الفصل الثامن
وأضافت بالعربية: إنت فاكر يا أستاذ إننا معندناش غير السمينار بتاع حضرتك؟ ثم إنه كتاب في الاقتصاد.
كانت منحنية على الطاولة مستندة بخدِّها إلى يدها على الطريقة المصرية وتتكلم باستهانة، على الطريقة المصرية أيضًا. والتفتت إلى زملائها الذين تغيب منهم «فرناندو» و«روزيتا»، وكررت اعتراضها بالإنجليزية، وشعرت أن الباقين يتعاطفون مع احتجاجها.
رددت عليها بأن الاقتصاديين والمؤرخين لم يعودوا يؤمنون بأن الاقتصاد مجال قائم بذاته، ولا بأن التاريخ الاقتصادي ينفصل عن غيره من المجالات؛ فكل الأمور في التاريخ يمسك بعضها ببعض، واستشهدت بمؤرخ مثل «هاوبسباوم» يفرد للتطورات الاقتصادية مساحة رئيسية عند تحليل التطورات التاريخية.
ثم أفَضت في الحديث عن «بروديل» قائلًا: إنه من مدرسة في التاريخ تسعى إلى الإلمام بجوانب الحياة في العصور التي تتناولها، فلا هي تقتصر على الملوك والحروب ولا على الفقراء والكادحين، بل تحيط بطوائف المجتمع المختلفة وحياتهم اليومية، وتعتمد في ذلك على العلوم المختلفة من جغرافيا واقتصاد، فضلًا عن التاريخ المتخصص وبخاصة تاريخ الفنون وتاريخ التقنية وتاريخ الطب.
وقلت: إنه تحدَّث عن لقمة العيش والسكن والملبس والنقل، مستعينًا بقصص الرحالة والبحَّارة وتعليقات التجار والصحفيين والأدباء وأوراق التوثيق العقاري والأسواق واللوحات والرسوم. وصار عمله بذلك لا غنى عنه لمن ينتوي التخصُّص في دراسة التاريخ المقارن، كما أن لغته تتميز بالحيوية الشديدة، وطابع الحوار مع القارئ، والبعد عن الصياغات المجردة.
وقلت: إني قد لا أتفق مع بعض أطروحاته، وخاصة مبالغته في الدور الحضاري لفرنسا — بلده — وتجاهله لما قامت به من نَهْب للشعوب الأخرى في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وتدمير لحضاراتها. ومع ذلك فهو يدعونا إلى التفكير والمقارنة والملاحظة، وهي الأدوات الرئيسية للباحث الجاد. ويؤكد حقيقة لها أهميتها اليوم، وهي أن المنافسة التي هي السمة الأساسية لاقتصاد السوق لا تلعب أي دور في النظام الاقتصادي الحالي الذي تتحكم فيه مجموعة من الاحتكارات العالمية.
شعرت أني أتحدث في فراغ فسألت: هل قرأتم صحف الأمس واليوم؟
واستطردت دون أن أنتظر الإجابة التي خمنتها: ألم تنتبهوا إلى الانهيار المفاجئ في البورصة الذي لم يحدث منذ ۱۲ سنة؟ التعليقات كلها تتوقع هبوطًا كالذي حدث عام ۱۹۸۷م، وهو ما توقعه «بروديل» أيضًا.
لاحظت في بعض الوجوه لامبالاة بما قلته، وبدا لي أنهم مشغولون أساسًا بعبء قراءة كل هذه الصفحات، وساورني الشك في أن أحدًا منهم سيصبح مؤرخًا حقيقيًّا في يوم من الأيام، وقررت أن ألتقي بهم في منتصف الطريق.
