الفصل السابع والثلاثون
وضعت مواطنتي الإسكندرانية المجلة المصورة جانبًا وقالت لي باسمةً: كل سنة وأنت طيب.
قلت: وأنت طيبة.
سألتني: هل شعرت بزلزال أمس؟
قلت: كان هناك زلزال إذن. كم ريختر؟
قالت: ثلاثة فقط.
كنت قد حلمت بأني أرغب في التبول، وأني بدأت في التبول فعلًا مستلذًّا، ثم استيقظت على هزة ظننتها جُزءًا من الحلم.
تجولت بين حوامل الصحف التي أبرزت انتهاء عملية «ثعلب الصحراء»، بعد ثلاثة أيام من قصف «بغداد» ﺑ «٤٢٥» صاروخًا من صواريخ «كروز». وكان هناك تصريح لأحد أعضاء الكونجرس بعد لقاء غذاء عمل مع «كلينتون»، وصف فيه الرئيس بأنه «أقوى ماكينة أكل رآها في حياته»، فلم يترك شيئًا وضع أمامه إلا والتهمه.
ألقيت نظرة على تحليل للاقتصاد الأمريكي يقول: إنه يمر بأخطر وضع منذ خمسين سنةً، إذ خرج منهكًا من الحرب الباردة، ثم أدت زيادة الإنفاق العسكري إلى تراجع الإنتاج الصناعي لمصلحة الاقتصاد الخدمي، ووصول الدَّيْن الخارجي إلى تريليون دولار أي ألف مليار دولار. ويعتمد هذا الاقتصاد الآن على قوة العُملة التي ستسدد الديون، فإذا انهارت قيمتها تعرَّض للإفلاس.
التقطت مجلة البورنو الشهيرة «هاستلر» عندما رأيت صورة «كلينتون» على غلافها. وجدتها قد خصصت ملفًّا لحكايته، صورت فيه رجلًا يشبهه وفتاة تشبه «مونيكا» في كافَّة الأوضاع التي تحدث عنها تقرير «ستار».
أعدْتُ المجلة مكانها، وأخذت «الأهرام» الدولي ومضيت إلى الكاونتر. الْتقطت علبة علكة من فوقه، وفضضت غلافها ووضعت واحدة في فمي، نظرت إليَّ مواطنتي باستياء فقلت: رمضان كريم.
قالت وهي تدس خصلة شعر نافرة من رأسها أسفل الوشاح الذي غطَّاه: إنت فاطر؟
شرحت لها أني مريض، وأتعاطى أدوية عديدة فضلًا عن أني على سفر، وختمت بقولي: الله غفور رحيم.
لم يبدُ عليها الاقتناع، فدفعت ثمن مشترياتي وغادرت الحانوت بعد أن أحكمت إغلاق سترتي. هطل المطر فجأةً فبسطت مظلتي، وحرصت على تغطية الحقيبة التي تضم الكمبيوتر. مضيت في طريقي إلى المعهد، ولم يلبث المطر أن توقَّف مرةً واحدة، وسطعت شمس الظهيرة بضع دقائق ثم اختفت.
وجدت الباب الخارجي مغلقًا وزجاجة مغطًّى بملصق الصبي السمين الذي يلتهم ساندويتش البرجر في نهمٍ، بحثت عن المفتاح بين مجموعة مفاتيحي حتى وجدته. دخلت ورددت الباب خلفي دون أن أغلقه بالمفتاح، ثم جمدت في مكاني وقد روَّعني السكون الشامل، وتذكرت أن الجميع في عطلة.
صعدت الدرج إلى الطابق الثاني في حذَر متجنِّبًا أن يصدر عني صوت، كأنما خشيت تعكير صفو السكون. ولم أسمع بدوري صوتًا أو حركة، فتحت باب القسم بمفتاحي ورأيت بابي «جيني» و«شادويك» مغلقينِ، فولجت كهف البريد. وجدت صندوقي ممتلئًا بالنشرات والدعوات والإعلانات مع مظروفين. تخلصت ممَّا ليس له قيمة، واحتفظت ببطاقة معايدة من «شادويك» تخبرني بأنها ستقضي العطلة عند أختها في الجنوب، وتتمني أن تراني عند عودتها.
