الفصل الحادي والثلاثون
لم ألحظ شيئًا غير عاديٍّ عندما ولَجت المعهد وصعدت إلى القسم، عرجت على غرفة «جيني» وسألتها عن أخبار الفيلم.
كنت قد طلبت منها أن تشتري للقسم فيلمًا كنديًّا وثائقيًّا، بعنوان «أربع نساء من مصر» لأعرضه على طلبتي، واتصلتُ بالمخرجة المصرية الكندية في «كندا»، وحصلت منها على رقم تليفون الشركة التي تتولى توزيع الفيلم في «نيويورك».
بادرتني عندما دخلت غرفتها، وهي تقدم لي شريط فيديو: الفيلم وصل. دفعنا فيه ٣٠٠ دولار، هو عن الحريم، أليس كذلك؟
أجبت: تمامًا.
قالت: لو «بورنو» أتفرج معكم.
قلت: أهلًا بك.
ابتسمت في خبث، وهي تغلق أحد الملفَّات: خذ بالك. أمس تعرَّض أستاذ بقسم العلوم الاجتماعية للسرقة في الكامبوس في عزِّ النهار. اقتربت منه فتاة وجاذبته الحديث، وطلبت منه أن تشاركه مظلَّته بسبب المطر، فقبِل وبعد قليل هاجمه رجل من الخلف، وأخذ محفظته التي تحتوي على ١٤٥٠ دولارًا، ثم اختفى الاثنان.
تحولت منصرفًا ثم تذكرت. سألتها: هل أعطيتِ عنواني الإلكتروني لأحد من خارج المعهد؟ لجيراني مثلًا؟
قالت: لقد وضعته في موقع المعهد على الشبكة، أي واحد يستطيع الحصول عليه من هناك.
شكرتها وانطلقت إلى قاعة الدرس، وجدتهم جميعًا في انتظاري عدا «فيرنون». وكان «لاري» ما زال يحكي تفاصيل تجربته المثيرة مع الشرطة، وبدا علينا جميعًا عدم الحماس للدرس، وكنت أعرف هذا الشعور الذي يستولي على الطلاب والأساتذة أيضًا في نهاية الفصل الدراسي.
وقال «لاري»: العقوبة التي أوجعتني هي اضطراري لأن أستمع إلى خطاب «كلينتون» في «الأمم المتحدة»، الذي دعا فيه العالم إلى مكافحة الإرهاب.
أوضح وهو يعدِّد على أصابعه: نسي «كلينتون» أننا — نحن الأمريكيين — مارسنا خلال مائتي عام أفظع أشكال الإرهاب الدولي. أبَدْنا عدة ملايين من السكان الأصليين في «المكسيك»، واحتللنا نصفها، وقتلنا مائة ألف من المدنيين في «الفليبين». وبعد الحرب العالمية الثانية تدخلنا عسكريًّا في بلاد أجنبية ٧٥ مرة. قتلنا في «كوريا» ٣٫٥ مليون مدني، وفي «فيتنام» أكثر من مليون، وعشرات الآلاف في «نيكاراجوا»، و«هندوراس» و«هايتي» و«جواتيمالا» و«تشيلي»، وأكثر من نصف مليون مدني في غارات جوية على «كمبوديا»، وساندنا حكومة «جنوب أفريقيا» العنصرية في هجماتها على جيرانها التي قُتل فيها مليون ونصف المليون، أغلبهم من المدنيين.
قاطعته «فادية»: نسيت «إسرائيل».
تدخلت «ميجان» مشيرة إلى الاستقبال الحار الذي لقِيَه الرئيس الأمريكي من ١٨٥ رئيس دولة وقفوا جميعًا، وصفَّقوا له طويلًا.
تساءلت «فادية»: ألا يعتبر ذلك تأييدًا لقصف «السودان» و«أفغانستان»، دون مبرر ودون إعلان حرب؟
قلت وأنا أخلع مِعطفي: «نيلسون مانديلا» كان بين المصفقين، ولا أظنه يؤيد موقفًا كهذا.
قالت شرلي، وهي تنظر إليَّ وتمد يدها إلى رقبة بلوزتها، لتتحسس نقطة أسفل فكِّها: أعتقد أنهم يعلنون تعاطفهم معه في محنة «مونيكا»، على أساس نظرة أخلاقية عمادها الحرية الشخصية.