كنت أيامها في السنة الأخيرة بالمدرسة الثانوية، أسير إليها كل صباح من منزلي القريب مارًّا بسور الجامعة ومدخلها الرئيسي المهيب، متأملًا الطالبات اللاتي ضممن كتبهن إلى صُدورهن النافرة – إذ كان التخلِّي عن حقيبة الكتب أول مؤشر لتجاوز مرحلة التلمذة، والانتقال إلى المرحلة الجامعية — حالمًا باليوم الذي أعبر فيه هذا المدخل، وأجلس إلى جوارهن.
وشاء حظي أن أخترق هذا السور قبل الأوان في مظاهرة صاخبة، سارت من المدرسة وانضمت إلى طلبة الجامعة الذين احتلوا قاعة الاجتماعات الكبرى. وألقى أحد الطلاب — وكان يرتدي طربوشًا على عادة طلاب السنوات النهائية المخضرمين أو المتقدمين في العمر — كلمة حماسية أنهاها هاتفًا بسقوط الملك.
وفي مساء يوم تالٍ تأكد موقعي كشاهد عيان لتاريخ يُصنع أمامي، بل أشارك فيه ولو بقدر ضئيل.
فقد أذن لي أبي أن أذهب إلى اللقاء الأسبوعي الذي يعقده «أحمد حسين» زعيم الحزب الاشتراكي في مقرِّه كل خميس. كان آخر عدد من جريدته قد حمل عنوانًا عريضًا: «الثورة … الثورة … الثورة» رأيته أخيرًا وجهًا لوجه، وفوجئت بأنه قصير القامة يرتدي سترة بيضاء، وبأن خطابه كان بعيدًا عن السياسة. وبالرغم من ذلك حاصرت الشرطة المكان، واعتقلت أغلب الموجودين فيه، ونالتني صفعة هائلة من كف قائدها. وكانت هذه الصفعة هي التي أبعدَتْني إلى الأبد عن النشاط السياسي.
ما حدث بعد ذلك افتتح صفحة جديدة في التاريخ المصري الحديث.
ففي يوم ۲٦ يناير احترقت القاهرة، وفُرضت الأحكام العرفية، وتغيرت الحكومة عدة مرات إلى أن استولى الجيش على السلطة في ۲۳ يوليو ١٩٥٢م.
انشغلت بعد ذلك بالتحضير لامتحانين هامين؛ الأول هو امتحان شهادة الدراسة الثانوية، والثاني امتحان خاص أعلنت عنه وزارة المعارف يتمتع الناجح فيه بمجانية التعليم الجامعي. اخترت لهذا الامتحان مادة التاريخ، وكان عليَّ أن أقرأ أربعة مجلدات أذكر منها الجزء الثاني من «تاريخ الجبرتي»، وكتابًا جميلًا بعنوان «صور من التاريخ الإسلامي»، وثالثًا بالإنجليزية هو «فائدة التاريخ» ﻟ «روزي». كرَّست وقتي كله لدراسة هذه الكتب، وأهملت مواد الامتحان الأساسي حتى كدت أرسب فيه.
وفي خريف العام التالي، كنت أشق طريقي مرتديًا سترة واسعة وحذاءً كالقارب من ملابس أبي إلى داخل الجامعة المصرية وكلية الآداب وقسم التاريخ بالطبع.
لكني سرعان ما شعرت بالإحباط؛ فالتاريخ الذي أقبلت على دراسته كان عبارة عن تسلسل معارك، وملوك وعظماء، وانتصارات وهزائم. مئات الأسماء والتواريخ دون تفسير، وسرد وتجميع على طريقة مؤرخي العصور الوسطى.
وتوافق ذلك مع فلسفة التعليم ذاتها التي وضع أُسسها المستشار الإنجليزي «دنلوب» عقب الاحتلال الإنجليزي، وما زالت سائدة حتى اليوم — أي بعد أكثر من قرن — بهدف تخريج موظفين جل اعتمادهم أثناء الدراسة على الاستظهار والحفظ، لا على القوى العقلية في الابتكار والاستنباط. وأذكر مرة أردت أن أتفلسف على أحد الأساتذة، فتساءلت عمَّا إذا كان من الممكن اعتبار الفتح العربي ﻟ «مصر» حربًا توسعية تحت ستار الدين. وتعرضت يومها للسخرية والاستهزاء؛ فكيف أجرؤ على التفكير بشكل مختلف؟
ظهرت تقطيبة غاضبة على وجهي «فرنون» و«فادية»، وابتسامة ساخرة من «مونا» و«شيرلي».