حملت البطاقة صورة فوتوغرافية لطريق ضيق مفروش بأوراق الخريف، يمتد بعيدًا وسط غابة، ويتسع بالتدريج حتى يملأ الفضاء.
احتوى أحد المظروفين على صورةٍ من تقرير الطلاب عن أدائي، وكان المظروف الثاني من «شرلي» وفوق غلافه سطور بخط اليد تهنِّئني بالعام الجديد، وتتمنى لي حظًّا سعيدًا. وأسفلها إضافة بأن صديقها «توم» التحق بعمل في «بوسطون»، وأنها ستنضم إليه وتواصل دراستها هناك.
وضعت المظروفينِ في حقيبة يدي، وغادرت الكهف. اخترقت الطرقة المظلمة بأبواب غرفها المغلقة حتى مكتبي، رأيت ورقة مثبَّتة ببابه تحمل الدرجات التي أعطتها «إستر» لطلابها. لم أتوقع وجودها، لكني طرقت الباب، ثم أدرت المفتاح في قفله ودفعته. ووقفت أتأمَّل التغيرات التي طرأت على المكان، فقد اختفت ملصقات «إستر» وقواميسها، وعاد التليفون إلى مكتبي.
مررت بعيني سريعًا فوق المقال: «… ٧٩٪ من أبناء الشعب الأمريكي يؤيدون قصف «العراق» … خمسة آلاف طفل يموتون كل شهر نتيجة للعقوبات الاقتصادية المفروضة عليه … مما لا شك فيه أن «صدام حسين» حاكم بغيض ما زال يرهب الشعب بجهازه الكابوسي … لكن متى يصح استخلاص ثمن الجريمة من المواطنين؟ … ألا يجب أن نذكِّر أنفسنا بأن «صدام» كان مدعومًا من جانب «الولايات المتحدة»، و«بريطانيا في السبعينيات والثمانينيات؟» … عندما كنت في «الكويت» في عام ٨٥، حاضرني وزير عن عظمة «صدام» بطل العرب «ضد الفرس» كما قال، وتفاخر بأن «الكويت» تموِّل حربه ضد «إيران» … «بيل كلينتون» … لا حدود لما يمكن أن يذهب إليه من أجل إنقاذ نفسه. وقد جرَّب كل شيء؛ الاعتذار الذليل والعناد الصفيق، التحايل السوفسطائي، الوطنية المتكلفة ثم … الضربات الجوية الإجرامية … أُمَّة تم غسل أدمغتها طوال عقد من السنين بأن «العراق» يمثِّل التهديد الأعظم للعالم منذ «هتلر» … بلد طالما هزأت هي و«إسرائيل» بقرارات مجلس الأمن … ورفضت أن توقع أكبر عدد من الاتفاقيات الدولية (ومنها الاتفاقيات ضد الأسلحة الكيماوية والبيولوجية) … هذه هي الفضيحة الحقيقية …»
أوشكت أن أغلق البريد عندما لمحت سطرًا في نهاية الرسالة ينبئني فيه «لاری» بأنه سيلتحق باحثًا بمعهد للدراسات الاستراتيجية يحمل اسم مؤسسه، «إدجار هوفر»، مؤسس وكالة المباحث الأمريكية الشهير.
خرجت من الشبكة وفصلت التليفون، ثم فتحت الملف الذي سجلت فيه ملاحظاتي على طلابي، انتقلت إلى الطاولة واستخرجت من حقيبتي أبحاثهم الأخيرة، ووضعتها أمامي مع قلم رصاص مبري جيدًا وكشف الدرجات.
لمحت بطاقة المعايدة التي تركها لي «فيتز» في مدخل المنزل، ولم أكن قد رأيته منذ أمسية «كاسترو». أعدتها إلى الحقيبة وتناولت تقرير الطلاب، وقرأت الملاحظات التي سجَّلوها عن أدائي دون ذكرٍ لأسمائهم:
«محاضر جيد، وإنْ كان متقلب المزاج ويشرد كثيرًا.»
«شرلي»؟
«استفدنا كثيرًا، وكان يمكن أن نستفيد أكثر لو كانت هناك مساحة أكبر للنقاش؛ ففي الدروس الأخيرة بدا مصرًّا على أن يتكلم وحده.»
