الفصل الثلاثون
بدا شارع «ميشان» مختلفًا تمامًا عن ذي قبل؛ فقد خلا من المارة وساده الهدوء، رغم أننا كنا في مقتبل المساء. وأغلقت أغلب الحوانيت أبوابها فيما عدا المطاعم. واختفى المدمنون داخل الأزقة، بينما رقد المشرَّدون في مداخل المنازل مثل الدمى المكسورة، فاليوم «عيد الشكر».
لم يكن الجو باردًا، فالتصق الضباب بأضواء الشارع، وأخذت أتلمَّس طريقي في صعوبة. تجاوزت مقرًّا لشركة استثمار صينية، ثم مكتبًا للقروض والرهونات، تلاه مطعم يقدم الأكلات الصومالية، وحانوت يبيع كل أنواع المستلزمات العسكرية. دلفت إلى شارع جانبي متواضع. وبعد مبنًى سكني، وجدت منزلًا صغيرًا من طابقين يحمل أثر العوامل الجوية. وعكَس بناؤه نمط العمارة الانتقائية الغالب على المدينة، الذي يجمع بين الطوب والأعمدة الخرسانية الخارجية المكشوفة، ويحتفظ بملامح من الطراز الإنجليزي الفيكتوري، والطراز الكولونيالي بالإضافة إلى زخارف مكسيكية.
ضغطت جرسًا باليًا يوشك على الانفصال عن الحائط. لم يُجِبْني أحد فضغطته مرة أخرى. وأخيرًا فتح لي الباب شاب أشقر عشريني، ووقف منتظرًا في صمت. سألت عن «دوريس»، فنادى عليها بأعلى صوته.
تردد وقع أقدام فوق درج خشبي بجوار المدخل، ولم تلبث «دوريس» أن ظهرت في واحد من أوفرولاتها المعهودة. استقبلتني في ارتباك، وتناولت مني زجاجتي النبيذ، وتبعتُها إلى الداخل.
وجدت نفسي في صالة واسعة تتألَّف من غرفتين بلا فاصل بينهما. وضمَّت الغرفة الأولى أريكة ضخمة متهالكة، أوشك منتصفها أن يلامس الأرض، وإلى جوارها كيس نوم ملفوف. وكانت هناك بِضْع مقاعد بالية من طُرز مختلفة، حال لون قماشها. وفي الغرفة الأخرى امتدَّت طاولة خشبية مستطيلة ومتينة، لعلها القطعة الوحيدة ذات القيمة في المكان.
قالت «دوريس» وهي تتحاشى النظر إليَّ مباشرة: إنهم خمسة من الطالبات والطلاب استأجروا المنزل مفروشًا. وتذكرت على الفور الشقق المصرية التي يؤثثها أصحابها بكل قديم متهالك، ثم يعرضونها للإيجار.
سألت عن «لاري» فرَوت لي التفاصيل في انفعال. فقد عقدت كلية المصادر الطبيعية في جامعة «بيركلي» اتفاقًا لم يسبق له مثيل مع شركة «نوفارتيس»، عملاق الأدوية السويسري. وبمقتضى الاتفاق تقدم الشركة للكلية ٢٥ مليون دولار على مدى خمس سنوات مقابل حق الأفضلية في شراء الاختراعات أو الاكتشافات التي تتوصَّل إليها.
وعارض عديد من الطلاب والأساتذة الاتفاق، وأعلنوا أنه يصنع سابقة في تمويل البحوث يؤثر على حريتها، ويُخضعها الإشراف للشركات ومصالحها. لكن الاتفاق تم توقيعه بالأمس في مؤتمر صحفي بالجامعة، حضره مديرها وأساتذة الكلية ورئيس مجلس إدارة الشركة، وتخلَّلَته هتافات معادية من الطلاب. وأثناء التوقيع هاجم طالب وطالبة من أعضاء ما يسمي «كتيبة الخبيز البيوتكنولوجية» المنصَّة، وألقوا عليها فطائر مغطَّاة بالكريمة وهم يغنون «لا للبيوتيكنولوجي». وألقت الشرطة القبض على الطالبَين، وعلى عدد من زملائهما، بينهم «لاري».
