الفصل الخامس والثلاثون
عبرت ميدان «يونيون سكوير» الذي انتشرت حوله منصات بيع الزهور، وتوسطته شجرة ضخمة لعيد الميلاد. قفزت إلى ترام الكابل المتَّجه شمالًا، وغادرته عند تقاطع شارع «كاليفورنيا». أحكمت إغلاق رقبة سترتي في مواجهة الرياح القوية واتجهت يسارًا. مررت بفندق «ستانفورد» الذي عقدت به الجلسة الافتتاحية للمؤتمر، ولمحت مجموعة من ضيوفه يتأملون واجهة حانوت للملابس. واصلت السير حتى التقاطع التالي، ومررت بملصق «مونيكا» والحليب. اتجهت إلى الفندق الذي يحمل اسم «مارك هوبكينز»، أحد الحيتان الأربعة الذين تَدِين لهم المدينة بوجودها وازدهارها؛ ولهذا حولت قصره إلى فندق يُتَوِّجُه بار يشرف على أطرافها.
ولجت الرُّدهة الهائلة التي تخيم عليها ثريات ضخمة من الكريستال، ومشيت بحذر فوق الأرضية الرخامية، وانضممت إلى اثنتين من المشاركات عند المصعد.
كانت إحداهما أستاذة إعلام مصرية تُدعى «فوزية» أعرفها من زمن، قدمتني إلى رفيقتها، وكانت لبنانية طويلة ذات وجه غلماني صبوح، ثم سألتني عندما ولجنا المصعد: ألم تلحظ شيئًا على شعري؟
قلت: لأ.
قالت: صبغته، كان أبيض خالص.
قلت: إني كنت أظن اللون الأبيض صبغة.
قالت: عندما رآني ابني فزع.
سألتها: أين «بوليبيوس»؟
كنت أشير إلى المصري الثالث بين الحضور، وهو من أساتذة التاريخ القديم، ضئيل الحجم كثير المعارضة، ودائب التدخل في أي حديث يدور حوله، لكنه بالغ الذكاء واسع الثقافة. وكان يطعِّم حديثه دائمًا بكلمات لاتينية، كأنما يفترض معرفة الآخرين بها، الأمر الذي يربك مَن يشتبك معه في نقاشٍ؛ لهذا أطلقنا عليه اسم المؤرخ الروماني القديم.
قالت وهي تتقدمنا إلى خارج المصعد: اختفى من أول يوم.
كان اليوم الأول مشحونًا بالتوتر؛ إذ فوجئنا بالأمير «جاسم» يفتتح المؤتمر. كان عريض الجسم، قصير القامة في ملابس أوروبية وملامح بدوية قوية يتصدَّرُها شارب أسود كثيف. وألقى كلمة تقليدية دعا فيها إلى «تنمية الحوار الراقي والهادف إلى الاعتزاز بثوابت الأمة وقِيمها وأخلاقها، والحث على نبذ دواعي الفرقة بين أفرادها».
انصرف بعد كلمته مباشرة معتذرًا بارتباطاته، فطلب أحد الكتاب اللبنانيين الكلمة قائلًا: إن أحدًا لم يخبرنا بأن الأمير سيفتتح المؤتمر.
ردَّ «ماهر» على الفور بأن الأمر لم يكن مقرَّرًا، وتردد لحظة ثم قال: لقد تصادف وجوده في المدينة أمس، وعندما طلب أن يفتتح المؤتمر لم أجِد ما يدعو إلى الاعتراض؛ فهو في النهاية الراعي الأول له.
طاف ببصره بين الحاضرين على مهل، ثم اقترح الانتقال إلى جدول الأعمال، فلم يعترض أحد.
