الفصل السادس
فتحت باب القسم الذي يُغلق في فترة الغداء من الثانية عشرة إلى الواحدة، لم أجد أثرًا للسوداء أو «جيني». وَلَجت ركن البريد وفتحت صندوقي، فلم أجد به شيئًا. مضيت إلى مكتبي فوجدت على الباب ورقة باسم زميلتي، فتحت الباب ووقفت أتأمل ما حدث. كانت قد غيَّرت وضع المكتبين بحيث نجلس، وظهر كل منا للآخر كأننا متخاصمان. واختارت لنفسها أفضلهما، فنقلت جهاز التليفون والتقويم المثبت في قاعدة خشبية إلى سطحه. وكان ثمة دفتر وقلم مما يعني أنها موجودة على مقربة.
أغلقت الباب خلفي، وجلست إلى الطاولة متجاهلًا المكتب. استخرجت من حقيبتي الأوراق التي سجلت فيها نقاط الدرس القادم وبدأت أراجعها، ووضعت بعضها جانبًا لتصويره وتوزيعه على الطلاب. وعندما بلغت الساعة الثانية قمت وفتحت الباب وتركته مفتوحًا، كنت قد حددت الساعة السابقة على موعد الدرس لاستشارات الطلبة، وسمعت وقع خطوات تقترب من الغرفة، فرفعت رأسي آملًا أن تكون الإيطالية هي القادمة.
ظهرت «فادية» — مواطنتي — في مدخل الغرفة. وقفتْ تعبَث بأزرار حقيبة يدها في ارتباك، طلبت منها بالعربية أن تجلس فاختارت المقعد القريب من الباب.
كانت ترتدي فستانًا فضفاضًا يمتد إلى قدمَيها، وغطت شعرها بالوشاح القريب من الحجاب. وفيما عدا الكحل خلا وجهها من الزينة.
قالت إنها تفكر في عقد مقارنة بين تاريخ مدينتي «القاهرة» و«سان فرانسيسكو». ويبدو أن وجهي ظهر عليه نوع من الامتعاض، فقد سارعت تقول: هناك أوجه عديدة للمقارنة. لا بد أنك رأيت يا أستاذ هرم «سان فرنسيسكو». إنه أعلى بناء في المدينة، ويتألف من ٤٨ طابقًا.
قلت ساخرًا: نسيت عربات الكابل. ما تبقَّى من خطوط ترام في «القاهرة» تسير بنفس البطء.
أشحت بيدي في استهانةٍ واستطردت: هذه مقارنة تصلح للصحف، فتاريخ المدينتين مختلف. وطبعًا الاختلاف يمكن هو نفسه أن يكون موضوعك، لكن لا بدَّ أن يقول شيئًا. ماذا لديك؟ مدينة عريقة عمرها أكثر من ألف سنة، قامت على أنقاض حضارة قديمة، عمرها عدة آلاف أخرى … ومدينة حديثة لا يزيد عمرها عن قرنين.
جمعت أوراقي ووضعتها في حقيبتي محتفظًا ببعضها في يدي، وقلت: إني أرغب في تصويرها قبل الدرس.
صحبتني إلى ماكينة التصوير الموضوعة في المَمر، سجلت كلمة السر الخاصة بي، وساعدتني في وضع أوراق الطباعة في الصندوق الخاص بها. وحرصت على الابتعاد عنها بمسافة كافية؛ كي لا أحتك بمؤخرتها المصرية الكبيرة.
كنت قد قبلت الموضوع على مضَض من كثرة ما قيل عن «فوكوياما»، لكني وجدت عرضها مركزًا وجيدًا. وتحدثت بحماس وذلاقة أعطَيَا جاذبية لوجهها العاطل من الجمال. استعرضت في البداية محاولات التفسير العديدة للتطورات التاريخية، وخصوصًا لصعود وهبوط الدول والإمبراطوريات، بدءًا من «بوليبيوس» (۲۰۰–۱۱۸ق.م.) الذي درس أسباب سقوط الإمبراطورية الهلينية، ونقل من الفلسفة تصور الزمان كدائرة تعود إلى نقطة بدايتها، ثم خرج بنظرية الدورات التاريخية. وانتقلت إلى القديس «أوغسطين» (٣٥٤–٤٣٠م) الذي عزَا كل التطورات إلى المشيئة الإلهية، وهو نفس التفسير الذي اعتمدته الحضارة العربية الإسلامية.