استأذنت مني، وصعدت الدرج الخشبي المجاور للباب. جلست على مقعد بعد أن تأكدت من سلامته وتأملت الجدران الباهتة التي لوَّثَتها بُقع الرطوبة، وزينتها عدة صور مؤطرة: واحدة للمسيح، والثانية ﻟ «شي جيفارا»، والثالثة للزعيم الأسود «مارتن لوثر كنیج». وكانت هناك نباتات ذابلة في أصيص كبير ومجلات ممزَّقة متناثرة، وإناء من النحاس امتلأ بأعقاب السجائر، وعدة مجموعات من أوراق اللعب. ولاحظت من نافذة بلا ستارة أن الضباب انقشَع، فظهرت الاستعدادات الجارية لعشاء العيد في نوافذ المنزل المقابل.
دقَّ جرس الباب وظهرت «ميجان» مع صديقها البورتريكي «هوجو»، وكانت ترتدي أسفل معطفها الجلدي الأسود جوبة سوداء بالغة القِصر، فوق جوارب بيضاء شفَّافة. وتبعهما شابَّان آخران أسودان، ثم وصلت «فادية» حاملة الديك الرومي الذي استغرَق إعداده عدة ساعات، وبرفقتها «سارة» وفتاة بيضاء فارعة تحمل صينية حلوى، يصحبها شاب أشقر في بزَّة كاملة أنيقة، يضم بضع زجاجات من النبيذ بين ذراعيه.
مضت «فادية» مباشرة إلى الداخل و«سارة» في أذيالها، ووضعت الفتاة البيضاء الصينية فوق المائدة، ثم تحولت إلينا، وخطَت لتقف بجوار رفيقها وهي تتأمل الأثاث. كانت ممتلئة بوجهٍ مستطيل وعينين واسعتين، وشفاه غليظة، وشعر متهدِّل على الكتفين، وترتدي «إنسامبل» من قماش فاخر مزركش بورود حمراء قانية لا يتجاوز ركبتَيْها.
تقدمت مِني مادةً يدها قائلةً بعربية سليمة، وبطريقة مسرحية: «ميرفت أنور.» وأشارت إلى الشاب الأشقر قائلةً: «زميلي «ستيف».»
بدا لي لقبها مألوفًا، وقبل أن أفوه بشيء أضافت: أنا أعزُّ صديقات «فادية».
أوحت لي لهجتها بأنه لولا هذه الصداقة، ما سمحت لنفسها بالبقاء لحظةً واحدة في مثل هذا المكان.
قالت وهي تزيح شعرها جانبًا إنها سمعت عني من «فادية»، ثم سألتني عن انطباعاتي بشأن الحياة الأمريكية. قلت لها: إني أستمتع هنا بالتعبير عن نفسي في حرية، وإني أخشى أن هذا أمر لن يستمر طويلًا. وقبل أن أحدثها عن مقال «المكارثية»، أدركت أنها لا تسمعني، وأن إجابتي لا تعنيها. كانت تريد أن تتكلَّم وحسب. وحدثتني بالتفصيل عن رسالة الدكتوراه التي تعدها في جامعة «ستانفورد» عن التيارات المختلفة للأصولية الإسلامية.
انتهزتُ فرصة توقَّفت فيها لتمسح قطرة عرَق أسفل أنفها، فتحولتُ إلى صديقها وسألته عما يفعل. قال: إنه يعدُّ رسالة دكتوراه عن «عمر أفندي».
قطَّبت حاجبي، ورددت: «عمر أفندي؟»
ضحك: أجل هو.