أدلى «البرديسي» بكلمة مقتضبة حول عُقم الثقافة العربية؛ لأن العرب يعيشون في الوهم. وأعقبه أستاذ الأدب الأردني الذي حاول تلخيص ورقته قائلًا: إنه يلعب بالكلمات، كما يجيد اللعب بأشياء أخرى. كانت رأسه تشبه البيضة في شكلها ونعومة سطحها، ولم تنقذه خفَّة الدم المصطنعة من هجوم مفكر سوري، وصَف ورقته بأنها عبَث تلميذ في الثانوي. فرد عليه بأنه حاقد؛ لأنه كان يتمنى أن يكتبها هو، كاشفًا بذلك عن المزايا المادية والمعنوية التي حصَل عليها المكلَّفون بأوراق المؤتمر. وتدخل «ماهر» على الفور لإجهاض الأزمة قائلًا: إن الورقة المعنية مجرد اقتراح برءوس موضوعات، وسار الوضع على هذا المنوال بقية اليوم واليوم الذي تلَاه: إذا تأزمت الأمور أخذ «ماهر» أو «البرديسي» — الذي ملأ المنصَّة إلى جواره بجسده الضخم — الكلمة على الفور، وتمكَّن بمهارة شديدة من تجاوز الموقف دون حسم، والانتقال إلى النقطة التالية في جدول الأعمال.
والواقع أن المناقشات لم تكن بذات أهمية؛ فقد ضاع جزء كبير من الوقت في قراءة الأوراق التي سبق توزيعها قبل شهور، وسيطر شعور باللاجدوى على الجميع، فانصرف أغلبهم إلى الفرجة على المدينة.
اتجهنا إلى القاعة التي بدَت شبه خالية، ومع ذلك سادها التوتر؛ فقد وقف أستاذ عراقي قادم من منفاه في «لندن»، يطالب في انفعالٍ بإصدار بيان يستنكر الضرب الصاروخي الأمريكي المستمر من أمس على العراق.
انبرى له كاتب كويتي قائلًا: إن مؤتمرنا ليس سياسيًّا. كان يتحدَّث بطريقة متكلفة ولهجة فخيمة عالية النبرة. واندلعت مناقشة حول علاقة الفكر بالسياسة، إلى أن تدخل شاعر تونسي بعد أن ارتدى نظَّارة قراءة في بطء قائلًا: المسألة منهجية وأنطولوجية.
تشاغلت باختلاس النظر إلى وجه اللبنانية الصبوح، ولم يسفر تدخل التونسي عن شيء. وأخيرًا تقدَّم «البرديسي» باقتراح تأجيل الأمر إلى الجلسة الختامية في المساء.
قلبت صفحات الملف اليومي لأوراق المؤتمر الذي يوزع على المشاركين، ووجدت به ورقة جديدة بعنوان «صعود وانهيار إمبراطورية الأخلاق»، وتسارعت دقات قلبي عندما قرأت اسم كاتبها: «حلمي عبد الله».
تلفتُّ حولي بحثًا عنه فلم أرَ له أثرًا، تصفَّحت الورقة بسرعة فوجدتها تربط صعود الحضارات والإمبراطوريات بمنظومة القيم الأخلاقية التي تمثِّلها وتحكم سلوك أفرادها وقادتها، فإذا ما تراجعت هذه القيم اتجهت الحضارة أو الإمبراطورية إلى الانهيار، مهما كان تقدمها العلمي والثقافي. وفي موضع آخر ذكرت أن الروح الفردية وعبادة المال تفشَّتا في بنية المجتمع المصري، بدلًا من عبادة العمل، ثم هاجمت مَن أسمَتهم ﺑ «المثقفين الموظفين» الجاهزين دائمًا لخدمة أسيادهم من المستبدين والطُّغاة. ونعَتْ على المثقفين إجمالًا تراجع دورهم وسلبيتهم.
تلاه أستاذ سعودي في علم النفس يقدم برنامجًا في إحدى الفضائيات العربية حول تفسير الأحلام، فعلق على إحدى أوراق المؤتمر، وخاطب صاحبها قائلًا: لقد تحدثت عني أربع مرات، مرة مع وثلاثة ضد.
