الفصل الرابع
افتتحت درسي الأول بمفارقة طريفة، وهي أني بدأت حياتي بتمزيق كتب التاريخ، فقبل أن أتعلم القراءة أو الكتابة، كنت أتلهى بتمزيق ما تصل إليه يدي من كتب أو مجلات، وتسويد صفحاتها بشخبطات من القلم الرصاص، وكان أغلب هذه الكتب — كما تبيَّنت فيما بعد — يتناول موضوعات تاريخية؛ «مصطفي كمال أتاتورك» باني تركيا الحديثة، جنرال ما يُدعى «سمطس»، كتاب عن استكشاف منابع «النيل»، كتاب «فتحي زغلول» عن الإنجليز في بلادهم، بعض مجلدات تاريخ الحركة الوطنية ﻟ «عبد الرحمن الرافعي»، «يوميات الجبرتي»، وكتب الأمير «عمر طوسون» الفاخرة عن تاريخ الجيش المصري والحافلة بالصور الملونة.
ثم بدأ قريب لنا من المجنَّدين في حرب «فلسطين» يحمل إلينا ما تيسر من مواد الترفيه التي كان الجيش يوزعها على رجاله؛ الشكولاتة والألبان المحفوظة، وجبن «كرافت»، والسجائر الأمريكية، ومجموعة متنوعة من الكتب التي تبرعت بها دور النشر لصالح المجهود الحربي، من الدواوين الشعرية إلى قصة حياة المسيح، هذا إلى جانب مطبوعات الجيش نفسه عن التاريخ العسكري أو بطولات الجيش المصري، ومنها كتاب لا زلتُ أذكر غلافه ورسومه عن المعارك التي شارك فيها الجيش منذ عصر «محمد علي»، صففت هذه الكتب فوق جُزء بارز من الحائط المجاور لفراشي، وأصبحت لي مكتبة خاصة.
أُغرم «ساباتيني» بالشخصيات التاريخية البارزة من ملوك وأمراء وقراصنة، وبمؤامرات القصور ووقائع الثورات، وتنوعت موضوعاته من صراعات الدوقيات الصغيرة التي كانت تتألف منها «إيطاليا» في عهد أسرة «بورجيا» الشهيرة، وحريق «لندن» الشهير، والطاعون الذي أصابها في ١٣٤٨م، ومذابح البروتستانت والكاثوليك، إلى صعود «فريدريك الأكبر» ملك بروسيا، والثورة الفرنسية ومصير «لويس السابع عشر»، وحملة «نابليون» الفاشلة في «إسبانيا» و«البرتغال»، ومعارك القراصنة.
وكانت له استراتيجية واحدة لا تتغير إلا نادرًا؛ فهناك عقدة أساسية عبارة عن بطل في ظروف صعبة (متهم ظلمًا في ثورة أو من أصل عريق، لكن الدهر جنَى عليه، كأن يكون ابنًا غير شرعي لأحد النبلاء، أو فقدت أسرته ثروتها في أحد الانقلابات)، وهو في أغلب الأحيان يتميَّز بالشجاعة والبراعة في استخدام السيف، وبالدهاء وبشيء من المرارة، ويقع في غرام إحدى النبيلات التي تتميز بالجمال والعفَّة والكبرياء وتبادله العاطفة، ثم يقع سوء تفاهم نتيجة مؤامرة من نبيل شرير أو تدخُّل غير مفهوم من الأقدار. وفي أحيان كثيرة يتعفَّف البطل الذي يدرك أبعاد المؤامرة أو الحدث القدري عن إيضاح الأمر لمحبوبته؛ إذ تحول كبرياؤه دون ذلك فتحدث قطيعة بينهما، وفي النهاية تكتشف المحبوبة الحقيقة — بعد صدام على شكل مبارزة عنيفة تنتهي بموت الشرير — فتلوم نفسها، وترتمي في أحضان حبيبها طالبة المغفرة.
كان هناك كُتاب كثيرون على شاكلة «ساباتیني» جرَّبوا الرواية الرومانسية التاريخية، مثل «ألكسندر دوماس» الأب، مؤلف رواية «الفرسان الثلاثة» الشهيرة، و«البارونة أوركزي» التي ابتدعت شخصية «الزهرة القرمزية»، وهو نبيل إنجليزي يبدو في الظاهر شخصًا خاملًا بليدًا بينما هو في الواقع قد نذر نفسه لإنقاذ أقرانه النبلاء الفرنسيين من مقصلة «الرعاع»، كما وُصفت الجماهير الفرنسية الثائرة في الغالبية العظمى من هذه الروايات، لكن «ساباتيني» ظل بلا منازع — بالنسبة لي على الأقل — سيد كل هؤلاء الكُتاب، وإليه يعود الفضل في التغلب على لحظات الملل في طفولة خالية من كل بهجة.
