الفصل السابع
امتدت مائدة طويلة في جانب من القاعة رُصت فوقها الوجبة المتواضعة، والْتَمعت أشعة شمس العصاري فوق الأغطية المفضضة لصواني «تيك أواي». ووسط القاعة وقف عدد من أساتذة المعهد في حفل التعارف التقليدي الذي يقام مع بداية كل فصل دراسي.
تعرَّفت على بضع وجوه، منها مسز «كلين» الضخمة التي تدلت نظارتها فوق صدرها، وهمس لي «ماهر»: هل تعرف أنها تغسل نظارتها ثلاث مرات في اليوم بالمياه والصابون؟ لهذا تُدعى مسز «كلين». تعالَ أعرفك بالروس.
قدمني إلى روسيَّين؛ امرأة أربعينية، بيضاء، قصيرة القامة، مليحة الوجه، ذات شفاه ممتلئة، ورجل خمسيني امتلأ وجهه بالغضون وعلامات التعب. كانا زوجين ومعارَين من معهد الدراسات الآسيوية والأفريقية بجامعة «موسكو». وبينما كان زوجها يدير نظرات قلِقة في أنحاء القاعة، حدثتني عن تخصصها في التاريخين التركي والفارسي، وعرفت أنها حصلت على دكتوراه الدولة — أعلى الدرجات العلمية الروسية — منذ سنتين أي بعد تخرجها بعشرين عامًا. ولحظت تقوسًا خفيفًا أعلى ظهرها، عزوته إلى طول العكوف على المخطوطات القديمة.
انضمت إلينا أمريكية سوداء بدينة، قصيرة القامة، ترتدي بزة بيضاء اللون. كان شعرها المجعد منفوشًا على طريقة «أنجيلا ديفيز». خاطبتني باعتدادٍ متسائلةً عن بلدي ثم عن «الإرهاب». وكان برفقتها أمريكي أبيض خمسيني له وجه صبي، تعلوه نصف نظارة فوق عينين نفاذتين.
أحضر لنا الروسي أطباقًا ورقية وأدوات طعام، فاتجهنا إلى المائدة. وكانت مسز «كلين» تسد الطريق، فوقفنا خلفها ننتظر. ولمحها الروسي تحاول فتح زجاجة نبيذ فخفَّ إلى عونها ثم صبَّ لها ولنا، وشعرت أنه يبالغ في محاولة كسب ود الآخرين.
انكشفت محتويات المائدة أخيرًا عن أطباق شرقية؛ لبنانية أو تركية. وضعت بضع حبات من ورق العنب المحشو في طبقي، وأضفت إليها سلاطة زبادي. انتحيت جانبًا بجوار رجل خمسيني مكتئب الوجه يرتدي قميصًا حريريًّا بخطوط طولية زرقاء. عرَّفني بنفسه قائلًا إنه إيراني.
سألته باهتمام: من «طهران»؟
هزَّ رأسَه نفيًا وقال: أنا أستاذ في جامعة «أوتاوة» الكندية.
عدت أسأله: هل تذهب إلى «إيران»؟
أجاب بالإيجاب، ثم أضاف كأنما قرأ منحَى تفكيري: أنا أكاديمي وليست لي علاقة بالسياسة.
تطرق الحديث إلى صعوبة تحقيق المخطوطات والوقائع التاريخية. وقلت: إن المشكلة معقَّدة؛ لأنها تتعلق في جانب منها بالمقدسات الدينية. كم من المسلمين مثلًا يعرفون أن «أبا هريرة» كان يختلق الأحاديث النبوية، وأن «عمر بن الخطاب» حذَّره من ذلك عدة مرات؟
قال: لن تجد الأجيال القادمة صعوبة فيما يتعلق بالأحداث المعاصرة؛ فكل شيء مسجَّل الآن بالصوت والصورة.
ظهرت سيدة بالغة السمنة عند المدخل. تقدَّمت نحونا وهي تبتسم، ثم اكتشفت أن الابتسامة موجهة إلى مسز «كلين» التي تقدمت منها باسطة ذراعيها. شعَرْت كما لو أني أمام قاطرتَين توشكان على الاصطدام. ولم تتمكن مسز «كلين» من احتضان صديقتها، ولا حتى من تقبيلها في وجنتيها؛ إذ حالت بينهما المصدات الأمامية.
