حرف الألف
آمنة ابنة وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، أم النبي ﷺ
قال القرماني: أعطاها الله تعالى من الجمال والكمال ما كانت تُدعى به حكيمة قومها، وكانت من الفصاحة والحكمة والبلاغة على جانب عظيم لم يسبقها إليه أحد من نساء العرب. توفيت بعد مولد النبي ﷺ بست سنوات، ودُفنت بالأبواء.
والسبب في دفنها هناك أن عبد الله — والد رسول الله — كان قد خرج إلى المدينة يمتار تمرًا، فمات بالمدينة، فكانت زوجته آمنة تخرج إلى المدينة تزور قبره، فلما أتى على رسول الله ﷺ ست سنوات خرجت زائرةً لقبره، ومعها عبد المطلب وأم أيمن حاضنة رسول الله، فلما صارت بالأبواء منصرفة إلى مكة ماتت بها.
ويقال: إن أبا طالب زار أخواله بني النجار بالمدينة، وحمل معه آمنة أم رسول الله ﷺ، فلما رجع منصرفًا إلى مكة ماتت آمنة بالأبواء.
وقيل: دفنت بدار رائعة وهو موضع بمكة.
وقيل: بمكة في شعب أبي دب، وكانت من شاعرات العرب المجيدات.
ومن شعرها قولها وهي في نزع الموت، وكانت نظرت إلى النبي ﷺ وهو يلعب بجانبها، فتأسفت على تركه صغيرًا، وأنه سينشأ يتيمًا من الأب والأم، ولكن تأست بما يناله من الفخر والمجد في قومه، وفي العالم بأسره، مما رأته منه في حال صغره. وهذا ما قالته:
ثم قالت: كل حي ميت، وكل جديدٍ بال، وكل كبير يفنى، وأنا ميتة وذكري باقٍ. وسلمت روحها.
وقيل: إن بعضهم رثاها بهذه الأبيات:
آمنة ابنة عتيبة بن الحارث بن شهاب اليربوعي
كانت شاعرة من شاعرات العرب في الجاهلية اللاتي يُشار لهن بالبنان، وكان شعرها قليلًا إلا أنه ذو بلاغة عجيبة. وكان أبوها عتيبة قتله ذوَّاب بن ربيعة الأسدي يوم خوٍّ من أيام العرب، ثم أسر ذوَّاب وقتل فورًا بعتيبة. ولآمنة في أبيها مراثٍ كثيرة لم يصل إلينا منها إلا قولها:
آمنة ابنة أبان بن كليب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن
ولها يقول نابغة بني جعدة:
وكانت آمنة هذه تحت أمية بن عبد شمس معاصرًا لعبد المطلب بن هاشم جد النبي، فولدت لأمية: العاص، وأبا العاص، وأبا العيص، والعويص، وصفية، وتوبة، وأروى بني أمية، وقد سموا بالأعياص، وكانت دائمًا تفتخر بهم، فلما مات تزوَّجها بعده ابنه أبو عمرو، وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك: يتزوج الرجل امرأة أبيه بعده، فولدت له أبا معيط، فكان بنو أمية من آمنة إخوة أبي معيط وعمومته.
وقيل: إن ابنها أبا العاص زوَّجها أخاه أبا عمرو، وكان هذا نكاحًا تنكحه الجاهلية، فأنزل الله تعالى تحريمه: قال الله تعالى: وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۚ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (النساء: ٢٢) فسُمي نكاح المقت.
وكانت آمنة مسموعة الكلمة مطاعة عند قومها، وكانت موصوفة بالشجاعة والمنعة، وطالما افتخرت على باقي العرب في عزها ورجالها.
آمنة الرملية رضي الله عنها
كانت من أهل القرن الثالث للهجرة، وكانت من الزاهدات العابدات المنقطعات للتبتل، وكان أكثر زهاد زمانها يترددون عليها، ويتبركون بها، وكان بشير بن الحارث — رضي الله عنه — يزورها. ومرض بشير مرة فعادته آمنة من الرملة، فبينما هي عنده إذ دخل الإمام أحمد بن حنبل — رضي الله تعالى عنه — يعوده كذلك، فنظر إلى آمنة فقال لبشير: من هذه؟ فقال له بشير: هذه آمنة الرملية، بلغها مرضي فجاءت من الرملة تعودني، فقال أحمد لبشير: فاسألها أن تدعو لنا، فقال لها بشير: ادعي الله لنا، فقالت: اللهم إن بشير بن الحارث وأحمد بن حنبل يستجيران بك من النار فأجرهما يا أرحم الراحمين، قال الإمام أحمد: فلما كان من الليل رأيت فيما يرى النائم أن طُرحت لي رقعة من الهواء مكتوبٌ فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، قد فعلنا ذلك ولدينا مزيد. رضي الله عنهم.
آن لويز جرمان ابنة الكونت نكر وزير مالية فرنسا
ولدت هذه الشهيرة بباريس سنة ١٧٦٦م، وتولت أمها تعليمها، ولكنها كانت تجهل مقتضيات التربية ومراعاة حال الأولاد، من حيث مزاجهم وميلهم واتجاه عواطفهم، فشددت على ابنتها في التعليم، واتخذت الصرامة ديدنًا في التربية والتأديب؛ فلذلك لم يعلق قلب ابنتها بها، ولا كان لكلامها وقع قبول في نفسها. ومن جملة ما بين ذلك أنها كانت تحب اللعب بما يشبه التشخيص في المراسح، وتميل إلى ذلك ميلًا شديدًا، فتعمل ملوكًا وملكات من الورق، وتشخص لها مواقع من فكرتها، وتتكلم في التشخيص عنها. وكانت أمها تكره المراسح والتشخيص، وتمنعها من اللعب بتلك الصور غير مُراعية ميلها الشديد إلى ذلك، فكانت ابنتها تختبئ وتلعب خفية عنها، ولا تكاشفها بشيء مما يخطر ببالها من ذلك.
وأما أبوها: فكان أوفر من أمها حكمة وأكثر معرفة في معاملة ابنته، فيلاطفها ويمازحها ويحدثها حتى تأنس إليه، وتكشف له قلبها، وكان رجلًا عظيمًا، ووزيرًا على مالية «لويس السادس عشر»، ملك فرنسا، مهيبًا بعيد الصيت والسطوة والنفوذ، يختلف إلى بيته عظماء فرنسا وعلماؤها وشعراؤها، فكانت أمها تأتي بها وهي صغيرة السن إلى قاعة الاستقبال، وتجلسها على كرسي مستدير بجانبها، وتوصيها من حين إلى حين بالجلوس مستقيمة لئلا تكون حدباء الظهر متى كبرت، فتجلس هناك شاخصة إلى الزوار، وتلتقط كل كلمة تخرج من أفواههم، وتصغي أتم الإصغاء إلى أحاديثهم، وتذوق معانيهم حتى يرى الناظر من علامات وجهها أنها لا تدع فائدة تفوتها، وأنها تبتلع المعاني ابتلاعًا على صغر سنها.
وكانوا كلهم يحدثونها كما يحدثون كبار السن، ويباحثونها فيما تعلمته، ويُحدِّثونها على درس ما لم تتعلمه، فلم تكثر عليها السنون حتى بلغت قوى عقلها مبلغًا قلما تدركه العقول في سنها، ولم تجئ عليها السنة الخامسة عشرة حتى شرعت في التأليف، واشتد حبها للعلماء والعظماء، فكان قلبها ينبض شديدًا عند رؤيتهم، وصيتهم يستفزها إلى مجاراتهم ومسابقتهم. ولما بلغت عشرين سنة من عمرها شاع ذكرها في الآفاق، وانطلقت الألسنة بوصفها. تزوجت بسفير أسوج في فرنسا، واسمه «روستايل»، سنة ١٧٨٦م، فانفتح أمامها باب السياسة، وكانت في بداية عمرها تعتبر فلسفة «جان جاك روسو» اعتبارًا عظيمًا.
ولما ابتدأت الثورة الفرنساوية، وكان أبوها قد أنجد حزب الثائرين مالت إليها حاسبةً أنها الطريقة الوحيدة لسعادة فرنسا ونعيمها، ولكن لما تفاقم خطبها ورأت فظائعها، وعلمت أن أحسن أهل وطنها يُقتلون بها نفرت منها، وجعلت همَّها تخليص الذين قد وقعوا في حبالها من الموت، فسعت في نجاة العائلة الملكية وفرارها إلى بلاد الإنكليز، ولكنها خابت مسعًى، فعمدت إلى تخليص غيرهم، وكانت كلما خلَّصت شخصًا لا تستريح حتى تخلص كل من يتعلق به من الأقرباء والأصدقاء، وتخاطر بنفسها لخلاص غيرها مخاطرة أعظم الناس بأسًا.
واتفق أن الدول المتحالفة ضيقت على الحكومة الثورية سنة ١٧٩٢م، فقال رجال هذه الحكومة: لا نأمن على أنفسنا إن لم نقتل كل من له ضلع مع الملكية في باريس، فاستباحوهم قتلًا ونهبًا. وكان لمدام «روستايل» أصدقاء كثيرون بينهم، فخلصت بواسطتهم حياة كثيرين، وبقي رجل اسمه «دومونتسكيو»، فعزمت على أن تخرج به من باريس كخادم لها، فلقيها الثائرون في الطريق فأنزلوها من مركبها كرهًا وذهبوا بها إلى زعيمهم، فاخترقت الصفوف مرتجفة، والسيوف والبنادق قد سدت الآفاق من حولها، ولو زلت قدمها لقتلت دوسًا، ولكنها ثبتت على ضعفها ست ساعات تسمع صراخ القتلى، وأنين المعذبين، حتى أُطلق سبيلها، فخرجت من فرنسا فرِحةً بأنها قد لقيت ما لقيت فداء نفس خلَّصتها من الموت، وكتبت كتابًا بليغًا في الدفاع عن الملكة «ماري أنتوانت»، ولكنه لم يأتِ بالفائدة المقصودة، فجزعت على قتلها جزعًا شديدًا.
وفي سنة ١٧٩٧م، عادت من سويسرا، حيث كانت متوجهة إلى باريس فوقع الخلاف بينها وبين «نابليون بونابارت»؛ لأنها أوجست منه السوء بعد تعرُّفها به بقليل، قالت: إني لما تعرَّفتُ به أعجبني خلقه وعقله وقلت: إنه قد انفرد بهما كما قد انفرد بنصراته، وإنه رجل معتدل الطباع من أهل الجد والوقار بعكس زعماء الثورة ذوي الطباع الصعبة الذين كانوا يحكمون قبله، ولكن لما هدأ الجأش من إعجابي به، وعدت إلى نفسي، شعرت بنفورٍ عظيم منه لما وجدته فيه، فإنه كالسيف البارد الماضي يجمد جمودًا على حين يجرح جرحًا، وعلمت أنه يحتقر الأمة التي يريد أن يُملَّك عليها.
وجاهرت بمعاندته، فكنت ترى قاعتها غاصة بجماهير النافرين من «بونابارت»، الناقمين عليه، فأوجس «بونابارت» خيفة منها، وحاول أن يرشوها بالمال لترجع عن معاندته، فوعدها بأن يدفع لها مليوني ليرة كانا لأبيها على الدولة، فرفضت قبول تلك الرشوة، فقال لها «جوزف بونابارت»: «قولي إذن: ماذا تشتهين؟» قالت: «لا أشتهي شيئًا، وإن سيري هذا طبقٌ لما أعتقده.»
وكانت تحب سكن باريس محبة شديدة، وتخاف النفي منها جدًّا، ولا تُسرُّ إلا بمعاشرة الأدباء محفوفة بأهل الفضل والأصدقاء، وكان «نابليون بونابارت» يعلم ذلك، فلما رأى إصرارها على معاداته أبى إلا أن ينتقم منها، فنفاها إلى مدينة سويسرا، ولم يسمح لها بالاستبعاد عن منزلها أكثر من ميلين، وحرمها من العودة إلى باريس، فكان ذلك عليها مصيبة لا تطاق، فقضت باقي أيامها حزينة على فراق باريس، وتولت تربية أولادها، فكانت تعلمهم أكثر النهار، ولم تنقطع عن ذلك في أشد أيامها حزنًا وكآبة؛ ولذلك كان أولادها يحبونها حبًّا عظيمًا، ويخاطرون بأنفسهم دفاعًا عنها كما روى ذلك كثيرون من المؤرخين المشهورين.
وقد اشتهرت مدام «روستايل» بمحامد كثيرة ظهر بعضها فيما مر، ونزيد عليه محبتها للحق، والوقوف على حقائق الأمور؛ ولذلك كانت تبذل جهدها في تعلم كل شيء، ولو مهما كلفها من المشقة، وكانت تقول: «جهل الناس للحق والحقائق أكبر دليل على انحطاطهم.» وقالت عن بونابارت: «إني علمت بانحطاطه منذ رأيته لا يهتم بحقائق الأمور.»
- إحداها: توسيع علم الجمال عما كان في زمانها.
- والثانية: مهاجمة فلاسفة فرنسا المؤدبين ﮐ «ديدرو» و«دولباش» و«كندلاك» وغيرهم، مهاجمةً عنيفة زعزعت أركان فلسفتهم.
- والثالثة: بث روح الحرية في صدور قومها؛ إذ أبانت لهم أن الحرية أعظم شرط لسلامة الآداب والديانة الصحيحة. وكانت فاضلة تقية ورعة غير مترفضة.
وماتت في ١٤ تموز (يوليو) سنة ١٨١٧م، بعد أن جالت زمانًا في النمسا وروسيا وأسوج وبلاد الإنكليز الذين كانت تعتبرهم اعتبارًا عظيمًا.
إيت كجُجُك ابنة السلطان أوزبك
اسمها «إيت كجُجُك وإيت» — بكسر الهمزة، وياء مد، وتاء مثناة، وكُجُجُك بضم الكاف وضم الجيمين — وقال: إنه لما كان عند السلطان «أوزبك» طلب منه أن يزور نساءه وبناته وخواص مملكته على حسب عادة أهل ذلك الزمان، فأذن له، وكان من ضمن بناته «كججك» هذه، قال: إنه لما توجه إلى هذه الخاتون — وهي في محلة منفردة على نحو ستة أميال عن محلة والدها — أمرت بإحضار الفقهاء والقضاة والسيد الشريف ابن عبد الحميد، وجماعة الطلبة، والمشايخ، والفقراء، وحضر زوجها الأمير عيسى، فقعد معها على فراش واحد وهو معتل بالنقرس لا يستطيع السعي على قدميه، ولا ركوب الفرس، وإنما يركب العربة، وإذا أراد الدخول على السلطان أنزله خدمه وأدخلوه إلى المجلس محمولًا. ورأى من هذه الخاتون ابنة السلطان من المكارم وحسن الأخلاق ما لم يره من سواها، وأجزلت له الإحسان وأفضلت، وأما معارفها وعلومها وكرمها فلم يُضاهها فيها أحد سواها من نساء زمانها.
أتالانتا ابنة شيني ملك سكروس (مملكة يونانية)
كانت شديدة الكلف بالصيد، فاكتسبت من ذلك سرعة في العدو لا مزيد عليها، حتى إنه لم يكن لأحد من الرجال الأقوياء السريعي الجري أن يجاريها في الميدان، وقتلت بالنشاب حيتين كبيرتين تبعاها ليقتلاها، وكانت ذات جمال باهر فتَّان، فطلبها كثيرون للاقتران بها، وألحوا عليها، فأقسمت أن لا تقترن إلا بالذي يسبقها في الميدان، بشرط أن يكون عاريًا من السلاح، ويكون بيدها حربة تضربه بها إذا أدركته، فهلك بمسابقتها كثيرون من طلابها، وأتاها «إبومان» — وكان من المقربين عند الكهنة والفائزين بوقايتها — فتسابقا ولما وصلا إلى نصف الميدان أخذ «إبومان» ثلاث تفاحات من ذهب كانت قد أعطته إياها الكهنة المذكورون، فرماها على الأرض بعياقة ولياقة، فتشاغلت «أتالانتا» بها، فتمكن مِن سبقها، وتقرر له الفوز فاقترن بها، وبعد ذلك غضب عليهما الكهنة؛ لأنهما دلسا هيكل الزهرة فقتلوهما.
وقد قيل في «أتالانتا» هذه غير ذلك، وهو أنها ولدت في «أركاديا»، وأنها ابنة «باسيوس». كان أبوها قد طلب إلى معبوداته أن ترزقه ولدًا ذكرًا، فولدت «أتالانتا»، فاغتاظ من ولادتها وألقاها على الجبل البرتنباني، فرضعت من دبة وأخذت تنمو حتى بلغت مبلغ النساء، وحافظت على بكارتها، وصارت أسرع الناس جريًا على قدميها، فغلبت الحيتين المقدم ذكرهما، واشتركت مع الأبطال في قتل خنزير كالبدون، وكان لها مواقع في الألعاب البليانية، ثم رضي عنها أبوها وألحَّ عليها بأن تتزوج، فكان من أمرها ما تقدَّم. ولعل الرواية الأولى أصح.
أديسا ابنة أدغر ملك إنكلترا
ولدت سنة ٩٦١ للميلاد، ربتها أمها في «دير ولتون» بالقرب من «سلزيري»، ولما كانت السنة الخامسة عشرة من عمرها صارت راهبة، وبعد ذلك بثلاث سنين قُتل أخوها «إدوارد» الذي خلف أباها، وذلك بأمر رايته «ألفريدا»، فعرض عليها تاج الملك فرفضته باتضاع مسيحي، وآثرت تخصيص نفسها لتقرية الفقراء والأيتام على تخت المُلك، وصرفت أيامها في ذلك إلى أن توفيت سنة ٩٨٤م، ودفنت في كنيسة «سان دنيس» التي بنتها في حياتها، وتعتبرها الكنيسة الرومانية الكاثوليكية. ولها عندها تذكار في ١٦ أيلول (سبتمبر) من كل سنة.
إديلينه ديباتي المغنية
إن هذه المغنية كانت تربت من صغرها في المراسح، وتخرجت بضروب الغناء، وساعدها الحظ بحسن صوتها وجمالها الذي جذب إليها الأنظار، ولما آنست رشدها بلغت من الشهرة ما لم يبلغه غيرها من مغنيات الإفرنج، وزادت شهرة في بلادها على شهرة مغنيات الخلفاء في مدة العباسيين والأمويين، ونالت من الثروة ما يبلغ دخله السنوي المليون فرنك، وقد حازت جملة «نياشين» افتخار من ملوك أوروبا وملكاتها، والذي زاد افتخارها تشرف ملوك أوروبا بوضع إمضاءاتهم على مروحتها؛ لأنها كانت تحمل مروحة فريدة في نوعها وبلا مثيل في العالم؛ فإن جميع الملوك والمعاصرين لها كتبوا عليها بخط أيديهم أقوالًا مختلفة تتضمن الثناء عليها، والرضا عنها، فكتب القيصر الروسي: «لا شيء يُسكِّن مثل غنائك.»
وكتب إمبراطور ألمانيا: «إلى بلبل جميع الأزمان.» وكتبت الملكة «خرستيان» في إسبانيا: «ملكة تفتخر بأن تحسبك في جملة رعاياها.» وكتبت «فكتوريا» ملكة إنكلترا: «إذا صدقت كلمات الملك ليار القائل: «إن الصوت العذب موهبة» تكونين أنت يا عزيزتي إديلنه أغنى النساء.» والإمبراطور النمساوي والملكة «إيزابلا» وضعا إمضاءهما أيضًا، وكتبت ملكة البلجيك صورة المشرع الأول للأغنية الشهيرة، ثم يوجد في وسط المروحة هذه الكلمات: «أمد إليك يدي يا مليكة الطرب.» مذيلة بهذا الإمضاء: «بترس» رئيس الجمهورية الفرنساوية. إن هذا الافتخار وهذا الاعتبار لم ينله أحد في العالم، وما ذلك إلا لحسن الآداب من هذه المرأة التي بها جذبت إليها قلوب أكبر أهل الأرض.
أرجى ابنة أدرستوس
هي زوجة «بوليلينكيوس». اشتهرت بمحبتها لزوجها، فإنها بعد انهزام الرؤساء السبعة أمام «طيوه»، عاصمة المصريين القدماء، ذهبت مع «انتيقونة» امرأة أخيها لتقدم لزوجها الواجبات الأخيرة، فقُتلت بأمر «كريون»، ملك ذاك الزمان، وماتت صابرةً حبًّا في زوجها؛ لكي تلحقه في حفرته.
أرَّاكة ملكة قسطيلة
هي بكر «ألفونس السادس»، وأخت «بتريسة» زوجة ملك البرتغال. تزوجت أولًا ﺑ «ريمون البرغوني»، الذي جعله «ألفونس السادس» كونت جيلقية، ثم تزوجت سنة ١١٠٩م «بألفونس لوبانلبود»، ملك «نوارة» و«أراغون»، ثم كرهها زوجها هذا لابتذال الحرية في سلوكها، وعنادها في طلب حقوق الملك إرثًا عن أبيها «ألفونس السادس». ثم خلعت نائبة ملك قسطيلة بواسطة زوجها، الذي اتخذ له حزبًا قويًّا هناك، فأسرت وحجز عليها في «أراغون»، لكنها فرت من السجن وطلبت إلى الكرسي فسخ عقد زَوجيَّتها، فصالحها «ألفونس» مؤقتًا، ثم طلَّقها ثانيًا سنة ١١١١م، فلجأت إلى محاربته لتطرده من مملكتها، فانكسرت ومضت إلى جيلقية، وكان لها من زوجها الأول ولدٌ «ألفونس الثامن»، فنادت باسمه ملكًا سنة ١١١٢م، وحكمت باسم محبوبها كونت «لاراه» في سنة ١١١٢م، فخلعه كبار قسطيلة ونادوا باسم «ألفونس الثامن»، فلم تقبل ذلك أراكة إلا بعد معارك انتشبت بينها وبين ابنها، فأُسرتْ وحجز عليها في دير «سردتها»، فماتت فيه بعد أربع سنوات.
أريا الرومانية
قد اشتهرت بشجاعتها، وذلك أن ابن زوجها دخل في مؤامرة ضد الإمبراطور، فحكم عليه بأن يقتل نفسه، فلكي تشجعه أخذت خنجرًا وطعنت به نفسها، ثم ناولته إياه وقالت: خذه؛ فإنه لا يُؤلم، ففعل مثلها وماتا معًا.
فهذه — لعمري — هي المحبة الزائدة التي تفضي إلى الهلاك من جنس النساء خصوصًا.
أرسلان خاتون
هي خديجة ابنة داود أخي السلطان «طغرلبك» السلجوقي. تزوجها الخليفة القائم بأمر الله العباسي سنة ٤٤٨ هجرية، ثم لما وقعت الوحشة بينهما أخذها «طغرلبك» بصحبته إلى الري سنة ٤٥٥ﻫ، ثم أعيدت إلى بغداد سنة ٤٥٩ﻫ، واستقبلها الوزير فخر الدولة بن جهير على بُعد فرسخ.
وهي التي دعتها امرأة السلطان ملك شاه في تزويج ابنتها بالخليفة المقتدي من غير اشتراط المهر؛ لأنها كانت تعززت واشترطت حمل مهرها أربعمائة ألف دينار، فأشارت عليها أرسلان خاتون بأن تزوجها له بدون اشتراط مهر، فوثقت بكلامها، وفعلت ما أرادت. وكانت المُترجَمة من النساء الكريمات الخيِّرات، محبةً للعلماء، ولها جملة أوقاف على محلات خيرية، مثل: جوامع، وتكايا، وبيمارستانات، ومدارس وخلافها في بغداد وغيرها من الممالك الإسلامية.
أرسولا العذراء
هي من الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، قيل: إنها ابنة أمير مسيحي من بريطانيا، وقد اختلفوا في تاريخ استشهادها، فقيل: سنة ٢٣٧ بعد الميلاد، وقيل: ٣٨٣م، وقيل: سنة ٥٤١م. وسبب ذلك قيل: إن أميرًا طلب أن يتزوجها فأجابته في الظاهر؛ خوفًا على بيت أبيها من شرِّه، لكنها اشترطت أن يعطيها فرصة ثلاث سنوات، وإحدى عشرة سفينة، وعشر رفيقات من بنات الأشراف، ولها ولكل واحدة منهن ١٠٠٠ عذراء، فلما أُعطيت ذلك أخذت تدرس معهن فن سلك البحار. ولما دنا وقت زفافها تضرعن إلى الله، فأرسل فجأة عاصفة قذفت سفنها إلى مصب نهر «الرين»، ومن هناك إلى «بازل»، فتركن السفن ومضين ماشيات إلى رومية، وبينما هن راجعات صادفن في «كولونيا» جيشًا من الهوتيين، فلما رآهن أمير الجيش دعاهن إليه، فلما حضرن أعجبته «أرسولا»، فطلب أن يقترن بها، فأبت عليه، فأمر بقتلهن جميعًا، وتركوهن وانصرفوا، فوارى أهل «كولونيا» أشلاءهن في التراب، وأقيم لتذكارهن بعد ذلك معبدٌ مخصوص إلى الآن. يوجد في ذلك المعبد مجموع عظام يقال: إنها عظام «أرسولا» ورفيقاتها، وجُعل «لأرسولا» عيد في ٢١ ت الأول (أكتوبر) من كل سنة.