لم يكن مؤلفو الروايات أو مترجموها على الأقل يذكرون السنة التي تدور فيها الأحداث. وكنت في مرحلة من العمر يختلط فيها الواقع بالخيال، عاجزًا عن التمييز بين ما هو روائي وما هو تاريخي. واليوم بعد أن قضيت عمري كله في الدراسات التاريخية، لا أظنني كنت بعيدًا عن الصواب. المهم أني قمت دون أن أدري بأول بحث تاريخي في حياتي مستعينًا بقاموس «لاروس» الفرنسي الضخم، وبمساعدة أبي الذي كان يلم بشيء من الفرنسية. فأعددت قائمة بالتواريخ الدقيقة للأحداث «التاريخية» الخاصة بالثورة الفرنسية، مقارنةً بما ورد في روايات «ساباتيني» وغيره من الكُتاب الذين تعرضوا لهذا الموضوع.
لكن هذه الروايات أثارت في رأسي الصغير قضيةً أخرى أهم، هي ما يُعرف اليوم في الدراسات التاريخية بمشكلة المنهج.
توقفت عند هذه النقطة وفتحت باب المناقشة، ودارت أغلبها حول طفولتي وحول قراءات الطفولة لدى طلابي. لم يكن أحد منهم قد سمع عن «ساباتيني» أو «جورجي زيدان»؛ فجُلُّ قراءاتهم كانت تنتمي إلى عصر الصورة. ومع ذلك خالجني الشعور الذي يعرفه كل محاضر أو مدرس، وتتمثل فيه مكافأته الأساسية، عندما ينجح في التواصل مع طلابه، ورافقني الشعور في طريقي إلى مكتبي بعد المحاضرة. ولعلي كنت منتشيًا به، فلم أجد ما يبعث على التساؤل، عندما مررت بغرفة البريد ووجدت زنبقة حمراء في صندوقي.
اصطدمت بمسز «شادويك»، عندما غادرت الغرفة الصغيرة. كانت قد جمعت شعرها الرمادي القصير وشبكته خلف رأسها. تطلعت إلى الزنبقة في يدي دون أن تبدوَ عليها الدهشة فقدمتها إليها. تورَّد وجهها قليلًا وشكرتني.
قالت: عندك مشكلة.
قلت: واحدة فقط؟
قالت ضاحكة: حتى الآن على الأقل، ستنضم إليك أستاذة زائرة في غرفتك.
قلت: وهذه مشكلة؟
قالت: سنرى.
وجدت «جيني» خلف مكتبها، وأمامها زهرية صغيرة بها زنبقتان. كان ثمة مكان فارغ يستوعب واحدة ثالثة، وداعبني الأمل أن تكون هي التي تركتها لي.
قلت: زهور جميلة.
قالت: «فيتز» هو الذي أحضرها.
– «فيتز» مَن؟
– صاحبك، وكيل مالك المنزل.
– أهو الآخر أستاذ؟
– فيتز؟ مستحيل. إنه موظف في إدارة المعهد وهوايته البَسْتنة.
أعطيتها القُرص الذي سجلت عليه ما أحتاج إليه من محتويات كمبيوتري. وطلبت منها طباعته فوضعته على الفور في جهازها، وأعدت الطابعة للعمل، لكن الجهاز لم يتمكَّن من فتح القرص. كان من نوع «الماكنتوش» مثل جهازي، لكن برنامج اللغة العربية به كان مختلفًا. وقالت إن البرنامج الذي أستخدمه غير متوفر لديها.
قلت: سآتي لك غدًا بنسخة منه.
هزَّت رأسها: جربنا ذلك من قبلُ، فلم يقبله الجهاز.
قلت: أعطيني إذن نسخةً من برنامجك.
ضحكت في استمتاع: سيقبله جهازك، لكنك لن تتمكن من النقل إليه.
قلت: والعمل؟
قالت: لا أعرف. (ووجهت اهتمامها إلى ملف فوق مكتبها.)
حملت مشكلتي إلى «ماهر». كانت غرفة مكتبة واسعة امتلأت جدرانها بخزائن الكتب، وتوسطتها مائدة مستطيلة حولها تسعة مقاعد، تلَتْها مساحة تكاد تكون منفصلة تتألف من ركن لكمبيوتر حديث الطراز، وبجانبه ماسح ضوئي وطابعة. واستقرَّ هو في الركن الثاني خلف مكتب كبير الحجم من المعدن، امتلأ سطحه بالأوراق والمجلدات وجهاز للتليفون وآخر للفاكس. وكان رأسه مختفيًا خلف صحيفة «الأوبزرفر» الإنجليزية.
جلست أمامه فأزاح الصحيفة جانبًا، وتطلع إليَّ من فوق نظَّارة قراءة ثبتتها سلسلة ذهبية.
قال: اسمع ما يقوله الإنجليز … المخابرات الأمريكية سبق وأكدت ﻟ «كلينتون» أن المصنع الذي أمر بقصفه في السودان ينتج الأدوية، ولا شأن له بغازات الأعصاب كما ادَّعى.
أمسك بسيجار شديد الطول، وانتظرت في ترقب أن يشعله متمردًا على الحظر المفروض على التدخين داخل المبنى. لكنه خيَّب أملي ودقَّ بالسيجار على الصحيفة قائلًا: أما الحكومة البريطانية؛ فهي مضطربة بسبب مسارعة «بلير» إلى تأييد القصف، بينما سبق أن قام اثنان من الوزراء البريطانيين بزيارة نفس المصنع برُفقة خبير أدوية، وأكدا طبيعته السلمية.