عرَّجت بعد ذلك على فكرة التقدم التي سادت في القرن الثامن عشر؛ ومؤداها أن الإنسان يسير إلى الأمام، ولو بإيقاع بطيء. وكان التصور أن هذا التقدم يسير في خط مستقيم إلى أن افترض البعض أنه يتبع مسارًا لولبيًّا من تراجعات مؤقتة يستأنف بعدها طريقَه لا من نقطة البداية، وإنما من نقطة أعلى منها.
هكذا وصلت إلى «هيجل» (۱۷۷۰–۱۸۳۱م) الذي رأى في التاريخ مسيرة لصراع التناقضات المتجددة حلت نهائيًّا بانتصار الثورة الفرنسية، واندحار حكام أوروبا المستبدين. وقالت: إن «كارل ماركس» (۱۸۱۸–۱۸۸۳م) توصَّل إلى نفس النتيجة الحتمية؛ فالتاريخ سينتهي عنده أيضًا عندما تصبح ملكية وسائل الإنتاج عامة، وتنحل التناقضات المسئولة عن حركة التاريخ. وهي نفس النتيجة التي توصل إليها «فوكوياما» بصورة عكسية؛ لأنه رأى في انهيار النظام السوفييتي حلًّا نهائيًّا لتناقضات العصر بانتصار النظام الرأسمالي إلى الأبد.
فتحتُ باب المناقشة فقال «لاري»: إن «ماركس» في الحقيقة لم يتنبَّأ بنهاية التاريخ؛ لأن صراع المتناقضات لديه مستمر إلى ما لا نهاية.
تتابعت تعليقاتهم وتركتهم يتكلمون قليلًا، وأنا أتدخل بين الحين والآخر مصححًا كلمة أو معلومة، متأملًا وجه «روزيتا»، وخدَّيها الناعمين. شعرت أنها اليوم مختلفة كأنها أخذت حمامًا للتوِّ، وغسلت شعرها.
عقبت على العرض ولخصت المناقشات، ثم قلت: إن «دوريس» تجاهلت دور «ابن خلدون» (١٣٢٢–١٤٠٦ﻫ) الذي يُعتبر أول من عالج التاريخ بوصفه علمًا له خصائصه الخاصة، وربما كان المؤسس لعلم التاريخ. وظهرت لديه أفكار أساسية من المادية التاريخية قبل «ماركس» و«إنجلز» بقرون، فقد اعتبر أن النشاط الإنتاجي المشترك هو أساس الحياة الاجتماعية، وأن الحياة المادية تسبق الحياة الروحية، وأن مراحل تطور المجتمع واختلاف أنماط نواحي حياة الناس تنبع من اختلاف كيفية إنتاجهم، وأن التطور نفسه يتم من خلال صراع الأضداد. وبالتالي فالتاريخ عنده لا ينتهي، رغم أنه لم يُشِر إلى ذلك صراحة.
وصل البرازيلي متأخرًا، وبحث عن مكان بجوار «روزيتا»، فلم يجد وجلس بعيدًا. شعرت بسرور خفي وأنا أتأمل جسمه الرياضي القوي.
لم يكن «فرناندو» آخر القادمين؛ فقد ولج القاعة شاب أفريقي ضخم الجثة. ونطق أحد الطلاب باسم «عبد الرحمن» ضاحكًا. أشرت إليه بالجلوس إلى جوار «سابك» ذي الملامح الهندية، لكنه اختار مقعدًا بعيدًا عنه في الطرف الآخر من المائدة بجانب طالبة بيضاء شاحبة الوجه، تُدعى «مونا». سألته عن اسمه فأجاب بصوت خفيض لم أتبيَّنْه. ناولته ورقة وطلبت منه أن يكتبه. كتب: «فرنون». سألته عن موطنه، فابتسم وقال بوضوح: «أمريكا».
سألته عما قرأ له، فارتبك ولم يجب.
قلت بنفاد صبر: هل قرأت له شيئًا أم لا؟
سمعت همهمة أخرى التقطت منها اسم المؤرخ القديم، لكنه نطَقَه هذه المرة بشكل مختلف أو ربما بوضوح أكثر فجاء أقرب إلى «هُنبُل»، وفهمت أنه قرأ له كتابًا وحيدًا. وعندما استوضحته اسم الكتاب علَتْ همهمته.