أرسينوي ابنة بطليموس الأول ملك مصر
تزوجت ﺑ «ليسيماخوس» ملك تراقة بعد أن طلق امرأته لأجلها، فحاولت «أرسينوي» أن يكون المُلك لولدها بعده، فسعت بقتل «أغاتوكليس» ابن زوجها، وهربت امرأته بأولادها إلى سوريا ملتجئة إلى «سلوقس»، وطلبت إليه أن يأخذ بثأرها، فنشأت عند ذلك حرب بين ملك تراقة وملك سوريا قتل بها «ليسيماخوس» سنة ٢٨١ قبل الميلاد، فمضت «أرسينوي» إلى «كسندريه» من مدن «مكدونية»، وبقيت هي وأولادها مدة تحت ظل الأمان.
فلما قتل «بطليموسُ» «سيروتوسَ سلوقس» واستولى على «مكدونية» سنة ٢٨٠ق.م؛ طمعًا في الزواج ﺑ «أرسينوي» ليقتل أولاد «ليسيماخوس».
فلما أجابته إلى الزواج واستولى على كسندرية، قتل الأولاد بين يدي أمهم، فهربت هي إلى تراقة، ومنها إلى مصر، فقبلها «بطليموس فلاذ» بالإكرام، ثم تزوج بها.
أرسينوي ابنة بطليموس أقلية وأخت كليوباترا الشهيرة
أقامها الإسكندريون ملكة بعد أن أسر القيصر الروماني أخاها «بطليموس دنيسبيوس» سنة ٤٧ قبل الميلاد، ثم وقعت هي أيضًا في قبضة القيصر المذكور سنة ٤٦ق.م، فأرسلها إلى رومية افتخارًا بأسرها، غير أن حسن سلوكها مال بالرومانيين إليها، فأرجعت إلى مصر، ولما هربت من وجه أختها «كليوباترا» إلى هيكل «ديانا» أخرجها منه «أنطونيوس» بأمر «كليوباترا» وقتلها في سنة ٤١ قبل الميلاد.
أرسينوي ابنة بطليموس أقرجيه
تزوج بها أخوها «فيلوباتر»، ورافقته في حربه مع «أنطيوخوس الكبير» سنة ٢١٧ قبل الميلاد، وبعد سنين قليلة قتلها «فيلمون»، أحد خواص الملك، فنهض أصحابها وقتلوه بثأرها مع كل عائلته. و«أرسينوي» هذه هي أم «بطليموس أبيفانوس فيلوباتر» قد اشتهرت بحسن سياستها، وخبرتها بالأحكام، وخصوصًا في الفنون الحربية، ولذلك كان زوجها دائمًا يرافقها في غزواته، وقد انتصر على أعدائه جملة مرارًا، وكل ذلك بآرائها الصائبة.
أريانو ابنة منيوس ملك أكريت
هي ابنة «منيوس» من زوجته «باسيفا»، قال «أوميروس»: أحبت «تيسيوس» لما أتى «كريت» لمقابلة «فيوتود» مع الأتيينين الذين أتوا ليقدموا له الجزية، وأعطته ربطة من الخيطان استعان بها على الخروج من البربي التي دخلها لقتل «مينوثور»، فعرض عليها «تيسيوس» أن يتزوجها مقابلة لها على صنيعها، فأجابته «أريانو» إلى ذلك وسافرت معه، إلا أنهما لما وصلا إلى جزيرة «نكسوس» تركها «تيسيوس» ورجع إلى بلاده قائلًا: «إن التي لم يكن لها خير في وطنها وأهله لم يكن لها خير في غيره.» وبقيت هناك إلى أن ماتت جوعًا.
أريانو ابنة لاون ملك اليونان
تزوجت «زينون» الذي جلس على تخت الملك سنة ٤٧٤ للميلاد، وساءها ما بدا من فواحش زوجها وخطئه، ويقال: إنها دفنته في الأرض حيًّا وهو سكران، وتزوجت «أنسطاس» وأجلسته على تخت الملك بدلًا عنه، وكانت وفاتها سنة ٥١٥ للميلاد، ولها جملة مآثر في مملكتها.
أُرْدوجا خاتون زوجة السلطان أوزبك
اسمها «أُرْدوجا» — بضم الهمزة، وإسكان الراء، وضم الدال المهملة، وجيم وألف — و«أورد» بلسانهم: المحلة، وسميت بذلك لولادتها في المحلة، وهي ابنة الأمير الكبير «عيسى» بيك أمير الألوس — بضم الهمزة واللام — ومعناه: أمير الأمراء.
لما مررت بتلك البلاد وزُرت السلطان أوزبك وامرأته ووزراءه، وكان ذلك الأمير حيًّا، وهو متزوج ببنت السلطان «آيت كججك». وابنة «أردوجا خاتون» من أفضل الخواتين وألطفهن شمائل وأشفقهن، وهي التي بعثت إليَّ لما رأت بيتي على التل عند جوار المحلة. ولما دخلنا عليها رأينا من حسن خلقها، وكرم نفسها ما لا مزيد عليه، وأمرت بالطعام فأكلنا بين يديها، ودعت بالشراب فشرب أصحابنا، وسألت عن حالنا فأجبناها، وانصرفنا من عندها ونحن شاكرون معروفها.
ولها مآثر وخيرات دارة على مساجد وتكايا ومدارس في بلادها، وكانت مُقرَّبة عند السلطان لتقرُّب أبيها منه، ومسموعة الكلمة عنده.
أروجا ملكة كيلوكرى في بلاد طوالس
هذه الملكة بنت ملك «طوالس»، وهي بلاد واسعة مجاورة لبلاد الصين. كان أبوها يفتح الفتوحات، ويضع فيها من يشاء من أولاده، ولما فتح «كيلوكرى» وضع ابنته «أورجا»؛ لعلمها بالسياسة، وشجاعتها بالحرب، وإقدامها على الأهوال.
لما وصلنا إلى «كيلوكرى» ورسينا بميناها استدعت هذه الملكة الناخورة — أي القبودان — صاحب المركب والكواني — وهو الكاتب — والتجار والرؤساء والتندبل — وهو مقدم الرجال — وسياه مالار — وهو مقدم الرماة — لضيافة صنعتها لهم على عادتها، ورغب الناخورة مني أن أحضُر معهم فأبيتُ الذهاب.
فلما حضروا عندها قالت لهم: هل بقي أحد منكم لم يحضر؟ فقال لها الناخورة: لم يبق إلا رجل واحد بَخْشي — وهو القاضي بلسانهم، وبَخْشي بفتح الباء الموحدة، وسكون الخاء وكسر الشين المعجمتين — وهو لا يأكل طعامكم، فقالت: ادعوه، فجاء جنادرتها وأصحاب الناخورة فقالوا: أجب الملكة، فأتيتها وهي بمجلسها الأعظم وبين يديها نسوة بأيديهن الأزمَّة يعرضن ذلك عليها، وحولها النساء القواعد، وهن وزيراتها، وقد جلسن تحت السرير على كراسي الصندل، وعليه صفائح الذهب، وبالمجلس مساطب خشب منقوش، وعليها أوانٍ ذهب كثيرة من كبار وصغار كالخوابي والقلال واليواقيل، أخبرني الناخورة أنها مملوءة بشرابٍ مصنوع من السكر مخلوط بالأفاويه يشربونه بعد الطعام، وأنه عَطِر الرائحة، حلو المطعم، يفرح ويطيب النكهة ويهضم.
بسم الله الرحمن الرحيم
فقالت: ما هذا؟ فقلت لها: تنضري تنكرى نام — وتنضري بفتح التاء الفوقية، وسكون النون، وفتح الضاد، وراء وياء — ونام — بنون وألف وميم — ومعنى ذلك اسم الله، فقالت: جيد، ثم سألتني من أي البلاد قدمت، فقلت لها: من بلاد الهند، فقالت: بلاد الفلفل؟ فقلت: نعم، فسألتني عن تلك البلاد وأخبارها، فأجبتها. فقالت: لا بد أن أغزوها وآخذها لنفسي؛ فإني يعجبني كثرة مالها وعساكرها، فقلت لها: افعلي. وأمَرتْ لي بأثوابٍ وحمل فيلين من الأرز، وبجاموستين، وعشرين من الضأن، وأربعة أرطال جلاب، وأربعة مرطبانات، وهي ضخمة مملوءة بالزنجبيل والفلفل والليمون والضبا. كل ذلك مملوح مما يعد للبحر.
وأخبرني الناخورة أن هذه الملكة لها في عساكرها نسوة وخدم وجوار يقاتلن كالرجال، وأنها تخرج في عساكر من رجال ونساء فتُغير على عدوها وتشاهد القتال، وتبارز الأبطال.
وأخبرني أنه وقع بينها وبين أعدائها قتال شديد، وقتل كثير من عسكرها وكادوا ينهزمون، فدفعت بنفسها، وخرجت الجيوش حتى وصلت إلى الملك الذي كانت تقاتله، فطعنته طعنة كان فيها حتفه، فمات وانهزم عسكره، وجاءت برأسه على رمح، فافتكَّهُ أهله منها بمالٍ كثير، فلما عادت إلى أبيها ملكها تلك المدينة التي كانت بيد أخيها.
وأخبرني أن أبناء الملوك يخطبونها فتقول: لا أتزوج إلا من يبارزني فيغلبني، فيحتشمون مبارزتها خوف المعرة أن تغلبهم.
ولهذه الملكة غارات ووقائع غريبة مع ملوك الهند وملوك الصين من المسلمين وعبدة الأوثان، وما زالت مالكة تلك البلاد مدة من الزمان حتى توفي والدها وإخوتها جميعًا، وملكت سائر ملك أبيها، وأخيرًا قُتلت بفراشها بدسيسة أحد ملوك الصين، وانقرض ملكها بموتها.
أربلاي المؤلفة
مدام «دو أربلاي» مؤلفة إنكليزية ولدت سنة ١٧٥٢م، وتوفيت سنة ١٨٤٠م، وكانت في حداثتها قليلة الكلام جبانة، لكنها لما كبرت هذب العلم أخلاقها، فكتبت سنة ١٧٧٨م قصة تشهد ببراعتها وطول باعها في هذا الفن، ثم كتبت عدة روايات غيرها، واتخذتها الملكة لخدمتها الخصوصية.
وبعد أن خدمت ٥ سنوات، ألجأها ضعف جسمها إلى الاستعفاء، واقترنت سنة ١٧٩٣م برجلٍ فرنسي، واستمرت على التأليف حتى إن مؤلفاتها زادت جدًّا، وبقيت بعدها ميراثًا لورثتها حتى أغنتهم غنًى فائق الحد، وطُبعت جميع مؤلفاتها وانتشرت في جميع أنحاء العالم العربي.
أرتمسيا ملكة هاليكرناسوس من كاريا
هذه الملكة كانت من ذوي الحكمة والدراية بالأمور الحربية والسياسية، وكان قورش، ملك فارس، لما هاجم بلاد اليونان اشتركت معه، لكونها كانت خاضعة له، وأخذت معها أسطولًا مُؤلَّفًا من خمس سفن.
واشتهرت بما كان منها من البسالة والحكمة في معركة «سلاميس» التي انتشبت سنة ٤٨٠ قبل الميلاد، وذُكر في رواية — مشكوك في صحتها — أنها شغفت بحب شاب من «أبيذوس» اسمه «وردانوس»، إلا أنه لم يشاركها في حبها، فسملت عينيه، لكنها ندمت فيما بعد على قساوتها، واستشارت المعبودات فيما يجب أن تفعل كفارة عن ذنبها، فقلن لها: من الواجب أن تطرح نفسها في البحر عن منحر جزيرة «لوكاريا»، ففعلت ذلك وماتت غريقة.
أرجوان جارية أبي العباس الذخيرة
وهو محمد بن القائم بأمر الله العباسي. بسببها بقيت الخلافة في ولد القائم؛ لأنه لم يكن له ولد سوى أبي العباس هذا، وتوفي في حياة أبيه ولم يعقب، فحزن القائم في أواخر أيامه حزنًا لا مزيد عليه، وانقطع أمل الناس من خلافة عقبه، وظنوا أن دولة البيت القادري قد انقرضت، وكان أبو العباس يختلف إلى هذه الجارية، فاتفق أنها حملت منه، فلما رأى الناس هذه الحالة، وما ألمَّ بالقائم من الهم والحزن، أعلنت حملها فتعلقت آمال الناس بها، وتوجهت الأفكار إليها، ثم إنها ولدت بعد وفاة مولاها بستة أشهر غلامًا، ففرح القائم فرحًا مفرطًا، وفرح الناس لبقاء الخلافة في بيته. وهذا هو الذي لُقِّب بالمقتدر، وكان من أمره ما جاء في تاريخه. وأرجوان هذه أم ولد أرمينة تدعى قرة العين، وأدركت خلافة ابنه المستظهر بالله، وخلافة ابن ابنه المسترشد بالله.
أروى ابنة عبد المطلب
أروى ابنة عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشية عمة رسول الله ﷺ. ذكرها أبو جعفر في الصحابة، وذكر أيضًا أختها عاتكة ابنة عبد المطلب، قال محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي: لما أسلم طليب بن عمير دخل على أمه أروى بنت عبد المطلب فقال لها: قد أسلمت وتبعت محمدًا، أوَتتبعينه؛ فقد أسلم أخوك حمزة؟ قالت: أنظرُ ما تصنع أخواتي ثم أكون مثلهن.
قال: فقلت: إني أسألك بالله إلا أتيته وسلمت عليه وصدقته، وشهدت أن لا إله إلا الله، قالت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، محمد رسول الله. ثم كانت بعدُ تعضد النبي ﷺ وتعينه بلسانها، وتحض ابنها على نصرته والقيام بأمره. وكانت من الشاعرات الأديبات والمتكلمات في العرب.
ومن قولها ترثي والدها عبد المطلب مع باقي أخواتها حين طلب منهن ذلك قبل موته ليعلم قوتهن في الرثاء:
وقد أسنت وماتت في خلافة عمر بن الخطاب، ودفنت بما يليق بها من الإكرام.
أروى ابنة الحارث بن عبد المطلب بن هاشم
كانت فريدة زمانها، وبليغة عصرها وأوانها، إذا خطبت أعجزت، وإن تكلمت أوجزت، ولا غرو فإنها ابنة البلاغة ومعدن الفصاحة والحصافة.
قيل: إنها وفدت على معاوية بن أبي سفيان لما ولي الخلافة، وكانت عجوزًا كبيرة، فلما رآها معاوية قال: مرحبًا بك وأهلًا يا خالة، فكيف كنت بعدنا؟ فقالت: يا ابن أخي، لقد كفرت يد النعمة، وأسأت لابن عمك الصحبة، وتسميت بغير اسمك، وأخذت غير حقك من غير دين كان منك ولا من آبائك، ولا سابقة في الإسلام، بعد أن كفرتم برسول الله ﷺ، فأتعس الله منكم الجدود، وأضرع منكم الخدود، ورد الحق إلى أهله ولو كره المشركون، وكانت كلمتنا هي العليا، ونبينا ﷺ هو المنصور، فوليتم علينا من بعده، وتحتجون بقرابتكم من رسول الله ونحن أقرب إليه منكم، وأولى بهذا الأمر، فكنا فيكم بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون، وكان علي بن أبي طالب — رحمه الله — بعد نبينا بمنزلة هارون من موسى، فغايتنا الجنة، وغايتكم النار، فقال لها عمرو بن العاص: كفى أيتها العجوز الضالة، وأقصري عن قولك مع ذهاب عقلك؛ إذ لا تجوز شهادتك وحدك، فقالت له: وأنت يا ابن الباغية، تتكلم وأمك كانت أشهر امرأة بغيٍّ بمكة، وآخذهن للأجرة، ادَّعاك خمسة نفر من قريش، فسُئلت أمك عنهم فقالت: كلهم أتاني، فانظروا أشبههم به فألحقوه به، فغلب عليك شبه العاص بن وائل فلحقت به، فقال مروان: كفى أيتها العجوز، وأقصري لما جئت له، فقالت له: وأنت أيضًا يا ابن الزرقاء تتكلم. ثم التفتت إلى معاوية فقالت: والله ما جرَّأ عليَّ هؤلاء غيرك؛ فإن أمك القائلة في قتل حمزة:
فأجابتها ابنة عمي وهي تقول:
فقال معاوية: عفا الله عما سلف يا خالة، هات حاجتك، فقالت: ما لي إليك حاجة. وخرجت عنه، وبعد خروجها التفت معاوية إلى أصحابه وقال لهم: والله لئن كلَّمها كلُّ مَن في مجلسي لأجابت كل واحد منهم بجواب خلاف الآخر بدون توقف.
وهكذا فإن نساء بني هاشم أصعب في الكلام من رجال غيرهن، وأمر لها بجائزة تليق بمقامها، وبقيت مكرمة بين قومها إلى أن توفيت بالمدينة بخلافة معاوية.
أروى ابنة كريز بن عبد شمس
كذا نسبها ابن منده وأبو نعيم، والصواب ابنة كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وهي أم عثمان بن عفان، وأمها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب عمة النبي ﷺ. ماتت في خلافة عثمان، وكانت عاقلة ورعة، لها صحبة بالنبي ﷺ، وروت عنه الحديث وحدثت أناسًا كثيرين.
أزرميدُخت ابنة أبرويز
كانت من أجمل النساء وجهًا، وأحسنهن ذكاء، وأوفرهن عقلًا، وأليقهن فعلًا، ولتعلق الفرس بمحبتها، ورغبتهم في علو همتها، ملَّكوها عليهم بعد قتل «خشينده» من بني عم «أبرويز» والدها الأبعدين. وكان عظيم الفرس يومئذ «هرمز أصبهبد» خراسان، فأرسل إليها يخطبها فقالت: إن التزوج للملكة غير جائز، وغرضك قضاء حاجتك مني، فسِرْ إليَّ وقت كذا، ففعل وسار إليها تلك الليلة، فتقدمت إلى صاحب حرسها أن يقتله، فقتله وطُرح في رحبة دار الملكة، فلما أصبحوا رأوه قتيلًا فغيبوه. وكان ابنه رستم، وهو الذي قاتل المسلمين بالقادسية، خليفة أبيه بخراسان، فسار إليها في عسكر حتى نزل بالمدائن وحاصرها حتى ضاقت به ذرعًا، فطلب أهلها منه الأمان، فأمَّنهم بشرط تسليم الملكة إليه، فقبلوا منه ذلك، ودخل المدينة وألقى القبض على «أزرميدخت» وسمل عينيها وقتلها، وقيل: بل سملت نفسها. وكانت مدة ملكها ستة عشر شهرًا.
أسباسيا زوجة بركليس
كانت من أشهر نساء اليونان حسنًا وجمالًا، وعقلًا وفصاحة، وبلاغة وأدبًا، وفطنة وخطابًا، لها اليد الطولى على جميع نساء عصرها بموافقتها لزوجها، حتى إنها كانت تسير معه أين سار، وتشاركه في كل أعماله العقلية والفعلية، والأتعاب الرياضية، وميادين النزال، وتعمل أعمالًا يعجز عنها أقوى الرجال، حتى إنها اكتسبت بذلك شجاعة وشهرة لم يسبقها عليها أحد من نساء اليونان، وتقاطر على بابها العلماء والشعراء والفلاسفة والرياضيون والبلغاء، وكان ناديها أحسن نادٍ جمع فيه العلم والأدب؛ ولذلك وصفتها المؤلفة الشهيرة مدام «أون»، في كتابها المشتمل على سير أبطال النساء، عند ترجمتها؛ إذ قالت: إن بيتها أعظم بيت من بيوت عظماء اللاتينيين؛ فلذلك لو نظرت إلى جدرانه تجدها مرصعة بتماثيل الرجال العظام، وأمام بابه رواق رفيع العماد، وعلى الباب أسجاف الأرجوان، وبجانبه أفاريز من المرمر الأصفر، وكوى البيت مشبكة كلها بقضبان النحاس على أشكال وضروب شتى، وأرضه مغطاة بالفسيفساء البديعة الأشكال، وعليها أرائك من القرمز والأرجوان أهدابها مطرزة بالذهب.
وفي البيت مكتبة من الخشب الثمين مملوءة بالدروج من الرق والحلفاء، فلو نظر القارئ في الصباح إلى هذا البيت يرى «أسباسيا» قد نزلت من غرفتها على درج من المرمر الأبيض، ومشت في الصحن، وخرجت إلى الرواق الجنوبي الذي يطل على بستان البيت؛ لتستنشق نسيم الصباح مُضمَّخًا بأريج الأزهار والرياحين، وخرج «بركليس» وهو ماشٍ بجانبها، وتجاذبا أطراف الحديث في السياسة والفلسفة. وهي طويلة القامة، ممشوقة القد، جعدة الشعر شقراؤه، نجلاء العينين حوراؤهما، شماء الأنف، صغيرة الأذنين، حمراء الوجنتين والشفتين.
لابسة رداء أبيض على ردنيه أبازيم من الذهب، وفوقه رداء قصير من الأرجوان، بل أردان أذياله مطرزة بالذهب، وعلى كتفيها رداء ثالث مسدول عليهما سدلًا، والنسيم يعبث به في ذهابها وإيابها، فتخالها مَلكًا ناشرًا جناحيه للطيران، وفي أصابعها خواتم الذهب مرصعة بالحجارة الكريمة، ولم تكن «أسباسيا» من ربات الغنج والدلال اللواتي يباهين بالحلي والحلل، بل من أهل الحجة المربين مع الفلاسفة والحكماء. وكان بيتها هذا ناديًا تتقاطر إليه الفلاسفة ورجال السياسة؛ كسقراط وأفلاطون وغيرهما، فتباحثهم في أسماء المواضيع الفلسفية والسياسية، حتى إذا كلَّ عصب الدماغ منها ومنهم أدارت أزمة الحديث إلى الفكاهات واللطائف تديرها عليهم صرفًا، فتسكرهم بعذوبة كلامها كما أسكرتهم بسمو معانيها. وكان سقراط الحكيم يعترف بفضلها عليه، ويشهد بأنها هذبت أخلاقه، وكمَّلت معارفه، و«بركليس» زوجها كان ينسب إليها كل شهرته في الخطابة، وقال: إنه تعلم منها البلاغة والسياسة.
وكان نساء أثينا يترددن على بيتها أيضًا ويتعلمن منها التهذيب واللباقة، وكانت الفنون الجميلة كالتصوير والبناء والنقش في أوج مجدها، فعضدتها «أسباسيا» بيمينها، وسعت جهدها في رفع شأن ذويها. ولم تكن هذه الفاضلة من الأثينيات، ولذلك لم تحسب زوجة شرعية ﻟ «بركليس»؛ لأن شريعة أثينا كانت تحرم على الأثينيين اتخاذ الزوجات من الأجانب، إلا أن جمالها المفرط، وسمو عقلها، وغزارة معارفها، وكثرة فضائلها، ألجمت ألسن الناس عن الطعن عليها زمانًا طويلًا. والحسد — وقاك الله منه — عدو ألد لا يبهره الجمال، ولا تغلب عليه الفضائل، فنفخ في آذان بعض ذويه فقاموا عليها واتهموها باحتقار الأثينيات، وبلغت القحة منهم حتى طعنوا في عرضها، واتهموا معها «آتكفوراس» الفيلسوف، و«فيدياس» النقاش، فقتلوا أحدهما، ونفوا الآخر نفيًّا مؤبدًا، وحامى «بركليس» عنهما بكل جهده فلم يستطع إنقاذهما.