«شرلي»؟ «لاري»؟ «دوريس»؟ «مونا»؟
«برنامج جيد رغم اهتمام المحاضر بإشراكنا في تفاصيل شخصية غير ضرورية.»
«فادية»؟
«طلب منا قراءات كثيرة أكبر من طاقتنا.»
«فادية»؟ «شرلي»؟
«كان يمكن أن يكون سمينارًا حيًّا، لولا بعض المشاعر العنصرية والمعادية للسامية.»
«مونا» بالتأكيد.
وضعت التقرير في حقيبتي، ثم تناولت المظروف الذي تركته لي «شرلي» وفتحته. كان يتضمن البحث الذي أعدَّته لنهاية السمينار، تصفَّحته بسرعة ثم بدأت أقرؤه في عناية.
كان بحثًا طموحًا للغاية، يتناول تغير المعايير الأخلاقية الخاصة بالنشاط الجنسي في «الولايات المتحدة» بين الستينيات والتسعينيات، انطلاقًا من موقف المجتمع من علاقات الرؤساء الحميمية. فبينما جرى التكتُّم بشدة على علاقة «كنيدي» بالممثلة الشهيرة «مارلين مونرو»؛ خوفًا من رد فعل الرأي العام، عرضت مغامرات «كلينتون» في حينها على الكافة، دون أن تسبب صدمة للمواطن الأمريكي.
استعانت «شرلی» في بحثها بعدة مراجع واستبيانات استمدَّت منها أمثلة طريفة على مواضعاتها، فكمؤشر على الصعوبات التي تواجه المؤسسة الزوجية أصبح من المألوف أن يكون لكل زوجين ثلاثة معالجين نفسيين؛ واحد للزوج، وآخر للزوجة، وثالث للاثنين معًا؟ وكنتيجة لصعود دور المرأة وصف شاب في السادسة والعشرين النساء بأنهن «عدوانيات يفرضن رغباتهن، فتشعر أنك في الفراش مع شرطي مرور!» وشكَت امرأة في الأربعين من أن الرجل الأمريكي يحب «طبقًا للكاتالوج دون تفكير أو إحساس».
توقَّفت عند فقرة خصصتها لأشكال السلوك الجنسي، وبخاصة الجنس الفموي، وحللت عوامل انتشاره من قبيل الخوف من الحمل ومن العدوى فضلًا عن تأثير السيارة، وركزت على أن المرأة تشعر بالتمكُّن والسيطرة عندما تستخدم فمها، بينما يشعر الرجل بخضوعها.
أعجبني البحث وقررت أن أعطيه الدرجة الأعلى.
أمسكت بالقلم الرصاص لأملأ الدائرة الأولى في كشف الدرجات ثم تراجعت. أزحت مقعدي ونهضت واقفًا وتقدمت من النافذة، تأملت السطح الأسمنتي العاري للمبنى الملحق الذي اختفت تفاصيله في الضباب، تذكرت ما قرأته في صحيفة «الجارديان ويكلي» عن جرائم القتل والفساد التي رافقت رحلة «كلينتون» من ولاية «أركنساس» إلى البيت الأبيض، تذكَّرت أيضًا ما كُتب عن المافيا التي وضعت «كنيدي» في مقعد الرئاسة، وعن الطريقة التي تخلَّص بها من «مارلين مونرو».
فكَّرت أن القضية تتعدَّى مجال الأخلاق إلى السياسة. فبصرف النظر عن التغير الإيجابي في النظرة إلى الجنس بالذات؛ فإن الأمر في الحالتين يتعلَّق بطبيعة النظام السائد الذي تتحكم به عصابات المصالح، وتُحاك في كواليسه أبشع الجرائم.
عدتُ إلى مقعدي وواجهت نفسي بصراحة، أمسكت بالقلم وملأت دائرة الدرجة الثانية أمام اسمها، ثم تناولت ورقة «مونا». كنت قد قرأت الأبحاث جيدًا، وأردت أن ألقي عليها نظرةً أخيرة قبل أن أحسم أمر الدرجات.
