «الكامبوس»، وجاءتنا أصوات لاعبي الكرة في الملاعب المنتشرة حولنا، كان الطلاب والطالبات يتحرَّكون بنشاط بين الأبنية المتعددة والساحات الرياضية، وجلس بعضهم خلف موائد متجاورة عند المدخل تُغَطيها النشرات وزجاجات المياه، وتعلوها لافتات كبيرة تعلن عن عديد من الروابط والجماعات؛ أبناء الجاليات الأجنبية، والأقليات العرقية من لاتينية وهندية وأفروأمريكية وآسيوية، المعارضين للحرب النووية، المدافعين عن البيئة، أنصار الدولة الفلسطينية وأعدائها، دعاة السلطة الإسلامية المدافعين عن الحقوق المدنية، المعارضين لأشكال التفرقة العنصرية، المطالبين بمأوًى للمشرَّدين والعاطلين، جماعات المثلية الجنسية … إلخ.
لحظت أن «ماهر» يرمقني بطرف عينه مبتسمًا، وأدركت أنه استشفَّ ما جال بخاطري.
البوابة الرئيسية لجامعة القاهرة والمظاهر الأمنية المسلَّحة، إعلانات الأنشطة الطلابية الهامشية مثل الأسواق الخيرية والندوات التي يتصدَّرها عمداء عيَّنتهم الحكومة، ومجلات الحائط بأفكارها الركيكة مثل لغتها، وجوه الطلبة والطالبات التي تعلوها شيخوخة مبكرة.
خرجنا إلى شارع «فولتون» ومضينا فيه شرقًا في اتجاه وسط المدينة، توقفنا أمام مظاهرة صغيرة من عشرين شخصًا رفعوا لافتات تدعو إلى مقاومة العداء للسامية، ثم مررنا من أمام الحلقة التقليدية من المشرَّدين الذين جلسوا إلى جوار الجدران أو افترشوا الأرض يقرءُون مجلات الأطفال المصورة باستغراق، وإلى جوارهم زجاجات من عصير البرتقال.
كان أحدهم كهلًا يجلس خلف بسطة من العقود والسلاسل الملونة مُعرِّيًا صدرًا عريضًا نُقشت عليه أسود ونمور، وأمامه قطعة من الورق المقوَّى تحمل عبارة تستنكر العدوان الأمريكي على «السودان» و «أفغانستان» التي كتبها هكذا: «أفغيستان.»
علَّق «ماهر»: نسيت أن أقول لك: «أمريكا» ضربت «السودان» و«أفغانستان» بخمسة وسبعين صاروخًا من طراز «كروز».
– متي؟
– منذ ساعات.
عثَرنا على الحانوت الباكستاني بسهولة وكان صغير الحجم، لكنه امتلأ بسلع كثيرة متنوعة. أحضر لي صاحبه التوصيلة المطلوبة، وسألني عن البلد الذي جئت منه.
قال: سمعت أن المسلمين عندكم يُقبض عليهم، وتُقص لهم ذقونهم، وتُمزَّق لهم ملابسهم!
قلت: وأنا أيضا سمعت هنا أن الأقباط عندنا يُقتلون، ويُجبرون على تغيير ديانتهم والدخول في الإسلام.
تطلَّع إليَّ بغير فهم، ولم أشأ أن أوضِّح له بعد أن تقاضى مني أربعة دولارات في قطعة من البلاستيك، صُنعت في «الصين» تُباع في «مصر» بأقل من عشرة سنتات.
علق «ماهر»، ونحن نعبر الشارع عند التقاطُع: المهاجرون يضطرون لاختلاق هذه القصص؛ ليحصلوا على الإقامة. منذ شهور قبضت «إف بي آي» وكالة المباحث الأمريكية، على محامٍ مصريٍّ يقوم بتزوير أوراق رسمية تُثبِت تعرُّض أصحابها للاضطهاد الديني في «مصر»، وقدر عدد هذه الحالات في السنوات الخمس الماضية ﺑ «٧٠» ألف حالة.
وابتسم وهو يضيف: أعرف زوجة مصرية قَبلت أن يُنسب إليها أنها تعرَّضت للاغتصاب، بعد أن وجدت أنها أسهل طريقة للبقاء في «الولايات المتحدة».
اتجهنا جنوبًا، وبدأ الطريق يصعد إلى ما يشبه هضبة تحتلها منطقة سكنية، وولجنا مقهًى على ناصية شارعين.