ولما وصل الدور إلى «أسباسيا»، صار كله ألسنة وبلاغة، فدافع عنها في مجمع «أرنوس باغوس»، وكان من أفصح أهل زمانه لسانًا، وأثبتهم جنانًا، وأقواهم حجة، ولما عجز لسانه عن أقوال إربه، دافع عنها بدموع عينيه حتى قيل: إنه أنقذها من الموت بالدمع، ولم يكن من ضعاف العزائم الذين تفيض دموعهم عند أخف النكبات، ولا كان من المتعلقين بحبال الهوى المنقادين بزمام الشهوات؛ فإنه لما فشا الوباء واختطف ابنته البكر وأخته وكثيرين من أقاربه تحمل هذه النكبة الشديدة بصدر أرحب من البيد، وصبر أغزر من البحر، ولم يسكب عليهم دمعة، ولكنه لما رأى الفضيلة مهانة بإهانة زوجته، والعفة والطهارة مهتوكة أستارهما ظلمًا وعدوانًا لم يتمالك عن البكاء، وكذا لما اختطفت أيدي المنون ابنته الصغرى، وحمل إكليل الفرهر ليكلل به جبينها غلبت عليه الشفقة الأبوية ففاضت دموعه رغمًا عنه، وكانت ولادة «أسباسيا» ﺑ «ملتيوس» سنة ٤٧٠ قبل الميلاد، واقترن بها «بركليس» بعد أن هجر زوجته الأولى، وانقاد إليها أشد الانقياد حتى قال «أرستوفاينس»: إنها هي التي حملته على إثارة حرب «ساموس» و«بلويومتبسوس»، ولكن «فلوطرخس» المؤرخ الثقة نفى عنها هذه التهمة، وتوفي «بركليس» بالطاعون، فتزوجت «أسباسيا» بعده رجلًا من التجار، فصار بسببها من مشاهير أثينا وخطبائها.
إستير ستنهوب ابنة كارلوس الثالث في عائلة ستنهوب
امرأة إنكليزية شريفة ذات أطوارٍ غريبة. ولدت في لندن في ١٢ آذار (مارس) سنة ١٧٧٦م، وتوفيت في «جون» التابعة إقليم الخروب من جبل لبنان في ٢٣ حزيران (يونيو) سنة ١٨٣٩م، وكانت أكبر أولاد «كارلوس الثالث أرلات ستنهوب» من زوجته «إستير» ابنة «إرل تشتام». دخلت في السنة العشرين من عمرها بيت عمها «وليم بت»، فكان يعتمد عليها ويكاشفها أسراره، واستمرت عنده إلى أن مات سنة ١٨٠٦م، وقبل وفاته أوصى بها الأمة الإنكليزية، فعين لها مرتبًا سنويًّا قدره ٢٠٠ ليرة إنكليزية، غير أن المبلغ لم يكفِ لسد المصاريف التي كان يقتضيها مركزها وبذخها، فانفردت في «والسن»، ثم تركتها وطافت أوروبا، وكانت حينئذٍ فتية نضرة جميلة غنية، فقوبلت في البلدان التي زارتها بالتكريم والتعظيم اللذين تقتضيهما صفاتها، إلا أنها أبت الزواج مع أن خاطبيها كانوا من أهالي الرفعة والشأن. وبعد أن زارت أكبر عواصم أوروبا لاح لها أنها تحصل في الشرق على مركزٍ عظيم، فسارت إلى القسطنطينية، وأقامت فيها بضع سنين، واختلف الناس في سبب خروجها من بلادها، فذهب بعضهم إلى أنه حملها على ذلك حزنها على جنرال إنكليزي شاب قتل في إسبانيا وكانت تحبه، فأثَّر فيها موته تأثيرًا شديدًا، حتى لم تطبْ لها الإقامة بعده في إنكلترا، وذهب آخرون إلى أن الذي حملها على ذلك إنما هو ميلها إلى القيام بعظائم الأمور، وحب الشهرة.
ثم خرجت من القسطنطينية قاصدة سوريا سنة ١٨١٠م في سفينة إنكليزية كان فيها قسم كبير من ثروتها، وأنواع مختلفة من الحلي والتحف، فلما وصلت السفينة إلى «جون مكري» تجاه جزيرة «رودس» صدمت صخرًا، فتحطمت على مسافة بعض أميال من الساحل، وغرقت أمتعة «إستير ستنهوب» وأموالها، ولم تنجُ هي من الموت إلا بعد عناءٍ شديد، فحملت على لوح السفينة إلى جزيرة صغيرة قفرة، فقامت فيها ٢٤ ساعة لم تذق طعامًا، ولم يكن لها منقذ ولا مجير، إلا أن جماعة من صيادي «مرموريزا» وجدوها في تلك الجزيرة في أثناء تفتيشهم على بقايا السفينة، فساروا بها إلى «رودس».
وهناك أخبرت قنصل إنكلترا فجمعت ما بقي لها من المتاع، وباعت قسمًا من أملاكها بأبخس الأثمان، وركبت سفينة ملأتها تحفًا نفيسة وهدايا ثمينة للبلدان التي عزمت على السياحة فيها، فلم يصادفها في مسيرها نوء. وأتت اللاذقية فأقامت هناك وتعلمت اللغة العربية، وعرفت عادات الأهالي وطباعهم، وجهزت قافلة كبيرة، وحملت إلى البدو هدايا نفيسة على ظهور الجمال، وطافت أنحاء سوريا كلها، فزارت القدس، ودمشق، وحمص، وبعلبك، وتدمر. ولما وصلت إلى تدمر اجتمع إليها كثيرون من قبائل البدو ومكَّنوها من الوصول إلى تلك المدينة، وكان عددهم حينئذٍ من ٤٠ إلى ٥٠ ألفًا، وكانوا كلهم يتعجبون من جمالها ولطفها وأبهتها، فجعلوها ملكة لتدمر، وعاهدوها على أن جميع الإفرنج الذين يحصلون على حمايتها يمكنهم أن يزوروا «بعلبك» وتدمر آمنين على أرواحهم، ولكن بشرط أن يدفع كل منهم ضريبة قدرها ألف قرش.
واستمرت تلك المعاهدة مدة طويلة يُعمل بها، وعند رجوعها من تدمر عزمت قبيلة قوية من البدو عدوَّة لتدمر التعدي عليها، غير أن أحد حشمها أنبأها في الحال بوقوعها في ذلك الخطر الجسيم، فأخذت في السير ليلًا، وكان خيلها من أجود الخيل، فاجتازت في مدة ٢٤ ساعة مسافة طويلة، وبذلك تمكنت هي ومن معها من النجاة، وأتت دمشق وأقامت فيها أشهرًا عند الوالي العثماني الذي كان الباب العالي قد وصَّاه بإكرامها وإعزازها، وصرفت زمانًا طويلًا في الطواف والجولان في البلاد الشرقية، وأذهل الأهالي ما شاهدوه من أعمالها وغناها، فكانوا يعاملونها كملكة، وكانت هي تحاول بحذاقتها أن تضاهي «زينوبيا»، ملكة الشرق، في أعمالها.
وسنة ١٨١٣م، استوطنت دير القديس إلياس المهجور، الواقع في جوار قرية على مسافة ساعة من صيدا، فبنت هناك عدة بيوت محاطة بسور أشبه بالأسوار التي كانت تُبنى في القرون المتوسطة، وأنشأت هناك بستانًا على نسق البساتين التركية، فغرست فيه الأزهار والأشجار والفاكهة وكرومًا، وأقامت كشوكًا مزينة بالنقوش والصور العربية، وجعلت للماء قنوات من الرخام، وكانت تنبعث من نافورات وسط بلاط من الرخام مزين بأنواع النقوش أيضًا، وكانت أشجار البرتقال والتين والأتراج الملتفة تزيد ذلك البستان جمالًا ونزهة، ولم يمكث ذلك الدير حتى صار حصنًا وملجأ يلتجئ إليه المظلومون فتُجيرهم، فبقيت هناك عدة سنين في أبهة شرقية محاطة بتراجمة سوريين وأوروبيين، وحاشية كبيرة من النساء، وجماعة من العبيد السود، وكانت تلبس لبس أمير، وتتقلد السلاح، وتُدخِّن، وكان لها علائق حبية وسياسة مع الباب العالي، وعبد الله باشا، والأمير بشير الشهابي حاكم لبنان، والشيخ بشير جان بلاط، ومشايخ البدو في براري سوريا وبغداد.
ثم اتخذت لها مسكنًا في بيت أخذته من رجل دمشقي مسيحي غني واقع على مرتفعٍ يعرف بظرف جون، نسبة إلى قرية «جون» التابعة لمديرية إقليم الخروب من جبل لبنان، على مسافة ٨ أميال من صيدا، ووسعت دائرة ذلك البيت، وأقامت حوله جنينة وسورًا، وبقيت فيه إلى أن توفيت. ثم أخذت ثروتها العظيمة تتناقص لعدم انتظام مصالحها التي لم يكن من يحسن القيام عليها في غيابها، فبلغ دخلها السنوي ١٣٠ و٤٠ ألف فرنك، وكان مع ذلك غير كافٍ لسد المصاريف التي تقتضيها حالتها، غير أنه مات بعض الذين صحبوها من الإفرنج وتركها البعض الآخر، وخمدت محبة الأهالي لها؛ لأن توافدها كان موقوفًا على مواساتهم بالهدايا والعطايا، فأمست منفردة، وقلت علائقها مع الناس.
ولكن ظهر منها في هذه الأحوال ما يدهش الخواطر ويحير العقول؛ لأنها صبرت وتجلدت ولم يخطر لها البتة أن ترجع عن الأعمال التي أقبلت عليها، ولم تتأسف على ما فات، ولا على العالم أجمع، ولم يحزنها ترك خلانها وثروتها وميلها إلى الشيخوخة، فأقامت وحدها من غير كتب ولا جرائد ولا رسائل من أوروبا، ولم يكن عندها صديق يؤانسها، ولا سمير يجالسها، بل بقي لها فقط جماعة من الجواري السود، وعبيد سود صغار السن، وبضعة فلاحين سوريين يعتنون بشأنها وخيلها، ويسهرون عليها من الطوارق.
وقد تحققت أن ما امتازت من الصبر والعزم والحزم لم يكن ناشئًا عن طباعها فقط، بل عن مبادئها الدينية المؤذنة بالشطط، وكان في تلك المبادئ ما يدل على أنها جمعت بين الحقائق وعوائد شرقية خرافية، ولا سيما غرائب فن التنجيم وعجائبه. وقصارى الكلام أنها حصلت بأعمالها على شهرة عظيمة في الشرق، وزهدت أوروبا كلها، وكان الأهالي عمومًا يسمونها بالست الإنكليزية. وأما الإفرنج فتعرف عندهم ﺑ «لاري ستنهوب».
ولما عزم إبراهيم باشا على فتح سوريا سنة ١٨٣٣م، اضطره الأمر إلى أن طلب إليها أن تكون على الحيادة، ويقال: إن بعد حصار عكا في السنة نفسها آوت مئين من الفارين، وكانت تتعاطى فن التنجيم وغيره من الفنون السرية، واستمسكت ببعض عقائد دينية مستغربة، فلم تعدل عنها حتى مماتها. ومما يدل على أن عقلها لم يخلُ من الاختلال في بعض الأمور أنها ربت حجرتين في إسطبل؛ لتركب المسيح واحدة منها عند مجيئه إلى الأرض، وتركب هي الأخرى مرافقة له إلى القدس. وفي السنين الأخيرة من حياتها كان قد بلغ أهلها في إنكلترا ما كان من أمرها وإسرافها، فقطعوا عنها الإمدادات المالية، فتراكمت عليها الديون التي كانت تقترضها من الأهالي بسعي رجل يعرف باللقمجي، فتوفيت ولم تقدر على وفائها، وهكذا الذين كانوا يحسبون أن في القرب منها ربحًا لهم آل الأمر إلى خسارتهم.
ويقال: إن مضايقاتها المالية مما كان بينها وبين الأمير بشير الشهابي من الاختلاف والضغينة، وقد سبب ذلك فيها من الخوف الذي أوقعها في مرض عضال قضت به نحبها، ولم يكن عندها حال وفاتها أحد من الإفرنج، بل أحاط بها جماعة من خدامها من أهل البلاد، فنهبوا بيتها حالما أدركتها المنية. وعند وفاتها حضر قنصل الإنكليز من بيروت لأجل دفنها، ودفنت بالبستان المجاور لدارها. وقد روى الأهالي عنها قصصًا كثيرة غريبة تكاد أن تكون من الخرافات لا يوثق بها، وكتب الدكتور «مريون»، الذي بقي عندها بضع سنين طبيبًا، لها سيرة حياتها بالإنكليزية في ثلاثة مجلدات رواية عنها، وقصة أسفارها في ثلاثة مجلدات طبعت بالإنكليزية بعد وفاتها بمدة قصيرة.
سيدتي، من سائح مثلك في الشرق، وغريب في هذه الديار جاءها ليتأمل في مناظر الطبيعة وآثارها وأعمال الله فيها، وقد وصل إلى سوريا منذ مدة مع عائلته وهو يحسب يومًا يتمكن فيه من مقابلة امرأة هي نفسها من عجائب الشرق الذي جاءه زائرًا من أجمل أيام سياحته وألذها، فإذا شئت أن تقابليني فاذكري لي اليوم الملائم لذلك، وقولي لي: أينبغي أن أتوجه وحدي، أو يمكنني أن أسير إليك بجماعة من خلاني يرغبون مثلي كل الرغبة في التشرف بمقابلتك. وأرجو يا سيدتي أن لا يكون هذا الطلب سببًا لتكلفك ما يزعجك في عزلتك؛ فإنني أعرف من نفسي قيمة الحرية، ومحاسن الانفراد؛ ولذلك لا يسوءني البتة رفضك مقابلتي، بل أتلقى ذلك بالتوقير والاحترام إلى آخره.
وفي ٣٠ أيلول (سبتمبر) من السنة نفسها، سار إليه طبيبها، ودعاه إلى جون، فذهب مع الدكتور «ليوزدي» والمسيو «برسيفال»، ولما وصلوا نزل كل منهم في غرفة ضيقة لا نوافذ لها، ولا أثاث فيها، ولم يتمكنوا من مقابلتها حال وصولهم؛ لأنها لم تكن تقابل الناس قبل الساعة الثالثة بعد الظهر، فلما حان الوقت أتاه غلام أسود وأدخله غرفتها، قال: وكان الظلام قد أسبل عليها ذيله فلم أتمكن بسهولة من أن أتبين هيئتها اللطيفة المؤذنة بالهيبة والجلال، وذلك الوجه الأبيض الصبيح، فنهضت وهي في زي الشرقيين، ودنت مني، ومدت إليَّ يدها مُسلِّمة علي، فأمعنتُ بها النظر، وإذا فيها من لطف المعاني ما لا تستطيع السُّنون محوه.
نعم، إن نضارة الوجه واللون والرونق تمضي مع الفتوَّة، إلا أنه متى كان الجمال في القد وهيئة الوجه مع العظمة والجلال، وطرأ عليه تقلبات باختلاف أزمان الحياة لا يزول تمامًا. وهذا كله على «لاري ستنهوب»، وكان على رأسها عمامة بيضاء، وعلى جبهتها عصابة من الكتان أرجوانية اللون طرفاها مرسلان على كتفيها، وعلى بدنها شال من الكشمير الأصفر، وفستان تركي كبير من الحرير الأبيض، كُمَّاه متدليان وهو مشقوق عند الصدر، يظهر من تحته فستان آخر من نسج الفرس تتصاعد منه أزهار تكاد أن تصل إلى عنقها، وهي مرتبطة بعضها ببعض بخرز من اللؤلؤ، وكان في رجليها خُفَّان تركيان أصفران، وهي تُحسن لبس ذلك جميعه كأنها تعودته من صغرها.
وبعد السلام قالت لي: قد أتيت من مكان بعيد، وكلفت مشاق السفر لترى ناسكة، فأهلًا بك، وإنني قلما يزورني الأجانب فيراني منهم في السنة واحد أو اثنان في الأكثر، غير أن مكتوبك أعجبني، ووددتُ أن أعرف إنسانًا يحب الله والطبيعة والانفراد، وذلك نفس ما أحبه، ولاح أيضًا أن يجمعنا متحابين. وإننا نتوافق في المشرب، ويسرني الآن أني لم أخطئ في ظني، وقد توسمت فيك عندما رأيتك أمورًا تجعلني أن لا أندم على رغبتي في مشاهدتك، وناهيك أنني لما سمعت وقع قدميك وأنت داخل خالجتني نفس تلك الخواطر، فاجلس ودعنا نتحدث؛ لأنك قد صرت لي صديقًا، فقلت لها: يا سيدتي، وكيف تُشرِّفين بهذا اللقب رجلًا لا تعرفين اسمه ولا سيرته، قالت: نعم، إنني لا أعرف حالك قدام الله، ولا تحسبني مجنونة كما يسميني العالم في الغالب؛ لأن صدري قد انشرح لك، فلا أستطيع أن أخفي عليك شيئًا وقد نشأ في الشرق علم ضاع الآن في بلادكم، غير أنه لم يزل باقيًا إلى الآن في البلاد الشرقية، وقد تعلمته وأتقنته؛ فإنني أرصد الكواكب وأدرك أسرارها، فكل منا وُلِد لنارٍ من تلك النيران السماوية التي تولت أمر ولادتنا، وتأثيرها إما حسن وإما رديء، وهو يظهر في عيوننا وجباهنا وهيئتنا، وأسارير أيدينا، وشكل أرجلنا، وحركاتنا، ومشينا، وبذلك عرفتك حق المعرفة كأننا معًا منذ قرن كامل، مع أنني لم أرك إلا منذ بضع دقائق.
فقلت باسمًا: مهلًا يا سيدتي، إنني لا أنكر ما أجهل، ولا أثبت ما لا يوجد في الطبيعة المنظورة وغير المنظورة التي تتجاذب فيها الأشياء، أو يرتبط بعضها ببعض كائنات كالإنسان دونه الكائنات الكبرى تحت سلطة كائنات أعظم منها؛ كالكواكب والملائكة، إلا أنني أحتاج إلى وحيهم لأعرف نفسي التي هي عبارة عن فساد وسقم وشقاوة.
وأما أسرار مستقبلي، فأحبُّ أن لا أعرفها، وعندي أنني أجازف على الله الذي أخفاها عني إذا طلبت إلى مخلوق أن يُوضِّحها لي، فأمر المستقبل بيد الله، وإني لا أعتقد إلا فيه، وفي الحرية والفضيلة، قالت: ما لي ولهذا، فاعتقد فيما يحلو لك. أما أنا فأرى أنك خلقت تحت سلطة ثلاثة أنجم سعيدة، قادرة، صالحة، فاعتقد مثل تلك الصفات وهي تشوقك إلى غاية يمكنني أن أكاشفك بها الآن إذا شئت ذلك. وقد أرسلك الله إليَّ لأنير عقلك، وأنت من الرجال الذين حسنت نواياهم، وطابت سريرتهم، ويستنفذ منك الله بإنفاذ الأعمال العجيبة التي يريد أن يجريها بين الناس. وهذا جواب كافٍ.
وبعد أن أطالا الجدال في هذا الباب قالت له: وهل ترى في سياسته ودينه ومعشره كامل الانتظام، ولا تشعر بما يشعر به العالم أجمع من أنه لا بد من موحٍ وفاةٍ، وهو المسيح الذي تنتظره وتطير شوقًا إليه، فلا ترى أحدًا موافقًا لك في ذلك، وأن العالم أجمع محتاج إلى الإصلاح. وإني أتوقع أكثر من الناس كلهم قدوم مصلح يُقوِّم المسالك، ويرشد الناس إلى سواء السبيل؛ فإن كان ذلك المصلح هو ما تسميه مسيحًا؛ فهذا أنتظره مثلك، وأرجو أن يظهر بعد أمد وجيز.
وأطالت الكلام في هذا الباب وقالت لي: اعتقد كما تشاء. أما أنا فعندي أنك رجل من الذين كنت أنتظرهم، وقد أرسلتك العناية إليَّ، وسيكون لك دخل كبير في العمل المزمع حدوثه، وسترجع أوروبا، إلا أن أوروبا قد مضى زمانها، وبقي لفرنسا وحدها أن تقوم بعمل عظيم، وستشترك فيه، ولم أعلم بعد كيف يكون ذلك، ولكنني — إن شئت — أذكر لك في هذا المساء عندما أستشير أنجمك، ولم أعرف إلى الآن أسماءها كلها، فقد رأيت منها أكثر من ثلاثة، فهي أربعة أو خمسة، وربما كانت أكثر، ولا شك أن عطارد من جملتها؛ فهو يهب العقل نورًا، واللسان طلاقة وطلاوة، وأنت شاعر لا محالة؛ لأن في عينيك والقسم الأعلى من وجهك ما يدل على ذلك.
إلى أن قالت: فاشكر الله على هذه النعمة؛ لأنه قلما ولد تحت سلطة أكثر من نجم، وندر من كان نجمه سعيدًا، وإذا كان سعيدًا فقلما يخلو من مفاعيل نجم آخر خبيث يقارنه، أما أنت فقد كثرت نجومك وأجمعت كلها على أن تخدمك، وهي تتعاون على ذلك، فما اسمك؟ فذكرت لها اسمي، قالت: هذه أول مرة سمعت به. ثم ذكرت لها ما نظمته من الشعر، وأن اسمي مشهور عند أهل العلم في أوروبا، إلا أنه لم يتمكن من اجتياز البحور والجبال حتى يصل إلى الشرق، قالت: سيان عندي كونك شاعرًا أو غير شاعر؛ فإنني أحبك، ولي فيك أمل أتحقق أننا سوف نلتقي ثانية، فإنك سترجع إلى الغرب، ولكن لا تلبث حتى تعود إلى الشرق؛ فإنه وطنك الحقيقي ووطن آبائك، وقد تحققتُ ذلك الآن.
فانظر إلى رجلك فإنها أشْبَه برجل رجل عربي. وما زلنا نتحادث حتى دخل عبد أسود فخرَّ على وجهه ساجدًا أمامها ويداه على رأسه، وخاطبها بكلمات عربية لم أفهمها، فالتفتت إلي وقالت: قد هُيِّئ لك الطعام؛ فاذهب فكُلْ. أما أنا فلا أواكل أحدًا؛ لأن عيشتي عيشة نسكية، فأغتذي بالخبز والثمار عندما أحس بالجوع، ولذلك لا ينبغي لي أن أُكرِه ضيفي على مجاراتي.
وبعد أن فرغت من مناولة الطعام استدعتني إليها، فلما حضرت وجدتها تدخن بقضيب طويل، واستحضرت لي قضيبًا لأدخن أيضًا، قال: وكنت قد رأيت أجمل نساء الشرق وأظرفهن يُدخِّنَّ مثلها، فلم أستغرب ذلك — وكان الدخان ينبعث من شفتيها اللطيفتين على شكل أعمدة فتعطرت به الغرفة — وأقمنا نتحدث في أمورها، وأطلتُ فيها التفكُّر فتبين لي أنها أشبه بالساحرات القديمات المشهورات، وهي أشبه ﺑ «سيرسه» معبودة الأقدمين، وأن عقائدها الدينية وإن كانت غامضة، فهي مقتطفة بحذق من أديان مختلفة، فقد جمعت بين أسرار «الدروز، وتسليم المسلمين واعتقادهم القدر، وانتظار اليهود مجيء المسيح، وعبادة النصارى للمسيح، وممارسة تعاليمه وآدابه، وزد على ذلك التصورات البعيدة الغريبة الناشئة عن فكر مشغوف بالشرق، ومتوقد بطول العزلة والانفراد، وبعض إيضاحات أوضحها لها المنجمون العربيون، فإذا تصورت ذلك كله انجلى لك شيء من هذا السر العظيم المستغرب الذي يؤثر في الإنسان ما يسميه جنونًا؛ ليتخلص من مشقة البحث وإمعان النظر فيه.
والحق أولى أن يقال: إن هذه المرأة غير مجنونة؛ فإن للجنون أمارات واضحة تظهر في العينين، وليس له أثر البتة في تلك الألحاظ اللطيفة، ويظهر الجنون أيضًا في الكلام؛ فإن صاحبه كثيرًا ما ينقطع عن الحديث فترى فيه اختلالًا وشططًا. أما حديثها فسامي المعاني، رمزي، متسلسل، مرتبط، مُتَّسق قوي. وفي مذهبي أن جنونها اختياري، وأنها تعرف نفسها حق المعرفة، ولها أسباب تحملها على التظاهر بما قد تظاهرت به. وما أخذ القبائل العربية المجاورة للجبال من العجب من حذقها وبراعتها يدل دلالة واضحة على أن ما تُرجَمُ به من الجنون إنما هو وسيلة لبلوغ بعض مآرب، ولا يخفى أن سكان أرض أجريت فيها العجائب، وكثرت فيها الصخور والبراري، وتلونت تصوراتهم بألوان جوِّهم لا يصيخون سمعًا إلا إلى كلام نبي، أو إلى كلام من كان ﮐ «لاري ستنهوب»؛ فإنهم يميلون إلى فن التنجيم والنبوَّات والوحي وما أشبه. وقد عرفت اﻟ «لاري» المذكورة ذلك، واتضحت لها الحقيقة لما هي عليه من قوة الحذق، ولكن ربما ساقتها القوة المذكورة — كما هو الغالب في أمثالها — إلى الاهتداء إلى مذهبٍ وضعته لغيرها.