عنونت «مونا» ورقتها ﺑ «مفاهيم خاطئة في التاريخ»، لكنها تحدثت في الحقيقة عن موضوع واحد هو الإمبريالية، قالت: إنها ظاهرة ترجع إلى فجر التاريخ، رغم أن البعض يصرُّ على أنها نِتاجٌ للرأسمالية الحديثة، وأعلى مراحل الاستعمار كما قال «لينين». وهي علاقة يكذِّبها التاريخ. فالإمبريالية الأوروبية نشأت في العصور الوسطى، قبل صعود الرأسمالية.
انتقلت إلى الاستعمار، وقالت: إن الاقتصاديات الأوروبية، على عكس مزاعم البعض، لم تكسب من المستعمرات مهما قيل عن دورها في خلق سوق للبلد الأم، كما أن أغلب هذه المستعمرات لم تكسب شيئًا من تحررها.
اعترفت بأن الإمبريالية أنزلت بمستعمراتها معاناةً مادية وسيكولوجية ثم استدركت قائلة: إنها منحتها طرقًا وخطوطًا حديدية وشبكات للمياه والصرف الصحي. وهناك مَن يقول: إن هذه البلدان كانت ستحقق تقدمًا أسرع لو لم يتم استعمارها. وهذا الزعم يفترض أنها قادرة على أن تتعلم وتتغير. ومن ناحية أخري فإن الإمبرياليَّة لم تمنع مستعمرات قليلة من التطور وتعلم واختراع تقنيات الاقتصاد الصناعي مثل المستعمرات البريطانية في «أمريكا» الشمالية («كندا» و«الولايات المتحدة») و«هونج كونج»، ومثل «كوريا الجنوبية» و«تايوان» في ظل الاحتلال الياباني، بل هناك أماكن مثل «بورتوريكو» و«برمودا» فضَّلت أن تظل تابعةً للولايات المتحدة وبريطانيا على التوالي؛ لأن التبعية لها ثمارها. وها هي «بناما» قد اكتشفت الخطأ الذي ارتكبته عندما طردت الولايات المتحدة من قناتها.
لم أوافق بالطبع على آرائها والمغالطات التي لجأت إليها، لكن طريقتها في التعبير كانت جيدة، كما خشيت أن أُتهم بالتحيز فأعطيتها الدرجة الثانية.
فكرت أن أشعل سيجارة مستغلًّا انفرادي بالغرفة وربَّما بالمبنى كله، ثم أقلعت عن الفكرة عندما سمعت صوت خطوات في الطرقة تشبه الزحف. أرهفت السمع، وعندما تكرَّر الصوت قمت إلى الباب وفتحته، أطللت برأسي في الطرقة الممتدة بطول الطابق، فلم أرَ أثرًا لأحد.
تركت الباب مفتوحًا وعدت إلى مقعدي. تناولت ورقة «فادية» التي تناقش فكرة «المنقذ الغائب» في الثقافتين العربية والأنجلوسكسونية «المهدي المنتظر» في الأولى و«الملك آرثر» في الثانية. فوفقًا للأسطورة، سيظهر كل منهما في اللحظة المناسبة لينقذ أمته. كان الموضوع جيدًا، لكن دفاعها عن الأسطورة — في حالة «المهدي» على الأقل — نقل البحث إلى دائرة الميتافيزيقا وإلى إشكالية تجاوزها الزمن؛ إذ نضجت البشرية ولم تعُد تحتاج البطل الفذ؛ ولهذا أعطيتها الدرجة الثانية.
كانت الورقة التالية ﻟ «سابك» بعنوان «الإبادة وفرن الصهر»، قال: إن فكرة «أمريكا» هي فكرة استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة عبر الاجتياح المسلح وإبادة الآخر، وبمبررات غير طبيعية من نوع الحق السماوي أو الحضاري، وهو الأمر الذي مارسه الرجل الأبيض بعمليات الاستيطان الكبرى في أماكن كثيرة من العالم من «أستراليا» إلى «فلسطين». وجرت هذه العلميات تحت شعار «فرن الصهر» الذي يندمج في بوتقته أناس من أماكن مختلفة، ليخرجوا بقيم جديدة متحضرة وعصرية.
وقطع «سابك» بأن «فرن الصهر» آل إلى فشل ذريع، وتكوَّنت مجتمعات ليس لها جذور أو ذكريات ودون أفكار مشتركة ودون شخصية قومية. ومن ناحية أخرى، فإن الاحتكاك بين عناصرها دفع كل طرف إلى تأكيد أصوله القديمة.