هززت رأسي متعجبًا. فلم أتخيَّل أن المجمع التجاري الضخم ذا الطابع الشعبي الذي تنتشر فروعه في أنحاء «مصر»، يمكن أن يثير اهتمام جامعة على مَبعدة آلاف الأميال.
انصرف ذهني بطبيعة الحال إلى التاريخ. قلت: أكيد، من أيامِ أَن كان اسمه «أورو زدي باك» حتى تأميمه في الستينيات، موضوع مثير.
قال: أبدًا، أنا دراستي اجتماعية، ما يهمني هو ظروف العمل به الآن، وحقوق العمال وتاريخ نقابتهم، وما شابه.
فكرت في الأمر ثم سألته: هل هناك شركة أمريكية ستشتريه؟
قال: لا أعرف.
انتزعتني «ميرفت» من صديقها، وأصرت أن تروي لي قصة الديك الرومي، وكيف ذبحه المستوطنون الأوروبيون؛ شكرًا للإله الذي مكَّنهم من الانتصار على الهنود الحمر، وصار ذبحه من ساعتها طقسًا يلتئم فيه شمل العائلات.
مسحتْ بضع حبات من العرق تجمَّعت على جبينها ورقَبتها، ثم خلعتْ سترة ردائها وألقت بها فوق الأريكة. كان الجزء الأسفل بحمالتَين وصدر مكشوف، ظهر منه منبت الثديين، ورفعت ذراعين بضَّين إلى أعلى؛ لتزيح شعرها جانبًا كاشفة عن إبطين حليقين.
قالت: الظاهر أنهم رأوا في ريشه شبهًا بريش الهنود الحمر.
سألني «ستيف»: هل تعرف كم يذبح الأمريكان سنويًّا؟
– من الهنود الحمر؟
ضحك: لا، من الديكة الرومية، ثلاثين مليونًا.
ناولَنا شابٌّ زجاجة نبيذ، فصبَّ لي كأسًا وهو يقول: لم يعرف المستوطنون الأوروبيون الديك الرومي قبل مجيئهم إلى «أمريكا»؛ فقد ذبحه لهم الهنود الحمر ترحيبًا بهم، وعلموهم أيضا كيف يزرعون الذرة والبقول والقرعيات، وكيف يصطادون السمك ويسمدون الأرض.
تدخلت «ميرفت»: وكيف يغتسلون ويتخلَّصون من قذارتهم ورائحتهم الكريهة، فالتراث الأوروبي معادٍ للاستحمام، واستبدال الثياب.
ظهرت ابتسامة ساخرة على فم «ستيف»، وقال: كانوا مضحكين؛ فقد صدَّقوا الإسبان عندما ذكروا لهم أنهم جاءوا في مهمة سلمية، رحَّبوا بهم وفتحوا لهم قصورهم ومناجم ذهبِهم، فمن قواعد الحرب بين الهنود أن مَن يعلن نواياه السلمية فهو صادق.
أفرغ كأسه واستطرد: هناك كلمة شهيرة ألقاها أحد زعمائهم أمام المستعمرين الإنجليز الذين لقبوا أنفسهم بالحجاج. قال على ما أذكر: «لو أننا فكرنا في أن نحاربكم يومًا فإننا سنعلمكم بذلك سلفًا، سوف نبين لكم الأسباب التي نريد أن نحاربكم من أجلها. فإذا أبديتم ما يقنعنا أو يعوضنا عن الأضرار التي سنحاربكم من أجلها؛ فإننا لن نحاربكم، وإذا أردتم أن تحاربونا يومًا فنرجو أن تعلمونا بذلك، وتُبينوا لنا الأسباب، فإذا لم نقنعكم أو نعوضكم عن الأضرار التي ستحاربون من أجلها؛ فلكم الحق في محاربتنا؛ وإلا فليس لكم أن تحاربونا.»