وبعد أن جالت هذه التصورات في فكري قلت لها: لا ألومك إلا على أمر واحد، وهو أنك حسبت للحوادث حسابًا، فعاقك ذلك عن الوصول إلى مركزٍ كان في طاقتك أن تصلي إليه، فأجابته: إنك تتكلم كمن يعتقد اعتقادًا صحيحًا في الإرادة البشرية، ويشك في فعل القدر، فقوتي على حالها لم تتغير، غير أنني أنتظر سنوح الفرصة ولا أجدُّ في طلبها، وقد أمسيت وحدي مهجورة بين هذه الصخور القفرة، عُرضة لمفاجئ جسور يطرق منزلي فينهب أمتعتي، وحولي جماعة من الخدم الخائنين، والعبيد الكنودين، وهم ينهبونها في كل يوم، ويتهددون حياتي أحيانًا، وفي المدة الأخيرة لم يُنجني من الموت الأحمر إلا هذا الخنجر — وأرته إياه — الذي اضطرني الأمر إلى استخدامه لأدفع عني عبدًا أسود لئيمًا رُبِّي في بيتي، ومع ذلك تراني سعيدة بقولي: الله كريم، وأتوقع المستقبل الذي أخبرك به، ويا حبذا لو كنت تحققه مثلي.
وبعد أن تباحثنا كثيرًا، وشربنا القهوة التي كان يأتي بها العبيد كل ربع ساعة مرة، قالت لي: هلم، فإني سأسير بك إلى مكان مقدس لا يدخله أحد من البشر، وهو بستاني، فدخلناه وجلسنا فيه مسروري الفؤاد؛ لأنه من أجمل البساتين الشرقية التي رأيتها، وكنا من وقت إلى آخر نجلس في الكشوك براحة، ونتحدث على النسق الأول، فلبثنا مدة على هذه الحالة، ثم التفتت إليَّ وقالت: إذا كان القدر قد ساقك إلى هذا المكان، وما بين نجمينا من الاتفاق يمكنني من مكاشفتك بأمور أخفيها عن كثيرين من بني البشر، فسأريك بعينك عجيبة من عجائب الطبيعة لا يعرف مستقبلها إلا أنا وأتباعي، وهي التي ذكرها الأنبياء الشرقيون منذ قرون عديدة في نبوَّاتهم.
ثم فتحت بابًا من أبواب البستان يشرف على حوشٍ صغير، فوقع نظري على حجرتين عربيتين جميلتين من أطيب أصل، وأكمل شكل، فقالت لي: هيا بنا فأُريك هذه المُهرة الكميت؛ ألم تتحفها الطبيعة بكل ما هو مكتوب عن المهرة التي ينبغي أن يركبها المسيح «وستوله مسرجة»، فأمعنت بها النظر، فرأيت فيها من غرائب الطبيعة ما يقوي ذلك الاعتقاد عند قوم لم يزح عنهم الجهل ستارته؛ لأن لها في مكان المنكبين تجويفًا عميقًا واسعًا يشبه السرج، وشيئًا أشبه بركابين في مكان ركوبها من دون سرج صناعي.
ولاح لي أن تلك المهرة أحسَّت بما لها من المنزلة والاعتبار عند «لاري ستنهوب» وعبيدها بما سيكون من أمرها في المستقبل؛ لأنها لم تركب البتة، وقد عهدت سياستها إلى سائسين عربيين يسهران عليها ليلًا ونهارًا، ولا يفارقانها لحظة، وبالقرب منها مهرة أخرى بيضاء أجمل منها تشاركها فيما لها من المنزلة عند اﻟ «لاري» المذكورة، وهي كأختها لم يركبها أحد، وفهمت من كلام مضيفتي أنه وإن كان مستقبل المهرة البيضاء دون مستقبل المهرة الكميت قداسةً فهو سري، وهي وإن كانت لم تقل لي ذلك قولًا صريحًا، استنتجت منه أنها تركبها هي حين تسير بجانب المسيح إلى أورشليم.
ثم أمرت السائسين أن يُخرجا الحجرتين إلى مرج خارج السور ففعلا، وبعد أن أطلت النظر فيها، وتأملت في محاسنهما، رجعت إلى الدار وطلبت منها بإلحاح أن تأذن لمسيو «برسيفال» بمقابلتها؛ فإنه كان صديقي وتبعني رغمًا عني، وأقام منذ الصباح ينتظر صدور الإذن بمقابلتها، وهي تبخل عليه بذلك، فأجابتني إلى طلبي بعد التردد مدة، ودخلنا جميعًا إلى غرفتها لنصرف فيها ليلتنا، فأقمنا ندخن ونشرب القهوة، وبعد مباحثة طويلة دارت بيننا في أمور السياسة ونظام الحكومات، انتقلت أنا منها إلى أمور مزحية عن طريقة تَنَبُّئها.
قال: وأردت أن أختبرها، فسألتها عن سائحين أو ثلاثة من أصحابي مروا بها منذ ١٥ سنة، فأدهشني كلامها عن اثنين منهم؛ لأنني رأيتها مصيبة في حكمها كل الإصابة، ومن العجب العجاب أنها وصفت بحذق وبلاغة لا مزيد عليهما واحدًا من ذينك الاثنين كنت أعرفه حق المعرفة، مع أن من أصعب الأمور أن يعرف إنسان طباعه من أول وهلة؛ لأن ظواهره تؤذن ببساطة تامة، ويخدع أبعد الناس عن الانخداع. ومما أذهلني أيضًا قوة ذاكرتها؛ لأن السائح المذكور لم يصرف عندها إلا ساعتين، ومضى بين زيارتي لها وزيارته ١٦ سنة كاملة، فلا جرم أن العزلة تجمع قوى النفس وتقويها. وقد تحقق ذلك الأنبياء والقديسون وأكابر رجال الدنيا والشعراء، فكانوا يطلبون البراري والقفار، ويعتزلون الناس وهم بينهم.
ثم تكلمنا عن بونابرت وعن مواضيع أخرى بحرية تامة، وما زلنا على تلك الحالة إلى أن مضى أكثر الليل، قال: ولما حان الافتراق ظهر الحزن والكدر على وجهينا، فقالت لي: لا تودِّعني؛ لأننا سنلتقي مرارًا في هذه السياحة، ونلتقي كثيرًا في سياحات أُخر لم تخطر لك ببال بعدُ، فاذهب واسترح، واذكُر أنك قد تركتني في قفار لبنان، ثم مدت إليَّ يدها، فوضعت يدي على قلبي على عادة العرب مودعًا. وكان ذلك خاتمة اجتماعنا.
هذا ملخص ما دار بينها وبين «لامرتين» من الكلام، والمقام يضيق دون ما ذكره بالتفصيل. أما بيتها في «جون»، فقد استولى عليه صاحبه الدمشقي الذي مات بعدها بقليل، فانتقل إلى ابن له وحيد مسلم، ثم أفضى به الأمر إلى أن شنق نفسه، فأخذت امرأته تبيع كل ما يمكن بيعه من أدوات البناء خوفًا من أن يؤخذ البيت منها. وهكذا عجلت خراب تلك الدار الجميلة حتى أمست الآن خاوية على عروشها، يأوي إليها البوم، وينعق فيها الغراب، وكذلك تكاد آثار الضريح الذي أقيم لها تُمحى.
وهكذا لم يبق لتلك المرأة التي حاولت أن تضاهي ملكة الشرق ولا لأعمالها أثر في بطون التواريخ التي حفظت ذكرها؛ ليكون عبرة لمن يعتبر، وتذكرة لأولي الألباب.
أسماء ابنة أبي بكر الصديق
هي أسماء ابنة أبي بكر الصديق، وأمها قتيلة بنت عبد العزى، وهي أخت عائشة لأبيها، تُسمَّى ذات النطاقين؛ لأنها صنعت للنبي ﷺ طعامًا لما هاجر، فلم تجد ما تشده به فشقَّت نطاقها، وشدت به الطعام، فدعيت ذات النطاقين. تزوجها الزبير بن العوام، فولدت له عبد الله وعدة أبناء، وكان عبد الله أول مولود وُلد في الإسلام بعد الهجرة، ثم طلقها الزبير، فكانت مع عبد الله ابنها بمكة المشرفة حتى قتل ابنها، فبلغت من العمر مائة سنة حتى عميت، وماتت بمكة سنة ٧٣ هجرية، و٦٩٢ ميلادية.
ولها شعر قليل في رثاء زوجها وابنها، ومن كلامها لابنها عبد الله حين قاتل الحجاج؛ إذ دخل عليها وقال لها: يا أماه، قد خذلني الناس حتى ولدي وأهلي، ولم يبق معي إلا اليسير، ومن ليس عنده أكثر من صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: أنت أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق، وإليه تعود، فامضِ له؛ فقد قُتل عليه أصحابك، ولا تُمكِّن من رقبتك تلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا، فبئس العبد أنت؛ أهلكت نفسك ومن معك، وإن قلت: كنت على حقٍّ، فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، لمَ خلودك في الدنيا؟! القتل أحسن.
فقال: يا أماه، أخاف إن قتلني أهل الشام أن يُمثِّلوا بي ويصلبوني، قالت: يا بني، إن الشاة لا تتألم بالسلخ؛ فامض على بصيرتك، واستعن بالله.
فقبَّل رأسها وقال: هذا رأيي، والذي خرجت به داعيًا إلى يومي هذا، ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله وأن تستحل حرماته، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فقد زدتني بصيرة؛ فانظري يا أماه، فإني مقتول في يومي هذا، فلا يشتد حزنك، وسلِّمي الأمر إلى الله؛ فإن ابنك لم يعهد بإيثار منكر، ولا عمد بفاحشة، ولم يَجُر في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم أو معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عمالي، فرضيتُ به، بل أنكرته، ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي، اللهم لا أقول هذا تزكية لنفسي، ولكني أقوله تعزية لأمي حتى تسلو عني.
فقالت أمه: لأرجو أن يكون عزائي فيك جميلًا: إن تقدمتني احتسبتك، وإن ظفرت سررت بظفرك. اخرج حتى أنظر إلام يصير أمرك، فقال: جزاك الله خيرًا، فلا تدعي الدعاء، قالت: لا أدعُهُ لك أبدًا، فمَن قُتِل على باطل فقد قُتلت على حقٍّ، ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام بالليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر مكة والمدينة، وبرِّه بأبيه وبي، اللهم قد سلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فأثبني فيه ثواب الصابرين الشاكرين، فتناول يدها ليُقبلها فقالت: هذا وداع فلا تبعد، فقال لها: جئت مودعًا لأني أرى هذا آخر أيامي من الدنيا.
قالت: امض على بصيرتك، وادن مني حتى أودعك، فدنا منها فعانقته وقبلته، فوقعت يدها على الدرع، فقالت: ما هذا صنيع مَن يريد ما تريد؟ فقال: ما لبستُه إلا لأشدَّ متنك، قالت: إنه لا يشد متني. فنزعها، ثم درج لمته، وشدَّ أسفل قميصه وجبته تحت أثناء السراويل، وأدخل أسفلها تحت المنطقة، وأمه تقول له: البس ثيابك مُشمَّرة، فخرج وهو يقول مرتجزًا:
فسمعته فقالت: تصبر إن شاء الله. أبوك أبو بكر والزبير، وأمك صفية ابنة عبد المطلب، ثم حمل على القوم وقاتل حتى قُتل وصلب، وطلبته أمه من الحجاج فأبى عليها إعطاءه، فكتبت لعبد الملك، فسمح لها بذلك، فغسلته ودفنته، وبقيت بعده قليلًا، وماتت بعدما أضرَّت، وذلك في سنة ٧٣ هجرية.
ومن قولها في زوجها الزبير بن العوام حين قتله عمرو بن جرموز المجاشعي وهو منصرف من وقعة الجمل بوادي السباع:
أسماء ابنة سلمة
أسماء ابنة سلمة، وقيل: سلام بن مخرمة بن جندل بن أبير بن نهشل بن دارم التميمية الدارمية، وهي أم الجلاس. قاله أبو عمر، وقال ابن منده وأبو نعيم: أسماء ابنة محزبة التميمية، وهي أم الجلاس، وأم عياش وعبد الله بن ربيعة. روى عنها عبد الله بن عياش والربيع بن معوز، وذكر ابن منده وأبو نعيم حديث عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة قال: دخل النبي ﷺ بعض بيوت أبي ربيعة إما لعيادة مريض أو لغير ذلك، فقالت له أسماء التميمية — وكانت تُكنى أم الجلاس، وهي أم عياش بن أبي ربيعة: يا رسول الله، ألا توصني؟ قال: «ائتي إلى أختك بما تحبين أن تأتي إليك.» ثم أتى بصبي من ولد عياش به مرض فجعل يرقي الصبي ويتفل عليه، وجعل الصبي يتفل على النبي ﷺ، وجعل بعض أهل البيت ينهى الصبي، وقال أبو عمر — ذكر نسبها كما تقدم — وقال: «كانت من المهاجرات: هاجرت مع زوجها عياش بن أبي ربيعة إلى أرض الحبشة، وولدت له بها عبد الله بن عياش، ثم هاجرت إلى المدينة، وتكنى أم الجلاس، روتْ عن النبي ﷺ، وروى عنها عبد الله بن عياش وجملة من التابعين، وتوفيت في خلافة عمر بن الخطاب.»
أسماء ابنة عميس
أسماء ابنة عميس بن معبد بن الحارث بن تميم بن كعب بن مالك بن قحافة بن عامر بن ربيعة بن عامر بن معاوية بن زيد بن مالك بن بشر بن وهب الله بن شهران بن عفرس بن حلف بن أقبل، وهو خثعم، وأمها هند ابنة عوف بن زهير بن الحارث الكنانية. أسلمت أسماء قديمًا، وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب، فولدت له بالحبشة عبد الله وعونًا ومحمدًا، ثم هاجرت إلى المدينة، فلما قُتل عنها جعفر بن أبي طالب تزوجها أبو بكر الصديق، فولدت له محمدَ بن أبي بكر، ثم مات عنها، فتزوجها علي بن أبي طالب، فولدت له يحيى، لا خلاف في ذلك.
وزعم ابن الكلبي أن عون بن علي أمه أسماء بنت عميس، ولم يقل ذلك غيره، وأسماء أخت ميمونة ابنة الحارث زوجة النبي ﷺ وأخت أم الفضل امرأة العباس، وأخت أخواتها لأمهم، وكنَّ عشر أخوات لأم، وقيل: تسع أخوات، وقيل: إن أسماء تزوجها حمزة بن عبد المطلب فولدت له بنتًا، ثم تزوجها بعده شداد بن الهاد، ثم جعفر. وهذا ليس بشيء، وإنما التي تزوجها حمزة سلمة ابنة عميس أخت أسماء، وكانت أسماء ابنة عميس أكرم الناس أصهارًا، فمِن أصهارها النبيُّ ﷺ وحمزة والعباس — رضي الله عنهما — وغيرهم.
وروى عن أسماء عمر بن الخطاب، وابن عباس، وابنها عبد الله بن جعفر، وعبد الله بن شداد بن الهاد، وهو ابن أختها، وعروة بن الزبير، وابن المسيب وغيرهم، وقال لها عمر بن الخطاب: نِعْمَ القوم أنتم، لولا أنَّا سبقناكم إلى الهجرة، فذكَرتْ ذلك للنبي ﷺ فقال: «لكم هجرتانِ: إلى أرض الحبشة وأرض المدينة.» قال عبيد الله بن رفاعة الزرقي: إن أسماء ابنة عميس قالت لرسول الله ﷺ: إن ولد جعفر تسرع إليهم العين؛ أفأسترقي لهم؟ قال: «نعم.» وقد توفيت في خلافة علي رضي الله عنه.
أسماء ابنة النعمان بن شراحيل
وقيل: أسماء ابنة النعمان بن الأسود بن الحارث بن شراحيل بن النعمان، قاله أبو عمر، وقال ابن الكلبي: أسماء بنت النعمان بن الحارث بن شراحيل بن كندي بن الجون بن حجر آكل المرار بن عمرو بن معاوية بن الحارث الأكبر الكندية. تزوجها رسول الله ﷺ فاستعاذت منه ففارقها. وقال يونس عن أبي إسحاق: كان رسول الله ﷺ تزوج أسماء ابنة كعب الجونية فلم يدخل بها حتى طلقها. قال أبو عمر: أجمعوا على أن رسول الله ﷺ تزوجها، واختلفوا في سبب فراقه لها، فقال قتادة: تزوج رسول الله ﷺ من أهل اليمن أسماء بنت النعمان بن الجون، فلما دخل عليها دعاها فقالت له: تعال أنت، فطلقها، قال: وزعم بعضهم أنها قالت: أعوذ بالله منك، قال: قد عذت بمعاذ، وقد أعاذك الله مني. فطلقها.
وقيل: إنما التي قالت له كانت امرأة من بلعنبر من سبي ذات الشقوق، كانت جميلة فخاف نساؤه أن تغلبهن على النبي ﷺ فقلن لها: إنه يعجبه أن يقال: نعوذ بالله منك، وذكر نحو ما تقدم في فراقها، قال: وقال أبو عبيدة: كلتاهما عاذتا بالله منه.
وقال عبد الله بن محمد بن عقيل: ونكح رسول الله ﷺ امرأة من كندة، وهي الشقية، فسألت رسول الله ﷺ أن يردها إلى أهلها، ففعل وردها مع أبي أسيد الساعدي، وكانت تقول عن نفسها الشقية، وقيل: إن التي قال لها نساء النبي ﷺ لتتعوذ بالله منه هي الكندية، ففارقها، فتزوجها المهاجر بن أبي أمية المخزومي، ثم خلف عليها قيس بن مكشوح المرادي، قال: وقال آخرون: إن التي تعوذت بالله منه امرأة من سبي بلعنبر، وذكر في قول أزواج النبي ﷺ لها نحو ما تقدم، قال: وقال آخرون: وكان بها وضح كالعامرية ففارقها، وقيل: إنه قال لها: «هبي لي نفسك.» قالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة، فأهوى بيده إليها، فاستعاذت منه ففارقها.
قال أبو عمر: الاختلاف في الكندية كثير جدًّا، منهم من يسميها: أسماء، ومنهم من يسميها: أميمة، واختلفوا في سبب فراقها على ما ذكرناه، والاختلاف فيها وفي صويحباتها اللواتي لم يجتمع بهن عظيم.
أسماء ابنة يزيد الأنصارية
من بني عبد الأشهل. هي رسول النساء إلى النبي ﷺ. روى عنها مسلم بن عبيد أنها أتت النبي ﷺ وهو بين أصحابه فقالت: بأبي وأمي أنت يا رسول الله، أنا وافدة النساء إليك. إن الله — عز وجل — بعثك إلى الرجال والنساء كافة، فآمنا بك وبإلهك، وإنا معشر النساء محصورات مقصورات قواعد بيوتكم، ومقتضى شهواتكم، وحاملات أولادكم، وإنكم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجُمع والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله — عز وجل — وإن أحدكم إذا خرج حاجًّا معتمرًا أو مجاهدًا حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا أثوابكم، وربينا لكم أولادكم، أفما نشارككم في هذا الأجر والخير؟
فالتفت النبي ﷺ إلى أصحابه بوجهه كله ثم قال: «هل سمعتم مسألة امرأة قط أحسن من مسألتها في أمر دينها من هذه؟» فقالوا: يا رسول الله، ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا، فالتفت النبي ﷺ إليها فقال: «افهمي أيتها المرأة، وأَعلمي من خلفك من النساء، أن حسن تبعل المرأة لزوجها، وطلبها مرضاته، واتباعها موافقته يعدل ذلك كله.» فانصرفت وهي تهلل حتى وصلت إلى نساء قومها من العرب، وعرضت عليهن ما قاله لها رسول الله ﷺ ففرحن وآمن جميعهن. وسميت المترجَمة: «رسول نساء العرب إلى النبي ﷺ».
إستير ابنة أبي حائل بن شمعي بن قيس ملكة الفرس
كانت أحسن نساء زمانها جمالًا، وأبهاهن منظرًا وكمالًا، وأعذبهن منطقًا ومقالًا، تزوجت بالملك «أحشويروش»، ملك الفرس، الذي ملك من الهند إلى «كوش» على مائة وسبع وعشرين كورة. وكانت في ابتداء أمرها ربَّاها رجل إسرائيلي يدعى «مردخاي»، وهو ابن عمها؛ لأن أباها وأمها توفيا، فأخذها هو وجعلها ابنةً لنفسه، وكان في شوشن القصر الذي هو كرسي ملك «أحشويروش»، لأنه سبي من أورشليم مع السبي الذي سبي مع «بكنيا»، ملك يهوذا، الذي سباه «نبوخذنصر» ملك بابل.
وسبب زواجها بالملك «أحشويروش» المذكور أنه جلس ذات يوم على كرسي ملكه الذي في شوشن القصر، وعمل وليمة لجميع رؤسائه وعبيده وجيش فارس، وأخذت هذه الوليمة مائة وثمانين يومًا، وعند قضاء هذه الوليمة عمل لجميع الشعب الموجودين في شوشن القصر من الكبير إلى الصغير وليمة سبعة أيام، وفي اليوم السابع لما طاب قلبه أرسل إلى «وشتى» الملكة زوجته أن تأتي أمامه بتاج الملك ليرى الشعوب والرؤساء جمالها؛ لأنها كانت حسنة المنظر، فأبت أن تأتي حسب أمر الملك، فاغتاظ جدًّا واشتعل غضبه، وقال لمن حوله من العارفين بالأزمة: ماذا يعمل بالملكة «وشتى»؛ لأنها خالفت أوامري؟ فقال أحدهم: ليس إلى الملك وحده أساءت، بل إساءتها عمت جميع الرؤساء وجميع الشعوب الذين في كل بلدان الملك، وسوف يبلغ خبرها إلى جميع النساء حتى يحتقرن أزواجهن في أعينهن عندما يقال: إن الملك «أحشويروش» أمر أن يؤتى بالملكة «وشتى» إلى أمامه فلم تأتِ، فإن رأى الملك فليكتب أمرًا من عنده أن لا تأتي «وشتى» أمامه مطلقًا، وليعط ملكها لمن هي أحسن منها، فرأى الملك والرؤساء ذلك صوابًا، فأرسل كُتبًا إلى كل بلدانه يخبرهم بذلك.
وبعد ما خمد غضب الملك «أحشويروش» قيل له: فليطلب الملك فتيات عذارى حسنات المنظر، ويوكل وكلاء في كل بلاده ليجمعوهن بشوشن القصر، ويُعيِّن عليهن خصيًّا، ويرتب لهن لوازمهن مما يحتجن إليه، وبعد ذلك يختار منهن التي توافقه ويملكها مكان «وشتى»، فرأى ذلك حسنًا، فأمر بجمع البنات حتى اجتمع عنده منهن شيء كثير، فلما سمع «مردخاي» مربي «إستير» أمر الملك وقد اجتمعت فتيات كثيرات إلى شوشن القصر، أخذ «إستير» إلى بيت الملك وسلَّمها إلى حارس النساء، فلما نظرها الحارس استحسنها، ونالت نعمة بين يديه، فبادرها بأدهان عطَّرها بها، ونقلها إلى أحسن مكان في بيت النساء، ولم تُخبر «إستير» عن شعبها وجنسها؛ لأن «مردخاي» أوصاها بذلك، واستمرت «إستير» مقيمة إلى أن بلغت نوبتها للدخول إلى الملك بعد أن قامت اثني عشر شهرًا؛ لأنه هكذا كانت تكمل أيام تعطرهن: ستة أشهر بزيت المر، وستة أشهر بالطياب، فلما دخلت عليه ونظرها أحبها أكثر من جميع النساء، ووجدت نعمة وإحسانًا أمامه أحسن من جميع العذارى، فوضع التاج على رأسها، وملكها مكان «وشتى»، وعمل وليمة عظيمة لجميع رؤسائه وعبيده، ودعاها وليمة «إستير»، وأعطى عطايا حسب كرم الملوك.