ومن الطبيعي أن تحتل الفقرات الخاصة ﺑ «أمريكا اللاتينية» المساحة الأكبر من بحثها كما هو الشأن في الكتاب الأصلي. وقد بدأت بفقرة عن «نيكاراجوا» سنة ۱۹۰۹م، وكيف أرسلت «الولايات المتحدة» مشاة بحريتها لإسقاط رئيسها «زيلايا»، عندما تجرَّأ على مطالبة شركة «الفواكه المتحدة» الأمريكية بسداد الضرائب، وأغضب الكنيسة بمصادرة أراضيها لصالح الفلاحين وبقانون يجيز الطلاق.
تناهى إلى سمعي فجأةً صوت أزيز، وخُيل إليَّ أن الغرفة تهتز، فاشتد وجيب قلبي. مددت يدي لأحول دون انزلاق الكمبيوتر لكنَّه لم يتحرك من مكانه، كما أن زجاج النافذة لم يتساقط حطامًا. ولم يتكرر الأزيز فهدأت أعصابي. وتذكرت ما حدث لي ولكثيرين غيري في أعقاب زلزال «القاهرة» سنة ۱۹۹۲م الذي بلغ ٥٫٧ «ريختر». فطوال عدة شهور تالية كنت أفزع فجأة دون مبرر، وأتخيَّل أن الجدران تهتز. وحسبت أني وقعت الآن تحت تأثير نفس العارض السيكولوجي.
فتحت ورقة «ميجان» ولاحظت لأول مرة أن اسم أبيها «ميتشيل» لا علاقة له باليابان. ولم أستبعد أن تكون قد غيَّرت اسمها الأصلي لتندمج في المجتمع. كانت قد استغلت تخصصها في إنشاء موقع على الشبكة عن صعود وهبوط الإمبراطوريات والممالك، زوَّدته بقاعدة بيانات واسعة وروابط كثيرة إلى مواقع أخرى متخصصة عن أماكن وأزمنة وشخصيات ووقائع عديدة، واستعانت بتقنيات متقدمة لتسهيل التنقل بين الأبواب دون العودة إلى صفحة الاستقبال. كانت الإمبراطوريات كلها هناك، بدءًا من السومرية والفرعونية، بقادتها ورموزها، من «سارجون الأول» و«تحتمس الثالث» حتى «فكتوريا» و«بوش». واستحق جهدها المبتكر الدرجة الأولى بلا جدال.
تعرض «لاري» في ورقته لفترة العشرينيات من القرن وموجة الثورات التي اجتاحت العالم وقتها، من «روسيا» و«ألمانيا» و«المكسيك» إلى «الهند» و«مصر» والمشرق العربي، وتوجت بانهيار البورصة الأمريكية في سنة ۱۹۲۹م وصعود الفاشية. ووصف كيف تكرر الأمر في الستينيات، فانتشرت الحركات الثورية في كل مكان، ثم انحسرت بصعود الريجانية والتاتشرية. وتنبأ بأن الألفية الجديدة ستشهد في بدايتها موجة ثورية جديدة قد تؤدي إلى انهيار الحضارة الغربية كلية، وانطلاق دورة حضارية جديدة، تستند إلى قيم مختلفة عن الفردية المطلقة وشهوة التملُّك. وبرَّر هذا التصور بأن الحضارة الغربية التي انطلقت من «أثينا» و«روما»، وترسَّخت بانتصار «كولومبوس»، ثم حققت السيطرة التامة ﻟ «أوروبا وأمريكا» على مقدَّرات العالم طيلة القرون الثلاثة الماضية، فشلت في تحقيق الرخاء والطمأنينة للغالبية.
كان بحثًا جيدًا يتكامل مع ما قامت به «شرلي»، لكنَّه تجاوز الإطار الذي حددته للسمينار. ومن ناحية أخرى لم أكن أنا شخصيًّا مؤهلًا أكاديميًّا لمجال التاريخ الاستطلاعي أو المستقبلي. ولولا مساهمة «لاري» النشطة في مناقشات السمينار ما أعطيته الدرجة الأولى.