رسمت لهم صورة للجو البوليسي الذي ساد الجامعة بعد مارس ١٩٥٤م، وكيف صارت تبعث على الملَل وتدفع إلى الهرب. صرت أقضي معظم وقتي بين المكتبة وممر «سان جيتار»، وهو الاسم الذي أطلقه الطلبة على ممرٍّ صغير يؤدي إلى بوفيه الكلية الأنيق الذي يزدحم بالطلبة والطالبات بين المحاضرات. في هذا البوفيه عقدت صداقات كان لها تأثير حاسم في مستقبلي. وبالنتيجة رسبت في كل العلوم في أول سنة، فأعدتها، وتكرر رسوبي في السنة التالية.
وفي سنة ١٩٥٦م تغيرت حياتي.
في صيف تلك السنة قام «جمال عبد الناصر» بعمل تاريخي، عندما أعلن تأميم قناة السويس التي كانت تتحكم فيها شركة عالمية؛ وذلك ردًّا على سحب البنك الدولي — بطلب أمريكي — لعرض تمويل بناء «السد العالي». وبعدها بشهور تعرضت البلاد لعدوان ثلاثي من جانب «إنجلترا» و«فرنسا» و«إسرائيل»، وعادت القوات الإنجليزية إلى قواعدها التي أخلَتْها قبل عامين، لكن التغيير الذي عنَيته كان على صعيد آخر.
فقد تولت التدريس لنا معيدة، هي أول فتاة تنضم إلى هيئة التدريس. كانت أطول مني قامة، ذات شعر ناعم تعقده من الخلف على هيئة ذيل حصان. دخلت علينا أول مرة بقميص رجالي أبيض شمرت كمَّيه حتى الكوعين. ولمست على الفور شبهًا كبيرًا بينها وبين «حتشبسوت» التي أُغرمت برسم وجهها منذ سنوات قليلة؛ الجبهة العريضة، والعينين الواسعتين، والأنف المستقيمة، والشفاه الحسية الرقيقة.
صرت أنتظر بفارغ الصبر موعد محاضراتها، وأحرص على الجلوس في الصف الأمامي، وقد تعلَّقت عيناي بشفتَيها، متحاشيًا النظر إلى صدرها أو ساقيها؛ فمشاعري كانت «أعلى» من ذلك. وشعرت هي بالأمر، فكانت تتجاهلني أو تلقي عليَّ نظرة عابسة. وفي أحد الأيام رمقتني بنظرة عابثة متسائلة فلم أنَمْ ليلتها.
كانت أول واحدة تستولي على مشاعري، دون أن أجسر على مفاتحتها. اكتفيت بخطابات طويلة وجهتها إليها دون أن أرسلها بالطبع.
توقفت عن الحديث، وأجَلت النظر حولي. كانت «فادية» تتأملني كعادتها بنظرة حِرت في فهمها. هل هي استنكار لما قد يبدو في أحاديثي من استهتار بالتقاليد المحافظة للمجتمع المصري؟ هل يشاركها «فرنون عبد الرحمن» الرأي؟ وكنت عاجزًا عن قراءة عيني «ميجان» المائلتين أو «دوريس» المختفيتين خلف نظارتها، واللتين تبدوان دائمًا غائبتين في مكانٍ ما. أما «شرلي» فكان وجهها مصمتًا كوجه «أبي الهول»، وتملكتني لحظة تهور، فأقدمت على شيء ما كان يمكن أن أفعله مع طلبتي في الجامعة المصرية.