اقترح «ماهر» أن نجلس في الخارج، فأخذنا قهوتينا من الكاونتر، واخترنا مائدة إلى جوار سوداء فارعة مدَّدت ساقيها فوق مقعد أمامها، وأبرزت صدرًا عفيًّا، تطلَّعت إلينا في ثَبات دون أن تتحرك من مكانها، وجاءت جلستنا في مواجهة فتاة بيضاء طويلة ترتدي جوبة قصيرة للغاية مشقوقة من الجانب، تجلس بجوار كهلة تلتهم كوبًا كبيرًا من الآيس كريم. كان وجه الفتاة عاديًّا ليس به ما يَلفت بعكس ساقيها، كانتا ممتلئتين في غير ترهُّل ومنسابتَين في تناسق، وقد لوَّحتهما الشمس، تابعتُها ببصري عندما نهضت واقفةً، ومشت ببطء وقامة محنيَّة قليلًا وفي عينيها نظرة مسترخية شبه نعسانة حتى ولَجت حانوتًا مجاورًا. عادت بعد قليل وفي يدها علبة سجائر، فاحتلَّت مقعدها دون أن تتطلع حولها أو تعبأ بخطر الكشف عن ملابسها الداخلية، وضعت ساقًا فوق ساق، ثم مدت يدَها في لامبالاةٍ ودون لهفة، فعدلت طرف الجوبة القصيرة المشقوقة، وهي تواصل الحديث مع الكهلة، وتنتزع غلاف علبة السجائر. وقدرت عمرها بثمانية عشر عامًا أو أكثر قليلًا.
أهناك بعض الترهل في أعلى الفخذين، أم ما زالا مشدودَين ومتماسكين؟
انتزعني من خواطري متسائلًا: أما زال التاريخ المقارن مرفوعًا من الخدمة؟
كان يشير إلى أن برامج التدريس في الجامعات المصرية لا تتضمن هذه المادَّة.
قلت: أنت تعرف العقليات السائدة عندنا، لكننا نحاول دائمًا العثور على مخرج.
ابتسم ابتسامة ملتوية: كما فعلت أنت، انظر ماذا حدث لك.
تذكرت المدرس الشاب الذي تَلْفن لي من شهرين، قائلًا إنه سيهاجر إلى أمريكا بعد دقائق، ولن يعود إلى «مصر» مطلقًا، وإنه قرر أن يتَّصل بي قبل سفره ليشد من أزري.
مطار نيويورك والطابور الطويل الذي يدور بعدة لفَّات متعرجة، يتحكَّم فيه عجوز صيني يتحدث الإنجليزية بطريقة غير مفهومة، ويحرك يدَيه حركة عسكرية، فيسرع الطامحون بالانصياع والوقوف في المكان الذي يحدده.
أصر «ماهر» على نكء الجراح، سألني وهو يرتشف قهوته: وأخبار النهضة التكنولوجية؟
كان رئيس الجمهورية قد تحدَّث منذ أيام عن برنامج قومي شامل للنهضة؛ كي تصبح «مصر» مجتمعًا منتجًا للتكنولوجيا.
بدا في أحسن حالاته وقد أثبت لنفسه مرة أخرى أنه كان على حق عندما قرر عدم العودة. لم أعلق، ولا عندما ذكر مقال رئيس محكمة أمن الدولة العليا في صحيفة «الأهرام» عن الشياطين الصغار، وضرورة أن يبسمل الزوج ويستعيذ بالشيطان عندما يجامع زوجته؛ وإلا دخل معه الشيطان وصار هو الأب الحقيقي لأولاده.
استفزَّه صمتي فقال: أتذكر الحكم الذي أصدرته إحدى المحاكم سنة ١٩٨٤م؟ أظنها كانت محكمة الجيزة للأحوال الشخصية، حكمت بتطليق امرأة من زوجها بعد أن ثبت للمحكمة بشهادة الشهود أن الزوج قد تزوج من واحدة من بنات الجن، وأنجب منها طفلَين من الجان.
توقفت أمامنا امرأة بيضاء شابة وبدينة في ملابس رثَّة، يتعلق ببنطلونها طفلان، وبجوارها رجل في سنِّها على وجهه تعبير من الاستياء، تحدثت إليه في حدَّة وإلحاح إلى أن أعطاها بضع نقود معدنية أخذتها، وولجت المقهى وطفلاها في أعقابها.
قال: لا أظن، لم يعد بياض البشرة دليلًا على الأصل؛ فهناك بيض من مهاجري رومانيا وكشمير والأرجنتين.
ضحك فجأة وسألني: هل حكيت لك عن ابن عمي؟ أجبتُ بالنفي.
– ظل يلح ليأتي في زيارة، وجاء من «أسيوط» مباشرة.