تبقَّى أمامي اسمان في كشف الدرجات: «فرنون عبد الرحمن» الذي اختفى تمامًا، فتركت الدوائر أمام اسمه بيضاء من كل سوء، و«روزيتا» التي وعدتني ببحثٍ ختاميٍّ ولم تُوفِ بوعدها. وكان وعدي لها هو الذي دفعني لأن أعطيها — بعد تدبُّر — الدرجة الثالثة، تقديرًا لحضورها بضع مرات، ولساقيها في حقيقة الأمر.
أعددت نسختين من كشف الدرجات، وعثرت على دبابيس رسم في درج مكتبي، فعلَّقت واحدة على الباب. احتفظت لنفسي بنسخة ووضعت الثالثة في مظروف حملته في يدي. أغلقت الكمبيوتر وأعدته إلى الحقيبة وحملتها، ثم تناولت مظلتي وغادرت المكتب وأغلقت بابه بالمفتاح.
مضيت في الطرقة المظلمة، وأنا أتلفَّت خلفي. توقفت عند ركن البريد ووضعت المظروف الذي يحتوي على كشف الدرجات في صندوق «شادويك» ثم اتجهت إلى الدرج، ألقيت نظرة أخيرة على الطرقة وخُيل إليَّ أني لمحت شخصًا في نهايتها، وتناهى إلى سمعي الأزيز الذي سمعته من قبل أو خُيل لي.
لم أتلكأ وهبطت الدرج مسرعًا، وكدت أتعثر وأنا أستخرج سلسلة المفاتيح من جيبي. بحثت عن مفتاح الباب الخارجي وأعددته في يدي، فلم أكن واثقًا من أني سأجده مفتوحًا كما تركته.
• شيكاغو، «آل كابوني»: عشرة آلاف طالب يهتفون باسم «آل كابوني ملعب جامعة نورثوسترن»، ويرفع «كابوني» يديه محييًا الجماهير، اثنا عشر حارسًا في رفقته، وعند البوابة تنتظره «كاديلاك» مصفَّحة. إنه يضع وردةً في عروة سترته، ودبوسًا من الماس في ربطة عنقه، لكن أسفل ذلك يرتدي صدرية من الصلب، ويدق قلبه إلى جوار مسدس عیار ٤٥ ملم. إنه معبود الجماهير، فلا أحد يعمل مثله من أجل رواج حوانيت دفن الموتى وباعة الزهور، ويدفع مرتبات سخية للشرطة والقضاة والمشرعين والعمد. وهو رب أسرة نموذجي، يمقت الجوبات القصيرة وأدوات الزينة، ويؤمن بأن مكان المرأة في المطبخ. ولأنه وطني متحمس يضع صورتي «أبراهام لينكولن» و«جورج واشنطون» فوق مكتبه. وهو محترف واسع النفوذ، يقدم أفضل المساعدات عند قمع الإضرابات وضرب العمال، وإرسال المتمردين إلى العالم الآخر، وهو يقِظ دائمًا للخطر الأحمر.
• من البيان الرأسمالي لهنري فورد، صانع السيارات: فشلت البلشفية لأنها غير طبيعية وغير أخلاقية. إن نظامنا صامد … ليس هناك ما هو أكثر عبثية وإساءة للبشرية عامةً من الإصرار على أن كل الناس متساوون … المال يأتي بشكل طبيعي نتيجة الخدمة. ومن الضروري بشكل مطلق الحصول على المال، لكنا لا نريد أن ننسى أن غاية المال ليس الراحة، وإنما إتاحة الفرصة للقيام بخدمات جديدة. لا شيء في ذهني أبغض من حياة الراحة، ليس لأحد منا الحق فيها، لا مكان في الحضارة للخامل.
• ۱۹۲۹م، نيويورك، الأزمة: تتزايد المضاربة بأسرع من الإنتاج، والإنتاج بأسرع من الاستهلاك، وينمو كل شيء بإيقاع متلاحق، حتى يؤدي انهيار بورصة «نيويورك» فجأةً، في يوم واحد، إلى تحويل أرباح السنين إلى رماد، وتصبح أثمن السندات مجرد قصاصات ورق لا تصلح حتى للف الأسماك. هوت الأسعار والمرتبات مع قيمة السندات، وسقط أكثر من رجل أعمال واحد من برجه. المصانع والمصارف تغلق أبوابها، المزارعون دُمروا، العمال العاطلون يفركون أيديهم التماسًا للدفء فوق أكوام القمامة المحترقة، ويمضغون العلكة لإشباع بطونهم. الشركات الكبرى تنهار، حتى «آل كابوني» يسقط.