قلت: إن حياتي القصيرة قبل ذلك خلَت من أي عاطفة متَّقدة نحو الجنس الآخر. ترددت لحظة، ثم قلت: والواقع أني أغرمت بتلميذٍ معي في المدرسة الثانوية، له شفتان جميلتان، طالما سعيت إلى تقبيلهما دون فائدة.
توقفت مرة أخري وأجَلت النظر حولي. استطردت: بالطبع من المعروف الآن جيدًا أن اهتمام الإنسان يتجه في مطلع نموه الجنسي لا إلى الجنس الآخر، وإنما إلى جنسه هو. وفيما بعد تتدخل ظروف عديدة في تكوينه الجسدي والنفسي والبيئي لتحدد هويته الجنسية في مستقبل أيامه.
ابتلعت ريقي ثم واصلت: كانت «رجاء»، كما قلت، أول فتاة تثير اهتمامي العاطفي، وكانت هي المسئولة عن تجدد اهتمامي بالدراسة. كانت لا تفتأ تهاجم برامج التدريس التي وُضعت بعد الثورة، وتقول إنها تستهدف تكوين المواطن المعتزِّ بقوميته بالتركيز على الأمجاد التاريخية، دون إطار يجعل الطالب قادرًا على فهم الواقع المعاصر.
ابتسمت كل من «شرلي» و«مونا» ابتسامةً متفهمة تعبِّر عن شعور بالتفوق. أضفت وأنا أنظر إليهما بحدة: هذه ظاهرة عالمية، ﻓ «هاوبسباوم» في كتابه «عن التاريخ» الصادر في العام الماضي، يشكو من تفشيها بمراحل التعليم العام في الغرب حتى اليوم.
علق «لاري»: عندنا في أمريكا غالبًا ما يخضع المؤرخون الذين يعملون في ظل المؤسسة الأكاديمية الرسمية لطلبات السوق التي تفرض كتبًا معينة على تلاميذ المدارس الثانوية وطلاب الجامعة، فيكتبون ما يُطلق عليه «التاريخ الآمن»، الذي لا يتعارض مع الخط العام للنظام.
أقبلت أقرأ كل ما كُتب عنها وعن عهدها. تلبسَتْني الرغبة في أن أتخلل ثنايا جلدها، وأغزو أعماقها. صرت ممسوسًا بها حتى توحدت معها، وأصبحت أعيش معها لحظة بلحظة.
الحمام اليومي البارد في الحوض الحجري، الدعك بالصابون والقماش، ثم بالزيوت فوق طاولة التدليك، تعطير الفم بالجميز، خط الكحل الأسود فوق العينين حتى الأذنين، اللون الذهبي للجفون، الحنة للشفاه وراحتي الأيدي وكعبي القدمين، الباروكة الثقيلة المؤلفة من مائة ضفيرة، التاج المزدوج الطويل ذو اللونين الأحمر والأبيض، أفعى ذهبية فوق الجبهة، صدرية ذهبية على شكل طائرين متواجهين، ثوب رقيق من الكتان الشفاف، صندل ذهبي ضفرت شرائطه بالجواهر، نظرة أخيرة إلى المرآة النحاسية الكبيرة من عينين سوداوين لامعتين، شفتان رقيقتان في فم واسع، ذقن متعالية تتدلى منها اللحية القصيرة المستعارة، ثم الخطوات المتمهلة عبر غابة من القاعات غطت جدرانها إلى المنتصف بأوراق الذهب، المحفَّة الملكية يحملها العبيد الأجانب فوق شوارع مُعبَّدة بالحجارة، العبَّارة النهرية إلى الشوارع المزدحمة في «طيبة» الشرقية، وطريق تماثيل «أبو الهول» حتى البوابات البرونزية للمعبد، وأخيرًا قدس الأقداس حيث الإله العظيم نفسه، «آمون» أبوها فوق عرشه الذهبي، ويداه الذهبيتان فوق ركبتيه