أوشك صبري على النفاد، فكرر اسم الكتاب بوضوح أكثر: «المسند.»
«المسند» ﻟ «همبل»؟
بدأت الابتسامات ترتسم على شِفاه الطلاب، استعدادًا للمجزرة المرتقبة. وألفيت نفسي في موقف يتعرض له المحاضر دائمًا، وتعرضت له أنا شخصيًّا في طفولتي.
كان مدرس اللغة العربية في مدرستي الابتدائية طويلَ القامة قبيح الوجه، دائم السخرية من التلاميذ، وسألني مرة عن شيء فلم أتمكن من الإجابة. فقال إن الفول الذي أكلته في الصباح «كبس على نافوخي»، فنفيت أني آكل الفول في الصباح. فسألني ساخرًا: بتاكل حمام؟ قلت: لا، بيض بالعجوة. خُيل إليَّ أني أفحمته، ودللت في نفس الوقت على مكانتي الاجتماعية، لكنه لم يرتدع، وقال على الفور: لو كنت أكلت فول كنت فهمت.
تداركت نفسي قبل أن أنزلق إلى موقف مُشابه، وانتقلت على الفور إلى الحلقة الجديدة من سيرتي.
بدأت من حيث انتهيت في المرة الماضية. قلت: إن «ساباتيني» لم يكن يعبأ باتخاذ موقف من أحد الجانبين في الصراع السياسي الذي يشكل خلفية روايته. ما كان يهمه هو خدمة حبكته الرئيسية دون الحكم على المواقف أو الشخوص التاريخية. وقد سبَّب لي ذلك حيرة شديدة في طفولتي، ولعله كان حائرًا مثلي.
فبعد استعراض فظائع النبلاء وسفههم واستهتارهم وتبذيرهم وعدوانهم على الفلاحين المغلوبين على أمرهم، والذي يصل إلى حد حق الليلة الأولى في كل زواج جديد، يستدر العطف عليهم بتصوير ما تعرَّضوا إليه من اضطهاد بعد الثورة. وبدا لي ذلك أمرًا عسيرًا على الفهم؛ فكل شيء بالنسبة لي في ذلك الوقت كان بأحد لَونين لا ثالث لهما، الأبيض والأسود.
توقفت عن الحديث وشردت، حاولت الاستمرار، لكني نسيت النقطة التي توقفت عندها. نهضت واقفًا واقتربت من النافذة المطلة على الكافيتريا، وسقط بصري على كتفين عاريين لفتاة بيضاء حمراء الشعر، كانت ترتدي صديرية رمادية يملؤها ثديان ثقيلان يبدو أعلاهما، وبنطلونا ضيقًا أبيض اللون، ضغط على جسد ممتلئ رخص، ذلك الذي يوصف بأنه بلا عِظام، وكانت خارجة من الكافيتريا بحركات سريعة اهتزَّ لها نَهداها، وفي يدها طبق تكدَّست به الفطائر، وتبعها ثور شاب في ملابس رياضية، ورأس أزيل شعرها كلية.
تحوَّلت عن النافذة وحدقت في وجوه الطلاب، وأنا أحاول التذكر … الأبيض والأسود … «رفائيل ساباتيني».
استأنفت الحديث بعد أن عثرت على الخيط. قلت: إن البحث عن روايات «ساباتيني»، وأمثاله من كُتاب القصص التاريخية كان هاجسي، وأنا أقف على عتبة فترة المراهقة. كنت أتسلل من مسكني بالبيجاما والشبشب؛ كي لا يشعر بي أبواي، وأقوم بجولة واسعة تبدأ من السور الدائري لقصر قريب نَشر فوقه شاب، يرتدي شورتًا وقبعة من الفلين، عديدًا من الكتب والمجلات القديمة، ثم أنتقل إلى حانوت صغير للمخلفات القديمة في زقاق جانبي، يملكه يهودي سريع الحركة ذو عوينات سميكة ووجه غير حليق، ومنه إلى بائع خردوات في الشارع الرئيسي خصَّص ركنًا لإعارة الروايات القديمة مقابل تأمين مالي. وصارت هناك أيام كئيبة؛ تلك التي أعود فيها بخفَّيْ حنين من جولاتي، وأخرى رائعة عندما أعود بغنيمة أيًّا كان حجمها، أخفيها عادة في صدري؛ كي لا يراها أحد.