تطرَّق الحديث إلى مصير الرئيس الأمريكي، فقال «لاري»: إن الطبقة الوسطى الأمريكية تنعَم بأطول ثاني ازدهار في تاريخها منذ الحرب العالمية الثانية، فالبطالة منخفضة، وهناك فائض في الميزانية لأول مرة منذ ٣٠ سنة.
عقبت «شرلي»: «كلينتون» بالنسبة للملايين هو رئيس الأيام الحلوة، لا أظن أحدًا منا يرغب في ذهابه.
أخرجت من جيبي بضع أوراق، سجَّلت فيها نقاط آخِر مرحلة من مسيرتي وبدأت: يكفي هذا عن «كلينتون». أشرت في المحاضرة السابقة إلى وفاة أمي، والضغوط التي تعرَّضت لها نتيجة كتابي ومقالات «حلمي عبد الله». أصبحت أخاف من التليفون ومن مغادرة منزلي، وانقطعت عن الذهاب إلى الجامعة، وأهملت مظهري ونظافتي، ولم أعبأ بإزالة لحيتي، وقطعت علاقتي ﺑ «عايدة».
ظهر التساؤل في عيون الطلاب، وتذكرت أني لم أتحدَّث عنها مطلقًا.
قلت: «عايدة» كانت أرملةً في الأربعين تعمل في سكرتارية الكلية، تعرَّفت عليها أثناء تقدمي للترقية. لفت نظري أنها لم تكن محجَّبة، بينما كانت الموظفات كلُّهن، فيما عدا المسيحيات، يغطِّين رءوسهن، كانت سمراء رقيقة وحاصلة على ماجستير في الآدب اليوناني. خرجنا سويًّا عدة مرات، ثم زارتني في منزلي وتعرفَتْ بأمي. تذكرون طبعًا أن أمي كانت تلحُّ على زواجي، لكنها لم تسترِحْ للمرشحة. أظن أنها كانت تطمع في زوجةٍ تقوم على خدمتها ومرافقتها وتسليتها، فكيف بها حاملة للماجستير وموظفة، وتتكلم اليونانية؟
شعرت بجفاف في حلقي، فاستخرجت زجاجة المياه من حقيبتي، وجرعت نصفها.
قلت: تمكَّن أحد أصدقائي، وهو أستاذ فيزياء، من اقتحام وحدتي، هالته حالتي وقذارة مسكني، فأخذ ينصحني بالزواج. رفضت بإصرار، فقال: لا يمكن أن تستمرَّ هكذا، لا بد من واحدة تُعنى بك، على الأقل تنظِّف وتغسِل وتطْهَى.
حكى لي قصة طويلة عن أحد تلامذته الموهوبين الذي ظل عاطلًا بعد تخرجه أربع سنوات، واضطُر أن يعمل في مهنة والده النقَّاش، يسكن في غرفة واحدة مع جدَّته وأمه وثلاث شقيقات في المدرسة، في حي بلا ماء ولا كهرباء. يشتري أهل الحي الماء من باعة جائلين؛ «الجيركين» بجنيهين، يحصلون على الكهرباء من عصابة تسرقها من أقرب خط وتبيعها للأهالي، وتشترك كل ثلاث غرف في دورة مياه واحدة، ويتخلصون من مياه الغسيل في تواليت منزل قريب مقابل جنيه في اليوم. ساكن الغرفة المجاورة خفير يعيش مع حماته وزوجته وشقيقه وزوجته وثلاثة أولاد. الجار الثالث عامل متزوج من اثنتين، إحداهما أم لثلاثة أولاد من زوج سابق والثانية أم لاثنين منه.
عاد إليَّ طالب الفيزياء، نالت شقيقته دبلوم تجارة ووجدت عملًا في مصنع ملابس صغير أفلس، فاضطرَّت للعمل مربية في منزلِ ثري. وطبعًا ساهمت في خدمات المنزل، ثم طردوها عندما ثارت غيرة الزوجة الأمية، لا من جمال البنت، وإنما من معرفتها للقراءة والكتابة.
أحضرها بعد يومين، فتاة عشرينية دمِثة، متواضعة الجمال.
ولكنها امتلكت مؤخرة حية، ومن ليونة جسدها وثِقل ردفيها أدركت أنها ليست غريبة على مُتع الفراش، وحانت اللحظة عندما شرعتْ في تنظيف مكتبتي، وساعدتها في إنزال مجلدات «سليم حسن» و«الرافعي». استقرَّت مؤخرتها على فخِذي، ففقدتُ صوابي وزنقتها. لم تعترض، واتجهت إلى فراشي واستلقَتْ عليه. أعطتني مؤخرتها فارتميت فوقها، ولم أجد مقاومةً ما؛ لأنها كانت مبتلة للغاية، وبدأت تئن وسمعتها تقول: عيب يابا، أنا بنتك.