• ١٩٦٧م «هوستون»، «الولايات المتحدة»، «علي»: أسموه «كاسيوس كلاي»، واختار لنفسه اسم محمد علي، جعلوه مسيحيًّا. واختار أن يصبح مسلمًا، جعلوه مدافعًا عن نفسه، لا أحد يوجه اللكمات مثله، عنيف وسريع، مدرعة خفيفة ريشة ساحقة، حائز منيع لتاج العالم. قالوا له إن الملاكم الجيد يحصر قتاله داخل الحلقة. يقول: إن الحلقة الحقيقية شيء آخر، حيث يقاتل الأسود المنتصر من أجل السود المهزومين، من أجل هؤلاء الذين يأكلون الفتات في المطبخ. نصحوا بالحذر والكتمان، فصاح بعلو صوته. تنصتوا على تليفونه، فصاح فيه أيضًا. يلبسونه بزة ليرسلوه إلى «فيتنام»، ينزعها ويصيح أنه لن يذهب؛ لأنه لا يحمل ضغينة ضد الفيتناميين الذين لم يسببوا أذًى له أو لأيِّ أمريكي أسود آخر. أخذوا منه لقبه العالمي، ومنعوه من الملاكمة، وحكموا عليه بالسجن والغرامة، صاح شاكرًا هذا التقدير لكرامته الإنسانية.
لقد آمن بأن الإنسان يجب أن يحمي نفسه من فخاخ الجشَع دون أن يتخلَّى أبدًا عن حذره. عندما كان رئيسًا للبنك الوطني الكوبي وقع أوراق العملة «شي»، هازئًا بالمال. وفي حبه للناس، احتقر الأشياء. فكَّر أن العالم مريض لأن الامتلاك والوضاعة شيءٌ واحد، لم يحتفظ لنفسه بشيء أبدًا، ولم يطلب شيئًا أبدًا. فكر أن العيش هو العطاء، وقد أعطى نفسه.
• ۱۹۸۳م «شيلي»، عشر سنوات بعد إعادة الغزو: كل شيء مستورد؛ المقشات، الأراجيح، الذرة، الماء … لا يمكنهم أن يصنعوا دبوسًا واحدًا؛ لأن دبابيس «كوريا الجنوبية» أرخص … العاطلون يفتشون وسط المخلَّفات. في كل مكان لافتة: «لا يوجد وظائف، لا تصر.» الدين الخارجي ومعدل الانتحار تزايد بمقدار ستة أضعاف.
• ١٩٨٤م «ساو باولو»، عشرون عامًا بعد إعادة الغزو: … تعيش «البرازيل» ازدهارًا يبلغ حد المجاعة، فبين البلاد التي تبيع الغذاء في العالم تحتل المرتبة الرابعة، وبين البلاد التي تعاني الجوع في العالم تحتل المرتبة السادسة. إنها تصدِّر الآن السلاح والسيارات والبن، وتنتج من الصلب أكثر مما تنتج «فرنسا»، لكن البرازيليين أقصر قامة وأقل وزنًا مما كانوا قبل عشرين عامًا.
ملايين الأطفال المشردين يجوبون شوارع المدن بحثًا عن الطعام، الأبنية تتحول إلى قلاع، والبوابون إلى حراس مسلحين، كل مواطن إمَّا معتدٍ أو معتدًى عليه.
• ۱۹۸٤م جواتيمالا، ثلاثون سنة بعد إعادة الغزو: … لم تعد هذه أيام «شركة الفواكه المتحدة»، وإنما «جيتي» للبترول و«تكساكو» وشركة «النيكل الدولية». ويزيل الجنرالات القرى الهندية بالجملة، ويطردون أبناءها من أراضيهم، وتهيم أعداد غفيرة من الهنود الجوعى، المجردين من كل شيءٍ في الجبال.