وفي تلك الأيام بينما «مردخاي» جالس في باب الملك إذ علم بفتيين ورئيس الخصيان في دار الملك أرادا أن يغتالاه، فعلم الأمر عند «مردخاي»، فأخبر «إستير»، وهي أخبرت الملك باسم «مردخاي»، ففحص عن الأمر فوجده حقيقيًّا، فأمر بصلبهما، فصلب كل منهما على خشبة، وازداد اعتبار «مردخاي» في عيني الملك، وقربه منه قربًا عظيمًا. وبعد هذه الأمور قدَّم الملك «أحشويروش» وزيره «هامان»، وجعل كرسيه فوق جميع الرؤساء الذين معه، فكان كل من بباب المسجد يسجد ﻟ «هامان»، كما أوصى به الملك.
وأما «مردخاي» فلم يسجد له، فقال عبيد الملك الذين ببابه ﻟ «مردخاي»: لماذا تتعدى أمر الملك ولم تسجد ﻟ «هامان»، فقال: لا أسجد لغير الملك، وإني أعلم ما لا تعلمون، فأخبروا «هامان» بذلك، وأعلموه بأنه يهودي، ولما رأى «هامان» ذلك امتلأ غضبًا، وأسرَّ في نفسه على إهلاك «مردخاي» وشعبه، ولما أمكنته الفرصة قال للملك: إنه موجود شعب متشتت ومتفرق بين الشعوب في كل بلاد مملكتك، وسنتهم مغايرة لجميع الشعوب، وهم لا يعملون بسنن الملك، فلا يليق بالملك تركهم، فإذا رأى الملك فليكتب بأن يبادوا وأنا أزن عشرة آلاف وزن من الفضة تُعطَى للذين يعملون العمل من مالي الخاص، فلما سمع الملك كلامه نزع الخاتم من يده وأعطاه ﻟ «هامان» وقال له: الفضة قد أعطيت لك من الخزينة الملكية، والشعب أيضًا تفعل به ما تُريد، فاستدعى بالكتاب، وكتب إلى جميع عمال البلاد يأمرهم بإبادة جميع اليهود من الطفل إلى الشيخ، وأن يسلبوا أموالهم غنيمة، وختم الكتب بختم الملك، وسلمها إلى السعاة، وخرجت بها، ولما علم «مردخاي» كل ما عُمل شقَّ ثيابه، ولبس مسحًا برماد، وخرج إلى وسط المدينة، وصرخ صرخة عظيمة، وجاء إلى باب الملك، وكانت مناحة عظيمة عند اليهود، وصياح وبكاء ونحيب.
فلما رأى جواري «إستير» ذلك دخلن عليها وأخبرنها، فاغتمت غمًّا شديدًا، وأرسلت ثيابًا ﻟ «مردخاي» لأجل نزع مسحه عنه، فلم يقبل، فدعت «إستير» واحدًا من خدامها وأمرته أن يذهب إلى «مردخاي» ويأتيها بالسبب، فذهب الخادم إليه وأخبره «مردخاي» بكل ما أصابه، وأعطاه صورة الكتب التي صدرت من الملك لجميع الجهات لكي يريها ﻟ «إستير»، ويخبرها ويوصيها أن تدخل إلى الملك وتتضرع إليه وتطلب منه العفو عن شعبها، فرجع الخادم إلى «إستير» وأخبرها بكلام «مردخاي»، فأمرت الخادم بأن يرجع إليه ويعلمه بأن كل عبيد الملك وشعوب بلاده يعلمون أن كل شخص دخل إلى الملك بالدار الداخلية بدون إذن لم ينج من القتل، إلا الذي يمد إليه الملك قضيب الذهب فيحيا، فأخبره الخادم بذلك، فقال له: أخبر «إستير» بأنك لا تفتكري في نفسك أنك تنجين في بيت الملك من دون اليهود. إنك إن سكتِّ في هذا الوقت يكون الفرج والنجاة لليهود من مكان آخر، وأما أنت وبيت أبيك فتبادون، فقالت «إستير» للخادم: أخبر «مردخاي» بأن يجمع اليهود الموجودين في شوشن القصر ويصوموا من جهتي، ولا يأكلوا ولا يشربوا ثلاثة أيام ليلًا ونهارًا، وأنا أيضًا أصوم كذلك، وهكذا أدخل على الملك، ولعل الله أن يمد إليَّ يد المساعدة.
فانصرف «مردخاي» وعمل على حسب ما أوصته به «إستير»، وفي اليوم الثالث لبست «إستير» ثيابًا ملكية، ووقفت في دار بيت الملك الداخلية مقابل الملك وهو جالس على كرسي ملكه، فلما رأى «إستير» واقفة مد لها قضيب الذهب الذي بيده، فدنت ولمست رأس القضيب، فقال لها الملك: ما لك «إستير»؟ وما هي طِلْبَتُك؟ إذا كانت نصف مملكتي تُعطى لك، فقالت له: إذا رأى الملك فليأتِ ومعه «هامان» اليوم إلى الوليمة التي عملتها، فقال الملك: أسرعوا ﺑ «هامان» تنفيذًا لكلام «إستير»، فحضروا به، وأتى الملك و«هامان» إلى الوليمة التي عملتها «إستير»، فقال لها الملك عند شرب الخمر: ما هو سؤالك، وما هي طلبتك، فتُعطى لكِ؟ فقالت: إن سؤالي أن يأتي الملك و«هامان» إلى الوليمة التي أعملها لكما غدًا، وهناك أطلب طلبي، فخرج «هامان» في ذلك اليوم فرحًا.
وفي اليوم الثاني، جاء الملك و«هامان» عند «إستير»، فقال الملك ﻟ «إستير»: ما هو سؤالك يا «إستير»؟ وما هي طلبتك؟ فأجابته: إن كنت قد وجدت نعمة في عين الملك، فيعطي لي الملك طلبتي بالعفو عن شعبي؛ لأنه قد صار بيعنا أنا وشعبي للهلاك والقتل، ولو كنت بعتنا عبيدًا وإماء لكنت سكتُّ، مع أن العدوَّ لا يعرض عن خسارة الملك.
فقال ﻟ «إستير»: من هو وأين هو الذي يتجاسر بقلبه على أن يعمل هكذا؟ قالت: هو رجل خصم وعدو، هذا «هامان» الرديء الخبيث. فارتاع «هامان» أمام الملك والملكة، فقام الملك بغيظه عن شرب الخمر إلى جنة القصر، ووقف «هامان» لنفسه أمام «إستير» الملكة؛ لأنه رأى أن الشر قد أعيد عليه من قِبَل الملك. ولما رجع الملك من جنة القصر إلى بيت شرب الخمر و«هامان» متواقع على السرير الذي كانت «إستير» عليه، قال: وهل أيضًا يدخل على الملكة معي في البيت؟! وأمر بصلبه، فصلبوه على خشبة ارتفاعها خمسون ذراعًا، ثم سكن غضب الملك.
وفي ذلك اليوم أعطى الملك ﻟ «إستير» بيت «هامان»، وأتى «مردخاي» أمام الملك؛ لأن «إستير» أخبرته، فنزع الملك خاتمه الذي أخذه من «هامان» وأعطاه ﻟ «مردخاي»، وأقامت «إستير» و«مردخاي» في بيت «هامان»، ثم عادت «إستير» وسقطت عند رجلي الملك وتضرعت إليه أن يزيل شر «هامان» الذي دبَّره على اليهود، فأجاب طلبها، وقال لها وﻟ «مردخاي»: اكتبا أنتما ما يحسن في أعينكما باسم الملك، واختماه بختمي؛ لأن الكتابة التي كتبت أولًا لا تُردُّ. فدعا كتاب الملك في ذلك الوقت وكتب حسبما أمر به «مردخاي»، وختم عليه الملك، وأرسل إلى كل الجهات، وخرج «مردخاي» من أمام الملك بلباس ملكي وتاج من ذهب. وكان اليوم عند اليهود يوم بهجة وفرح، وصار عيدًا يعيدون فيه، وهو الثالث عشر من شهر آذار في كل سنة.
إسكندرة ملكة اليهود
وهي زوجة إسكندر، ملك يهوذا، ملكت وحدها بعد وفاة زوجها، وذلك في مدة قصر ابنها «هرفانوس الثاني»، وقد ارتكب الفريسيون في عهدها مظالم كثيرة. وقد ذكرها ابن خلدون فقال: «وأوصى إسكندر امرأته الإسكندرة قبل وفاته بكتمان موته حتى يفتح الحصن — وهو حصن كان خرج لحصاره ولم يذكر ابن خلدون اسمه — وتسير بشلوه إلى القدس فتدفنه فيه، وتصانع الربانيين على ولدها «هرفانوس الثاني» فتُملِّكه؛ لأن العامة أميل إليه، ففعلت ذلك، واستدعت من كان نافرًا من الربانيين، وجمعتهم وقدمتهم للمشورة، واستبدت بالملك.
وكان لها ابنان من الإسكندر: اسم الأكبر منهما «هرفانوس»، والآخر «أرستيلوس»، وكانا صغيرين عند موت أبيهما، فلما كبرا عينت «هرفانوس» للكهنوتية، وقدمت «أرستيلوس» على العساكر والحروب، وضمت إليه الربانيين، وأخذت الرهن من جميع الأمم، وسألها الربانيون في الأخذ بثأرهم من القرايين، وكانوا خلقًا كثيرًا، وجاء القرايون إلى ابنها الكهنوت ينذرونه ذلك، وإنه إذا فعل بهم ذلك وقد كانوا سيفًا لأبيه الإسكندر فقد تحدث النفرة من سائر الناس، وسألوه أن يلتمس إذنها في الخروج عن القدس والبعد عن الربانيين، فأذنت له رغبة في انقطاع الفتنة، وخرج معه وجوه العسكر، ثم ماتت خلال ذلك لتسع سنين من دولتها، ويقال: إن ظهور عيسى — صلوات الله عليه — كان في أيامها.
وفيما ذكره ابن خلدون في آخر هذه القصة: إن ظهور السيد المسيح كان في أيام الإسكندرة مخالفة لم يتفق عليه المؤرخون المحققون. والصحيح أنها توفيت سنة ٧١ أو سنة ٧٠ قبل الميلاد.
أسماء معشوقة جعد بن مهجع العذري
هي من بني كلب، ولم أعثر لها على اسم إلا من قوله:
وكان سبب عشقه لها أن له أخوالًا من كلب حوَّل ماله إليهم خشية التلف، فأقام عندهم ثم خرج يومًا على فرس وقد صحب شرابًا، فاشتد الحر وظهرت له دوحة، فقصدها ونزل تحتها، فما استقر حتى بان له شخص عليه درع أصفر وعمامة سوداء يطرد سخلة وأتانًا، فقتلهما وقصد الدوحة، ونزل بها فحادثه، فوجد في ألفاظه عذوبة لا تقدر، وخلب عقله، فدعاه إلى الشراب فشرب، وقام ليصلح من شأن فرسه فتزحزح الدرع عن ثدي كحق العاج، فقال: امرأة أنت؟ قالت: نعم، ولكن شديدة العفاف، حسنة الأخلاق والمفاكهة، فعلقها من تلك الساعة وسألها الزيارة، فذكرت أن لها إخوة شرسة وأبًا كذلك، ثم مضت ولازم الوساد سنة كاملة، ثم شكى إلى أحد أصحابه، فأشار عليه أن يخطبها من أبيها، ومضى معه حتى نزلا بالشيخ، فأحسن ملقاهما فقال له: قد أتيتك خاطبًا، قال: فوق الكفاءة. وزوَّجه بها، فبنى بها من ليلته، فلما كان الغد جاء صاحبه فقال: كيف كانت ليلتك؟ وكيف وجدت صاحبتك؟ قال: أبدت لي كثيرًا مما أخفته عني قديمًا، وسألتها فأنشدت:
فبارك لهما وانصرف، فكان ينشد:
أسماء ابنة حصن
هي ابنة حصن بن حذيفة الفزارية. قد استودعها عامر بن الطفيل درعه في يوم الرقم، فأدتها إليه بعد ذلك، وذكرها في شعره الذي هجا فيه بني غطفان إذ قال:
وهي طويلة اقتصرنا على هذا المقدار. فأجابه نابغة بني ذبيان يلومه على تعريض عقائلهم في شعره فقال:
أسماء ابنة رويم
كانت من النساء العاقلات الحكيمات الأديبات الولودات، وكانت تسمي أولادها بأسماء الوحوش الضارية، قيل: إنه مر بها وائل بن ساقط، فرآها منفردة في خبائها، فهمَّ بها فقالت: والله لئن هممت بي لأدعون أسْبُعي، فقال: ما أرى سواك في الوادي، فصاحت ببنيها: يا كلب، يا ذئب، يا دب، يا سرحان، يا سبع، يا ضبع، يا نمر، فجاءوا يتعادون بالسيوف — فقال وائل: ما هذا إلا وادي السباع. فلزم هذا الاسم ذلك الوادي — وقالوا لها: ما شأنك؟ قالت: إنه نزل بنا ضيف، فأحببتُ أن تكرموه، فأكرموه إكرامًا زائدًا، وانصرف وهو يتعجب من ذريتها، ومن حضور بديهتها لتحمل العذر الذي أبدته لأولادها.
أسماء ابنة محمد بن صصرى
هي أخت قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى، كانت شيخة مسندة جليلة مباركة كثيرة البر، سمعت العلماء وحدَّثت وحجَّت مرارًا، وكانت تتلو في المصحف، وتفيد الفائدة التامة لمن يسمع منها، ومما قيل فيها:
أسماء العامرية
كانت فصيحة ظريفة أديبة لطيفة، عذبة المنطق، سلسة الألفاظ، لها أشعار رائقة، ومعانيها شائقة، وقصائد مطولة تمدح فيها خلفاء زمانها، ونثر منسجم لطيف العبارة، فمن ذلك الرسالة التي أرسلتها إلى عبد المؤمن بن علي، التي نمت إليه بنسبها العامري، وتسأله رفع الضريبة عن دارها، والاعتقال عن مالها، وفي آخرها قصيدة أولها:
ومنها:
فلما اطلع على قصيدتها ومقالها أجاب طلبها في جميع ما سألته عنه.
آسية ابنة مزاحم امرأة فرعون
كانت من خيار النساء المعدودات، تزوجت بفرعون موسى، ملك مصر، ولم تلد منه مدة حياتها معه، وكان بحبها مستهامًا، ولكلامها مطيعًا.
وكان فرعون رأى منامًا قد هاله، فأحضر الكهنة والمفسرين من أرباب دولته، وقص عليهم رؤياه، فحذروه من مولود يولد في ذاك العام، ويكون هو سببًا لخراب ملكه، فأمر فرعون بقتل كل غلام يولد في ذاك العام من بني إسرائيل، وكان في دار فرعون بستان فيه نهر كبير، فخرجت الجواري إليه ذات يوم ليغتسلن فيه، فوجدن تابوتًا فأخذنه، وظنن أن فيه مالًا، فحملنه على حالته حتى أدخلنه إلى آسية، فلما فتحته رأت فيه غلامًا، فألقى الله عليها محبة منه، فرحمته آسية وأحبته حبًّا شديدًا، فلما بلغ الذبَّاحين أن في دار الملك غلامًا استأذنوه بأن يدخلوا داره ويذبحوا الغلام تنفيذًا لأمره، فأذن لهم بذلك، فأقبلوا على آسية بشفارهم ليذبحوا الغلام، فقالت آسية للذبَّاحين: انصرفوا؛ فإن هذا ليس من بني إسرائيل، فإن أتى فرعون استوهبته منه، فإن وهبه لي كنتم أحسنتم، وإن أمركم بذبحه فلا مانع من ذلك.
ثم إنها أتت به إلى فرعون وقالت له: ليس لي ولا لك ولد، فلا تقتلوا هذا عسى أن ينفعنا، فسمح به إليها أن تربيه، فلما آمنت آسية عليه سمته موسى، وأحضرت المراضع، فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل ثديها، حتى أشفقت آسية عليه أن يمنع من اللبن فيموت، فأمرت بإخراجه إلى السوق ترجو أن يصيب امرأة يرضعوه من ثديها، إلى أن أتت أمه وأعطته ثديها فرضع منها، فانطلق البشير إلى آسية يبشرها بأنه وجد لابنها امرأة مرضعة، فأمرت بإحضارها وقالت لها: امكثي عندي لترضعي ابني هذا؛ فإني لم أحب شيئًا مثل حبه قط، فقالت لها: لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع؛ فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي، فيكون معي ولا أولي له إلا خيرًا فعلتِ، وإلا فإني غير تاركة بيتي، فأعطتها إياه، فأخذته ورجعت إلى بيتها، فلما ترعرع قالت آسية لأم موسى: أحب أن تريني ابني، فوعدتها يومًا تريها إياه فيه، فقالت لخواصها وجواريها: لا يبقى منكن أحد إلا استقبل ابني بهدية ومكرمة، فإني باعثة بأمينة تحصي ما تصنع كل قهرمانة منكن.
فلم تزل الهدايا والتحف تستقبله من وقت أن خرج من بيت أمه إلى أن دخل على آسية، فلما دخل عليها أكرمته وفرحت به وأعجبها ما رأت من حسن أثرها عليه، ثم قالت لها: انطلقي به إلى فرعون ليكرمه، فلما دخل عليه أكرمه ووضعه في حجره، فتناول الغلام لحية فرعون حتى جذبها ونتف منها بعض شعيرات، فغضب غضبًا شديدًا، وخاف منه وقال: هذا عدوي المطلوب، فأرسل الذباحين ليذبحوه، فبلغ ذلك آسية، فجاءت تسعى إلى فرعون وقالت له: ما بدا لك في هذا الصبي الذي وهبته لي؟ فأخبرها بما فعل، فقالت له: إنما هو صبي لا يعقل، وإنما صنع هذا من صباه، وأنا أجعل فيه بيني وبينك أمرًا نعرف به الحق، وأضع له حليًّا من الذهب والياقوت، وأضع له جمرًا؛ فإن أخذ الياقوت فهو يعقل فاذبحه، وإن أخذ الجمر علمت أنه صبي، ثم وضعت له طشتًا فيه الياقوت، وطشتًا آخر فيه الجمر، فمد الغلام يده إلى الجوهر ليقبض عليه، فزاغت عينه إلى الجمر فقبض على جمرة ووضعها في فمه، فجاءت على لسانه فأحرقته، فقالت له آسية: ألا ترى إلى فعله، وأنه صبي لا يعقل، فكفَّ عن قتله.
وكانت يومًا متطلعة من كوة في قصر فرعون إذ نظرت إلى الماشطة امرأة «حزقيل» تُعذب وتُقتل، فبينما هي كذلك إذ دخل عليها فرعون وجعل يخبرها بخبر الماشطة امرأة «حزقيل» وما صنع بها، فقالت آسية: الويل لك يا فرعون، فقال لها: لعلك قد اعتراك الجنون الذي اعترى صاحبتك، فقالت: ما اعتراني جنون، ولكني آمنت بالله ربي وربك ورب العالمين، فدعا فرعون أمها وقال لها: إن ابنتك قد أخذها الجنون الذي أخذ الماشطة، ثم إنه أقسم لتذوقن الموت أو لتكفرن بإلهها، فخلت بها أمها وسألتها موافقة فرعون فيما أراد، فأبت وقالت: تريدين أن أكفر بالله؟ فلا والله ما أفعل ذلك أبدًا، فأمر بها فرعون فمُدَّت بين أربعة أوتاد، ثم ما زالت تُعذب حتى ماتت ولسانها لا يفتر عن ذكر الله وهي تقول: رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ (التحريم: ١١). رحمها الله رحمة واسعة.
اعتماد زوجة المعتمد بن عباد
هي أم أولاده، وتشتهر بالرميكية، وسبب اتصالها بالمعتمد هو — كما قيل — أن المعتمد ركب في النهر ومعه ابن عمار وزيره وقد زردت الريح النهر، فقال ابن عباد لوزيره: أجِزْ:
فأطال الوزير الفكرة، فقالت امرأة من الموجودات على ضفة النهر:
فتعجب ابن عباد من حسن ما أتت به مع عجز ابن عمار، ونظر إليها فإذا هي غاية في الحسن والجمال، فأعجبته، فسألها: أذات بعل أنت؟ قالت: لا. فتزوجها وولدت له أولاده الملوك النجباء.
ولما قال الوزير ابن عمار قصيدته اللامية الشهيرة في المعتمد والرميكية؛ أغرت المعتمد به حتى قتله، والقصيدة أولها:
ويومين في قرية بإشبيلية كانت منها أولية بني عباد، ومنها:
ولما خُلع المعتمد وسُجن بأغمات قالت له:
فقال:
أغسطينا عذراء سرقسطة
عذراء توفيت في «كوتا» من إسبانيا في شهر حزيران سنة ١٨٥٧م، بعد أن طعنت في السن، كانت في صباها تبيع مشروبات في «سرقسطة»، فلما حاصر الفرنسيون المدينة المذكورة سنة ١٨٠٨م وسنة ١٨٠٩م، اشتركت في المدافعة، واشتهرت بما بدا منها من الشجاعة، ولقبت ﺑ «لرتيلبارا»، ومعناه طوبجية؛ لأنها نزعت فتيلة من لبرطوبجي كان في حالة النزع، وأطلقت المدافع على المُحاصِرين، ومكافأة لها على خدمتها في وقت الحصار وجهت إليها قيادة فرقة من العساكر الإسبانيولية مع عدة نياشين، واستمرت في القتال حتى حازت النصر مرارًا بفرقتها على الفرنساويين.
أفروسيني القديسة
ولدت بالإسكندرية لنحو سنة ٤١٣ للميلاد، وكان أبوها من الأغنياء، وتربت هي على العبادة والتقوى، ونذرت نفسها للبتولية، وأنها لا تقبل زوجًا لها أيًّا كان، فلما بلغت مبلغ النساء أراد أبوها أن يزوجها بأحد أقربائها، فلما أيقنت ذلك لبست ثوب رجل وفرت من بيت أبيها، ولجأت إلى أحد النُّسَّاك، ثم مضت إلى أحد الأديرة وسمت نفسها «زمرد»، فقبلها الرهبان ولم يعرفوا أمرها، فأخذ أبوها يبحث عنها حتى جاء الدير وأخبر الرئيس بالخبر وهي حاضرة تسمع بدون أن يعرفها أبوها ولا الرئيس، فكانت تخاف أن تُعرف، وعلى الخصوص أن أباها تردد كثيرًا إلى ذلك الدير، وكان يشكو للرئيس أمره، واستمرت على هذه الحالة ١٨ سنة، وقيل: ٣٠ سنة، وهي ملازمة للصلاة والصوم والتقشفات والعبادة الحارة، حتى مرضت وعرفت أن أجلها قد اقترب، فدعت والدها وكشفت له أمرها، وتوسلت إليه أن يفرح بذلك، ثم توفيت.
أفروسيني إمبراطورة الشرق
هي امرأة «ألكسيس الثالث» الملقب «أنجلوس» — أي الملاك — ودبَّرت على وضعه على تخت الملك عوضًا عن أخيه إسحاق «أنجلوس» سنة ١١٩٥م، غير أنها هي التي ملكت بالحقيقة، وكانت موصوفة بجودة العقل والشجاعة والفصاحة، غير أنها كانت متكبرة، وسيرتها غير مرضية، فعلم بذلك «ألكسيس» سنة ١١٧٨م، وخشي حدوث فتنة شديدة فطردت «أفروسيني» من البلاط وحُبِست في دير. وسنة ١١٨٤م، استدعاها الإمبراطور إلى البلاط، غير أنها لم تهنأ بالملك ثانيةً من جراء ثورة «ألكسيس» الملقب بالشباب، وهو ابن أخي «ألكسيس» الإمبراطور؛ فإنه ثار على الإمبراطور بعد خذلانه في حرب البلغاريين، واستنجد الجيوش الصليبية فأتت لمساعدته. ولما استولى الفرنساويون في الحرب الصليبية الخامسة على القسطنطينية هربت «أفروسيني» وطافت مدة مع زوجها في آسيا، ثم قُبض على زوجها وحُبس، فبقيت منفردة من سنة ١٢١٠م إلى أن توفيت سنة ١٢١٥م.