كان «هوجو» قد انضمَّ إلينا، وسمع العبارة الأخيرة فعلَّق في رصانة: حروب الهنود كانت للتسلية والرياضة؛ يتحاربون سبع سنوات، دون أن يسقط بينهم سبعة قتلى، ويقاتلون بالقفز والرقص، وعندما يُجرح واحد منهم يتوقَّف الطرفان عن القتال لإسعافه. هذه الثقافة الحربية البعيدة عن العنف كانت مقتلهم.
قال «ستيف» إن جده اكتشف إمكانية استخدام الأعضاء الذكرية للهنود بعد قتلهم، صنع منها أكياسًا للتبغ وجعل منها تجارة رائجة، وصارت هذه الأكياس من أبرز علامات الرجولة والفروسية والأرستقراطية، يتهاداها الناس في أعيادهم وأفراحهم.
سألته: هل ما زالت تباع؟
قال بما خلته رنَّة أسف: انقرضت هذه الصناعة سنة ۱۹۰۰م، بعد أن انخفض عدد الهنود إلى ربع مليون.
أتمت: «فادية» و«دوريس» استعداداتهما، وقالت «دوريس»: إن «شرلي» لن تشاركنا لارتباطها بصديقها. كما بعث «سابك» منذ دقائق برسالة غريبة بالبريد الإلكتروني.
التقطت ورقة مطوية من جيب الأوفرول قائلةً: الرسالة عبارة عن مقطع من رسالة أخرى قديمة، وجَّهها أحد هنود «الوامبانوج» سنة ١٩٧٠م إلى حكومة ولاية ماساشوتس، عندما دعته للمشاركة في احتفال بالذكرى اﻟ «٣٥٠» لعيد الشكر.
وبسطت الورقة وقرأت: «هذا يوم عيدٍ لكم وحدكم، إنه ليس عيدي … إنني أنظر إلى ما حدث لشعبي بقلبٍ منفطر … نعم لقد أبادوا طريقتنا في الحياة وقضَوا على لغتنا، فلم يبقَ منا إلا القليل من الأحياء. إنني حزين، وهذا ليست عيدي.»
طوت «دوريس» الورقة، وأعادتها إلى جيب ردائها قائلةً: واضح أنه لن يأتي.
ساد وجوم حطمته «فادية» بحنكة المصريات، روت نكتة عن الجنة والنار، وكيف أن النار بها بوفيه مفتوح وكل ما لذَّ وطاب، في حين لا يتوفَّر بالجنة غير الفول والعدس. وعندما أبدى واحدٌ تعجبه، قال حارس الجنة: أتريدني أن أقيم «أوبين» بوفيه من أجل أربعة أشخاص؟
دعتنا إلى المائدة، وانضم إلينا شابان وفتاة من سكَّان الطابق الأعلى، حاملين زجاجات البيرة الخاصة بهم، وتولت «فادية» تقطيع الديك الرومي وتوزيع شرائحه، بينما ملأت «ميرفت» طبقًا ضخمًا من المعكرونة.
حمل كلٌّ منَّا طبقَه وعدنا إلى مقاعدنا، وبقِي سكان الطابق الأعلى حول المائدة، دارت علينا «دوريس» بزجاجة نبیذ، بينما اكتفت «فادية» بكوب من العصير.
قالت بعد فترة صمت قصيرة، انشغلنا فيها بالأكل: هل تعرفون ماذا فعلت أمس؟ أنا أقوم بالترجمة بين الحين والآخر لموازنة الدَّخْل، هذه المرة كنت أترجم للاجئ عراقي في المحكمة. يوجد هنا ٥٠٠ منهم وفدوا سنة ۱۹۹۱م، حملتهم الطائرات من مدينة «أربيل» الكردية في الشمال، ووُضعوا في ملجأ خاص، لحين الفصل في طلبات لجوئهم السياسي. هل تعرفون أين يقع هذا الملجأ؟ في «تندر لوين».
تطلعت إليَّ وأضافت: طبعًا لا يعرف العراقيون أنه أخطر أحياء المدينة، وأن أي فتاة يمكن أن تتعرض فيه للاغتصاب في وضح النهار.