انفغرت أمامي فوَّهة التاريخ، وفي قاعها الغرفة المكدَّسة بأفراد العائلة، وفقدت انتصابي في الحال.
عند انصرافها في نهاية اليوم ناولتها أجرَها، فطلبت عشرين جنيها إضافية، أعطيتها لها وطلبت منها ألا تعود.
ظهر أستاذ الفيزياء بعد أسبوع، وأصرَّ أن يصحبني إلى طبيب نفسي.
استقبلني في غرفة يُضيئُها مصباح «فلورسنت» طويل، مدهون بطلاء أصفر فاقع، وتساءلت عمَّا إذا كان هذا هو لَون الجنون.
كان في سني تقريبًا أو أصغر قليلًا، أكثر امتلاء وأصلع، يضع عوينات طبية سميكة وداكنة تحول دون رؤية تعبيرات عينيه، تحدثنا في موضوعات عامة، أظن أنه كان يحاول أن يحدد مدى استيعابي لما يدور حولي، أو مدى انفصالي عن الواقع.
قلت له: إن بداية العام الدراسي تثير حزني، وتجعلني مشرفًا على البكاء؛ وذلك عندما أفكر في ١٧ مليون تلميذ وطالب متَّجهين إلى المدارس، حيث البلطجة والمخدرات وإلى الجامعات حيث القاعات المكدَّسة والعقول المغيَّبة، فضلًا عن الحصار الأمني، ويبدأ قلبي في الخفَقان عندما أفكر فيما ينتظرهم عند التخرج من ضياع؛ لأن أبناء الحكام يحتكرون الوظائف، في النيابة والقضاء والبنوك والشرطة والصحافة والجامعات وبقية المجالات، فلم يعُد التفوق أو بذل الجهد هو الطريق.
أومأ برأسه؛ إما تأييدًا لوجهة نظري، أو لأنه توصَّل إلى تشخيص لحالتي. انطلقت أتحدث عن الأكاذيب التي تروجها أجهزة الإعلام عن السِّلع الفاسدة التي تملأ الأسواق، عن الأطفال النائمين في الشوارع وآلاف الآلاف من المساكن المغلَقة، عن حفلات الزفاف التي تتكلف ملايين الدولارات، عن التسيُّب والإهمال في المستشفيات، عن أحكام السجن التي لا تُنفذ أو تُستبدل بالبراءة، عن الإشادة المتواصلة بالإنجازات والتحدِّيات والطموحات، عن الخطط القومية الشاملة ومشروعات التحديث، بينما تُسلم المصانع للأجانب ويتبادل الحكَّام الجوائز والدروع ويقيمون المهرجانات، ثم يُهرعون في الصيف إلى الساحل الشمالي أو «شرم الشيخ» مع تجار السوق السوداء، الذين صاروا ملوكًا للسيراميك والحديد والأبراج والإلكترونيات والمدن السياحية، ونوابًا للشعب وفي صحبتهم رؤساء الصحف وأهل الفن.
أطرق برأسه عدَّة مرات، قدرت أنه وضعني في الخانة الملائمة.
سألني عن طفولتي وعلاقتي بأبي وأمي وعن حياتي العاطفية والجنسية، حكيت له كل شيء، اهتم بقصتي مع «عايدة»، وأراد أن يعرف لماذا لم أتزوجها.
تطلعت إليَّ عيون الطلاب.
نهضت واقفًا واقتربت من النافذة، وتأمَّلت السحب الداكنة التي حجبت الضوء.
قال: احكِ لي التفاصيل.
قلت: كنت أنتصب بمجرد أن أراها، وكنت المبادر هذه المرة، حنوت عليها ودلَّلتها وتلمست أغوارها، وأنصت لرجع جسَدها ولُهاث أنفاسها، وتلاحُق أنَّاتها حتى تحولت إلى صرخة ممتدة: يا خرابي.
– وأنت؟
– قذفت بهدوء تام دون لذة.
– وبعد ذلك؟
بعد ذلك؟ كرهت قميص نومها الداكن الذي تستقبلني به دائمًا، وكرهت ضعفها واستسلامها. وعندما بدأت تلمح إلى الزواج تخلَّصت منها.