أفذوكسيا زوجة الإمبراطور أركاريوس
«أثليا» ابنة الكونت «بوثون» الفرنجي، قائد «بتودسيوس الكبير»، زوَّجها «أطروبيوس» الخرجبي بالإمبراطور «أركاديوس»، وباسم «أركاديوس» ملَك كلاهما. ولما سقط «أطروبيوس» من الملك حكمت «أفذوكسيا» بالقسط بين الناس، ولم تقبل رشوة البتة كعادة ملوك ذلك الزمان. ولما نفت القديس «يوحنا فم الذهب» سنة ٤٠٣م لأنه وعظ عن زينة النساء، وأبطل زهوهن، وشغَّب عليها الشعب، فاستدعته بعد أشهرٍ ثم نفته سنة ٤٠٤م؛ لأنه وبَّخ الشعب بقوة على ما حدث من الأمور غير اللائقة عند نُصب تمثال «أفذوكسيا»، ثم توفيت «أفذوكسيا» وكانت قد ولدت ﻟ «أركاديوس» «تيورسيوس الثاني».
أفذوكسيا ابنة الفيلسوف ليونكيوس اليوناني
امرأة «تيودسيوس الثاني»، كان اسمها قبل أن تعمدت وتزوجت «أثيناس»، وكان أبوها قد علَّمها العلوم الفلسفية والمعارف والآداب، وكانت فوق ذلك بديعة الجمال، ولما رآها أبوها في درجةٍ عالية من حسن العقل والجد حرمها من ميراثه؛ لعلمه بكفايتها في تحصيل أكثر مما يلزمها، فتوجهت إلى القسطنطينية تطلب حقها من الإمبراطور «بلكيريوس»، فعجب من علمها وحسن تصرفها، وزوَّجها بأخيه «تيودوسيوس» سنة ٤٢١م، فلم تهمل العلوم، واشتهرت بها ونشَّطتها، فازدحمت على بابها أقدام العلماء، وأحبها واحد منهم يقال له: «يولنبوس»، فقتله «تيودوسيوس» غيرة؛ إذ رأى كثرة اتصاله بها، وأسقط منزلة «أفذوكسيا»، فطلبت الرحيل إلى بيت المقدس، فأذن لها، وأتبعها الملك بالرُّقباء، وأمر والي أورشليم بقتل «خوري» و«شماس» كانا يترددان إليها، فغضبت «أفذوكسيا» وقتلت الوالي، فنزع عنها الملكُ كلَّ شرفٍ واستحقاقٍ ملكي.
وكانت «أفذوكسيا» قد تبعت رأي «أوطنجا»، غير أنها ارتدت بإرشادات القديس «أفتيموس».
وتوفيت بأورشليم سنة ٤٦٠م بعد أن برأت نفسها بالأقسام من التهم التي اتهمها بها الإمبراطور. وكانت قد أسست أديرة وكنائس، وألفت عدة تآليف. وكتَب سيرة حياتها «فليفور» المؤرخ الشهير.
أفذوكسيا أنفثاث زوجة فالنتيانوس
كانت «أفذوكسيا» امرأة «تيودوسيوس»، وتلقب بالفتاة، ولدت في القسنطينية سنة ٤٢٢م، ولما قُتل زوجها كان شخص يدعى «مكسيميوس» شريكًا في قتله، وهي لم تعلم ذلك، فتزوجته وزوجت ابنتها بابنه، لكنها لما علمت الأمر من نفس «مكسيميوس»، استدعت إلى إيطاليا «جنسريك»، ملك القندالة، فاكتسح رومية وأبقى «أفذوكسيا» عنده سبع سنين، ثم رجعت إلى القسطنطينية سنة ٤٦٢م، وأكملت حياتها بالرياضات والعبادة.
أفذوكسيا زوجة الإمبراطور قسطنطين دوكاس
دعت لنفسها بالملك بعد وفاة زوجها سنة ١٠٦٧م؛ لتثبت لأولادها حق الملك، وأراد بعض كبراء الدولة أن يخلعها من السلطنة، فحكمت بقتله، غير أنها لما رأته خلب لبَّها بجماله غضَّت عنه، وجعلته قائد جيوش المشرق، ثم تزوجته سنة ١٠٦٨م، بعد أن احتالت على البطريرك «كسيفينوس» وأخذت منه صكًّا كانت قد تعهدت فيه لزوجها الأول أنها لا تتزوج بعد موته طول حياتها، ولما تولى الإمبراطورية ابنها «ميخائيل»، بعد ثلاث سنين من زواجها، حبسها في دير. وكانت «أفذوكسيا» قد تضلعت من العلوم، وألفت تآليف معتبرة، منها تآليف في نسب المعبودات والأبطال من رجال ونساء، وهو كتاب لطيف جدًّا، وكتاب في تعليم النساء، وكتاب في شغل الأميرات، وكتاب في عيشة الرهبانية، إلى غير ذلك من الكتب العلمية والتاريخية التي خلدت لها ذكرًا في بطون الأوراق.
أفذوكسيا لابوشين إمبراطورة روسيا
هي أول امرأة لبطرس الأكبر وأم «ألكسيس» — المنكود الحظ. اتهمها زوجها بمواصلة رجل من الأشراف اسمه «كلبو»، وهجرها ثم نفاها إلى دير بالقرب من بحيرة «لادوغا»، وأما «كلبو» فحكم عليه بالموت تحت العذاب الشديد، ومع ذلك لم ينطق إلا ببراءة «أفذوكسيا»، ثم استرجع الإمبراطور امرأته، وماتت بعد ذلك بقليل.
أكتافيا شقيقة الإمبراطور أوغسطوس
زوجة «مرقس أنطونيوس». توفيت سنة ١١ قبل الميلاد، تزوجت أولًا ﺑ «كلوريوس مرشلوس»، وكان «يوليوس قيصر» يرغب في فصلها عنه ليزوجها ﺑ «بمباي»، إلا أن «بمباي» أبى ذلك، فبقيت مع زوجها. ولما توفي سنة ٤١ قبل الميلاد تزوجها «مرقس أنطونيوس»، فتمكن بذلك الاتحاد بينه وبين «أكتافيوس»، وصحبت زوجها الجديد في حروبه بالشرق، وبواسطتها زال ما كان بينه وبين أخيها من الخلاف سنة ٣٧ قبل الميلاد.
ثم سار «مرقس أنطونيوس» لمحاربة البرثيين، فشغف بحب «كليوباترا»، ولما أتت «أكتافيا» إلى بلاد الشرق سنة ٣٥ قبل الميلاد بنجدات ومهمات ونقود لزوجها، قَبِل ما أتته به، ولكنه أبى مقابلتها، فرجعت إلى إيطاليا ولم ترغب قط في مقابلة زوجها، بل أقامت في بيته، وكانت تربي أولاده، إلا أن أخاها «أوغسطوس» ساءه ذلك، وعزم على الأخذ بالثأر، فشهر الحرب على «أنطونيوس» وكسره في موقعة «أكتيوم» المشهورة، غير أن «مرقس» بعث إلى «أكتافيا» بكتاب الطلاق سنة ٣٢ قبل الميلاد، فانتقلت إلى بيت أخيها «أوغسطوس». وبعد وفاة زوجها المذكور جعلت أولاده من «فولفيا» و«كليوباترا» مع أولادها، فكانت تربيهم تربية واحدة من دون فرق بينهم، وكان لها خمسة أولاد: ثلاثة من «مرشلوس»، وابنتان من «مرقس أنطونيوس» اسم كل منهما «أنطونيا»، إحداهما تزوجت ﺑ «دوميتيوس أهينو بريوس دتيرون»، الذين جلسوا على تخت الإمبراطورية الرومانية، وماتت «أكتافيا» حزنًا على ابنها «مرشلوس» الذي ولد لها من زوجها الأول؛ فإنه توفي في عنفوان شبابه، بعد أن كان «أوغسطوس» قد زوَّجه ابنته «جوليا» وعيَّنه وارثًا له في الإمبراطورية.
وكانت «أكتافيا» على جانبٍ عظيم من التهذيب، وحسن الأخلاق، وجودة العقل، وسعة المعارف. وقد أجمع أهل زمانها على أنها كانت أجمل من «كليوباترا».
أكتافيا ابنة الإمبراطور كلوريوس
من زوجته «مسالينا»، خطبها «لوسيوس سيلاتوس» حفيد «أوغسطوس»، إلا أن أمها أبطلت تلك الخطبة وزوَّجتها بابنها «نيرون» من زوجها «دوميتيوس أهينو بريوس»، فطلقها لما جلس على تخت الملك مُدَّعيًا أنها عاقر، وتزوج ﺑ «بوبيا»، وبعد ذلك نفاها إلى «أكميانيا»؛ لأن «بوبيا» اتهمتها بعشق عبد مصري شاب اسمه «أوساروس» كان يحسن الغناء بالمزمار، فاضطرب الشعب لذلك، وساءهم هذا الظلم جدًّا، فاضطر إلى أن يطفئ غيظهم «نيرون»، فاستدعى «أكتافيا» إلى رومية، فقابلها الشعب بإكرام وسرور لا مزيد عليهما، وكسروا تمثال «بوبيا»، فعزمت هذه على الانتقام، وحرمت «نيرون» بتذمرها لذيذ المنام، فأمر «أنبسيت» قاتل أمه أن يُصرِّح أنه ضاجع «أكتافيا»، فنفاها إلى جزيرة «بنداثاريا»، وهناك قُطعت عروقها لقتلها بنزف دمها، فمنعت الرعية جريان الدم، فخُنقت ببخار حمام حارٍّ، وأُرسِل رأسها إلى «بوبيا» سنة ٦٢ للميلاد، وكان لها من العمر حينئذٍ ٢٠ سنة فقط.
أليصابات زوجة زكريا
هي أم القديس «يوحنا المعمدان»، وقد ولدته في شيخوختها بعد أن كانت عاقرًا، وكان أبوها من نسل «هارون»، وأمها من سبط «يهوذا»؛ ولذلك كانت من ذوات قرابة السيدة مريم العذراء، وقد زارتها السيدة المذكورة في حبرون «الخليل» في أيام حملها، وذهب القديس «بطرس الإسكندري» إلى أنها تركت تلك المدينة عندما قتل «هيرودس» الأطفال، والتجأت مع ولدها إلى كهف في جبال «يهوذا»، فماتت هناك بعد أربعين يومًا من دخولها الكهف المذكور، وتركت القديس «يوحنا» وحده من دون معين، فأقام على هذا الحال مدة طويلة. وقد أطنب المؤرخون في تعداد فضائلها ووصف تقواها.
أليصابات ابنة هنري الثامن، ملكة إنكلترا
ولدت ﻟ «هنري» من زوجته «حنة بولين»، وآخر من ملك من بيت «تودور». ولدت سنة ١٥٣٣م، وتوفيت سنة ١٦٠٣م. جُعلت ولية للعهد حال ولادتها، وذلك بموجب قرار صدر من المجلس العالي، وبه حرمت أختها «ماري» ابنة «كاترينا» الأراغونية من الملك، مع أنها كانت أكبر منها بسبع عشرة سنة.
وفي السنة الثالثة من عمرها حدث ما أفضى إلى قتل أمها، فصرح بأنها ابنة غير شرعية، وتبدل ما كان لها من الاعتبار بالاحتقار، وتعلمت «أليصابات» اللغات اللاتينية والفرنساوية والإيطالية والإسبانيولية والفلمنكية، وترجمت مؤلفًا من اللغة الإيطاليانية إلى الإنكليزية، وجعلته تقدمة لرابتها، غير أنها كانت تفضل التاريخ على ما سواه من العلوم، وشاركت أخاها في الدروس التي ألقاها عليه رجل من أوفر أهل إنكلترا علمًا، وأوسعهم معرفة.
ولما توفي «هنري الثامن» في سنة ١٥٤٧م، أوصى بالملك من بعده لابنته «ماري» وﻟ «أليصابات»، وعين ﻟ «أليصابات» مرتبًا وافرًا، وكان الناس حينئذ يحسبونها مُناظِرةً لأختها «ماري»، ورئيسة للحزب البروتستانتي، كما كانت «ماري» رئيسة للحزب الكاثوليكي.
وسنة ١٥٥٤م، تزوجت «ماري» ﺑ «فيليب الثاني»، ملك إسبانيا، وأمست تُؤمِّل أن ترزق منه ولدًا يرث الملك من بعدها، وكان «فيليب» يعامل «أليصابات» باللطف، ويظهر لها الوداد، وتمكنت الصداقة والمحبة بين الأختين في الأشهر الأخيرة من حياة «ماري»، ولما توفيت ماري سنة ١٥٥٨م، خلفتها «أليصابات» على تخت الملك من دون ممانع، وبعد ستة أشهر من جلوسها على التخت أبطلت الصلوات الكاثوليكية من كنيستها الخصوصية، وأبت في أول الأمر أن تلقب برئيسة الكنيسة البروتستانتية، وسمت نفسها والية لها، إلا أنها أنفذت فيها سلطتها أخيرًا، ولم يكن لها معارض فيما تفعله.
وكان القوم في فرنسا يدعون ﻟ «ماري ستوارت»، ملكة سكوتلندا، بحق التملك على إنكلترا. وكانت هذه الدعوى من شأنها أن تأتي بنتائج رديئة وتسوق إلى الحرب، وأخذت «أليصابات» تتداخل في أمور سكوتلاندا، ونجح الحزب البروتستانتي فيها بمساعدتها. وحاول البابا «بيوس الرابع» أن يرد الملكة إلى الدين الكاثوليكي، فحبط سعيه، وأرجعت قيمة المسكوكات الإنكليزية إلى ما كانت عليه سنة ١٥٦٠م، فنشأ عن ذلك الإصلاح خير عظيم، ونجاح للبلاد، وأرسلت إلى الهوغنو الفرنساويين أمدادًا من المال والسلاح والرجال، وأمدت أيضًا بروتستانت الفلمنك سرًّا، ولما طلبت «ماري»، ملكة سكوتلاندا، أن يُسمح لها أن تنطلق بأمان من فرنسا إلى سكوتلاندا لم تجبها «أليصابات» إلى طلبها، ويقال: إنها حاولت إلقاء القبض عليها.
وسنة ١٥٦٣م، طلب إليها المجلس العالي أن تتزوج؛ لأن مسألة إرث الملك مما يهم رعاياها، وخطبها كثيرون من إنكلترا والبلدان الأجنبية، وكان من أعظم الإنكليز الذين رغبوا في الاقتران بها «هنري فتزالان»، ثامن عشر أرلات أرندل وآخرهم، وطلب إليها أيضًا أن تعترف ﺑ «ماري ستوارت» ولية للعهد، فأبتْ ولم تبرم المسألة، وخطبها «شارل التاسع»، ملك فرنسا، فلم تجبه إلى سؤاله. ومن جملة الذين رغبوا في الاقتران الأرشيدوق «كارلوس»، ابن إمبراطور ألمانيا، وكانت مَحبةُ الأرشيدوق تنمو يومًا فيومًا في قلبها، وكان الناس ينتظرون يومًا فيومًا اقتران الملكة بحبيبها.
وساء «أليصابات» تزوج «دارنلي» ﺑ «ماري ستوارت»، وتكدر الإنكليز عمومًا من ولادة ولد لهما؛ لأن ذلك دل على أن المُلك سينتقل فيما بعدُ إلى كاثوليكي. وفي تلك الأثناء حدثت قلاقل داخلية جديدة، واشتدت المصاعب الخارجية على الدولة؛ لأن قبول المضطهدين الفارين من الفلمنك في إنكلترا وتأمينهم على أرواحهم ساء إسبانيا، فأهينت الراية الإنكليزية في خليج مكسيكو، وكذلك سفيرها في مدريد، فاستولت الملكة على مال لإسبانيا وجدته في سفن إسبانيولية التجأت إلى مرافئ إنكلترا. ولما حجز الفلمنكيون أملاك الإنكليز في الفلمنك وسجن أصحابها، ألقت القبض على كل الإسبانيول المقيمين في إنكلترا، وعلى سفير دولتهم أيضًا، وخاطبت فيليب الثاني في ذلك رأسًا، فأجابها بكبرياء وتهددها بالحرب. وكان دوق «نرفلك» قد انحاز إلى «ماري ستوارت» وتعلق بها، فحذرته «أليصابات» من ذلك، ثم ألقت عليه القبض وسجنته.
وسنة ١٥٦٩م، حدثت الثورة الشمالية العظيمة تحت رياسة «أرلي» و«ستمورلاند» و«نورثمبرلاند» الكاثوليكيين، فأخمدها «أرل سكس» في الحال، وقتل ٨٠٠ من العصاة.
وسنة ١٥٧٠م، حرم البابا «بيوس الخامس» الملكة «أليصابات»، وعلق رجلٌ من الكاثوليك — اسمه «فلتون» — نسخة من الحرم على باب قصر الأسقفية في لندن، فقبض عليه وقتل صبرًا، وبعد أن حبط مسعى القوم في عقد الزواج بينها وبين الأرشيدوق «كارلوس»، عرض عليها أن تتزوج بدوق «أنجو»، الذي صار فيما بعد ملكًا لفرنسا، وسمي «هنري الثالث»، وكان آخر رجل من بيت. قالوا: فلما ألقيت المسألة على ديوان المشورة قال بعض الأعضاء: إن الدوق لا يلائم الملكة؛ لأنه أصغر منها سنًّا — وكان عمره ٢٠ سنة وعمرها ٣٧ سنة — فأغضبها ذلك جدًّا.
ويستدل من هذه الحادثة وما أشبهها أنها لم تكن تراعي جانب الخلوص في مثل هذه الأمور، وأنها كانت تغتاظ غيظًا شديدًا عندما ترى أحدًا من خاطبيها يتزوج بغيرها، بعد أن ييأس منها، وجعلت «سسيل» لورد «بورليغ» وزيرًا لها، ووجهت إليه نظارة الخزينة، وإلى السير «توماس سميث» مستشارية الدولة، وحصل ﻟ «هاتون» أهمية كبرى؛ لأن الملكة أحبته كثيرًا لكمال صفاته وجماله، واتهمها الناس أنها تعشقه، وحبًّا بنفعه نزعت من أسقف لها كثيرًا من الأوقاف وبعثت إليه برسالة في ثلاثة أسطر غاية في الخشونة.
وفي أثناء الكلام عن اقترانها بدوق «أنجو»، عرضت عليها أمه أن تزوجها بأخيه «ألنسون»، وكان أصغر منه باثنتين وعشرين سنة، قبيح الخَلق والخُلق، ثم انقطعت المراسلات بين «أليصابات» و«أنجو»، فطلب إليها الإمبراطور «مكسيميليان الثاني» أن تتخذ ابنه «رودلف» بعلًا لها، مع أنها كانت في العمر أكبر من أمه، وعرض عليها أيضًا «هنري دي نوارة»، إلا أن قلبها كان لم يزل متعلقًا بدوق «أنجو»، وأظهرت أنها عدلت عنه لأسباب دينية. وحاول «فيليب الثاني» أن يقتلها فواطأ على ذلك كلًّا من «نرفلك» و«ماري ستوارت»، فكُشفت المؤامرة وقُتل «نرفلك» و«ماري ستوارت»، ثم استؤنف الكلام عن اقترانها ﺑ «ألنسون» أخي دوق «أنجو»، وأصدر المجلس العالي قرارًا بقتل «ماري ستوارت»، فلم تسلم «أليصابات» بذلك. وفي تلك الأثناء حدثت ملحمة «سنت برثلماوس» سنة ١٥٧٢م، فاشتد غيظ الإنكليز وهاجوا على «ماري» وطلبوا قتلها، فلم تجبهم «أليصابات» إلى ذلك رأسًا، بل قبلت بتسليمها إلى السكوتلانديين الذين كان الإنكليز يعتقدون أنهم يقتلونها حالما يقبضون عليها.
وسنة ١٥٧٥م، طلب الهولنديون إلى «أليصابات» أن تملك عليهم؛ لأنهم كانوا يعتبرونها من نسل «فيليبادوهينو»، فلم تجبهم إلى ذلك ولا ساعدتهم، ولكنها قبلت سنة ١٥٧٨م أن تمدهم بالمال والرجال، واشترطت عليهم شروطًا يمكنها بها أن تسترجع ما تنفقه عليهم، وحدث في أيرلندا ما أتعبها وأقلقها. وكان الأيرلنديون يسمون الحرب التي أقامها اللورد «منتجوى» هناك: حرب الساحرة؛ استهزاء بالملكة. وتكاثرت المؤامرات حولها، وكان محورها «ماري ستوارت»، وكان لليسوعيين يد قوية فيها، وثبتت مداخلة «مندوزا»، سفير إسبانيا، في إحداها، فأُكرِه على الخروج من إنكلترا وقُتل، وسجن كثيرون من المتآمرين.
أما «فيليب هورد أرل أرندل» وابن دوق «نرفلك»، فحُكم عليه بالقتل، وبعد أن حبس مدة طويلة مات في السجن، وألف «ليستر» جمعية لوقاية الملكة ممن سماهم بالمتآمرين الثانويين، وأثبت المجلس العالي ذلك بقرار أصدره، وعزم على قتل «ماري ستوارت»؛ إذ سعت في قتل «أليصابات»، ثم كشفت مؤامرة تحت رياسة «أنثوني بابنفتون» كان في نيتها قتل الملكة وإخلاء سبيل «ماري»، فعاد ذلك بالويل على «ماري» بدلًا من أن تجر منه نفعًا، فجرت محاكمتها، واختلف القضاة في ذلك اختلافًا عظيمًا، غير أنه حكم عليها بالاشتراك في المؤامرة، وقُتلت في «فونرنفاي» في ٨ شباط (فبراير) سنة ١٥٨٧م، فحزنت عليها «أليصابات» ظاهرًا حزنًا شديدًا. وقد تقرر فيما بعدُ واتضح جليًّا أن توقيعها على الحكم الصادر بقتل «ماري» كان محض تزوير.
ومما لا ريب فيه أنها أُرسلت إلى قلعة «فونرنفاي» من دون علمها ولا أمرها، وكانت أحوال فرنسا مما لا يوجب الخوف من هذا القبيل، إلا أن البابا وملك إسبانيا كانا من أعداء «أليصابات» الألداء يرغبان في تنكيلها وقهرها، فحرمها البابا «سكستوس الخامس»، وشهر عليها حربًا صليبية، وادَّعى «فيليب الثاني» بتاج الملك، وبنَى دعواه على أنه وارث شرعي لبيت «لانكستر»، لكونه من سلالة ابنتي «جون أف غونت» اللتين ملكتا «برتغال» و«قسطيلة»، وتجهز جهارًا للحصول على مطالبه، ووعده البابا بمساعدات كثيرة شرطية.
وفي تلك الأثناء، أغار «دراك» على سواحل إسبانيا، فعاث فيها ونهب سفنها، وهجم على ميناء «قادس»، فألحق بسفنها ضررًا كبيرًا، وتهيَّأ الإنكليز بسرعة لملاقاة عسكر «فيليب»، فنزعوا الشقاق من بينهم، واتحد الكاثوليك والبيورتيانة وباقي الشعب فكانوا يدًا واحدة، وجهزوا أسطولًا مؤلفًا من ١٨٠ سفينة تحت قيادة اللورد «هورد أف أفنغام»، وقيادة «دراك» و«فروبيشر» و«هوكنس»، وجمعوا جيشين مؤلفين من ٦٠ ألف مقاتل.
أما الأسطول الإسبانيولي فسار من إسبانيا في ٢٩ أيار (مارس) سنة ١٥٨٨م لغزو إنكلترا، ولكن هبت زوبعة شديدة أكرهته على الرجوع، ولم يلتق الأسطولان إلا في شهر تموز (يوليو)، فتقاتلا قرب ساحل إنكلترا، وبعد أن استمرت الحرب بينهما سجالًا مدة سبعة أيام انكسر الإسبانيون وتبدد شملهم.
وسنة ١٥٨٩م، أرسلت «أليصابات» جيشًا لتخليص البرتغال من أيدي الإسبانيول، فصادف فشلًا مع أنه خرج من البحر، ووصل إلى ضواحي «لبسبون»، وأمدت «هنري الرابع» ملك فرنسا بالمال والرجال؛ لأنه كان يحارب إسبانيا والاتحاد المشهور بين سنة ١٥٩٠م، وسنة ١٥٩١م. وسنة ١٥٩٣م، التأم المجلس العالي، وبعد مشاحة جرت له مع الملكة خضَع لها، وساء «أليصابات» عزم «هنري الرابع» على ترك المذهب البروتستانتي، وكُشفت مؤامرة عقدها جماعة أرادوا أن يدسوا إليها السم في شراب أو غيره، وقتلت «رودريا» «غولوبس» — وهو بهوري إسبانيولي الأصل كان في خدمتها عدة سنين — وذلك لاشتراكه في تلك المؤامرة. وفي ذلك الوقت عمت الاضطهادات الدينية إنكلترا كلها، وقتل كثيرون من وجوه البيورتيانة، وكانت الحرب مع إسبانيا جارية على قدمٍ وساق.