صَورت هذه الرواية مصير شاب زنجي أبيض اللون، تطارده الرغبة في الانتقام من البيض الذين اغتالوا أخاه؛ لأنه تجرَّأ وأحب فتاة بيضاء. وأخذ هذا الانتقام صورة الإيقاع بالبنات البيض وفض بكارتهن. وكان الوصف التفصيلي لغوايته للفتيات يتضمن تفصيلات غامضة بالنسبة لي، لكنها كانت كافية لدفع الدماء إلى عروقي.
علت الابتسامات وجوه طلبتي.
استطردت: بلغ الشاب ذروة انتقامه عندما أوقع بأختين من الطبقة الثرية، فحملت منه الأولى. وعلمت الثانية بعد استسلامها له أنه «زنجي قذر» فحاولتْ قتله، وانتهت المحاولة بأن اغتالها هو ومثَّل بجثتها، ثم قتل أختها وطاردته الشرطة إلى أن قتَلَته، وعلقه الأهالي فوق شجرة وألصقوا بصدره ورقة تحمل هذه الكلمات: «إلى الجحيم وسيتبعك بقية الزنوج.»
تحاشيت النظر إلى «فرنون» وواصلت الحديث: فضلًا عن الجانب المتعلق بالجنس؛ فإن هذه الرواية صدمتني بتقديمها صورة مختلفة عن موضوع لم ينَلْ جانبًا من اهتمامي في السابق. كل معلوماتي عن قضية «الأسود والأبيض» قبل ذلك اقتصرت على كِتاب من نشر مؤسسة «فرانكلين» الأمريكية، وُزِّع علينا في نهاية المرحلة الابتدائية يتضمن قصة تصور محنة العبيد لدى سيدٍ قاسي القلب، مقابل آخرين ينعمون بالحياة الهنية لدى آخر طيب القلب.
نهضت واقفًا ودرت حول المقاعد حتى أصبحت خلف «روزيتا». كانت ترتدي شورتًا أبيض قصيرًا للغاية، أبرز جمال فخذيها … ويبدو أنها شعرت بنظراتي؛ إذ هبطت عيناها إلى ساقيها.
شردت لحظة وشعرت بالأنظار معلَّقة بي، وأنقذتني «جيني» من ورطة المرة السابقة.
كانت تقف بالباب وعيناها عليَّ وعلى اتجاه نظراتي.
قالت: عفوًا! ثم التفتت إلى «ميجان»، وأضافت: مري عليَّ من فضلك بعد المحاضرة.
التقطت خيط الحديث بسهولة بعد انصرافها وقلت: إن جسد المرأة بالنسبة لي في تلك الفترة كان لغزًا. وهو أمر يصعب إدراكه على الأجيال المعاصرة التي تشهده بأدق تفاصيله في المجلات، وعلى شاشات التلفزيون والسينما.
ومن الطبيعي أني سعيت لاستِكْناه اللُّغز، وبدأت من البداية كما يقولون. فعندما فتنتني صورة لوجه الملكة الفرعونية «حتشبسوت»، قضيت ساعات طويلة في رسم شفتَيها. وأيًّا كان النجاح الذي حققته؛ فإنه لم يشفِ غليلي.
كانت أسرتي في ذلك الوقت — وأنا في العاشرة أو الحادية عشرة — تسكن حارة ضيقة، وتطل شرفة مسكننا على مسكن في المنزل المقابل، تعيش به أمٌّ عجوز مع ولدَين وبنت. وحدث أن التحق أحد الولدين بشركة تعبئة «الكوكاكولا» كمرافق لسائق سيارة التوزيع. كان المشروب الأمريكي جديدًا على حياتنا بطعمه وشكل زجاجته، والدعاية التي رافقته، وألوان السيارات التي توزعه والصناديق التي تبيعه. وحرص الشاب على أن تقلَّه السيارة الضخمة الملونة كل صباح من أمام منزله، فيتركها تنتظر قليلًا، ثم يهبط أخيرًا ويجلس إلى جوار السائق، كأنه جنرال ذاهب إلى المعركة. ويتابع سكان الحارة — وأنا من بينهم — هذا المشهد من النوافذ والشرفات بانبهار. وكنت أنا شبه مقيم في الشرفة لسبب آخر.