استدرت مواجهًا طلابي، وبدأت أدور حولهم.
قال الطبيب إني مصاب باكتئاب حادٍّ، وإنه لا يستطيع الآن الجزم بجذور هذه الحالة؛ فهناك احتمالات متعدِّدة تحتاج إلى دراسة، وعدَّد على أصابعه: صدمة فقدان الأم، وأزمة منتصف العمر، جراح الطفولة وعذاباتها، نشدان الكمال في كل شيء، في الشارع والبلد والجامعة والمرأة، واستخدم كل المصطلحات والصياغات المعروفة.
– ربما كان ولَعك بالغزو الجنسي نابعًا من رغبة في مقاومة الموت، أو بحثًا عن امرأة مثالية لا وجود لها في الواقع، أو محاولة لنفي ميول مثلية كامنة، أو للإمساك بالاتحاد المبكر مع الأم. فعندما تدخل امرأة تجد السعادة التي عرفتها في الرحم، الاتصال وعمق المشاعر. وفي نفس الوقت تظل متوجِّسًا وعلى حذَر، خوفًا من أن يتكرر التخلُّص منك وإبعادك. ومن ناحية أخري، فإن شدة مشاعرك تخيفك، تصبح تهديدًا يجب أن تهرب منه؛ لأنها تمثل هجومًا على السدود التي أقمتها بينك وبين الآخرين؛ لحماية نفسك من الألم، فتكبح جماح نفسك ولا تتركها على سجيتها، ثم تنصرف لتبدأ البحث من جديد. الاحتمالات عديدة كما ترى، الموضوع معقَّد.
سكت لحظة ثم أضاف: هناك أيضًا إشارتك المتكررة إلى الانتصاب، ربما تكون قلقًا بشأنه خاصة مع تقدمك في السن، وهو قلق مشروع؛ لأن الانتصاب هو زهرة الرجولة وفخرها.
لمست رنة أسف في كلماته، وفكرت أنه يواجه في الغالب مشكلة كبيرة.
قلت: أظن أنه الجزء الأكثر صدقًا فينا، لا يكذب أبدًا.
– المهم الآن أن تقف على قدميك ثم نرى، يجب أن تمشي كل يوم ساعتَين، وسيساعدك هذا الدواء.
أعطاني «بروزاك» قائلًا: إن أثره لن يظهر على الفور، وإنما بعد شهرين على الأقل.
وأضاف ضاحكًا في لهجة اشتممت منها شيئًا من الشماتة: عيبه الوحيد أنه يؤدي إلى خفض الدافع الجنسي، ربما كان هذا أفضل.
كنت قد أصبحت في مواجهة «شرلي»، ورأيتها تبتسم.
خرجنا من عنده أنا وصديقي، وولجنا مطعمًا من مطاعم «مكدونالد»، وقفنا في طابور خلف فتاة تحمل في يدها تليفون (موبايل)، وتطلب «أبل باي»، فطيرة التفاح. طلبها صديقي مع «ميلك شيك» وقهوة، جلسنا إلى مائدة من الرخام الأخضر، اتفقنا على أن الفطيرة مطهيَّة بزيتٍ أقرب إلى زيت السيارات، وأن القهوة مثل غسيل البِرك. ومع ذلك أكَلْنا وشربنا، بينما كنت أتفرج على الجالسين حولي: أربعة شبان يلتهمون سندوتشات «البرجر» في حماس، وقد أزال أحدهم شعر رأسه تمامًا، فتاة عشرينية عرَّت ساعدين من الكتف ببشرة مثل القشطة، مع أم سمينة ومحجبة. قلت للفتاة في سري: أنت الآن في سوق الزواج، سيصبرون عليك إلى أن تتزوجي ثم يغطونك. أسرة كاملة من أم ثلاثينية نحيفة يبدو المرح في عينيها، ورجل سمين في ملابس رياضية وحذاء «نايك»، وطفلَين وسيمَين يحمل كل منهما كوبًا ضخمًا من «الآيس كريم». قال أحدهما للآخر شيئًا عن كوبه، فعلق الأب في حدة: هُمَّا «إكزاكتلي» زي بعض.