الذهبيتين، وفوق الفم الذهبي ابتسامة خفيفة، وحوله الكهنة حليقو الرءوس بوجوههم الجامدة ونظراتهم الغامضة، بينهم شيوخ اشتركوا في طرد «الهكسوس» زمن «أحمس»، يتحكمون في إيماءاته وقراراته. وينطرح الحاجب أرضًا وهو يهتف: «انتبهوا، جلالة الأرض السوداء، حورس الذهب. ليعش الإله إلى الأبد!» فتدخل الملكة، وبنظرة موحية من الكاهن الأكبر تنحني وتزحف على ركبتيها أمام الإله، تقدم الولاء والطاعة، ثم تعود إلى القصر للغداء والقيلولة، وفي المساء توقد الشموع، وتُمد موائد واطئة محمَّلة بأواني النبيذ والفاكهة، بط مشوي، خيار محشو بالسمك، أرز مسلوق في الصلصة، سلاطة من كافة الخضراوات والنباتات الطازجة، صحون وملاعق، ماسكات الرياح على الأسطح توجه النسيم القادم من الشمال؛ ليجري في أنابيب إلى أسفل، عبدتان سوداوان يلمع العرق فوق جسدَيهما تحركان مراوح من الريش، سيدات في ملابس رقيقة شفافة، رءوسهن مغطَّاة بشعور مستعارة زرقاء اللون تحمل أقماعًا من العطور البطيئة الذوبان، كاتب الرسائل الذي يتحاسب بالكلمة، متربعًا أمام محبرته وفي أذنه قلمان من البوص، راقصة تهتز على إيقاع الدفوف والناي، عبق الزهور المنثورة في كل مكان، مصففة على هيئة «عنغ»، مفتاح الحياة الذي صار صليب المسيح. ثم هي، في تنُّورة ترتفع بوصتين فوق ركبتَيها، الجفون غارقة في لون أخضر ثقيل، الشِّفاه وأظافر اليدين والقدمين في لون أحمر، وأسفل الباروكة الثقيلة المعقدة جبهتها العريضة، وعيناها السوداوان اللامعتان.
انتبهت إلى عيني «شرلي» تحدقان بي. انتزعت نفسي من شرودي، ولم يصعب عليَّ هذه المرة أن أتبين أين كنت.
قلت: كنت أبحث عنها بعد ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة من اختفائها. ولم يكن هذا بالأمر السهل؛ فقد تجاهلتها القوائم الملكية، ولم يُعثر أبدًا على مومياتها، وحُطمت أغلب تماثيلها، وأزيلت آثارها حتى إن «رمسيس الثاني» أضاف لها عضوًا ذكريًّا في نقش يصورها طفلة؛ حتى لا يخطر ببال أحد وجود امرأة بين الفراعين. فهل كان جنسها هو سبب العداء الذي واجهته؟ كان هذا هو أول ما تبادر إلى ذهني، ثم تكشَّف لي الصراع الذي دار بينها هي وفريقها من الإداريين والمعماريين من جانب وبين الكهنة والنبلاء والجنرالات من جانب آخر؛ فقد فتح الرخاء والازدهار شهية الطبقة الحاكمة إلى التوسع، وأعلن «آمون» أن البلاد الأجنبية ستصبح أرضًا مصرية، لكنها رفضت أن تحارب إلا في حالة الدفاع. هل لأنها كانت تفضل البناء على الحرب؟ أم لأنها أدركت أن الحرب ستعطي نفوذًا للجنرالات وحلفائهم يؤدي إلى تقويض سلطتها؟
بلعت ريقي وأضفت: لكن مصيرها ظل لغزًا؛ فقد اختفت فجأةً، وانفرد «تحتمس الثالث» بالحكم، وتحققت رغبة «آمون»؛ فقد شيد إمبراطورية امتدَّت إلى «اليونان» شمالًا و«بين النهرين» شرقًا، والسودان جنوبًا.