تخيلته يقرأ الورقة ممسكًا بورقة وقلم ليسجل التَّعداد. اختلست النظر إلى اللبنانية، ثم وجهت انتباهي إلى فيلسوف لبناني شاحب الوجه أبيض شعر الرأس، أكَّد أن المفكرين العرب ليسوا أكثر من شرَّاح وناقلين أو وكلاء حضاريين، وقال: إننا باستثناء الماركسية لا نجد بين الاتجاهات الفلسفية الغربية التي انهمرَتْ علينا في العقود الأخيرة ما يزودنا بالأدوات اللازمة لتحديث حياتنا، أو حتى يشجع على التغيير؛ فهذه الاتجاهات تدعو لوضع حدٍّ لفلسفة الفعل، وهي بذلك تعمل على تهميش الفلسفة والعقل معها.
عقَّب مفكر مغربي بكلمة مليئة باستشهادات من المفكرين الفرنسيين، وردَّ عليه اللبناني قائلًا: إن مسألة الخروج من وضع التخلُّف هي في المقام الأول مسألة تثوير للنظام الاجتماعي من داخله، ووفق الشروط الخاصة به، وليست قط مسألة اندماج أو عدم اندماج في الغرب.
رفعتُ الجلسة لتناول طعام الغذاء، فاتجهت إلى «ماهر» مستفسرًا عن حكاية «حلمي». بدا عليه الحرج، ثم قال إن الأمير «جاسم» هو الذي طلب ضمه للمؤتمر. وأضاف: لكنه لم يتمكَّن من الحضور.
قلت: «فريد عظمي» أيضًا لم يحضر.
هزَّ كتفه ولم يعلق.
غادرنا الفندق في فسحة الغداء، ووقفنا نتأمل حانوتًا صغيرًا للهدايا في مدخله. عرض في واجهته «تي شيرت» يحمل رسمًا لطائرات تهاجم عربيًّا فوق جمل، وتحته تعليق يقول: «سنطير عشرة آلاف ميل لنحرق لك الجمل.»
انقسمنا إلى عدة مجموعات: واحدة اتجهت شمالًا إلى الحي الصيني، بينما أعرب فنان تشكيلي فلسطيني عن رغبته في زيارة حي «كاسترو»، فاستقلَّ سيارة أجرة برفقة سينمائي سوري. ومضيت مع المجموعة الباقية سيرًا على الأقدام إلى مقهى «تاير» في الشارع السادس عشر. وسرعان ما تجلت لنا القبة الزرقاء ﻟ «البازيليكا» من فوق قِمم البنايات.
وجدنا المكان الذي نقصده بين حانوت إسباني لشرائط الفيديو، وآخر للملابس المستعملة، لا يزيد ثمن البزة الكاملة منها عن عشرين دولارًا. ولَجنا قاعة مظلمة تعبق برائحة التوابل وتتردد في جنباتها موسيقي وترية خافتة. كانت الموائد صغيرة تضيئُها الشموع، والأرضية مغطاة بسجادٍ شرقيٍّ قديم بينما زُيِّنت الجدرانُ بلوحاتٍ من القماش لمشاهد من شرق آسيا.
جاءت جلستي إلى جوار الكاتب الكويتي، وتولت خدمتنا فتاة شقراء سمينة في الثامنة عشرة ترتدي بنطلونًا «ستريتش» ضيقًا. تابعها الكويتي ببصره عندما انصرفت بطلباتنا، ثم همس لي: ولا «تويوتا فور ويلز».
كان شعره مصبوغًا بطريقة غير جيدة؛ إذ بدا مائلًا إلى اللون البنى وملتصقًا بصلعته، كأنما بفعل مادة لاصقة. مرت لحظات قبل أن أفهم أنه يتحدَّث عن السيارة.
سألته: ولماذا هذا الطراز بالتحديد؟
– لأنه يتميز بمؤخرة عريضة متينة. هل تعرف ماذا نسميه في الخليج؟ «ليلى علوي».