نهضت واقفًا مصرًّا على الانصراف، وقررت أن أزور قريبة لي في سني، فأخذت مترو الأنفاق. كانت خطوة غير موفَّقة، بدأت من لحظة اقتحام الصاعدين والهابطين باب العربة في نفس اللحظة. وتواصلت عندما تركَتْني قريبتي عند الباب إلى أن غطَّت رأسها وكفيها وقدميها، ثم اكتملت عندما حدثتني عن خاصية الانتظار التي أضافتها إلى التليفون، وعن زوجها الذي ضاق بحياته في «السعودية»، وبمعاملة صاحب العمل له، وكيف نصحته بأن يتحمَّل لأن ابنهما يطلب «موبايل»، وسيدخل الجامعة ويحتاج إلى كتب ودروس خصوصية.
استأنفت دوراني حول الغرفة، حتى أصبحت خلف «شرلي»، ألقيت نظرة على عنقها. لمحت بقعة صغيرة تميل إلى الزُّرقة، كما لو كانت من أثَر كدمة.
أو عضَّة؟
رفعت عينيَّ، فالتقتا بعينَي «ميجان» التي كانت تقضم جانبًا من ساندويتش برجر، ورأيتها تبتسم في غموض.
اتجهت إلى مقعدي، وأنا أقول: بعد أيام استجمعت قواي في الصباح، وغامرت بالخروج. لم أعبأ بحمل السلسلة الحديدية. هاجمتني رائحة السلم العطِنة والقاذورات المُلقاة على درجاته، وتعثَّرت في الكتب الدراسية التي تخلصت منها العائلات فور انتهاء الامتحانات. خرجت إلى الشارع فروَّعتني السيارات المركونة صفًّا ثانيًا وثالثًا ووسط الشارع دون مبالاة، كأني أراها لأول مرة. ذهبت إلى مكتب البريد الذي غُلفت واجهته بالرخام والمشغولات المعدنية. وقفت أمام موظف شارد قذِر الملابس، والأصابع، يسجل الخطابات بخط ركيكٍ لا يُقرأ، وهو يتابع زميلة له توزع بلحًا على الآخرين، فهتف طالبًا نصيبه ووضعه على المكتب فوق الخطابات، وبدأ يأكله بوسخه. انصرفت في الحال.
لم أغادر منزلي عدة أيام، ثم أرغمت نفسي على الخروج، اخترت ساعة غروب، ومشيت فوق بلاط مربع الشكل، مضى على تركيبه ثلاثة أشهر. كان العمل جاريًا في خلعه واستبداله ببلاط آخر مسدس الشكل. كان الشكلان من نفس اللون والخامة، فضلًا عن الصانع، وهو إحدى الشركات التي يملكها ابن رئيس الوزراء. أوشكت أن أتعثَّر بسبب التغير المتكرر في منسوب الرصيف، ثم تركته إلى عرض الطريق عندما اعترضني معرض لبيع السيارات استخدم الرصيف مخزنًا لبضاعته، ثم تعثَّرت في زجاجات أدوية السعال الفارغة ومحاقن السعادة الملقاة بجوار صيدلية، وفي طفلة قذِرة نائمة إلى جوار سيارة «مرسيدس».
تسارعت دقَّات قلبي، فتوقفت ألتقط أنفاسي عند تقاطع طريقين. تابعتُ السياراتِ المارة وراكبيها ببدانتهم الناشئة عن سوء التغذية، لا الإفراط. مرَّت بي عربة قمامة، ورأيت سائقها يلقي بأكياس القمامة التي جمعها بين السيارات المركونة مستغلًّا الظلام، فاستدَرت عائدًا إلى منزلي.
لكني قاومت، واستطعت أن أُطيل فترة التجوال، وابتدعت وسائل التحايل على نفسي، فإذا رأيت شيئًا قد يعكر عليَّ صفوي فكَّرت على الفور في إحدى مراحل التاريخ.
كانت المخطوطة تشكو بالطبع من الأخطاء اللغوية والتَّكرار المستمر فضلًا عن خُلوِّها من ثبَت واضح بالمراجع التي استند إليها، كما أن النتائج التي توصَّل إليها لم تَرُقْ لي؛ فقد قرر أن حكم العسكر، سواء كانوا غُزاة أو وطنيين أو عملاء، هو المسئول عمَّا وصَلْنا إليه من تدهور. وفي تقديري أن العسكر كانوا دائمًا ذراع سلطة مركَّبة من صفوة تضم الكَهنة وكبار المُلَّاك وبقية الطبقة الحاكمة.