طفت به المدينة، ورأى السُّمر والصفر والسود والخضر، وفي اليوم الثالث سألني حائرًا: ابن عمي، أمال فين الأمريكان؟
استفسرت عن زوجته. قال: إنها غير راضية عن عملها في شركة محاسبة، وتحن للعودة و«تزنُّ» طول الوقت. وأضاف في حسد، مشيرًا إلى تمسكي بالعزوبية: أنت أفلتَّ بجلدك.
تابعت رجلًا أربعينيًّا ذا بشرة بنيَّة يرتدي بلوزة بلا أكمام تكشف عضلاته، ويدفع أمامه جرارًا صغيرًا يحمل بطانية وكيس نوم طُويا في عناية، أسند الجرار في هدوء إلى جدار المقهى، ثم دخل واتجه إلى دورة المياه، وتطلع «ماهر» خلفي فجأةً، واستحثني قائلًا: انظر!
وقبل أن أدير رأسي اقتربتْ منا فتاة شقراء ترتدي عوينات طبية عريضة. تطلعت إلى «ماهر» مبتسمة فبادلها الابتسام، ظننتها إحدى طالباته إلى أن قال، وهو يتحسس شاربه المحفوف في عناية: أوه ماي جود، يا إلهي!
تابعتها من الخلف، حتى اختفت داخل المقهى، كانت ترتدي فستانًا خفيفًا مشجَّرًا يصل إلى منتصف فخذين أبيضين متناسقين، وحذاءً مفتوحًا بكعبين عاليين، وظهرت بعد قليل تحمل كوبًا من القهوة في يدٍ وسيجارة في اليد الأخرى، وما زالت تبتسم، مرت بجوارنا على مهل وتجاوزت المقهى، ثم توقفت أمام صندوق آلي للنقود، فوضعت به كارتًا وانحنَت تتفحص شيئًا ما، فانسحب ثوبها حتى أعلى فخذيها، وتبدت استدارتهما رائعة أقرب إلى تمثال من المرمر، ثم اعتدلت واقفة وواصلت طريقها في بطء وهي تتأود في حسِّية.
شعرت أن العرض موجَّه إلينا، فقلت بغير حماس: ما رأيك في أن ندعوها للجلوس معنا؟
التمعت عيناه، ومسح بيده على شعر رأسه كأنما يسويه.
كان الأسمر قد عاد إلى مائدته، وجلس يحتسي القهوة، وهو يتأمل الشارع في جمود.
قال: لا بد أنها «كول جيرل» مومس، وابتسمت لنا لأننا كهول ونبدو أساتذة، وبالتالي نستطيع أن ندفع ٥٠٠ دولار مثلًا.
قلت: يا شيخ، لعلها طالبة.
ضحك: وإيه يعني؟ السنة الماضية اكتشفوا في «هارفارد» حلقة دعارة من الطالبات، تأخذ الواحدة في اللقاء الواحد ۳۰۰ دولار.
– يعني لو اشتغلت ساعة كل يوم تحصل على أكثر من راتبي.
أضفت بعد لحظة: كيف حالك مع الطالبات؟
قال: حذارِ أن تقترب منهن، وإلا وجدت نفسك متهمًا بالتحرش الجنسي. إحدى طالباتي رسبت، فقالت لأمها إني انتقمت منها؛ لأنها لم تستسلم لمداعباتي، وكانت فضيحة، ولم ينقذني إلا سجلي النقي، ثم انهيار الفتاة واعترافها بالكذب.
ثم أضاف: عندك خدمات «الاسكورت» المرافقة، إذا احتجت، تجد إعلاناتها في الصحف، وتشمل الساونا والمساج والزيارة في المنزل، وتحت هذا الستار يُمارس البغاء المحرم قانونًا.
سألته عما إذا كان سعيدًا بحياته في «أمريكا»، تحدث بحماس عن الكتب وإمكانيات البحث العلمي والمؤتمرات العديدة، ومرت بنا سيارة شرطة، وهي تطلق عويلها الكئيب فنهض واقفًا، وهو يقول: الدنيا برَّدت.
غادرنا المقهى ولمحت حانوتًا لبيع الصحف والسجائر فاشتريت «نيويورك تايمز»، وأصرَّ على توصيلي إلى منزلي بسيارته، مضينا إلى مبنى انتظار السيارات الخاص بالجامعة، أقلَّنا المصعد إلى الطابق الرابع، وتبعته إلى سيارة «شيفروليه» حديثة الطراز ذات لون رمادي معدني، وقف يتأملها في اعتزاز ثم دار حولها يتفحَّص جوانبها ليتأكد من سلامتها، ثم فُتح باباها بجهاز الرموت.
ركب على مهل وتبعته، وقاد السيارة باستمتاع حتى منزلي، دعوته للدخول فاعتذر وانصرف.