ثم همس من جديد: تعرف فيمَ أفكر الآن؟
– فيمَ؟
– في الكريديت كارد، بطاقة الائتمان.
– ما لها؟
– أتخيل نفسي في السوبر ماركت، أمررها في الشقِّ الفاصل بين جانبي آلة الحساب.
ضحك فشاركته الضحك تأدبًا. أحضرت لنا النادلة بيرة ومزات من الضلمة والحمص والباذنجان والخبز الساخن، ثم قطعًا مشوية من الضأن والدجاج.
قال مشيرًا إلى طبق الباذنجان المهروس: فائدته مذكورة في كتب العرب الشعبية.
لم أعلِّق فواصل: هناك الآن دعاية كبيرة في «أمريكا» للطماطم.
قلت: إنها عملية ترويج لا أكثر، اتَّبعوها قبل سنوات مع البروكلي.
وتأملني بتمعن ثم قال: إذن لا يحيي العظام وهي رميم؟
أطرقت برأسي مؤمِّنًا.
أجال بصره بين الآكلين، حتى استقرت على الأستاذ العراقي القادم من «لندن». فتبدَّت في عينيه نظرة قاسية: قال: لا تدرِ قدر ما عانَينا. أنا معتاد على قضاء الصيف خارج «الكويت»؛ لأن حرارتها لا تُحتمل. في تلك السنة ۱۹۹۰م عطلتني بعض المشاغل، ثم أجبرني الغزو العراقي على البقاء، ويا ليتني ما فعلت! رأيتهم ينهبون كل شيء، كانت عندي مجموعة ثمينة من الكلاب المدرَّبة والمدللة. أخذوها.
أجبرنا اقتراب موعد الجلسة التالية على الانصراف، والتقينا في مدخل الفندق بمفكرٍ ليبيٍّ خفيف الدم وصل متأخرًا بسبب مواعيد الطيران. كان يرتدي بزة سوداء كاملة أنيقة، يتدلَّى منديل أبيض حريري من جيب سترتها العلوي، ويحيط عنقه بوشاح صوفي من نفس اللون. وكان يتصفَّح الصفحات الأخيرة من دليل المدينة التي تضم أرقام هواتف المرافقات.
قال: عندي أنباء عظيمة، وصلت.
قلت: مَن هي التي وصلت؟
تجاهل سؤالي وتطلَّع إلى الآخرين: من الآن لن يشكو أحد من التلكؤ.
لم يفهم أحد قصده فقال: لا تعرفون التلكؤ؟
قلت: دعنا منه، قل لنا مَن هي التي وصلت؟ السيدة الفاضلة أم «شارون ستون»؟
كانت قد سرَت إشاعة بأن زوجة رئيس الوزراء المصري ستنضم إلينا بورقة عن تنظيم الأسرة.
أجاب بجدية شديدة: لأ، «فياجرا». هي الآن في «جبل طارق»، وبعد أيام قليلة ستكون في كل بلد عربي.
تعالت ضحكاتنا ونحن نتجه إلى المصعد. التفتُّ إلى الكويتي وأشرت له بيدي أن المشكلة قد حُلت.
وجدنا القاعة ممتلئة بالحاضرين، ولم تلبث الجلسة أن افتُتحت وكنتُ أول المتحدثين.
تخليت عن الورقة الموجزة التي أعددتها عن تجربتي الذاتية مع حرية التعبير، وقررت أن أرتجل كلمة قصيرة.
استهلَّ «حجازي» مقاله بأن وصول الثوريين إلى السلطة يعني عادة أنهم تقدموا في السن، وأصبحوا أكثر مرونة وتنازلًا. وفي كلمات أخرى أصبحوا واقعيين يقبلون الممكن، ويقابلون أعداءهم في منتصف الطريق، ثم تساءل عما إذا كان هذا ينطبق على الثقافة.