شعرت بالإرهاق فرفعت الدرس لاستراحة قصيرة. دخَّنت سيجارة في النافذة، ثم تجمعنا من جديد وفتحت باب التعليق، وانصبت التعليقات على الحضارة الفرعونية وسر انهيارها.
قالت «فادية»: العامل الرئيسي هو ضعف الملوك الأواخر، والتجاؤهم إلى العناصر الأجنبية المرتزقة من الإغريق؛ فهؤلاء ساعدوا الفرس على احتلال «مصر» ومكَّنوا «الإسكندر» من غزوها بعد ١٥٠ سنة.
قلت: وما الذي أضعف الملوك الأواخر؟ لماذا تجمَّدت الحضارة المصرية القديمة؟ وكيف تحولت «مصر» من إمبراطورية إلى أطول مستعمرة في التاريخ على حدِّ قول «جمال حمدان»؟
اعترض «لاري»: سقوط الاتحاد السوفييتي ارتبط أكثر بعجز النظام عن مواكبة التطورات التكنولوجية.
أزاحت «شرلي» خصلة من شعرها سقطت على جبينها، وقالت: أظن الأمر أعمق … كان شعاره هو: مِن كلٍّ حسبَ قدرته ولكلٍّ حسب احتياجاته. وهو شعار مستحيل التطبيق. وعندما تلاشى الحلم، وتجلَّى الفارق بين النظامين، تهاوت الشيوعية.
أعادنا «سابك»، سليل الهنود الحمر، إلى موضوع النقاش قائلًا: جانب من هشاشة إمبراطوريات «فارس» و«روما» و«الأزتيك» و«الإنكا» يعود إلى طابعها الاستبدادي الاستغلالي، وبالتالي عدم مبالاة رعاياها بهوية حكامهم. فهل ينطبق هذا على الفراعنة؟
استخرجت «مونا» بقايا ساندوتش من حقيبتها، وقالت: يمكن الاستعانة بنماذج السقوط المعروفة. الإمبراطورية البرتغالية، مثلًا، كان صعودها مرتبطًا بتفوق البرتغاليين في التقنيات البحرية. ويعود هذا التفوق بدوره إلى أنهم كانوا على استعداد للتعلُّم من العلماء الأجانب، وأكثرهم يهود. وعندما بدأ اضطهاد الإسبان لليهود في عام ١٤٩٢م التجأ أكثرهم إلى البرتغال، لكن لعنة التعصب لاحقتهم وتعرَّضوا للإبادة بعد نصف قرن. وهاجر الناجون بما فيهم علماء الفلك إلى «هولندة»، حاملين معهم المال والمعرفة.
عقبت «شرلي» وعينها على الساندوتش: أنتِ تشيرين إلى خروج اليهود من «مصر» … متى كان ذلك؟
تدخلتُ قائلًا: هذه قضية لم تُحسم بعد. على أية حال أنصار هذ المقولة يفترضون أن الخروج تم سنة ١٢٢٤ق.م. أي قبل سبعة قرون من سقوط «مصر» في يد الفرس.
قالت «فادية»: إنها مدة طويلة جدًّا تنفي وجود العلاقة. «ابن خلدون» تحدث عن صعود وسقوط الدول، وأكد أن السقوط يبدأ بما تحققه من رخاء ورخاوة وتبذير وإسراف.
أطرقت «دوريس» برأسها مؤمنة: هذا ينطبق تمامًا على الإمبراطورية الإسبانية؛ فقد جمعت أموالًا هائلة من المستعمرات، وبدلًا من استثمارها أنفقَتْها على الكماليات والحروب. وما إن انتهى تدفُّق الذهب في منتصف القرن السابع عشر، حتى بدأت البلاد انحدارها الطويل.