لكن شمولية عمله ورؤيته شحذت ذهني، كما أعجبتني جسارته عندما وصَف كيف تم في العهد الحالي، بدهاء، تنفيذ البرنامج الساداتي/الأمريكي لتحطيم القومية العربية، وتخريب الإنسان المصري ماديًّا وروحيًّا بإحداث تغييرات جذرية في كل شيء من أول الخصخصة وبيع القطاع العام، إلى طرد الفلاحين الفقراء من أراضيهم وإعادتها إلى ملكية كبار المُلَّاك، ومن تفكيك طبقات المجتمع المصري وهدم الطبقات المتوسطة والعاملة إلى التراجع عن المكتسبات الاجتماعية التي حقَّقها «عبد الناصر».
عدت إلى أوراقي ملتمِسًا الإجابة عن السؤال الأزلي: لماذا حدث ما حدث؟ ولماذا وصلنا إلى ما نحن فيه؟ قدَّرت بعد تفكير طويل أنه بالإضافة إلى المركزية الشديدة منذ القِدَم والقهر المتواصل على يد الأجنبي؛ فإن هناك لحظة فاصلة حدث فيها ما يمكن أن نسمِّيه انقطاعًا في الشخصية، هي تلك التي تغيرت فيها اللغة. فاللغة ليست مجرد حروف وكلمات، وإنما هي «الصندوق الأسود» الذي يحمله كل شخص في وجدانه ويضم تراث الجماعة.
لقد غيَّرت مصر ديانتها أكثر من مرة، لكنها لم تغيِّرْ لُغَتها غير مرة واحدة، فقبل الغزو العربي كانت اللغة اليونانية هي اللغة الرسمية، لسان الطبقة الحاكمة وأهل المدن والثقافة وأجهزة الدولة. أما الكثرة الغالبة من القِبط أو المصريين؛ فكانوا من المزارعين وأهل الحِرف في القرى، ويتحدثون صيغة متطورة عن اللغة الهيروغليفية المقدَّسة، هي اللغة الديموطيقية الدارجة، التي اصطُلح على تسميتها باللغة القبطية أي اللغة المصرية. وقد صمدت هذه اللغة لأكثر من ثلاثة قرون بعد الغزو العربي، لكن التطورات المختلفة، وخاصة فرض التعريب وتشجيع التحول إلى الدين الإسلامي، أدت إلى اندثارها في النهاية.
وسواء كان الانقطاع أو الانكسار في التاريخ المصري، قد حدَث عند سقوط الدولة الفرعونية، أو عند تغيير اللغة؛ فإنه قد تمخض عن انكسار فادح في الشخصية المصرية. استمرت الصفات التقليدية للمصري التي ولَّدها النظام النهري الفيضي: الكرم، الشهامة، التسامح، الاتِّزان في القول والعمل، التأني وعدم التهور، لكن الاحتلال المتواصل أبرز سماتٍ جديدة نفَذت إلى صميم الشخصية: الأسى والحزن اللذين طبَعا أغانيه وموسيقاه، الإيمان بالمصادفة والحظ المكتوب، احتقار العقل والمنطق، وإلغاء الإرادة والمبادرة، الحماس المفاجئ الذي يعقُبه فُتور نابع من إحساس باللاجدوى.
اختتمت حديثي قائلًا: هكذا بدأت العمل في كتابي الجديد الذي أسميته «نظرية في الاكتئاب الجمعي»، عملت فيه في حماية السلسلة الحديدية المعلَّقة بجوار الباب، إلى أن استدعاني البروفسور «ماهر» كي أُدرِّس لكم.
فتحت باب التعليق والنقاش، وكما توقعت كانت المبادرة ﻟ «مونا»: إذن أنت ترى ضرورة التخلِّي عن اللغة العربية والعودة إلى اللغة القبطية؟
أجبتها في صرامة: لم أقُل هذا. كيف يمكن العودة إلى لغة ميتة؟ ثم إن العربية يتكلمها اليوم أكثر من مائتي مليون إنسان، إنها أداة وجود وحضارة ومستقبل. بالعكس أنا أعتقد أن الأمل — إذا كان هناك أمل — يتوقف على حماية هذه اللغة والدفاع عنها.
سألتني «فادية» في شيء من التحدي: لكنك لم تقُل لنا كيف يمكن للمصريين أن يتخلصوا من هذا الاكتئاب الجمعي؟ أم هو قدَر لا فكاك منه؟
– أعتقد أنه يمكن التخلُّص منه، كما فعلت أنا، أو كما أحاول أن أفعل؛ فلا أزعم أني قد شُفيت تمامًا. الأمر يحتاج إلى بعض الوقت.