لم يقدِّم «حجازي» إجابة شافية عن هذا السؤال، لكن إشارته ﻟ «طه حسين» و«العقاد» ذات أهمية، من حيث مكانتهما في قمة المؤسسة الثقافية، وسبق حصولهما على نفس الجائزة. فهي تعني من ناحية، أنه قد بلغ هذه القمة ذاتها، لكنها تحيل من ناحية أخرى إلى التحولات التي جرت للمثقفين الكبيرين. فالأول هو رائد المنهج العقلاني، وقد صار وزيرًا و«باشا» ومن أعمدة النظام السابق على الثورة، والثاني تصدَّى للملك في البرلمان وتعرَّض للسجن، ثم أصبح قريبًا من السفارة البريطانية فالأمريكية وحصنًا لكل الأفكار الرجعية في الثقافة قبل السياسة، وقد اصطدم به «حجازي» نفسه في مطلع حياته.
اختتم «حجازي» مقاله متسائلًا: «هل تغيَّرت البلاد، أم أنا الذي تغيَّرت؟ هل خنت نفسي أو تركت مكاني لآخذ مكان «العقاد»؟ هل شِخت وصرت لينًا مرنًا، هل تواءمت مع الممكن وذهبت أقابلهم في منتصف الطريق؟»
قلت: إن مقال الشاعر المصري نموذج فريد للبوح الأمين لم يألفه مثقفونا، وهو يلمس ظاهرة كثيرًا ما تواجه الباحثين في حقل التاريخ، وهي تحولات المثقفين وعلاقتهم بالسلطة.
قمت باستعراض سريع لعدة نماذج في هذا الشأن على مدى التاريخ العربي، مبتدئًا ﺑ «ابن خلدون» المؤسس العظيم لعلم التاريخ الذي تقلَّب في خدمة السلاطين حتى انتهى به الأمر عند قدمَي «تيمورلنك»، وتتبعت تقلبات الفقهاء والشعراء والمؤرخين حتى وصلت إلى العصر الحديث.
تناولت موقف عدد من المثقفين أثناء الثورة العرابية، وعلى رأسهم الشيخ «محمد عبده» صاحب المكانة الرفيعة في تاريخ تجديد الفكر الديني، الذي كان من زعماء الثورة، ثم انقلب عليها بعد هزيمتها، وتعاون مع سلطات الاحتلال البريطاني.
وتتبعت تكرار الظاهرة بعد ذلك في ثورة ۱۹۱۹م التي أعطت مصر عددًا من أبرز المثقفين الطليعيين، مثل «طلعت حرب» الذي أطلق مشروع بنك «مصر» وشركاته بعد عام من الثورة، و«علي عبد الرازق» الذي دعا إلى فصل الدين عن الدولة بعد خمس سنوات، و«طه حسين» الذي بشَّر بالتفكير العلمي بعده بسنة.
وكما حدث من قبل، كانت الطبقة الوسطى أضعف من أن تواجه السيطرة الأوروبية على الأسواق العالمية، نتيجة الانقطاع المتكرر للتراكم الضروري لمواردها. وسرعان ما أُجبرت على التراجع، فسقط بنك «مصر» وشركاته في قبضة المصالح الأجنبية، وتاب «علي عبد الرازق» عن دعوته، وأصبح وزيرًا بعد عقدين من الزمان، واضطر «طه حسين» إلى المناورة، وروَّج «توفيق الحكيم» لفكرة «البرج العاجي» فتُوج مفكرًا.
توقفتُ لأتناول رشفة ماء. لاحظت أن «ماهر» غادر المنصة، وانتقل إلى أحد مقاعد الصف الأول في مواجهتي. تحاشيت النظر إليه واستطردت: لا يمكن نكران الفائدة التي تتحقق للمجتمع عندما يستخدم المثقفون الليبراليون مثل «حجازي» منصة الدولة؛ فبوسعنا أن نتصور قدر الخواء الذي سيبدو عليه المشهد الثقافي من دونهم. لكننا يجب أن نتساءل عن القيود أو الحدود التي تفرضها عليهم المنصة، وكيف تؤثر في تكاملهم ومصداقيتهم، بل وفي رسالتهم إذا اعتبرنا أن لهم رسالة. فالفكرة الشائعة هي أن المثقَّف مطالب باستخلاص النتائج العملية للمعارف التي اكتسبها، وهي تأتي بالضرورة في سياق المعارضة للوضع القائم والسعي إلى تغييره.