وسنة ١٥٩٦م، فتح «قادس» أسطول وجيش إنكليزيان تحت قيادة «هورد أف أفنغام» و«أسكس». وكان «أسكس» حينئذٍ أكثر أهل إنكلترا نفوذًا وسطوة، إلا أنه لقصر عقله وسوء تدبيره لم يعد عليه مركزه ولا اعتبار الملكة له بأقل نفع، وكثرت الدسائس في البلاط الملكي، فأمسى «أسكس» — وهو أكرم رجال الدولة وأقلهم درايةً — آلةً في أيدي أهل الغايات والمطامع، وأرسل «أسكس» لمحاصرة الإسبانيين في بلادهم. وفي الأقيانوس الأتلنتيكي: أن «فيليب الثاني» حاول أن يجعل ابنته ملكة لإنكلترا، فلم يفعل شيئًا، فأغضب ذلك الملكة، ولكن لم تلبث أن رضيت عنه، وتمكن من مقاومة «بورليغ» ومضادته إلى أن عرف «بورليغ» المذكور أن بينه وبين ملك سكوتلاندا مراسلة.
ولما عزم «هنري الرابع» على عقد الصلح مع إسبانيا، ورأى أن ذلك مما يغيظ «أليصابات»، عرض على إنكلترا وإسبانيا عقد الصلح، وتوسط الخلاف بينهم، فصادق «بورليغ» على ذلك وخالفه «أسكس»، وفي مجلس من الوزراء عقدته الملكة للنظر في مصالح أيرلندا، حوَّل «أسكس» قفاه للملكة باستخفافٍ، فصفعته وقالت له: اذهب، لا سلَّمك الله. فأغلظ لها «إرل أسكس» الكلام، وهاج وماج وخرج من المجلس، وبينما كان قوم يحاولون مصالحتهما توفي «بورليغ» في ٤ آب (أغسطس) سنة ١٥٩٨م.
وبعد ذلك بستة أسابيع توفي «فيليب الثاني»، فرجع «أسكس» إلى البلاط الملكي، وبعد مدة وجيزة انتخب لوردًا واليًا ﻟ «أيرلندا»، وكانت تلك البلاد حينئذٍ في حال تعيسة، ولم يُوجَّه إليه ذلك المنصب عن حبٍّ، بل عن غيظ، وسعَى له فيه أعداؤه المدبرون على هلاكه، وكان هو من أهل السياسة الدولية لا من المضطلعين بسياسة الأهالي، ومن أهل الشرف لا من رجال الحرب، فحبطت مساعيه في «أيرلندا»، فرجع منها من دون إذن، وسلك طريق التهور والشطط، فكان كالباحث على حتفه بظلفه، فسيق إلى دكة المجرمين، فقُتل عليها سنة ١٦٠١م.
وأمسى السير «روبرت سسيل بن بورليغ» أكثر وزراء «أليصابات» نفوذًا، وكان بينه وبين ملك سكوتلاندا مراسلة، وطلبت الملكة أن «هنري الرابع» ملك فرنسا يزورها في «دوفر»؛ لأنه كان في «كالي»، إلا أنه أرسل إليها سفيره «مسيو دي روسني»، فقابلته، ودار بينهما حديث مهم، فإنها تكلمت في أول الأمر عن ملك سكوتلاندا، وقالت له: إنه سيخلفها في الملك ويصير ملكًا لبريطانيا العظمى كلها. وهي أول من لقب بهذا اللقب. ثم أرسل إليها «هنري الرابع» سفارة أخرى، فأحسنت ملتقاها. وكان آخر اجتماعات المجلس العالي في أيامها في شهر تشرين الأول (أكتوبر) سنة ١٦٠١م، فقاومت الامتيازات الجائزة التي كانت قد منحتها قبلًا مقاومة شديدة، ولكن إذ رأت أن مقاومتها له لا تجدي نفعًا عدَلت عنها بوجه لا يُمس فيه شرفها.
وفي أوائل سنة ١٦٠٣م، ورد عليها تشكيات شتى، فاعتلت لذلك صحتها، إلا أن سبب موتها هو أنه أصابها نزل في «رشتمند» فتوفيت فيها، ودفنت في ٢٨ نيسان هذا. وإن الحوادث التي جرت في عهدها هي من أهم الحوادث التي جرت في إنكلترا، والعصر اﻟ «أليصاباتي» في التاريخ الإنكليزي هو من أزهى الأعصر وأزهرها، وقد جعل له رجال السياسة والحرب والفلاسفة الكثيرون الذين نبغوا فيه عن غيرهم من أهل الحذق والدراية مقامًا في تاريخ العالم لم يتجاوزه عصر البتة، والحوادث المهمة التي جرت في حياة «أليصابات» مقررة ثابتة لا يتدافع فيها اثنان. أما أوصافها فقد اختلف فيها المؤرخون.
إن مركزها من أول الأمر كان متعبًا جدًّا، وتعلقها ﺑ «لبستر» تعلق مشئوم أو غير مُرتَّب جعَلها تكره الزواج، وما حل بها من اليأس زاد أطوارها غرابة، ولم تتحزب للإصلاح عن طيب خاطر، بل ظروف زمانها حكمت عليها بذلك، فاضطرتها إلى وقاية الأراتقة والعصاة، مع أنه لم يكن لها صالح في مقاصدهم، ولا كانت تؤمن بتعاليمهم. وكانت تشعر بالضرورة حال خضوعها لها، وما بدا منها من التردد نشأ عن حملها رغمًا عنها على سلوك طريق تكره المسير فيه، وكانت حاذقة جدًّا تدرك دقائق الأمور، إلا أنها لم تكن تهتم كثيرًا بالأمور الخطيرة. وكانت خالية عن الانفعالات النفسية التي تجعل للطبع البشري قوة وثباتًا، غير أنه كان لها صفة أدبية سامية جدًّا، وهي الشجاعة، فاستمرت ثلاثين سنة عاكفة على قتل الناس، ولم يلحق بعقلها من جراء ذلك خلل، ولا هالها أمر القساوة، وكانت تحتقر التنعم والحلم في غير موضعهما، وتحب البساطة في المعيشة، وتقوم بأشغالٍ صعبة، وتسلك مسلك الاقتصاد في بيتها، ومع أن غرورها لم يقف عند حدِّ لم يحلُ لها التملُّق البتة.
وكانت إذا سمعت غيرها يتكلم بالكذب لا تنفر منه؛ ولذلك هان عليها ارتكاب الكذب، وكانت كثيرة الدهاء والحيل، لا تلوح عليها البساطة إلا عندما تخاتل وتخادع، وكانت إذا وعدت بشرفها تنسى ما وعدت به، فضلًا عن أنه لم يظهر منها البتة ما يدل على أنها تفهم معنى الشرف، ولاغترارها بدرايتها وفهمها كانت لا تقوم بتغيرات يسددها إليها «بورليغ» من دون أن تلحق ضررًا بالمملكة وبنفسها معًا، ولم تعدل عن مقاومة أو مضادة إلا بعد وقوعها في المشاكل، وكانت حذاقة «بورليغ» المذكور وحذاقة «ولسنفهام» مما لا تكاد تكفي لتخليصهما منها. والنتائج العظيمة التي حصلت عليها إنكلترا في أيامها لم تنشأ عن سياستها، بل عن سياسة رجالها، التي كان من رأيها أن تضعفها وتوهنها، مع أن الأمور كانت تقتضي عزمًا وحزمًا وإجماعًا، ولم تركب في إبرام الأمور متن الشطط والعجلة، ونسبوا ذلك إلى حكمتها؛ لأنه طالما كانت له نتائج حميدة، فربحت بذلك وقتًا. وأعقد مشاكلها ما كان حله حلًّا مرضيًا مما يقدر عليه الوقت فقط. وكانت تحب أن تملك بالراحة إلى حين وفاتها، تاركة للأجيال التابعة حل ما يعرض فيها من المشاكل، وكانت ترغب كل الرغبة في أن تشتهر بالحلم. والرأفة التي عاملت بها المتآمرين هي من الأمور الغريبة التي لم يُبارها فيها أحد إلى الآن، وكان بينها وبين أبيها في هذا الباب بون عظيم؛ فإنه كان يعاقب رؤساء المتآمرين ويعفو عن أتباعهم.
أما «أليصابات» فقلما تمكنت من حمل نفسها على إمضاء أمر بقتل بعض الأشراف، على أنها كانت تستطيع أن تأمر بخنق فلاحي «يوركشير» عشرات، بموجب النظام الحربي، من دون أن يؤاخذها ضميرها في ذلك. والحاصل أنها طالما كانت صارمة عند وجود الحلم، وحليمة عند وجود الصرامة، وسبب نجاحها وسلامتها إنما هو انقسام أعدائها وضعفهم، لا حكمتها وثبات عزمها.»
أليصابات ملكة إسبانيا
ولدت سنة ١٦٠٢م، وتوفيت سنة ١٦٤٤م، وهي ابنة «هنري الرابع» ملك فرنسا من زوجته «ماريا رومديشي». زُفت إلى «فيليب» ابن ملك إسبانيا سنة ١٦١٥م.
وسنة ١٦٢١م، جلس زوجها على تخت الملك وسُمِّي «فيليب الرابع»، فعهد زمام المملكة إلى كونت «أوليفارز»، وانهمك في اللذات والملاهي، فحاولت «أليصابات» أن تنبهه من غفلته، وتحمله على مقاومة سياسة وزيره التي كان من شأنها أن تفضي بالبلاد إلى الخراب، فحبط مسعاها.
وفي سنة ١٦٤٠م، حدثت ثورة في «قطلونية»، وانفصلت البرتغال عن إسبانيا، وساعدت عسكر فرنسا العصاة، فاستفزت الملكة أهالي «قسطيلة» للقتال. وفي مدة بضعة أسابيع جمعت جيشًا مؤلفًا من خمسين ألف مقاتل، ثم سارت إلى القصر الذي كان ينعم فيه الملك في «بون رتيرو»، فأخذت ولدها من يده وقالت للملك: سيدي، إن هذا الغلام ولدنا الوحيد سيكون أفقر إنسان في أوروبا إن لم تعزل جلالتكم في الحال وزيرًا ساق إسبانيا إلى الخراب، فنفى «أوليفارز»، ودبت الحماسة مؤقتًا في عروق «فيليب». أما «أليصابات» فقطعت كل علائقها مع بيت أبيها؛ لأنهم أمسوا ألد أعداء إسبانيا، وقبضت على زمام المملكة بيدها، وأخذ «فيليب» يحاول في مقدمة عساكره استرجاع ما خسره من بلاده، فلم يصادف نجاحًا، وأبدت «أليصابات» في إدارة مصالح البلاد حكمة ومحبة لوطنها، ووَفَّقت بين الأحزاب بإنذاراتها وفصاحتها، وباعت حُلِّيها، وقللت مصاريف بيتها كثيرًا مساعدةً للخزينة، حتى حسب الإسبانيول وفاتها مصيبة وطنية، وحزنوا عليها حزنًا شديدًا.
أليصابات بتروفنا إمبراطورة روسيا
هي ابنة «بطرس الكبير» من زوجته «كاترينا الأولى». ولدت سنة ١٧٠٩م، وتوفيت سنة ١٧٦٢م. تولت الملك بعد وفاة أبيها «بطرس الثاني بن ألكسيس» سنة ١٧٢٧م أو ١٧٣٠م، وابنة عمها «حنة أبفانفنا» بنت أكبر أولاد «بطرس الكبير» سنة ١٧٣٠م أو ١٧٤٠م.
ولم تكن «أليصابات» تميل إلى التملُّك، بل كانت تقول: إن لذة الحب أشهى شيء إليها، إلا أن «حنة» جعلت «إيفان بن أنطوني أولزيك» دوق «برنسوبك» ولي عهدها تحت وصاية أمه «حنة»؛ لأنه كان ولدًا لم يبلغ من العمر إلا بضعة أشهر، وأوصت أن تكون وكالة الملك مدة قصره في يد محبوبها «بيرون»، فحرمت «أليصابات» الملك بذلك ثالثة، ولم تقف الأمور عند هذا الحد، بل أمست حرية «أليصابات» في خطر؛ لأن الحسد الذي رُبِّي في عروق أم الغلام الذي جُعل وليًّا للعهد حملها على أن تتبصر في التخلص من وكيل الملك، ومن «أليصابات» نفسها، فأشارت عليها أن تترهب، إلا أن «لستوق» جرَّاحها ومُحبَّها واطأ جماعة على رد كيد أعدائها في نحورهم، وساعده على ذلك الحزب الروسي الوطني ودسائس سفير «لويس الخامس عشر»، ملك فرنسا، فأفضى الأمر بالمتآمرين إلى حمل السلاح والخروج على الحكومة، فغلبوا «حنة» «وإيفان»، ونصَّبوا «أليصابات» إمبراطورة في شهر كانون الأول (ديسمبر) سنة ١٧٤١م.
وجعلت «حنة» مع زوجها وكثيرين من حزبها في السجن، وحُبس «إيفان» في قلعة «شلسلبرغ»، فلم يخرج منها فيما بعد، وعهدت مصالح الدولة والبلاد إلى جماعة من رجال «أليصابات» كانوا مثلها خالين عن الشهامة والدراية، واستوت فيها محبة البطل والشهوات، وبدا منها أحيانًا ما دل على شدة قساوة وتوحش، إلا أنها كانت مرارًا حليمة، وكانت كريمة الأخلاق، وقد رَقَّتْ إلى المناصب العالية رجالًا روسيين من الأفاضل وأهل السياسة، وعينت «بطرس» ابن أختها «حنة روشيس هلستين غترب» المتوفاة وليًّا للعهد.
وانتصرت في حرب جرت لها مع أسوج، وانتهت بمعاهدة صلح انعقد في «آبو» سنة ١٧٤٣م، ثم كشفت مؤامرة أقيمت عليها، فألقت القبض على المتآمرين، وقاصصتهم قصاصًا شديدًا، وأمدت «ماريا تريزا» بجيش لمحاربة «فردريك الكبير»، فساعدت بذلك على عقد معاهدة صلح في «أكس لاشابيل» سنة ١٧٤٨م، ثم حركها كل من «شوفالوف» و«بستوزف» ضد بروسيا، وكان قد ساءها استهزاء وقع عليها من ملكها، فحالفت النمسا وفرنسا عليه في الحرب المعروفة بحرب السنين السبعة، وقامت عساكرها تحت إمرة «سوتيكوف» و«بوتورلين» و«أبراكسين»، وفر «مور» بأعمال جرَّت ويلات كثيرة على بروسيا، فانتصروا في موقعتي «غروس ياغرندرف» و«كورنسدرف» كلتيهما، واستولوا على «كلبرغ»، وحلوا في نفس برلين.
ولما توفيت الإمبراطورة تخلص فردريك من عدوة قوية، وترجى أن يلقى مساعدة من خلفها «بطرس الثالث». أما الفساد الذي وقع في بلاطها فاستمر فيه إلى وفاتها، وكان «راز» و«موفسكي» في الأصل من القزق المجهولي الحسب والنسب، فجعلته من بعض حشمها، ثم جعلته نديمها، ووجهت إليه رتبة فلد مارشال، واتخذته لها بعلًا في السر، ويقال: إنه أب لثلاثة من أولادها.
ومن الأعمال الخطيرة التي تُذكر بها «أليصابات» تأسيسها المدرسة الكائنة في موسكو، وأكاديمية الفنون المستطرفة في «بطرس برج». وكانت تحب نشر الفنون المذكورة، وجرى لها مع «فولتير» المشهور مراسلة مكَّنته بها من الحصول على المواد اللازمة لتاريخ أبيها.
أليصابات ملكة بوهيميا
ولدت سنة ١٥٩٦م، وتوفيت سنة ١٦٢٢م، وهي ابنة «جمس الأول» ملك إنكلترا. كانت حسنة الصفات أديبة. خطبها كثيرون فآثرت هي وأبوها «فردريك الخامس» المنتخب البلاتيني؛ لأنه كان على مذهب البروتستانت، فعقد الزواج باحتفال عظيم سنة ١٦١٣م، بلغت مصاريفه ٥٣ ألف ليرة، وكان المهر ألف ليرة إنكليزية، وكان زوجها رأس الحزب البروتستانتي في ألمانيا. ولما عرض عليه عصاة بوهيميا سنة ١٦١٩م أن يتملك عليهم، ألحت عليه بإجابتهم إلى ذلك، وقالت له: إن كنت تخشى أن تصير ملكًا، فلماذا تزوجت ابنة ملك؟ ثم دخلت «براغ» وجلست على تخت الملك بأبهة، غير أن مدة ملكها لم تطل؛ لأن جنود الإمبراطور تقدمت إلى أملاك «فردريك» الأصلية وأغارت على بوهيميا أيضًا.
وبعد موقعة «براغ» سنة ١٦٢٠م، اضطر الأمر كلًّا من «فردريك» وزوجته الملكة إلى الفرار، فأمنهما عمه «موريس دوناسوفي هاغ»، وولدت هناك أكثر أولادها، ومن جملتهم البرنس «روبرت» المشهور في تاريخ الحروب الأهلية الإنكليزية. أما صغرى أولادها فصارت أميرة منتخبة ﻟ «هانوفر»، وهي جدة البيت الملكي الإنكليزي الحالي. ولدت سنة ١٦٣٠م بعد ولادة «شارل الثاني» ابن أخيها، ورجعت «أليصابات» إلى إنكلترا سنة ١٦٦٠م، فأقامت نحو ستة أشهر في بيت اللورد «كرافن»، وتوفيت به بعد وفاة زوجها سنة ١٦٣٨م، وكان بينهما مودة عظيمة. وقد تغزل السير «هنري وتون» بمحاسنها في بعض أشعاره.
أليصابات دو فالوا أو إيزابلا دو فالوا ملكة إسبانيا
ولدت في «فونتينيلو» في ١٣ نيسان (أبريل) سنة ١٥٤٥م، وتوفيت في مدريد في ٣ تشرين الأول (أكتوبر) سنة ١٥٦٨م، وهي ابنة «هنري الثاني» ملك فرنسا من زوجته «كاترينا دو مديشي». خُطبت بموجب معاهدة عقدت في «أنجلس» سنة ١٥٥١م ﻟ «إدوارد السادس»، ملك إنكلترا، إلا أن «إدوارد» المذكور توفي قبل قيام عقد الزواج، ثم خُطبت بموجب مقدمات معاهدة الصلح التي أبرمت في «كاتو كمبريسيس» للدون «كارلوس»، ابن ملك إسبانيا. وفي ٣ نيسان (أبريل) سنة ١٥٥٩م، قُرِّرت المعاهدة، ولكن إذ كانت زوجة «فيليب الثاني»، والد الدون «كارلوس»، قد توفيت، اتخذها زوجة له عِوض ابنه. وسنة ١٥٦٠م، أقيم في «توليدو» احتفال عظيم للعرس.
ألينورا رغويانه
هي ابنة «وليم العاشر» آخر دوقات «أكونيانيا» ووارثته. ولدت سنة ١١٢٢م، وفي سنة ١٥ من عمرها تزوجت «لويس الثامن»، ملك فرنسا، فجعلت دوقية «غويانه» و«غسكونيا» و«سنتونج» و«بوانو» و«بيارن» مهرًا لها، إلا أن طيشها وميلها إلى الخلاعة والملاهي ساء «لويس» زوجها، واشتد الاختلاف بينهما في أثناء الحرب الثانية الصليبية، وكانت قد صحبته فيها سنة ١١٤٧م، فاستأذن مجمع «بوجنسي» في طلاقها، فسمح له بذلك فطلقها سنة ١١٥٢م. وبعد ذلك بستة أسابيع، تزوَّجت «هنري نلانتاجنت»، كونت «آنجو» و«روف بورمنديا»، الذي صار بعد ذلك ملكًا لإنكلترا وسمي «هنري الثاني» سنة ١١٥٤م، فانتقلت بذلك ولايات «أكونيانيا» إلى إنكلترا، إلا أن زواجها هذا لم يكن خيرًا من الأول؛ لأن نساء البلاط الملكي حسدنها كثيرًا، وقتلت «روزمندا» إحداهن، وألقت الرعب في قلوب أهل البيت الملكي، وحركت البنين على آبائهم، فملَّ «هنري» بأعمالها فسجنها في دير سنة ١١٧٣م، فلم تخرج من سجنها إلا عندما جلس ابنها «رتشرد»، المُلقب بقلب الأسد، على تخت الملك، وذلك سنة ١١٨٩م، وعُهدت إليها إدارة المملكة مدة غياب «رتشرد» المذكور في الحرب الثالثة الصليبية، وبعد رجوعه إلى إنكلترا بمدة وجيزة دخلت دير «فونتفرو»، وبقيت فيه إلى أن ماتت سنة ١٢٠٣م.
ألينورا روغوزمان
امرأة إسبانيولية كانت تُعتبر في زمانها أجمل نساء إسبانيا، عشقها «ألفونس الحادي عشر»، ملك «قسطيلة»، المُلقب بالمنتقم، واستعرت في قلبه نيران الغرام، فغاب عن الهدى وافتضح فيها افتضاح العاشقين، وخلع العذار، وتصامم عن كلام العاذلين، وكان يعاملها معاملة زوجة، فلا يستحي في هواها، ولا يخشى لوم لائم. ولولا أسباب سياسية مهمة جدًّا لطلق زوجته البرتغالية، واتخذها له زوجة بدلًا منها، غير أن «ألينورا» لم تكن دون الملكة إلا في اللقب فقط، واستمرت ٢٠ سنة مالكة قلب «ألفونس»، وولد لها منه توءمان: أحدهما «هنري روترتستامار»، الذي جلس على تخت الملك، والآخر «فردريك» رئيس «كافليريه مار يوحنا». ولما توفي الملك سنة ١٣٥٠م، أرادت الملكة أن تنتقم من عشيقته، فألقت عليها القبض في «إشبيلية» سنة ١٣٥١م، ولم يتمكن ولداها من إنقاذها، مع أنهما بذلا في ذلك السبيل ما في وسعهما، فقُتلت خنقًا في قصر الملكة على مرأًى منها ومِن ولدها «بطرس» المُلقَّب بالعاس.
ألينورا زوجة دون جوان دواكنبها
كانت بديعة الجمال، وكان زوجها غنيًّا، إلا أنه كان دونها في الشرف، وأكبر منها سنًّا. سار بها إلى بلاط «ليسبون»، ولما رآها «فردينندو الأول» أسَره حسنُها ودلالُها، وحرمه حبُّها لذيذ المنام، فأخذ يلاطفها ويغازلها ويؤانسها، وطلب إليها أن تكون له عشيقة فأبتْ، فحمَل زوجها على أن يُطلِّقها، واتخذها له زوجة بعد أن قطع ما كان بينه وبين بنت ملك «قسطيلة» من العلائق، فنشأ عن ذلك ثورة في «ليسبون»، ولكنها أخمدت في الحال، وجعلت «ألينورا» ملكة سنة ١٣٧١م.
وكانت على جانب عظيم من الكبرياء والطمع، فوجهت إلى ذوي قرابتها أسمى المناصب، وخشيت أن يقع بينها وبين أختها زوجة «ألانفنك دون جوان» منازعة على تخت الملك، فحملت «دون جوان» المذكور على قتلها، وقتلت أيضًا باقي أعدائها، وغمرت المتحزبين لها بالعطايا والأموال، ثم جعلت «الدون جوان أنديرو» — من أعيان «قسطيلة» — رئيسًا للوزارة، ووجهت إليه لقب كونت «أورين»، وذلك لأنها كانت تحبه أكثر من زوجها، وجعلها «فيردنندو» قبل وفاته وكيلة للملك، فأشركت حبيبها المذكور في إدارة المملكة، إلا أن الوقت لم يصفُ لهما؛ لأن اﻟ «دون جوان» أراد أن ينزع الوكالة من يدها، فدخل قصرها وقتل «أنديرو» في حضنها سنة ١٣٨٣م.
وتفاقم غيظ الشعب من سلوكها، فخافت على نفسها وخرجت من «ليسبون»، ولم تزل سائرة إلى أن وصلت إلى «شنترين»، فاستدعت صهرها «فردينندو»، ملك «قسطيلة»، وتخلَّت له عن المُلك، وكانت تُؤمِّل أن يأخذ بثأرها من سكان «ليسبون»، فإنها كانت تبغضهم جدًّا، إلا أنه هو أيضًا خشي عواقب خبثها وطمعها، فحبسها في دير «تورديز بلاس» قرب بلاد الوليد، فتوفيت فيه سنة ١٤٠٥م بعد أن مزَّق الحزن فؤادها.