– تقصد بالمشي؟
انتشرت الابتسامات على الوجوه.
قلت: أجل.
– سبعون مليونًا يمشون؟
قلت: ليس بالضرورة، الفكرة هي تنشيط الدورة الدموية.
قالت «دوريس»: أظن أن رنة الحزن التي تحدَّثت عنها في الأغاني تشبه أغاني السود عندنا؛ «البلوز».
قال «لاري» وهو يقضم قطعة شوكولاتة: أريد أن أتوقف عند الأوصاف التي أعطاها «المقريزي» لمواطنيه، في عام ١٨٥٠م نشر جرَّاح إنجليزي يُدعى «روبرت فوكس» كتابًا بعنوان «أجناس الإنسان»، أصر فيه على أن التاريخ ليس أكثر من عملية صِراع بين أجناس، يوجد الأنجلو-ساكسون على قمتها. والطريف أنه يصف السلتيين — السكان الأصليين لأجزاء من «أوروبا» وللجزر البريطانية ذاتها قبل أن يحتلَّها الإنجليز والساكسون — بأن لديهم ميلًا غريزيًّا إلى العبودية! وأنهم يفتقرون إلى المثابرة، والمبادرة. والخصلة الغالبة عليهم هي الكسل والتواكل والاعتماد على الحظ، وأنهم يشبهون في ذلك السود والهنود.
أطرقت «دوريس» برأسها مؤمِّنة، وقالت: هناك فقرة بعنوان «نظرية للعنة القومية» في كتاب «إدواردو جوليانو» الشهير «ذاكرة النار»، تتحدث عن كاتب بوليفي، نشر عام ١٩٠٥م كتابًا عن الأمراض المزمنة لسكان «بوليفيا» الأصليين؛ فهم لا يبغون الاغتسال أو التعلم، ويتميزون بالأنانية والكسل، وقال: إن مأساتهم تنبع من طبيعتهم لا من شراهة سادتهم البيض، لقد تحدث مثل «المقريزي» بالضبط.
أشار «سابك» إلى «ميجان» وقال: لقد قرأت كتاب «لاندز» الذي تحدثت عنه من قبل. إنه يردد نفس الكلام بعد قرن ونصف قرن، ويرفض الاعتراف بمسئولية الاستعمار عن انهيار حضارات، وعن التخلُّف الذي تعاني منه المستعمرات السابقة.
زمت «شرلي» شفتَيها الجميلتين، وقالت: أنت تريد إذن أن تعفي هذه الشعوب تمامًا من المسئولية عن تخلفها؟
انتشرت حمرة الغضب في قسمات وجه «سابك الماهوجني»، وردَّ: عاش أهالي «أفريقيا» و«أمريكا» الجنوبية في العصور القديمة حسب تقاليد وتابوهات، حدَّدتها أسلاف القبيلة للكافة، ثم جاء الاستعمار ليختطف أبناءهم وينهب ثرواتهم، ثم يحطِّم سيطرة الأسلاف والشكل القديم للحياة العائلية بشكل قسري، ويفرض اللغة الإنجليزية أو الفرنسية أو الإسبانية مع الديانة المسيحية، تضربين شخصًا على رأسه وتواصلين ضربه، حتى تتحطم مقاومته ومعنوياته في النهاية مهما كانت صلابته، خصوصًا لو كنت مسلحة بالقوة والمعرفة، ثم تأتين وتقولين إنه مسئول عن مصيره؟
تطلعت إلى ساعتي، وقلت: حان موعد السينما.
حملت معطفي وانتقلنا إلى قاعة واسعة بالطابق الأرضي أعدت لعروض الفيديو على شاشة كبيرة، أعطيت الشريط ﻟ «شرلي» فوضعته في الجهاز.
وأضفت: إن الحوار الدائر بين الشخصيات يجري باللغة العربية، لكن النسخة المعروضة تضم ترجمة صوتية واضحة له بالإنجليزية. أشرت ﻟ «شرلي» أن تقوم بتشغيل الجهاز، واحتللت المقعد المجاور لها بعد أن طلبت من «ميجان»، القريبة من الباب، إطفاء النور.