هل يعني هذا أن المثقفين يجب أن يبقوا على مَبعدة من الدولة؟ وهل هذا حتى ممكن في عالمنا الحديث من الاحتياجات العديدة، والشبكة المعقَّدة من العلاقات المتداخلة؟
حانت مني نظرة إلى «ماهر»، فرأيته يدعك أنفه.
استطردت: لا أعتقد أن القرب أو البعد هو جوهر المشكلة. وبالمثل فإن التحول ليس وصمة أبدية، ولا تفرضه المراحل العمرية أو الظروف المعيشية في كل الأحوال؛ فقد عرف التاريخ نماذج من المثقفين الذين تمسَّكوا بمواقفهم في أقسى الظروف. وعلى العكس من «محمد عبده» فإن «عبد الله النديم»، عامل التلغراف الذي صار خطيب الثورة العرابية وشاعرها لم يُهزم بهزيمتها، واحتفظ بموقفه ضد السلطة الإقطاعية والاحتلال الإنجليزي حتى اللحظة الأخيرة. وتمسك «خالد محمد خالد» بأفكاره حتى النهاية، وضحَّى «شهدي عطية» بحياته في سبيلها، وما زال بيننا الكثير من هؤلاء اليوم، بل إن منهم مَن قام بانقلاب مضاد مثل «محمد حسنين هيكل» الذي بدأ حياته المهنية قريبًا من السلطة الملكية، مبشرًا بالنموذج الأمريكي، ثم اقترب من «عبد الناصر» بل شاركه كما يقول، ومن «السادات» الذي أدخله السجن. وفي السنوات الأخيرة صار من أبرز منتقدي كل من النظام العربي والهيمنة الأمريكية، لكن هؤلاء جميعًا لا يمثلون سوى الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.
كما أن هذه الظاهرة ليست لعنة قاصرة على «مصر» والبلدان العربية، فهي موجودة في تاريخ الغرب وحاضره. وكلنا نعرف قبضة «جاليليو جاليلي»، وكيف اضطرته الكنيسة لأن ينكر دوران الأرض. وما زال الجيل الذي نشأ على أدب الكاتب الأمريكي الكبير «شتاينبك» يتذكَّر صدمة رؤيته في طائرة عسكرية أمريكية ذاهبًا للترفيه عن الجنود الأمريكيين في «فيتنام»، حيث فقد ابنًا له، وفيما بعد تابعنا انتقال «ريجيس دوبريه» رفيق «شي جيفارا» من سجن الإعدام إلى قصر الرئاسة الفرنسي مستشارًا للرئيس «ميتران» و«سولانا» من قيادة الحزب العمالي اليساري الإسباني إلى أمانة حلف الأطلنطي، فعندهم أيضًا تجري التحولات والتحولات المضادَّة، كما في حالة الفيلسوفينِ؛ البريطاني «راسل» والفرنسي «سارتر».
إن المثقفين بشرٌ، يشعرون مثل غيرهم بالجوع والخوف والقلَق، وتُلقي عليهم متطلبات الحياة الحديثة أعباء ضخمة. لم يكن أستاذ الجامعة في صباي يحتاج إلى أكثر من قلة فخارية وراديو، يُضاف إليهما في أحسن الحالات تليفون وبرَّاد من الخشب، تتخلله مواسير المياه التي يوضع الثلج فوقها. أما اليوم، فيمكن إحصاء أكثر من خمسة عشر جهازًا كهربائيًّا لا يستطيع الحياة بدونها.