بدأت «سارة» تدق بالشوكة فوق حافة الطبق، مطالبة بقليلٍ من الانتباه، فلم تعبأ بها أمها وواصلت: ذات مساء شاهد شرطي شابًّا منهم يقف عند ناصية مرتبكًا، سأله عن الأمر، فأجاب: لا شيء، كنت فقط أحصل على ماريجوانا، وأراه ما معه منها. اضطرَّ الشرطي للقبض عليه؛ لأن القانون يحرِّم تداول «الماريجوانا» المتداولة طول الوقت.
قاطعتها: كما هو الوضع في «مصر».
راقبتُ «ميرفت» ترفع شوكة منتفخة بالمعكرونة، وتدسها بين شفتَيها الغليظتين.
استطردت «فادية»: يبدو أن الشاب من كثرة ما سمع عن «سان فرنسيسكو» تصوَّر أن الأمور هنا سايبة تمامًا، لا يزيد عمره عن تسعة عشر عامًا، لكنه يبدو في السادسة عشرة بعيون سوداء كبيرة وسن أمامية مكسورة. كان والداه في المحكمة، ولا بد أنهما لم يفهما كثيرًا مما يجري، ولعل الأسرة كلها لا تعرف أكثر من خمس عبارات بالإنجليزية. تحدثتُ مع أمه وكانت تدعوه بالصبي. قالت لي: إنه مستقيم ولاعب كرة ممتاز، وإنه ينوي الزواج عندما يعودون إلى «العراق».
سألتني إذا كان لدي أطفال. قلت: واحدة. قالت: يجب أن يكون لديك على الأقل طفلان، أنا عندي خمسة. انضم زوجها إلى الحديث، وكان صامتًا طول الوقت، قال: ابنتنا الكبرى «سلمى» تزوجت منذ قليل، أقمنا لها عرسًا كبيرًا، النساء غنَّت ورقصت طول الليل. كان هذا قبل الحرب، وكان هناك طعام وفير للجميع.
سكتت فسألتها: وماذا حدث للصبي؟
قالت وهي تملأ ﻟ «سارة» كوبًا من العصير: أفرجوا عنه بشرط أن يخضع للرقابة القضائية، ويبتعد عن المشاكل، هل هذا ممكن في «تندر لوين»؟
انتهينا من الديك، وانتقلنا إلى فطيرة التفاح التقليدية، وأدار الطلاب موسيقى صاخبة، ورقصت «ميرفت» مع «هوجو»، و«ميجان» مع «ستيف»، وأصرَّت «سارة» على مراقصة أمها.
انفصلت «ميرفت» عن «هوجو» ومضت إلى المائدة، فأخذت قطعة أخرى من الحلوى. وتقدمت مني «ميجان»، وجلست إلى جواري واضعة ساقًا فوق ساق. قاومتُ الرغبة في لمس فخذيها المكشوفين، وسألتها عن أخبار المنحة، قالت إنها ما زالت تنتظر النتيجة.
سألتني: لماذا لا ترقص؟
قلت: إني لا أتقن الرقص وأفضِّل الفرجة.
لاحظت أن عددنا قد تضاعف، واستبدلت الموسيقى الصاخبة بأخرى ناعمة. وتعلقت عيناي بفتاة ممشوقة القوام في بلوزة بيضاء ضيقة دون أكمام تضم صدرًا صغيرًا، وبنطلون جينز بلا استدارات ذات بال. كان شعر رأسها أسود قصيرًا، ووجهها قمحي اللون بعينين خضراوين، وكانت تراقص شابًّا أسود ببطء واستغراق، وقد أحاطت عنقه بذراعَيها.