كانت أخته سمراء مليحة رشيقة في حوالي السابعة عشرة. وفي الصيف — الذي يُهرع فيه الجميع إلى الشرفات فور اختفاء الشمس — تظهر في رداء قطني خفيف واسع الصدر، وتنحني على السياج المكوَّن من قضبان حديدية عمودية، ثم تسند صدرها إلى السطح الخشبي للسياج. وكنت بذلك أطل على نهدَيها من موقعي في الشرفة المقابلة التي تعلوها بعض الشيء. كانت تلحظني بالطبع، وتعتبرني بلا شك طفلًا صغيرًا؛ فلا تحفل بتغطية صدرها. وعلى كلٍّ فإنَّ ما بدا منه لم يُشبع فضولي، وإنما استثارني إلى معرفة المزيد. وهكذا بدأت نظراتي تتجه إلى أسفل، متخلِّلة القضبان المتباعدة لسياج الشرفة.
وكأنما حدست الأم اتجاه أفكاري، فغطت السياج بملاءة بيضاء، وصار عليَّ أن أكتفي بالقطاع الأعلى من جسد ابنتها. لكن شهوة البحث كانت عميقة لديَّ منذ الصغر، فدأبت على التجوال في شوارع الحي وحواريه رافعًا رأسي إلى أعلى، على أمل أن أرى من خلال أسيِجَة الشُّرفات الطرف الآخر من اللغز. لم أوفَّق أبدًا في مسعاي، وجلُّ ما تمكنت منه هو لمحة سريعة ذات مرة لركبتين متباعدتين أسندت صاحبتُهما إحدى قدمَيها إلى الساق الأخرى. يومها اندفعت الدماء في عروقي دون أن أفهم السبب، وتعذر عليَّ المشي إلا بعد أن هدأت مشاعري.
اتسعت ابتسامات طلابي؛ فقد كنت الآن أنطلق في طريق يعرفونه جيدًا، وكنت أنا أيضًا منتشيًا بالذكريات التي نادرًا ما أستعيدها.
لم يعد أمامي من سبيل للمعرفة غير المجلَّات الملونة، وخاصةً المتخصصة في السينما، وشرعت في تكوين أرشيف من الصور تصدرته ممثِّلة يهودية مصرية تُدعى «كاميليا»، اشتهرت بلقب «ذات الفم الدافئ» بسبب اكتناز شفتيها. وانضمت إليها صورة «بيني جرابل»، أو بالأصح صورة ساقيها حتى المنفرج، وأخرى ﻟ «جين راسل» تكشف فيها عن أعلى ثدييها اللذَين استحقَّت عليهما لقب «صاحبة الصدر الأعظم». وكانت هناك أيضًا «إستر وليامز» وزميلاتها من السابحات الفاتنات. لكن أيًّا من هذه الصور لم تنجح في حل اللغز أو وصل ما بين أسفل الصدر وأعلى الركبتين. وهو ما تحقق بعد فترة بفضل رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق «مناحم بيجين».
لحظت أن الابتسامة تجمَّدت على وجهَي كلٍّ من «مونا» و«لاري»، وقطبت الأولى حاجبيها بينما انحنى الثاني فوق دفتره يكتب بسرعة.
واصلت: ففي أحد الأيام عدت من جوَلاتي بمجلة مصورة بها موضوع كبير عن «آل كابوني»، رجل العصابات الشهير الذي سيطر على مدينة «شيكاغو» في الثلاثينيات. وبينما كنت أقلِّب صفحات المجلة وجدت موضوعًا عن جريمة أخرى أكثر حداثة مصورة بالرسوم، وألفيتُني أمام لا امرأة عارية واحدة، بل عشرات من النساء كاملات العري.
فهمت من الموضوع أن النساء فلسطينيات من أهالي قرية تُدعى «دير ياسين» قامت العصابات الصهيونية بقيادة «مناحم بيجين» بتجريدهن من ثيابهن، ووضعهن على ظهر شاحنة عسكرية طافت بهن أنحاء القرية قبل أن يتم اغتصابهن ثم ذبحهن.
أخيرًا تجلى لي الجسد الأنثوي في تمامه، وحدث الارتباط في رأسي الصغير، لا بين الجنس والقتل، وإنما بين البحث عن المرأة والبحث في التاريخ.