جرَّبت التوصيلة بمجرد دخولي، فتمكنت من فتح الجهاز، واستعراض الصفحات التي سجلت فيها ملاحظاتي على المراجع والنقاط التي سأتناولها، ونقَلْتها على الفور إلى قرص فارغ.
أودَعْت دجاجة صغيرة في الفرن، وجلست أتفرج على حلقة من برنامج عن «الإسكندر الأكبر»، تلاها فيلم بوليسي، وكنت في منتصف مطاردة حامية عندما دوَّى جرس إنذار حاد، ظننته من أحداث الفيلم ثم تبينت أنه صادر عن جهاز مثبت في مدخل الغرفة، فانتفضت واقفًا، شممت رائحة سخونة، وهرعت إلى المطبخ فوجدت دخانًا ينبعث من الفرن، أطفأته وفتحت بابه، لكن رنين الجرس استمرَّ مدة، ثم توقف وعاد بعد لحظات، توقعت أن تحدث ضجَّة في الشارع ويهرع إليَّ الجيران، لكن شيئًا من هذا لم يقَعْ.
تَلْفنت ﻟ «فيتز» فضحك، وقال: ها أنت تعرفت على «أمريكا»، إنه إنذار حريق.
قلت: كان هناك دخان من الفرن وقد أطفأته، لكن الجرس مستمر في الرنين، والدجاجة لم تنضج بعد.
قال إن عليَّ أن أفعل مثل الأمريكان، فأغطي فتحات جهاز الإنذار بمنشفة؛ كي لا يتسرب الدخان إليه.
وضعت منشفتين فوق الجهاز فتوقَّف الرنين، أشعلت الفرن، وجلست بالقرب منه أتصفح الجريدة، تجاهلت أخبار «كلينتون» التي أصبحت مملَّة، وقرأت قصة استقالة صحفي معروف نشر خلال ربع قرن أكثر من ٤٠٠٠ عمود في صحيفة «بوسطون جلوب» (التي تملكها شركة «نيويورك تايمز»)، وجاءت استقالته بناء على طلب مدير الصحيفة بعد أن اختلق قصة عن وفاة طفلين، أحدهما أسود والآخر أبيض، بالسرطان، وامتلأت قصته الوهمية بتفاصيل الصداقة التي نشأت بين الطفلين أثناء وجودهما بالمستشفى، والمحنة التي تعرَّض لها والد الصبي الأسود عندما فصَلَته الشركة التي يعمل بها، وكيف تلقَّت زوجته شيكًا بعشرة آلاف دولار من الأسرة البيضاء، فدمعت عيناها وتطلعت إلى السماء، وعند ذلك سمعت ابنها يغني، أما الأب فقال: إن هناك حقًّا إلهًا!
وقالت «التايمز»: إن نفس الصحيفة فقدت في تسع أسابيع اثنين من أشهر محرِّري العواميد بعد اتهامهما باختلاق الأخبار والموضوعات، وأشارت إلى حالات مماثلة في مجلة أسبوعية وقناة تليفزيونية.
أكلت جزءًا من الدجاجة، ووضعت الباقي في البرَّاد، وفتحت الكمبيوتر من جديد، وراجعت مذكراتي، عملت لمدة ساعة ثم أغلقت الجهاز وعُدت إلى التليفزيون. تابعت في غير تركيز تحقيقًا عن تعرض فتيات صغيرات في الحادية عشرة من العمر للاغتصاب، وما يحدث عندما يحملن واضطرارهن إلى الزواج ثم هروب الزوج، وانتقل المذيع إلى منطقة في «لوس انجلوس» تسكن بها أقليات من «أمريكا» اللاتينية في ظروف شاقَّة؛ ففي حجرة واحدة يعيش الأب والأم وابنتهما وعمها، وظهرت طفلة في العاشرة من عمرها أشارت إلى فراشها الذي يعلو فراش عمها، ثم إلى خزانة الملابس قائلة: هذا الجزء لعمي، وهذا لي وهذا لماما. وقالت إنها حضرت مصرع أبيها، وترجَّت قاتليه ألا يؤذوه. وقالت الأم: إن المنطقة كانت آمنةً إلى أن تزايد عدد المهاجرين غير الشرعيين، فتعذر الخروج ليلًا أو النزهة. ثم أعطى المذيع الكلمة لأمريكي أبيض وجَّه حديثه للأم وابنتها قائلًا: من حقِّي أن أعيش في منطقة نظيفة آمنة، وأنتم تلوثون الشوارع.
أخذت حبة منومة لكني استيقظت في الفجر، وظللت مستلقيًا أنصت لعويل الرياح القوية القادمة من المحيط.