ابتسمت «مونا» في خُبث متسائلة: هل ينطبق هذا اليوم على الدول العربية التي جمعت أموالًا هائلة من النفط وبدَّدَتها؟
أضافت «شرلي»، وهي تدس قطعة حلوى في فمها: وعلى الإسلام بشكل عام.
همَّ «فرنون» الأسود، أو «عبد الرحمن» أن يعترض، لكن «مونا» سبقته: صحيح، ابتداء من لحظة الذروة في سنة ۱۱۸۷م بدأ انحدار الإسلام؛ لأنه انغلق في وجه المعرفة.
احتجت «فادية»، فواصلت «مونا»: عندما غزا المسلمون فارس في ٦٣٧ﻫ وصادفوا كمية هائلة من الكتب والمؤلفات العلمية، كتب «سعد بن أبي وقاص» إلى «عمر بن الخطاب» يسأله السماح بتوزيعها على المسلمين كغنائم. ورد عليه «عمر» يأمره بإلقائها في النهر. إنه تقليد إسلامي.
تدخلت قائلًا: هناك خطأ منهجي في هذا الكلام؛ فالإسلام ليس نظامًا. إنه دين، وأنتم تتحدثون عن الإمبراطورية التي قامت تحت مظلته.
انتقل النقاش بعد ذلك إلى المقدمات الأولية لسقوط الإمبراطوريات. وركز «لاري» على ظاهرة السُّعار التي تفشت لدى الرومان في السنوات الأخيرة للإمبراطورية، ووصف كيف شاهد بين أطلال مدينة «بومبي» الإيطالية ساحات الطعام والشراب التي تضم مكانًا مخصصًا لإفراغ ما في جوف المحتفلين من طعام زائد؛ ليتمكنوا من ازدراد المزيد.
ألقيت نظرة على ساعتي ثم أعلنت انتهاء الدرس. سألتهم عن مكان قسم الكمبيوتر، فتطوعت «دوريس» لمرافقتي إليه.
غادرنا المعهد، وعبرنا أرض الكامبوس الشاسعة تحت شمس قوية تركت أثرها على الطلبة والطالبات فتخففوا من ملابسهم. ولمحت «روزيتا» من بعيد مع «فرناندو» يتجادلان في انفعال.
كانت «دوريس» تسير محنيَّة الرأس تحت ثقل حقيبة منتفخة مثبتة فوق ظهرها، فعرضت عليها أن أحمل عنها الحقيبة. التفتت إليَّ مندهشة، وقد تضرَّج وجهها ورفضت بشدة.
سألتها: كُتب؟
ازداد احمرار وجهها وأجابت: لا. إنها أغراضي؛ فقد انتقلت إلى سكن جديد.
– أنت وحدك هنا؟
– أجل. سكنت أولًا في غرفة لدى أسرة، ثم اتفقت مع عدد من الطلاب على المشاركة في بيت كبير كثير الغرف.
سألتها عن دراستها، فقالت: إنها تدرس الصحافة، وإنها عملت في عدة مجلات من قبل، ووعدت أن تريني ما نشرته.
بلغنا مبنًى صغيرًا أقيم فوق أرض منخفضة. وطالعَتْني في مدخله لوحة تعلن عن مركز للشرطة. وبجوارها لوحة أخرى تسجل الجرائم التي وقعت بالكامبوس في الفترة من «يناير» حتى «أغسطس» الماضيين: بلاغان عن اغتصاب واعتداء بالضرب، وسبع سرقات، وقع أغلبها أثناء مغادرة الطلبة للمكتبة. وكان هناك بيان بحصيلة العام الماضي، تسعة اعتداءات جنسية، ۲۲ اعتداء مسلحًا، ١٣٥ سرقة أشخاص، ٥۷ سرقة سيارة، ٣٤٦ سرقة دراجة.
صعدنا إلى مكتب أنيق تتولَّاه فتاتان آسيويتان. ملأت عدة أوراق، وحصلت على الرقم الذي يتيح لي الحصول على بريد إلكتروني.