تركتني «ميجان» لتراقص «هوجو»، وأخذت «فادية» مكانها، وهي تلهث من الجهد الذي بذلته في الرقص مع ابنتها، وأخذت تعدِّل من وضع غطاء رأسها. ورأتني أتأمله، فقالت: أمي ظلت تلحُّ عليَّ، وأنا أرفض إلى أن أقنعني شاب فلسطيني من «حماس»، كان ماركسيًّا ثم اهتدى. وهو الآن اليد اليمنى للبروفسور «إدوين».
– لعنه الله؟
ضحكت: سمعت باللقب؟ هو صارم جدًّا، يقول مثلًا: إن الفتاة المسلمة لا يجب أن تخلع الحجاب أمام فتاة أجنبية.
حولت اهتمامي إلى الفتاة ذات العينين الخضراوين، وتتبعت «فادية» اتجاه نظراتي، وقالت: هذه زميلة لي، فلسطينية.
اندست «سارة» بيننا ودفعتني بيدها قائلة: «جو أواي»، ابتعد.
عنَّفتها أمها، وطلبت منها أن تعتذر لي ففعلت، ثم جذبتها من ملابسها لتستأنفا الرقص. بحثتُ بعيني عن الفتاة الفلسطينية والفتى الأسود، فرأيتها ترقص بمفردها باستمتاع شديد، وعلى وجهها تعبير المستلذ المتألم.
شعرت بالاكتئاب، فغادرت مقعدي وتقدَّمت من النافذة، لم تكن هناك حركة في النوافذ المقابلة، مما يعني أن العائلات ما زالت تأكل.
اقترب مني «هوجو»، وقال: هل تعرف أن ٢٤ ألف شخص في العالم يموتون يوميًّا من الجوع؟
سألته: من أين جئت بهذا الرقم؟
قلت: سأعطيك عنواني قبل الانصراف.
قال: أعرفه، سأرسل لك أيضًا عنوانًا لموقع مثير آخر عن البول.
– البول؟
– لا تضحك، جرِّب أن تشربه في الصباح، بشرط أن تستخدم الجزء الأوسط من أول بول، إنه يداوي كثيرًا من الأمراض، وله فوائد عديدة.
ضحك ثم أضاف: كنت أستمتع دائمًا بالتبوُّل على صديقتي.
حانت مني نظرة إلى «ميجان»، فقال: لا، واحدة أخرى قبلها، أنجلوساكسونية.
أدار رأسه وتأمَّل الحاضرين، حتى استقرَّت عيناه على «ميرفت».
قال: هل زرت جامعة «ستانفورد»؟
هززت رأسي نفيًا.
بدرت مني الصيحة الأمريكية المعهودة: واو!
هزَّ كتفيه: إنها جامعة الأغنياء وهؤلاء أولادهم، لن يحتاجوا شيئًا من الآن وإلى الأبد.
رددت: من الآن وإلى الأبد.
وقد تبين أن ثمانية فقط من عملاء البنوك حصلوا منها على ۱۲ مليارًا، تمثِّل ٦٠٪ من جملة حقوق المساهمين في جميع البنوك المصرية. كما تَبيَّن أن بنوك القطاع العام الأربعة التي تستأثر بنحو ٦٠٪ من ودائع المصريين (١٤١ مليار جنيه) أقرضت ثلثَي هذا المبلغ أي مائة مليار، دون ضمانات. وذكرت الصحف «أنور محيسن» (وُلد عام ١٩٤٧م) في طليعة المقترضين الهاربين، وقُدرت ديونه لبنك القاهرة ﺑ «١٥٠» مليون جنيه. وقبل أن يهرب بشهرين صفَّى أملاكه من شركات وقصور وعِزب، مشردًا أكثر من أربعة آلاف عامل وموظف، ثم انتهى به المطاف في «يفرلي هيلز» في قصر اشتراه عام ١٩٩٥م، بجوار قصر «اليزابيث تايلور» بمبلغ ۸۳ مليون دولارًا، دفعها نقدًا، وهو أمر لم يعهده رأسماليو «أمريكا».