أضاف اليهودي: وأغطي رأسي ولا أرتدي كرافت أو حزامًا. لم أدرِ إذا كان يمزح أو يتكلم جادًّا.
– أنت أمريكي؟
أومأ بالإيجاب، ثم أردف بعد لحظة: أهلي من شرق أوروبا. أما زوجتي فإسرائيلية مخلصة؛ فهي تؤمن بحق «إسرائيل» في الوجود، رغم اعتراضها على سياستها.
– وأنت؟
– أنا ضد الصهيونية دينيًّا وسياسيًّا. على اليهود أن يبقوا في بلادهم الأصلية، كما أنني ضد النظام الرأسمالي ولا أشترك في الانتخاب.
أخذت قليلًا من سلاطة البطاطس بالمايونيز، وعرضت عليه أن أملأ له طبقًا منها، فهزَّ رأسه نفيًا.
قلت: الأكل النباتي حرام؟
قال: أبدًا، بشرط ألا يختلط باللحوم ومنتجات الألبان.
وأضاف بلهجة فيها شيء من التفكه: القاعدة أيضًا ألا يؤكل في أوعية استُخدمت في غير «الكوشر». لديَّ في البيت أوعية للحوم وأخرى لمنتجات الألبان، وإذا أكلت خارج منزلي أستخدم أطباقًا ورقية.
اقتربت مني «شادويك»، وأمسكتني من ذراعي قائلة: تعالَ أُعرفك بزميلتك في الغرفة.
قادتني إلى شقراء أربعينية في طولي، ترتدي بلوزة خضراء اللون بكمين قصيرين فوق بنطلون من الجينز. ولحظت أنها تركت الزرارين الأخيرين من البلوزة مفكوكَين.
تذكرت أني رأيتها في مكتب السكرتيرة. أحنَيت رأسي لها، وعرفت أنها متخصصة في تاريخ الشرق الأوسط، وتُدعى «إستر».
قالت «شادويك»: أتمنى أن تمضي الأمور بينكما على ما يرام.
وتذكرت ما فعلته في الغرفة من الاستيلاء على التليفون، والتقويم وتعديل وضع المكتبين؛ بحيث نعطي ظهرينا كل للآخر. وقبل أن أعلق ابتسمت قائلة: سأعد له «مناقيش» في أقرب فرصة.
أبديت عدم فهمي، فقالت متعجبة: لا تعرف المناقيش؟
هززت رأسي نفيًا.
كان وجهها — الذي تطل منه عينان ذكيتان بزينة خفيفة لا تكاد تُلحظ — يبدو قابلًا للسمنة. وانجذبت عيناي إلى ساعدَين لَدنين لوَّحَتهما الشمس. كان جسمها يميل إلى الامتلاء، وشككت أن الزرارين الأخيرين في البلوزة مفتوحان لتخفيف ضغط البنطلون على بطنها.
قالت: لكن العرب جميعًا يعرفونها.
– وكيف عرفتِها أنت؟
ضحكت: تعلمتها من حماتي.
اقتربت منا مسز «كلين»، واستأذنتني في أن تأخذ «إستر» لتعرفها بالأساتذة الآخرين. ملأت طبقي بمزيج من عدة سلطات، وصببت كأسًا من النبيذ. شعرت بلمسة لذراعي والتفتُّ لأرى رجلًا أبيض طويل القامة، جاحظ العينين، في بزة كاملة سوداء اللون. قدَّم نفسه إليَّ باسم «أدوين»، واستقرت عيناه على كأس النبيذ. عرضت عليه أن أصبَّ له كأسًا، فقال بعربية ركيكة وهو يبتعد: لعنها الله.
ظهر «ماهر» إلى جواري وهو يبتسم، قال: ماذا قال لك «أدوين، لعنه الله»؟
أخبرته وأضفت: هل كان يسخر مني؟
ضحك: أبدًا. لقد أشهر إسلامه منذ بضع سنوات، وهو يعلق صورة «الخميني» في مكتبه ويؤم المصلين. وعندما يذكر في حديث أو محاضرة اسم أحد زعماء «إسرائيل»، يردفه بعبارة «لعنه الله».