عدت بمفردي إلى المعهد، واخترقت منبسطًا من النجيل الأخضر، جلست في طرفه فتاة مادة ساقَيْها. واستلقى بجوارها شاب دفَن رأسَه في حجرها. لم أرَ وجه أي منهما؛ إذ تغطَّيا بشعرها الطويل، وكانت أصابعه تعبث في رفق بأطرافه.
كان المشهد جميلًا فتسمرت في مكاني أتأمله، ثم خشيت أن أتسبب في إحراجهما، أو أُتَّهم بالتطفُّل، فواصلت السير مكرهًا، وصعِدت الدرج إلى مكتبي.
وجدت ورقة معلَّقة على الباب، حددت فيها زميلتي مواعيد تواجدها، وذكرني ذلك بأن أعد ورقة مماثلة، وحفظت مواعيدها لأختار غيرها.
طرقت الباب ثم أدرت مقبضه، وجدتها جالسة إلى مكتبها فحيَّيتها. ردت التحية باقتضاب وانهمكت في العمل فوق كمبيوتر محمول. جلست إلى مكتبي معطيًا ظهري إلى ظهرها، وأخرجت أوراق المؤتمر. قلبت بينها، لكن وجودها خلف ظهري لم يشعرني بالطمأنينة.
حملت أوراقي في يدي وأزَحْت مقعدي إلى الوراء. قمت واقفًا ثم استدرت، وجذبت أحد مقاعد الطاولة وجلست إليها.
توقفت عن الدق فوق الكمبيوتر، والتفتت إليَّ مقطبة. قلت موضحًا: هذا وضع مريح أكثر.
أجابتني في حدَّة: لك وليس لي.
رفعت حاجبي مدهوشًا، وقلت: عفوًا!
قالت بنفس اللهجة الحادة: جلوسك هكذا يشوِّش أفكاري.
لم أدرِ؛ هل أضحك أم أغضب.
استطردت: أنا أحب ارتداء الجوبات القصيرة والجلوس على راحتي.
كان موقعي الجديد يسمح لي فعلًا برؤية ساقها اليسرى التي كشفت عنها الجوبة القصيرة. وكانت ساقًا عادية بارزة العظام، تعجز عن خَلْب لب كهلٍ في سني، وكنت أفضل ساعديها.
قلت وعيني على ساقها: ليس بها عيب.
قالت: العرب لا يفكِّرون إلا في شيءٍ واحد.
قلت: فعلًا. هذا صحيح.
ثم أضفت: ظننتك عربية.
قالت: زوجي إسرائيلي من أصل عربي.
– وأنتِ؟
قالت بشيء من التحدي: أنا إسرائيلية.
أنقذتني «روزيتا» من المواجهة عندما ظهرت عند الباب. رحبتُ بها على الفور طالبًا منها الجلوس، وعيناي تنزلقان فوق الشورت الذي ترتديه. كان قصيرًا وضيقًا يبرز فخذين ممتلئين، ناصعي البياض، وساقين قويتين بربلتين مشدودتين.
هذه يمكن تقبيل أصابع قدميها وأكلها أكلًا.
ألقت «إستر» نظرة سريعة على ساقي «روزيتا»، ثم نهضت واقفة وغادرت الغرفة، وقالت الفتاة دون أن تجلس: أردت فقط أن أبلغك أني سأتغيب ثلاثة أسابيع.
بُوغتُّ وأطرقت برأسي، فاستدارت منصرفة، ولمحت البرازيلي ينضم إليها في الطرقة.
ظللت جالسًا أحدق في الحائط، ثم جمعت أوراقي وأعدتها إلى الحقيبة وغادرت الغرفة. مررت بكهف البريد كالعادة. ولم أفاجأ كثيرًا عندما وجدت رسالة جديدة تنتظرني. لكن ما لم أتوقعه على الإطلاق هو محتواها الذي لم يتجاوز هذه الكلمات: «هل تعجبك ساقاها؟»