شعرت بتيار خفي من التوتر في القاعة لم أدرِ كنهه أو مصدره، وكان بإمكاني أن ألمسه من تأمل وجوه «فادية» و«لاري» و«مونا». أما «ميجان» و«شرلي» و«فرنون» و«سابك»، فكانت وجوههن كالعادة لا تبين عن شيء. وثبتت «دوريس» عينيها على النافذة، واحتفظ وجهها المليء بالبثور بملامح التوقع لشيء أخَّاذ مؤكد الحدوث.
قالت «مونا»: لست متأكدة من حقيقة ما ذكرته عن «دير ياسين». أظن أن الذي حدث هو العكس.
أجبت: هذه هي مشكلة التاريخ؛ فهناك أكثر من رواية لكل حادث، ودور المؤرخ هو تمحيص الروايات والتحقق منها.
ألقيت نظرة سريعة على الورقة التي سجلت فيها أسماءهم، وتوقفت عند لقبها ثم أضفت: أقترح أن تفعلي ذلك، وتقدمي لنا عرضًا بالنتائج التي تتوصَّلين إليها.
حاولت استعادة خيط حديثي، ثم انتبهت إلى نظرات الاستغراب في عيون الطلاب المعلقة بي، وحدجتني «شرلي» بعينين رماديتين أسفل كتلة من شعر بين البني والأشقر.
عجزت عن استئناف الحديث، وحدقت في وجوههم يائسًا، وأخيرًا استسلمت فجمعت أوراقي قائلًا: يكفي هذا اليوم، تكليفات القراءة مستمرة.
هل كانت هناك نظرة تفكه في عيني «فرنون»، وشبه ساخرة في عيني «مونا»، أو كنت أتوهم؟
لم أشأ استخدام المصعد وهبطت الدرج وسط الطلاب المتدافعين. وأغلقت عيني وفتحتهما عدة مرات، عندما خُيل إليَّ أني لمحت «فيتز» بينهم.
اتجهت إلى مكتبي وطرقت بابه، ثم أدرت مقبضه فلم ينفتح. استخدمت مفتاحي، وجلست إلى مكتبي أحدِّق في الحائط المقابل.
لم يسبق أن حدث لي هذا، لماذا الآن؟
غادرت الغرفة إلى المطبخ. كانت هناك سيدة متقدمة في السن بالغة السمنة أمام الحوض تغسل نظارتها. حيتني بابتسامة ودودة قائلة: أنا مسز «كلين»، وأنت البروفسور «شكري»؟
أومأت برأسي وتبادلنا كلمات الترحيب، أخذت كوبًا من البلاستيك وملأته بالمياه الساخنة من برميل معدني، ثم فتحت الخزانة وأخذت كيسًا من البن السريع الذوبان، أفرغته في الكوب وأضفت ملعقة سكر ثم التقطت الورقة المعلقة وسجلت اسمي. ولحظت أنها انتهت من غسيل نظارتها، وظلت واقفة تنظر إليَّ باسمة.
أدركت أنها تنتظر مني الخروج لتتمكن من مغادرة المطبخ؛ فرغم صغر المساحة التي كنت أشغلها كان احتكاك جسدَينا محتومًا بسبب حجمها.
حملت الكوب إلى غرفتي ووضعته فوق الطاولة. جلست وأدرت وجهي نحو النافذة التي تطل على سطح مبنًى ملاصق. رفعت الكوب إلى شفتي، ولم ألبث أن شعرت بالعزوف عن تناول محتوياته. تركته فوق المكتب، وأخذت حقيبتي ومضيت إلى مدخل القسم.
كانت «فيفيان» — السكرتيرة السوداء — تلوك شيئًا بين أسنانها في بطء كالعادة، وعلى وجهها نظرة حالمة، تجاوزتها إلى داخل غرفة «جيني». كانت هناك شقراء أخرى تجلس في المقعد المجاور لمكتبها، وفوقه استقرت صينية الحلوى المعهودة.
سألتها عما تم بشأن طلب الحصول على بريد إلكتروني.
قالت: لا بدَّ من الانتظار قليلًا؛ حتى تحصل على رقم التعريف.