ترك السيجار وخلع نظارته وهو يضيف في استهجان: لم تُشِر أي جريدة أمريكية إلى كل ذلك.
عرضت عليه مشكلة القرص فاستدعى سكرتيرته بالديكتافون. أقبلت علينا فتاة بدينة ذات ملامح لاتينية. قالت وهي تزيل فُتات طعام من ركن فمِها إن مشكلتي لا حلَّ لها. علَّق «ماهر»: من فات قديمه تاه. ترجع إلى القلم والورقة.
وتناول ملفًّا من فوق مكتبه مستطردًا: أنا أنوي تنظيم مؤتمر عالمي ضخم في نهاية السنة، وأريدك أن تشارك فيه بورقة.
قلت: وموضوعه؟
رفع النظارة إلى عينيه، وقرأ من غلاف الملف: المشهد الثقافي العربي عشية القرن الواحد والعشرين.
قلت: وهل هناك فارق بين بداية القرن ونهايته؟
مال بجسمه فوق المكتب وخلع نظَّارته، ودق بحافتها على سطحه قائلًا: إذن قل هذا.
قلت: المؤتمرات أصبحت مملَّة، ثم إن إعداد الدروس يستهلك كل وقتي.
– هذا مؤتمر مختلف، والأمير «جاسم» مهتم به شخصيًّا.
– آهٍ. كنت أريد أن أسألك عنه.
– ليس هناك شيء غير عادي. هو من العائلة المالكة وغنيٌّ جدًّا. هل تعرف أنه بنى في سن الخامسة والعشرين قصرًا في «الرياض» كلَّفه ۳۰۰ مليون دولار؟ ثم حصل على عمولة قدرها مليار دولار عن عقد تليفون المملكة مع شركة التليفون والتلغراف الأمريكية.
أطلقتُ صفارةً من فمي: وما علاقته إذن بالثقافة؟
دعَك أنفه بأصبعه وقال: الرجل واسع المعرفة. ثم إنه يَقبل التعددية وحرية التعبير، وهو الذي أسَّس هذا المركز بعشرين مليون دولار ندفع منها راتبك، وهو الذي سيدفع لك لو أردت أن تبقى عندنا مدة أخرى.
كانت إشارة مفحمة فلزمت الصمت، وتجاوزته ببصري إلى النافذة وما ظهر خلفها من مبانٍ وسط المدينة والهرم الرفيع المدبَّب فوق أحدها.
تناول ملفًّا وقدمه إليَّ قائلًا: الأبحاث محدودة وقد كلَّفْنا بها عددًا من المثقفين، أريد رأيك فيها أولًا.
أخذت الملف وقلبت بين صفحاته. توقفت عند إحداها قائلًا: هذه ورقة عن الشعر، وأنا لا أفهم في الأدب.
– اقرأها إذن لتتثقف. اسمع، سندعو حوالي مائة من خِيرة المثقفين العرب، سيُتاح لهم أن يعبروا عن أنفسهم دون أي رقابة، وسنضع استراتيجية ثقافية واضحة للقرن القادم، ألقِ نظرة على هذه الأسماء.
وجدت فعلًا حشدًا من الأسماء المعروفة، وإن كان أغلبهم من المقيمين في «الولايات المتحدة». قلت: القائمة تنقصها أسماء كثيرة.
نهض واقفًا، وسار حتى النافذة وهو يقول: لا يمكننا أن ندعو كل إنسان، وهناك من اعتذر بسبب ارتباطاته.
حملت الملف في يديَّ وانصرفتُ إلى غرفتي، وضعته فوق المكتب، ثم مضيت إلى المطبخ. وجدت إناء القهوة ساخنًا، فتناولت كوبًا من خزانة وملَأته. أضَفْت ملعقة من السكر، وسجَّلت في ورقة مُعلَّقة في الحائط اسمي، ونوع المشروب الذي تناولته، وحملت الكوب إلى مكتبي.
تصفحت الملف، ثم قرأت مقدِّمته في عناية. كانت من إعداد «ماهر» بالاشتراك مع مفكر فلسطيني معروف هو «نادر البرديسي»، وكانت مركزةً للغاية في أقلَّ من صفحتين، وبدأت بتشخيص اللحظة الراهنة في العالم العربي، وكيف أنه يتعرَّض لخطر فقدان الهوية.
وحددت المقدمة طبيعة الحصار المزدوج الذي تُعانيه الشعوب العربية بين ضمور الإبداعية من جانب، والتبعية المتزايدة من جانب آخر، وأكَّدت أنه لا سيادة حقيقية ولا استقلال حقيقي بدون القدرة على إنتاج ما يحميهما؛ المعرفة العلمية والإنتاج الفني والثقافي، فضلًا عن التحكم بالشروط الطبيعية والاجتماعية.
غمغمت: حتى هنا لا بأس! وأغلقت الملف ووضعته في حقيبتي.