– تقصد عن «كلينتون» و«مونيكا»؟
أومأ موافقًا ودعك أنفه: طريف.
قلت: مثل كل شيء هنا.
وكانت «مونيكا» قد التحقت بالعمل متدرِّبة بالبيت الأبيض في يونيو ١٩٩٥م؛ بفضل نفوذ والدتها التي قدمت تبرعات كبيرة لحملة الرئيس الانتخابية. وبعد شهر بدأ الأمر بينها وبين الرئيس بنظرات متبادلة، ثم مغازلة أو اثنتين، تعمدت خلالهما أن تذكره باسمها. وفي مساء يوم حافل بالنشاط هو ١٥ نوفمبر ١٩٩٥م انفردا صدفة في مكتب أحد معاونيه. وبدأت بينهما مغازلة رفعت خلالها سترتها من الخلف وأرته ملابسها الداخلية. وفي الساعة الثامنة مساء مرَّت بمكتب مساعد آخر، وكان «كلينتون» به بمفرده، فأشار إليها بالدخول. وقالت له إنها مغرمة به، فضحك وسألها إذا كانت تحب أن ترى مكتبه الخاص. وقادها خلال الباب الواصل إلى قاعة طعامه الخاصة، ثم إلى مكتبة المجاور للمكتب البيضاوي. وفي هذا المكتب جرت معظم اللقاءات بينهما. وأثناء أحدها تلقَّى مكالمة تليفونية من مستشاره السياسي، فوجه مسز «لوينسكي» لأن تستمر في «فعلها الجنسي»، بينما واصل الحديث لمدة تسع دقائق.
لكن العلاقة انقطعت لفترة بعد أن تم نقلها إلى البنتاجون في أبريل ١٩٩٦م. ولم يجرِ بينهما اتصال جسدي طوال ۱۱ شهرًا، رأته خلالها في عدة مناسبات عامة منها حفل لجمع التبرعات للحزب الديموقراطي في ١٨ «أغسطس». في هذا الحفل اقتربت منه قائلة: «هاي يا وسيم! تعجبني ربطة عنقك.» وعندما همَّ «كلينتون» بمصافحة أحد الضيوف الواقفين إلى جوارها، مدت يدها ولمست منفرجه مداعبة.
وفي ۲۸ «فبراير» ۱۹۹۷م، دعاها لحضور تسجيل خطابه الأسبوعي في الراديو، وكانت ترتدي ثوبًا أزرق اللون. وطلب منها الرئيس أن تقابل سكرتيرته بعد التسجيل؛ لأنه يريد أن يعطيها شيئًا. ومضى الثلاثة سويًّا إلى مكتبه، وكان أحد مساعدي الرئيس قد حذَّر السكرتيرة من انفراد الرئيس بالفتاة؛ ولهذا ظلت معهما. لكنها لم تلبث أن تركتهما قائلة: «سأعود حالًا.» ثم ذهبت إلى غرفة الطعام، حيث انتظرت بين ربع ساعة وثلث ساعة، بينما ظل الرئيس و«مونيكا» بمفردهما في المكتب. وخلال ذلك قدم لها الرئيس هدية «كريسماس» عبارة عن دبوس قبعة، وديوان شعر ﻟ «والت ویتمان»، ثم جرى بينهما لقاء جنسي في الردهة المعهودة.
وفيما بعد اكتشفت مونيكا على ثوبها الأزرق بقعًا قرب الفخذ وفي مقدمة الرداء. وأثبتت تحليلات وكالة المباحث الفيدرالية أن هذه البقع من السائل المنوي للرئيس.
وفي يوم ۲۹ «مارس» ۱۹۹۷م، قال لها إنه يخشى أن تكون سفارة أجنبية معينة تتنصت على مكالماته التليفونية.
ويقول تقرير «ستار»: إن العلاقة بين الاثنين تقوضت تحت ضغط خوف الرئيس من الافتضاح، وشعور «مونيكا» بالإحباط لاستبعادها من حياته. وفي لقاء بالمكتب البيضاوي في ٤ يوليو ۱۹۹۷م، أنَّبها الرئيس على رسالة هددت فيها بفضح علاقتهما قائلًا: إن تهديد رئيس الولايات المتحدة أمر غير قانوني!