وأضافت، وهي تتناول قطعة حلوى بأطراف أصابعها: وضعت لك بضع أوراق في صندوق بريدك.
مضيت إلى كهف البريد واصطدمت ﺑ «فادية» خارجة منه. بدا عليها الارتباك؛ ربما بسبب تماسِّ جسدَينا. وجدت النشرات الإعلانية المعهودة، ومنها واحدة من شركة كمبيوتر، ودعوة لحضور حفلة موسيقية، ووردة حمراء مثبتة في ورقة عليها سطور بحروف الكمبيوتر.
تأملت السطر الصغير: «آر يو أوكي؟ هل أنت بخير؟»
أودعت الورقة جيبي، وحملت الوردة في يدي، ثم عدت أتأمل الصناديق. كانت المفتوحة الخاصة بالمساعدين خالية من أية ورود، ولم يكن بوسعي التأكد بشأن صناديق الأساتذة المغلقة. عدت إلى «فيفيان» فتأملتني باسمة.
قلت: أريد أن أعرف نظام البريد، كيف يوضع في الصناديق؟
قالت: أنا الذي أتلقَّى البريد وأوزعه عليها.
قلت: أنت إذن وضعت هذه الوردة في صندوقي؟
هزت رأسها نفيًا.
– هل تعرفين مَن وضعها؟
هزت رأسها مرةً أخرى واتسعت ابتسامتها: الجميع يدخلون هنا؛ الأساتذة والطلاب والإداريون.
تركتها واتجهت إلى المصعد، وجدت «فادية» تنتظر أمامه.
بادرتني متسائلةً وهي تنظر إلى الوردة: هل معك سيارة أم تحب أن أوصلك؟
قدمت إليها الوردة، فشكرتني وسألتها عن وجهتها.
قالت: إلى الحضانة لألتقط طفلتي.
قلت: سأذهب معك.
مضينا سويًّا إلى الجاراج، وأخذنا المصعد إلى الطابق الأخير. خرجنا إلى ساحة انتظار لا يوجد بها أثَر لإنسان. قالت وهي تتقدمني إلى سيارة «داتسون» قديمة: الحمد لله أنك معي.
وأضافت وهي تفتح لي الباب، وتدور حول المقدمة نحو باب السائق: السنة الماضية تعرضت إحدى الطالبات للاغتصاب في هذا المكان، وأشارت إلى طرف الساحة.
قادت السيارة في براعة عبر الطوابق الأربعة حتى الشارع وهي تثرثر: أنا جئت وأنا صغيرة مع أهلي ثم افترق والداي، وعادت أمي إلى «مصر»، وزرت «مصر» في سن ۱۸ فأصرَّت أمي على تزويجي لحمايتي.
هكذا بدأت محنتها. كان الزوج مهندسًا معماريًّا، ويكبرها بثماني سنوات، وعاد معها بالطبع لكنه لم يجد عملًا، فاشتغل سائق تاكسي. وسرعان ما تكشَّف — حسب قولها — عن شخص أناني لا يهتم إلا بنفسه. وبدأت الخلافات بعد الحمل، وتضاعفت بسبب قلة الموارد المادية، واستغرقت إجراءات الطلاق ثلاث سنوات.
سألتني فجأةً: وأنت، هل لديك أطفال؟
أجبت بالنفي.
صمتت محرجةً، ثم سألتني عما إذا كنت مستريحًا في سكني.
قلت: لا بأس.
قالت: أين تسكن؟
وصفت لها المكان.
غادرنا السيارة بجوار دار الحضانة، وعبرنا حديقة واسعة إلى مبنًى صغير من طابق واحد، ولَجنا صالة طويلة مقسَّمة إلى غُرف بها لعب مختلفة وسيارات صغيرة، وأركان لممارسة الهوايات من صلصال، وألوان وفرش وأحواض كبيرة من البلاستيك مليئة بالمياه. عثرنا على «سارة» في إحدى الغرف منهمكة في لصق قبعة من الورق. أسرعت نحونا، وهي تتحدث الإنجليزية بسرعة مائة كلمة في الدقيقة: موم، انظري إلى قبعتي، خضراء في لون بنطلوني، إنها تلمع أكثر من قبعة «ريان» الحمراء، موم، دعينا نرتدي القبعات عندما نتناول العشاء.