وتواصل شركة التليفونات الكبرى «إيه تي آند تي» حَمْلتها من أجل الاستحواذ على سوق المكالمات المحلية. وفي هذا السبيل استولت على شركة «تليبورت» وشركة «تليكومينيكيشنز» التي تعتبر ثاني أكبر شركات الكابل التليفزيوني، كما كوَّنت شركة للسوق الدولي حجم أعمالها عشرة مليارات دولار، بالتعاون مع عملاق التليفون البريطاني «بريتيش تليكومينيكيشنز». وهي الآن تستعد لشراء شبكة البيانات العالمية الخاصة بعملاق الكمبيوتر «آي بي إم» مقابل ثلاثة مليارات دولار نقدًا.
واستولى عملاق «نوفارتيس» السويسري (الذي تكوَّن العام الماضي من «سيبا جايجي» و«ساندوز» في صفقة أسهم قيمتها ٣٦ مليار دولار) على الفرع العامل في مجال إبادة الحشرات الزراعية بشركة «ميرك»، أكبر شركة أدوية أمريكية مقابل ۹۱۰ مليون دولار، ونص الاتفاق على إلغاء ٥۰۰ وظيفة، ويعمل في «نوفارتيس» ۹۰ ألفًا في العالم، منهم ۲۰ ألفًا في «سويسرا». وهي متهمة أمام المحاكم الأمريكية، من جانب ٤٠٠٠٠ صيدلية في أنحاء البلاد، بالتآمر مع ثلاث شركات أدوية كبرى، منها «جونسون وجونسون» ومجموعة من تجار الجملة على اتباع سياسة سعرية مزدوجة.
وأعلنت «ثايسين» الألمانية أكبر خامس صانع للمصاعد والسلالم المتحركة في العالم عن شراء قطاع المصاعد في شركة دوفر — التي لم يحدد الإعلان جنسيتها، واكتفي بالإشارة إلى أن مقرَّها في نيويورك — مقابل مليار دولار، وسيرفعها هذا الشراء إلى المرتبة الثالثة في مجالها على نطاق العالم.
وكوَّنت «كلم» الهولندية و«أليتاليا» الإيطالية تحالفًا عالميًّا يتضمن دمج عملياتهما مع «نورث وست إيرلينز» الأمريكية.
ويبحث ثالث صانع أدوية بريطاني اندماجًا مع شركات سويدية تبلغ قيمته ثلاثين مليارًا، يخلق رابع أكبر شركة أدوية في العالم، كما قررت شركتان فرنسيتان للأدوية، هما «سانوفيل» و«سينثلابو»، الاندماج في صفقة مقدارها ١٠٫٤ مليار دولار. وتتضمن الاتفاقات التخلُّص من آلاف العمال، ففي «بريطانيا» أعلنت «سيبي» لأجهزة التحكم الصناعي أنها ستحصل على شركة «بي تي آر» مقابل ستة مليارات. ويتضمَّن الاتفاق إلغاء خمسة آلاف وظيفة من عمالة الشركتَين التي تبلغ ١٢٥ ألفًا. ويخلق الاتفاق وفرًا سنويًّا، مقداره ٢٥٠ مليون جنيه إسترليني خلال ثلاث سنوات.
كما اشترت «فياج» الألمانية شركة «ألجروب» السويسرية الكيماوية في عملية تبادل أسهم قيمتها ٨٫٧ مليار دولار. وتتوقع الشركتان وفرًا مقداره ٣٣٤ مليون دولار؛ نتيجة التخلص من ٢٥٠٠ عامل. وأعلنت الشركتان أنهما ستكوِّنان مجموعة تبيع سنويًّا ما قيمته ۳۱ مليار دولار في مجالات الطاقة والاتصالات والألومنيوم، وستصبح أكبر صانع في العالم لأجزاء السيارات من الألومنيوم، كما يشمل نشاطها الكيماويات والتغليف لمنتجات مثل السجاير والأدوية.
وأعلنت شركة «إنتيجري» رابع أكبر شركة لتوليد الكهرباء في «الولايات المتحدة» أنها ستبيع شركة إنجليزية تابعة لها إلى أكبر شركة كهرباء فرنسية مقابل ٣٫۱۸ مليار دولار. وبينما يدور الحديث عن شراء «فورد» ﻟ «فولفو» السويدية، أعلنت الأخيرة أنها تنوي التخلص من ٥٣٠٠ عامل بها (بينهم ألف في الولايات المتحدة)؛ من أجل زيادة الأرباح والإنتاجية.
وجرت تخفيضات مماثلة للعمالة في «بوينج»، وفي «أريكسون» التي طردت عشرة آلاف عامل.