وتصلح قصته نموذجًا لتلك الطبقة التي نمت كالبكتريا على سطح المجتمع المصري منذ الثمانينيات؛ فقد كان أبوه موظفًا بسيطًا في مصنع نسيج يملكه أحد اليهود، وفي أعقاب العدوان الثلاثي عام ٥٦ تنازل له المالك عن المصنع مقابل دفعات تُحوَّل لحسابه في سويسرا. وبعد ٤ سنوات تملَّك الأب المصنع وقام بتوسيعه. وفي عام ٦۷ تخرج ابنه «أنور» وشارك في الحرب، وفي حرب التحرير سنة ۱۹۷۳م، ثم استقال ليتفرغ للنشاط الاقتصادي. وكان أبوه قد حصل مع بداية الانفتاح على أول توكيل أجنبي لمستحضرات التجميل؛ وهي ماء كلونيا وكريم بشرة وشامبو للشعر، ثم توسَّعت إمبراطوريته نتيجة التصدير إلى الاتحاد السوفييتي، وحقَّق هو وثلاثة آخرون مكاسب هائلة من هذا التبادل. وحصل «أنور» بعد ذلك على توكيلات ألمانية وفرنسية، واشترى شركة لمستحضرات التجميل يملكها وزير سابق للثقافة، ثم حصل على توكيل سيجارة أمريكية بالاشتراك مع «عبد الله عبد الباري» الذي وضعته علاقته ﺑ «عثمان أحمد عثمان» و«السادات» على رأس جريدة «الأهرام».
لكن «أنور محيسن» لم يكن إلا بداية السيل، قد أعقبه مئات، منهم عضو في مجلس الشعب دخلت عشرة بنوك في شراكة من أجل التفاهم معه على استعادة مليارَي جنيه من قروضه. وشاع أن مشاكله بدأت عندما تولى مشروع مستشفيات اليوم الواحد مقابل ٣۰۰ مليون جنيه، وعندما طالبه المسئول بنسبة اﻟ ١٠٪ المعهودة، بعث إليه بخمسة ملايين فقط. وهرب آخر ﺑ «٤٠٠» مليون جنيه، ثم طالب من «لندن» بأن تتنازل البنوك عن نصف مديونياته لها، وتشارك بالنصف الآخر في شركاته. وترددت في هذا السياق أسماء صاحب مصانع لتجميع التليفزيون، وصاحب توكيل إحدى السيارات الألمانية، وتاجر قطن هرب إلى الولايات المتحدة ﺑ٣٥٠ مليون جنيه، وعائلة كاملة استولت على مليارين من الجنيهات.
وعندما مات ابنه بالتيفويد في سن الخامسة عشرة قرر أن يشيِّد جامعة لذكراه، اختار مكانًا لها مزرعة جياد من ثمانية ألف فدان يملكها، على مبعدة خمسين كيلومترًا جنوب «سان فرنسيسكو». وتكلف البناء خمسة ملايين دولار اقترضها من البنوك. وكانت هذه المزرعة أيضًا مركزًا لتجربة رائدة مهدت لميلاد فن السينما؛ فقد كان الاعتقاد وقتها أن الحيوان عندما يجري يحتفظ بقدم واحدة على الأقل فوق الأرض طول الوقت، لكن «ستانفورد» رأى عكس ذلك؛ ولكي يثبت رأيه استأجر مصورًا شهيرًا ليصور جياده أثناء جريها. وباءت محاولات المصور بالفشل؛ لأن كاميرته كانت بطيئة. وبعد عدة تجارب استخدم أربعة وعشرين كاميرا مثبَّتة على التتابع، فحصل على الصورة المطلوبة لتثبيت المنظر، والتي أثبتت أن الجواد أثناء جريه يرفع كلَّ أقدامه أحيانًا عن الأرض. هكذا ولدت سرعة ۲٤ كادر في الثانية التي قامت السينما على أساسها.