كانت سمراء ظريفة دقيقة الحجم، وتركتنا وسط بقية الأمهات لتحضر ملابسها وصندوق طعامها. واقتربت منا مشرفة أمازونية حلوة وجَّهت إليَّ التحية، وسألتني عما إذا كنت جد «سارة».
اشتبكت «فادية» معها في حديث حول أحداث اليوم وما فعلته «سارة» وما لم تفعله. استرحت إلى جو المرح السائد، وراقبت مشرفًا متقدمًا في العمر يجلس وسط دائرة من الأطفال الذين اقتعدوا الأرض ويحدثهم، بينما يقلِّبون كتبًا في أيديهم.
انضمت «سارة» إلينا، وبدأنا نتحرك نحو المدخل، لكنها استوقفتنا قائلةً: دقيقة واحدة.
علقت على الاهتمام البادي بالأطفال، وكيف أننا نفتقد هذا كله في «مصر». قالت: إنهم يتعمَّدون إبراز هذا الاهتمام عندما يأتي الآباء لالتقاط أطفالهم.
تحولت الدقيقة التي طلبتها «سارة» إلى ربع ساعة، طافت خلالها بأنحاء الدار ونحن نتابعها عن بعد. لم تترك مقعدًا أو بابًا أو مشرفًا دون أن توجِّه إليه كلمة الوداع «جودباي».
قالت «فادية» عندما صرنا في الخارج: هل تحب أن ترى الحي الصيني؟ أريد أن أشتري بعض الأعشاب لأمي.
هتفت «سارة»: ييس موم، ييس موم.
لم يكن لدي ما أفعله، كما أني وجدت نفسي أسيرًا لجوٍّ عائليٍّ محبب.
وضعت «فادية» ابنتها في مقعد صغير مثبَّت بالأريكة الخلفية للسيارة، وربطتها إليه بحزام أمان، وانطلقت بنا إلى شارع «لومبارد» الشهير، وأضحكها ما انتابني من رُعب عندما انحدر الشارع بشدة ومالت السيارة إلى أسفل، وبدت نهاية الشارع مثل هوة عميقة القرار.
تركنا السيارة هذه المرة في جاراج كبير، وأطلقنا سراح «سارة» فتقدمتنا مسرعة كأنها تعرف الطريق. عبرنا بوابة على الطِّراز الصيني، ثم شققنا طريقنا في شوارع ضيقة ازدحمت بالمارَّة والسائحين والمطاعم الصغيرة، وأضاءتها القناديل. مررنا بحوانيت أقمشة وأحجار كريمة وأنتيكات، ثم أخرى للبقالة امتدَّت أمامها فوق الرصيف الخضراوات والفواكه. وجاءت بعدها حوانيت الأسماك الطازجة والبط المشوي والدجاج الأزرق اللون.
ولجنا حارة ضيقة مرصوفة بالحجارة، امتلأت بحوانيت الأعشاب والعطور. ابتاعت فادية مجموعة من الأعشاب، واشتريت أنا بعضًا من جذور «الجينيسنج» ذات السمعة العالمية.
خرجنا إلى ساحة تجمَّع فيها عواجيز الصينيين حول الأرائك الخشبية يلعبون الورق. وكان أكثرهم يرتدون سترات ثقيلة، ويغطون رءوسهم بطواقي صوفية تهبط فوق آذانهم.
قالت كأنما تفسر ظاهرة الملابس الثقيلة التي لا يتطلَّبها الطقس: أغلبهم عزاب؛ لأنهم وفدوا في فترة جرى فيها تحديد الهجرة، فلم يتمكنوا من إحضار نسائهم، ولا وجدوا زوجات بين الطائفة الصينية.
اكتشفت أننا نقف إلى جوار تمثال إلهة الديموقراطية أُقيم بعد أحداث ميدان «نيانمين» في بكين سنة ۱۹۸۹م. وجذبت «سارة» أمها من ملابسها، فانحنت وحملتها بين ذراعيها، قالت: هذه الساحة كان يتم فيها «اللينشينج».
– «لينشينج»؟
– أجل. يقرر الجمهور شنق زنجي أو صيني، وينفذون قرارهم في الحال دون أن ينتظروا حكمًا قضائيًّا. كان الأمر هكذا منذ قرن ونصف قرن.
وعبَّرت «سارة» عن شعوري عندما أعلنت أنها متعبة وتريد الانصراف.