ولهذا السبب يجب ألا نتوقَّع منهم أفعالًا فذَّة؛ فأداؤهم مرهون بقوانين الطبيعة، ولنقل بقانون البحر الذي لا يثبت على حالٍ، وتحكمه العواصف والأنواء وموجات المد والجزر.
توقفت برهة، وتطلعت حولي ثم ختمت كلمتي قائلًا: مشكلتنا أننا لا نملك إلا أن نَعقِد عليهم الآمال الكبار.
ظلت القاعة صامتة ولم يصفِّق لي أحد كعادتهم مع كل متحدث، ثم نهض الأستاذ السوداني وتحدَّث عن بعض الوقائع الخاصة ببلده، واستفسر مني آخر عن بعض التفاصيل التي وردت في كلمتي، ثم تحدث الفيلسوف اللبناني عما أسماه «سحر السلطة». استمعت إلى كل هذا ساهمًا وأنا أستعيد العبارات التي أرهقني العثور على الصياغة المناسبة لها.
رفعت الجلسة لفترة راحة واقترب، مني «البرديسي» فألقى ذراعه الضخمة على كتفي متوددًا. سألني عن آخر مؤلفاتي وأطرى كتابي عن الفتح العربي، ثم سألني عن مشروعاتي وأبدى استعداده لأن يزكيني لدى جامعات أمريكية أخرى؛ لأتنسَّم مزيدًا من الحرية، كما قال.
عُدنا إلى القاعة لحضور الجلسة الختامية، واستعرض الكاتب السوري أعمال المؤتمر مشيرًا إلى أنه أغفل دراسة التجارب الأساسية التي سيطرت على الحياة الفكرية العربية طوال نصف قرن؛ مثل تجربة حزب «جبهة التحرير» الجزائرية، وحزب «البعث» والقوميين العرب، والتجربتين الناصرية واليمنية، كما غابت عنه الإشارة إلى القضية الفلسطينية، ومشروعات الإدماج في السوق العالمي.
انتقد أيضًا ما أسماه بالتحامل عند الإشارة إلى عيوب العقل العربي ومظاهر تخلفه، وندَّد بإشارة وردت في كلمة أستاذ الأدب الأردني حول نزوع العرب إلى الامتيازية، واعتقادهم أنهم خير أمة أخرجت للناس. وقال: إن هذا النزوع موجود لدى اليهود ولدى الأنجلو-ساكسون؛ لأن كل مجموعة بشرية تسعى لأن تعطي لنفسها صورة امتيازية، والأمر يرتبط في النهاية بمراحل التطور.
استغرقت كلمته وقتًا طويلًا وتبعه «ماهر» الذي ألقى البيان الختامي. كانت عباراته عامة للغاية، أثارت مناقشات طويلة وكرست انقسامًا واضحًا بين مجموعتين رئيسيتين، واحدة مع «ماهر» و«البرديسي» والأخرى مع الكاتب السوري. وفي النهاية أُصيب الجميع بالإرهاق، فأقروه مع تعديلات طفيفة.
لم يرد ذكر للبيان الخاص ﺑ «العراق» ولم يظهر أثر للعراقي الذي طالب به. وبدلًا من ذلك قرأ البرديسي بيانًا يستنكر الممارسات الدموية للحركات الأصولية التي تشوِّه الوجه الحقيقي للإسلام، ويطالب بتحكيم العقل والتسامح والانفتاح على الآخر.
وقف الفيلسوف اللبناني طالبًا الكلمة، فرفض «ماهر» منحها له. أصرَّ الرجل على الكلام، وصاح بانفعال أن البيان مضلل وموجَّه أساسًا للغرب؛ لأنه لا يذكر غير جانب واحد من القضية ويغفل العوامل الأساسية التي أفرزت التطرف والعنف من التراث الاستعماري، والهيمنة الغربية إلى فساد الأنظمة القائمة ودكتاتوريتها.
تجاهله «ماهر» وعرض للتصويت اقتراحًا مقدمًا من الكاتب السوري لإنشاء رابطة عالمية للمثقفين.
غادرت القاعة قبل أن ينتهي التصويت، ومضيت مع «فوزية» و«بوبيليوس» إلى فندق «فيرمونت» المجاور لتناول العشاء. ارتقينا مصعده الزجاجي إلى قاعة واسعة يُشرف عليها شلال ضخم فيعطيها جوًّا استوائيًّا.
اتجهنا إلى مائدة جلست إليها اللبنانية برفقة أستاذة عراقية ضخمة الجسم، من جامعة «ييل» ذات ملامح ذكورية واضحة. وترددت بين الجلوس إلى جوار اللبنانية أو أمامها، وأضاع عليَّ ترددي الفرصتين، فانتهى بي الأمر إلى جوار العراقية. وكان «بوبيليوس» قد اشتبك معها على الفور في حوار حول مقال له نُشر في مجلة أمريكية.
قالت شيئًا عن مقال مشابه لأستاذ هندي زاملها في جامعة إنجليزية، فقاطعها قائلًا: أعرفه، وهو يحترمني جدًّا، كان مدرسًا في الجامعة عندما كنت أنا أستاذًا بها، وأنا الذي زكَّيته للدكتوراه. وكانت لدي وقتها صديقة صغيرة في السن تخلَّصت منها فيما بعدُ.
وجهت العراقية إلينا نظرة ذات مغزًى، ثم قالت له: على العموم أفكارك لا تضيف جديدًا.
تدخلت اللبنانية في دبلوماسية: أفكارك تمضي في موازاة أفكارٍ أخرى.
لمحت «ماهر» يدخل القاعة، ويجيل بصره بين الموائد. التقت عيوننا، لكنه تجاهلني وانضم إلى مائدة يجلس إليها «البرديسي» والأستاذان الأردني والسوري.
حكى «بوبيليوس» كيف أصيب مرة بالتهاب رئوي وجاور رئيس الوزراء المصري — وهو رئيس سابق للجامعة — في إحدى المستشفيات. وكان الأخير يتعافى من أزمة قلبية تُعاوده كلما سرت إشاعة عن تغييره. وتعوَّد الاثنان أن يتمشيا سويًّا في طرقة المستشفى، وكان رئيس الوزراء يجري مهرولًا إلى أقرب تليفون إذا بلغه أن رئاسة الجمهورية تطلبه.
أضاف: إن تجربة المرض تلك هي التي أقنعته بالامتناع عن التدخين، وعقَّبت العراقية: إنها كانت تدخن في اليوم علبة ونصف ثم توقفت، ثم قالت للبنانية بصوت خفيض تناهى إلى سمعي: زوجي يدخن ثلاث علب وهو يواجه مصاعب بشأن هشاشة العظام، ولا يستطيع أخذ «ستروجين» لسبب مفهوم: وضحكت في تشفٍّ.
انحسر الاهتمام عن «بوبيليوس» فاستعاده قائلًا: هل تعرفون قصة رابطة المثقفين؟
لم يبدُ على أحد منَّا أنه يعرف فقال: أصحاب الاقتراح كانوا يطمعون في الاستحواذ على العشرين مليونًا التي فاز بها «ماهر» لمعهده، والآن يحاولون الحصول على جانب منها.
لم يشأ أن يفقد الاهتمام فاستطرد: وهل تعرفون لماذا لم يعرض البيان الخاص بحرية التعبير والتضامن مع «نصر أبوزيد»؟
تذكرت اقتراحًا بهذا الشأن قُدم في الجلسة الأولى.
قال بصوتٍ خفيض: الأمير طلب عدم إدراجه بضغط من الملك.
ساد الصمت بينما كان كل منَّا يدير هذه المعلومات في رأسه. مال عليَّ، وسألني: هل ستبقى هنا للفصل الدراسي التالي؟
حانت مني نظرة إلى مؤخِّرة رأس «ماهر» وأجبت ببطء: لا أظن.