أمستريس زوجة دارا ملك فارس
اشتهرت بشدة انتقامها من امرأة شقيق زوجها «أردانيت»، وكان زوجها قد عشقها، وكان من عادة ملوك فارس أن يمنحوا زوجاتهم في بعض الاحتفالات أي شيء طلبنه، فانتهزت «أمستريس» تلك الفرصة وطلبت أن تُدفع إليها «أردانيت»، فأجابها إلى ذلك، فقطعت أنفها وأذنيها وحاجبيها ولسانها وثدييها، وطرحت شلوها للكلاب، فتحرك الغيظ في قلب زوجها «ماسستس»، وعزم على أن يأخذ بثأرها، فلم تمهله «أمستريس»، بل أنفذت إليه من قتله، ولكي تؤدي للآلهة شكرها على ما أولتها من نجاح مقاصدها الفظيعة، قرَّبت لها ١٤ شابًّا من أشراف فارس أمرت بإحراقهم أحياء. انظر إلى هذه العظمة والكبرياء التي كانت أول خراب ملك «دارا» حتى صار كما أراناه التاريخ.
أمستريس ابنة أخي داريوس
وامرأة «ديوينسيوس» طاغية هرقلية البطش، يُظنُّ أنها أسست مدينة «أمستريس» المسماة الآن أمصترا أو حسَّنتها، ويقال: إنها ابنة الملك «داريوس» لا ابنة أخيه، كانت ذات جمال فائق، وعقل رائق، حتى سلبت عقول اليونان بحسن سياستها، وتدبير أعمالها، حالة كونها ابنة ألد أعدائهم، وتوفيت وهم راضون عنها حتى إن بعضهم كان يعظمها مثل المعبودات.
أليصابات كارمن سيلفا ملكة رومانيا
هو الاسم الذي انتخبته لنفسها، وأصل اسمها «أليصابات أوتيلي لويز رونويد». ولدت هذه الملكة في ٢٩ خلت من ديسمبر سنة ١٨٤٣م، ببلدة «موتربو» بقرب «تويد». اقترن بها في الخامس عشر من شهر نوفمبر سنة ١٨٦٩م البرنس «شارل دي هوهترلون»، الذي ألقيت إليه فيما بعد مقاليد الحكم برومانيا، فقَبِل وجعل هذه الإمارة من عداد الممالك المشهورة، وذلك بعد حرب الترك والروس سنة ١٨٧٧م. وقد رزقه الله في بادئ الأمر ببنت يسحر جمالها الألباب، وتأخذ نباهتها وذكاؤها بالقلوب، ولكن لم يكن لها من طول الحياة نصيب؛ حيث قصمت المنية عود شبابها. وقد سبب موتها لوالدتها من الآلام المرة ما لا يمكن الفهم وصفه، ومحا من مخيلتها ما هي فيه من العز والجاه والفخار، ولها الحق في أن تقدم نفسها ضحية على مذبح الهموم والأكدار؛ لأن ابنتها وقطعة كبدها حلت من الأدب والعلم إلى درجة قلَّ أن يدرك شأوها من كان أكبر منها سنًّا من الذكور والإناث.
وكان للملكة ميل غريزي للسفر كامن فيها، فلما توفيت ابنتها برز هذا الميل، وقالت من الشعر الرقيق واللفظ الرشيق، حتى إنها حازت بين قومها شهرة لم يسبقها إليها من انتهى إليه علم الشعر، وكانت لها المشاركة الكلية في علم الأدب، والوقوف التام على كلام الفصحاء.
وأما خصالها الحميدة وأفعالها المحمودة فحدِّث ولا حرج؛ فإنها هي التي استحوذت على قلوب قومها، واستولت على عقول عشيرتها بما لها من لين الجانب، ووداعة الأخلاق، والشفقة على المساكين من الرعايا واللطف بهم. وشاهِدُنا على ذلك لمَّا كان زوجها يحارب تحت أسوار مدينة «بلغتا» بشجاعته المشهورة وشهامته التي لا تنكر، كانت هي من جهة أخرى تواسي من أصيب بالجروح من العساكر، وتُسلِّيه بالألفاظ التي لو كان به مهما كان لقام على قدم الصحة، وشاركها في طريق العافية والشفاء.
ولما عمل عقد السلم، وانقشعت سحب الحرب، عادت إلى مقر وحدتها، ومركز عزلتها، وهو قصر السمائية، لتسلم نفسها في مخالب الحزن والهم على بنتها، وتقطع حبل الوقت بمواصلة الليل والنهار في المطالعة.
وإليها تنسب الآن نهضة أهل رومانيا في العلوم الأدبية، لا سيما في الشعر منها، وطالما شدت أذن الشاعر المشهور «إسكندر باشيلي»، الذي هو الآن معتمد رومانيا في باريس، ومدت إليه يد المساعدة في الأعمال الفكرية والمؤاثرة الشعرية. ومؤلفات المترجمة عديدة، كثيرة التباين والاختلاف، فمنها ما هو نثر ومنها ما هو شعر، وقد اشتهر فضلها في البلاد الفرنساوية، فأخذ علماء هذه الديار في ترجمة مؤلفاتها النفيسة؛ فقد ترجم الكاتب الشهير «لويز أولياك» كتابًا لها عنوانه: «خطرات أفكار ملكة»، وترجم الكاتب «سال» مؤلفاتها الشعرية والحوادثية.
وممن تصدى إلى كتابة تاريخ حياة هذه الملكة باللغة النمساوية جناب البارون «هكلرج». وقد طبع تاريخ حياتها جملة مرات، وكانت الطبعة الخامسة بمدينة «هردلبرق» سنة ١٨٨٩م، وجناب المسيو «ميت كرمنتر» طبعه بمدينة «يرسلو» سنة ١٨٨٢م، ومفصل ترجمة حياتها أيضًا بقلم المسيو «سرجي»، طبع في باريس سنة ١٨٩٠م، ولم تشتهر ترجمة ملكة مثل ترجمة هذه الملكة.
أم السعد ابنة عصام الحميري
وتعرف بسعدونة، من أهل قرطبة. روت عن أبيها وجدها وغيرهما، وأنشدت لنفسها في تمثال نعل النبي ﷺ تكملة لقول غيرها هذا البيت:
وهي قولها:
أم العلاء بنت يوسف الحجارية
كانت شاعرة، لبيبة، فصيحة، أديبة، ذات حسن وجمال، وأدب وكمال، لها قصائد طنانة، وموشحات رنانة، ذكرها صاحب المغرب وقال: إنها من أهل المائة الخامسة. فمن شعرها قولها:
وعشقها رجل أشيب فكتبت إليه:
ولها أيضًا:
وتوفيت في بلدها وادي الحجارة بالأندلس.
أم الكرام
هي ابنة المعتصم بن حماد، ملك المرية. كانت تنظم الشعر وتقول العروض، ولها الباع الطويل بالموشحات الأندلسية، وقد افتخرت بها نساء العرب.
وكانت عشقت الفتى المشهور بالجمال من دانية المعروف بالسمسار، وعملت فيه الموشحات، ومن شعرها فيه:
أم الهناء ابنة القاضي أبي محمد عبد الحق بن عطية
سمعت عن أبيها، وكانت حاضرة النادرة، سريعة التمثل، من أهل العلم والفهم والعقل، ولها تأليف في القبور. ولِيَ أبوها القضاء في المرية، دخل داره مرة وعيناه تذرفان وجدًا لمفارقة وطنه، فأنشدته تمثله:
وهذا البيت من جملة أبيات؛ وهي:
وبعده البيت السابق، وبعد هذا البيت الآتي:
أم بسطام بن قيس النصراني سيد بني شيبان
كانت من نساء العرب المتقدمات في الأدب، ذات شعر رائق، ومعنى فائق، فمن قولها ترثي ولدها بسطامًا حين قُتل يوم الشقيقة، قتله بنو ضبة:
أم حكيم ابنة عبد المطلب الهاشمية الملقبة بالبيضاء
كانت من النساء الحكيمات العاقلات في بني هاشم، جمعت مع الحكمة وفرة الأدب، ومع البلاغة فصاحة العرب، كانت مع أخواتها رثتْ أباها في حياته كطلبه بهذه الأبيات:
أم حكيم ابنة قارظ
هي حليلة عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب. كانت من فصحاء نساء العرب وأحسنهن أدبًا وجمالًا، وأثبتهن جنانًا، وكانت تقول الشعر، وأكثر أشعارها رثاء على ولديها، وكانا صغيرين، اسم أحدهما عبد الرحمن، والآخر قثم. فلما فاز معاوية بعد تحكيم الحكمين بعث بالضحاك بن قيس وبسر بن أرطأة بجيشٍ، وأمرهما أن يقتلا كل من كان من شيعة علي بن أبي طالب حتى الأطفال والحرم، فذهب بسر إلى اليمن — وكان عبيد الله بن العباس عاملًا هناك — فلما لم يجده أغار على بيته، فعثر بولديه المذكورين فذبحهما بشفرة كانت معه، فجزعت أمهما عليهما جزعًا شديدًا، وخالط عقلها بعض اللمم، فصارت لا تعقل ولا تعي ولا تُصغي إلى قول داعٍ، ولا تُقبل على نصح، بل علقت تطوف الأحياء وتقصد المنتديات في المواسم، وحيثما رأت مجتمعًا رفعت صوتًا يقطعه البكاء، وتنشد مراثي يرق لها الجلمود، ومن مراثيها قولها:
فكان كل من يسمعها تنفجر منابع عينيه حزنًا عليها، وتنفطر صفاة قلبه رثوًا إليها، فسمعها يومًا يمانيٌّ ذو نفس أبية ونخوة جاهلية، فذهب إلى بسر وتلطف بالتزلف إليه حتى وثق به، فخرج يومًا بولديه إلى وادي أوطاس وقتلهما، ثم فرَّ وأنشد:
ومن قولها أيضًا:
وقيل: إنه لما بلغ علي بن أبي طالب قتل «بسر» الصبيين جزع لذلك جزعًا شديدًا، ودعا على «بسر» بقوله: اللهم اسلبه دينه، ولا تخرجه من الدنيا حتى تسلب عقله. فأصابه ذلك وفقد عقله، وكان يهذي بالسيف ويطلبه، فيؤتى بسيف من خشب، ويجعل بين يديه زق منفوخ، فلا يزال يضربه حتى يسأم.
وقيل: دخل عبيد الله بن العباس على معاوية بن أبي سفيان وعنده بسر بن أرطأة، فقال له عبيد الله: أنت قاتل الصبيين أيها الشيخ؟ قال: نعم، أنا قاتلهما، فقال عبيد الله: لوددت أن الأرض كانت أثبتتني عندك.
قال: فقد أثبَتَتْك الآن عندي، فقاما، فقال عبيد الله: ألا سيف! فقال له «بسر»: هاك سيفي، فلما أهوى عبيد الله إلى السيف ليتناوله أخذه معاوية، ثم قال ﻟ «بسر»: أخزاك الله شيخًا، قد كبرت وذهب عقلك، وذاك رجل من بني هاشم وقد وترته وقتلت ابنيه، تدفع إليه سيفك. إنك لغافل عن قلوب بني هاشم. والله لو تمكَّن منه لبدَأ بي قبلك، قال عبيد الله: أجل والله، وكنتُ أُثنِّيَ به.
أم خالد النميرية
كانت من نساء العرب المشهورات بالعقل والذكاء والتدبير في قبيلتها بني نمير، وهي مشهورة بأم خالد، وشهرتها غلبت اسمها، ولذلك لم تأتِ الرواة عليه، ولها أبيات في ولدها خالد، وكان توفي في بعض الغزوات ودفن في الغربة، وهي:
وقالت — وهو يروى لأم الضحاك المحاربة:
أم الخير ابنة الحريش بن سراقة البارقية
كانت من المتكلمات الخطيبات البليغات من نساء العرب، وفدت على معاوية كما قال عبد الله بن عمر الغساني عن الشعبي، أن معاوية كتب إلى واليه بالكوفة أن يحمل إليه أم الخير ابنة الحريش ورحلها، وأعلمه أنه مجازيه بالخير خيرًا، وبالشر شرًّا بقولها فيه، فلما ورد عليه كتابه ركب إليها، فأقرأها كتابه، فقالت: وأما أنا فغير زائغة عن طاعته، ولا معتلة بكذب، ولقد كنت أحب لقاء أمير المؤمنين لأمور تختلج في صدري فلما شيعها وأراد مفارقتها قال لها: يا أم الخير، إن أمير المؤمنين كتب إليَّ أنه مجازيني بالخير خيرًا، وبالشر شرًّا، فما عندك؟ قالت: يا هذا، لا يُطْمِعك برُّك بي أن أسرَّك بباطل، ولا يُؤيسك معرفتي بك أن أقول فيك غير الحق.
فسارت خير مسير حتى قدمت على معاوية، فأنزلها مع الحُرم ثم أدخلها في اليوم الرابع وعنده جلساؤه، فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، قال لها: وعليك السلام يا أم الخير، بحقٍّ ما دعوتني بهذا الاسم، قالت: يا أمير المؤمنين، لكلِّ أجلٍ كتاب، قال: صدقت، فكيف حالك يا خالة؟ وكيف كنت في مسيرك؟ قالت: لم أزل، يا أمير المؤمنين، في خير وعافية حتى سرتُ إليك، فأنا في مجلس أنيق عند ملك رفيق، قال معاوية: بحسن نيتي ظفرت بكم، قالت: يا أمير المؤمنين، يعيذك الله من دحض المقال وما تخشى عاقبته، قال: ليس هذا أردنا. أخبريني كيف كان كلامك إذ قُتل عمار بن ياسر؟ قالت: لم أكن زوَّرته قبلُ ولا رويته بعدُ، وإنما كانت كلمات نفثها لساني عند الصدمة؛ فإن أحببت أن أُحدِّثك مقالًا غير ذلك فعلتُ، فالتفت إلى جلسائه فقال: أيكم يحفظ كلامها؟ فقال رجل منهم: أنا أحفظ بعض كلامها يا أمير المؤمنين، قال: هات، قال: كأني بها بين بردين زائرين كثيفي النسيج وهي على جمل أرمك، وبيدها سوط منتشر الضفيرة، وهي كالفحل يهدر في شقشقته تقول: «يا أيها الناس، اتقوا ربكم؛ إن زلزلة الساعة شيء عظيم. إن الله قد أوضح لكم الحق، وأبان الدليل، وبين السبيل، ورفع العلم، ولم يدعكم في عمياء مدلهمة، فأين تريدون — رحمكم الله؟ أفرارًا عن أمير المؤمنين، أم فرارًا من الزحف، أم رغبة عن الإسلام، أم ارتدادًا عن الحق؟ أما سمعتم الله جل شأنه يقول: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (محمد: ٣١)؟
ثم رفعت رأسها إلى السماء وهي تقول: اللهم قد عيل الصبر، وضعف اليقين، وانتشرت الرغبة، وبيدك يا رب أزمَّة القلوب؛ فاجمع اللهم بها الكلمة على التقوى، وألِّف القلوب على الهدى، واردد الحق إلى أهله. هلمُّوا — رحمكم الله — إلى الإمام العادل، والرضي التقي، والصديق الأكبر. إنها إحن بدرية، وأحقاد جاهلية، وسببها واثب حين الغفلة؛ ليدرك ثارات بني عبد شمس، ثم قالت: قاتلوا أئمة الكفر إنهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون. صبرًا، يا معاشر المهاجرين والأنصار، قاتلوا على بصيرة من ربكم، وثبات من دينكم، فكأني بكم غدًا وقد لقيتم أهل الشام كحُمُر مستنفرة، فرت من قسورة، لا تدري أيًّا يسلك بها من فجاج الأرض، باعوا الآخرة بالدنيا، واشتروا الضلالة بالهدى، وعما قليلٍ ليصبحن نادمين حين تحل بهم الندامة، فيطلبون الإقالة، ولات حين مناص.
إن من ضل — والله — عن الحق وقع في الباطل. ألا إن أولياء الله استصغروا عمر الدنيا فرفضوها، واستطابوا الآخرة فسعوا لها، فالله الله، أيها الناس، قبل أن تبطل الحقوق، وتعطل الحدود، وتقوى كلمة الشيطان، فإلى أين تريدون — رحمكم الله — عن ابن عم رسول الله ﷺ وصهره وأبي سبطيه، خلق من طينته، وترفع من نبعته، وجعله باب دينه، وأبان ببغضه المنافقين. وها هو ذا مفرق الهام ومكسر الأصنام صلَّى والناس مشركون، وأطاع والناس كارهون، فلم يزل في ذلك حتى قتل مبارزيه، وأفنى أهل أحد، وهزم الأحزاب، وقتل الله به أهل خيبر، وفرَّق به جمع أهوائهم. فيا لها من وقائع زرعت في القلوب نفاقًا وردةً وشقاقًا، وزادت المؤمنين إيمانًا. قد اجتهدت في القول، وبالغت في النصيحة. وبالله التوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله.
فقال معاوية: يا أم الخير، ما أردتِ بهذا الكلام إلا قتلي، ولو قتلتُك ما حرجت في ذلك، قالت: والله ما يسوءني أن يجري قتلي على يد من يسعدني الله بشقائه، قال: هيهات، يا كثيرة الفضول، ما تقولين في عثمان بن عفان — رحمه الله؟ قالت: وما عساني أن أقول في عثمان، استخلفه الناس وهم به راضون، وقتلوه وهم له كارهون، قال معاوية: يا أم الخير، هذا ثناؤك الذي تُثنين؟ قالت: لكن — والله يشهد وكفى بالله شهيدًا — ما أردت بعثمان نقصًا، ولكن كان سابقًا إلى الخير، وإنه لرفيع الدرجة غدًا، قال: وما تقولين في الزبير؟ قالت: وما أقول في ابن عمة رسول الله ﷺ وحواريه وقد شهد له رسول الله ﷺ بالجنة؟! وأنا أسألك — بحق الله — يا معاوية، فإن قريشًا تحدثت أنك أحلمها أن تعافيني من هذه المسائل، وتسألني عما شئت من غيرها، قال: نعم ونعمة عين، قد عفيتك منها.
ثم أمر لها بجائزة رفيعة وردَّها مكرمة إلى الكوفة، وبقيت في عزٍّ إلى أن توفاها الله.
أم سلمة زوجة السفاح
يا أمير المؤمنين، إني فكرت في أمرك وسعة ملكك، وقد ملكت نفسُك امرأةً واحدة؛ فإن مرضت مرضت، وإن غابت غبت، وحرمت نفسك التلذذ واستطراف الجواري، ومعرفة أخبارهن وحالاتهن، والتمتع بما تشتهي منهن، فإن منهن يا أمير المؤمنين الطويلة الغيداء، والغضة البيضاء، والعقيقة الأدماء، والدقيقة السمراء، والبربرية العجزاء، من مولدات المدينة، تفتنُّ بمحادثتهن، وتلذُّ بخلوتهن، وأين أمير المؤمنين من بنات الأحرار، والنظر إلى ما عندهن، وحسن الحديث منهن؟ ولو رأيت يا أمير المؤمنين الطويلة البيضاء، والسمراء اللعساء، والصفراء العجزاء، والمولدات من البصريات والكوفيات ذوات الألسن العذبة، والقدود المهفهفة، والأوساط المخصرة، والأصداغ المظرفنة، والعيون المكحلة، والثدي المحققة، وحسن زيهن وزينتهن وشكلهن؛ لرأيت شيئًا حسنًا.
وجعل خالد يجيد في الوصف، ويجد في الإطناب بحلاوة لفظه، وجودة وصفه، فلما فرغ كلامه قال له أبو العباس: ويحك يا خالد، ما حكَّ مسامعي — والله — قطُّ كلامٌ أحسن مما سمعته منك؛ فأعِدْ عليَّ كلامك فقد وقع مني.
فأعاد عليه خالد أحسن من الأول، ثم انصرف وبقي أبو العباس مفكرًا فيما سمع منه، فدخلت عليه أم سلمة امرأته، فلما رأته مفكرًا مغمومًا قالت: إني لأنكرك يا أمير المؤمنين، فهل حدث أمر تكرهه، أو أتاك خبر فارتعت منه؟ قال: لم يكن من ذلك شيء، قالت: فما قصتك أخبرني عنها؟ فلم تزل به حتى أخبرها بمقالة خالد، فقالت: فما قُلتَ لابن الفاعلة؟ قال لها: سبحان الله، ينصحني وتشتميه؟ فخرجت من عنده مغضبة، وأرسلت إلى خالد عشرة من الخدم ومعهم العصي، وأمرتهم أن لا يتركوا منه عضوًا صحيحًا، قال خالد: فانصرفت إلى منزلي وأنا في غاية السرور بما رأيت من أمير المؤمنين وإعجابه بما ألقيت إليه، ولم أشكَّ أنَّ صلته ستأتيني، فلم ألبث حتى صار أولئك الخدم وأنا قاعد على باب داري، فلما رأيتهم قد أقبلوا نحوي أيقنت بالجائزة واصلة، حتى وقفوا عليَّ فسألوا عني، فقلت: ها أنا ذا خالد، فبادر إليَّ أحدهم بهراوة كانت معه.
فلما أهوى بها إليَّ وثبتُ فدخلتُ منزلي وأغلقت الباب عليَّ واستترت، ومكثت أيامًا على تلك الحال لا أخرج من منزلي، ووقع في خلدي أني أوتيت من قبل أم سلمة، وطلبني أبو العباس طلبًا شديدًا، فلم أشعر ذات يوم إلا بقوم قد هجموا عليَّ وقالوا: أجب أمير المؤمنين، فأيقنتُ بالموت، فركبتُ وليس عليَّ لحم ولا دم. فلما وصلت إليه أومأ إليَّ بالجلوس، ونظرت فإذا خلف ظهري باب عليه ستور قد أُرخيت، وحركة خلفها، فقال: يا خالد، لم أرك منذ ثلاثٍ! قلت: كنتُ عليلًا يا أمير المؤمنين، فقال: ويحك، إنك وصفت لي في آخر دخلة من أمر النساء والجواري ما لم يخرق سمعي قط كلامٌ أحسن منه، فأعده عليَّ.
قلت: نعم يا أمير المؤمنين، أعلمتك أن العرب اشتقَّت اسم الضرة من الضرِّ، وأن أحدهم ما تزوج من النساء أكثر من واحدة إلا كان في جهد، فقال: ويحك، لم يكن هذا في الحديث، قلت: بلى والله يا أمير المؤمنين، وأخبرتك أن الثلاث من النساء كأنهن في قدر يغلي عليهن، قال أبو العباس: برئت من قرابتي من رسول الله ﷺ إن كنت سمعت منك هذا في حديثك الأول! قال: وأخبرتك أن الأربعة من النساء شرٌّ صريح لصاحبهن؛ يُشيبنه ويُهرمنه ويُسقمنه، قال: ويلك! والله ما سمعت هذا الكلام منك ولا من غيرك قبل هذا الوقت! قال خالد: بلى والله، قال: ويلك! أتكذبني؟ قال: أوَتريد أن تقتلني؟ قال: مُرَّ في حديثك، قال: وأخبرتك أن أبكار الجواري رجال ولكن لا خصي لهن، قال خالد: فسمعت الضحك من وراء الستر، قلت: نعم، وأخبرتك أن بني مخزوم ريحانة قريش، وأنت عندك ريحانة من الرياحين وأنت تطمح بعينك إلى حرائر النساء وغيرهن من الإماء، قال خالد: فقيل لي من وراء الستر: صدقت والله يا عماه، بهذا حدَّثت أمير المؤمنين، ولكنه بدَّل وغيَّر ونطق بما في ضميره عن لسانك، فقال له أبو العباس: ما لك — قاتلك الله وأخزاك وفعل بك وفعل؟ قال: فتركته وخرجت وهو يشتمُ وقد أيقنت بالحياة، فلما وصلت منزلي أخذت راحتي، وصِرْت أُفكِّر فيما حصل، فما أشعر إلا ورسل أم سلمة قد صاروا إليَّ ومعهم عشرة آلاف درهم وتخت وبرذون وغلام، فأخذتها وانصرفوا، وبقيت أم سلمة عند السفاح إلى أن توفَّاه الله وهي مالكة قلبه.
أم سنان ابنة جشمة
كانت من شاعرات العرب الموصوفات بالأدب اللائي لهن اليد الطولى بالنظم والنثر مع رقة المعنى، ودقة المبنى، والحماسة الزائدة التي تقصر عنها حماسة الرجال، وناهيك ما قالته في مدح آل البيت، وتحريض آل مذحج على نصرتهم، وقد وفدت على معاوية كما قال سعيد بن أبي حذافة، قال: إن مروان بن الحكم وهو والي المدينة حبس غلامًا ليس في جناية جناها، فأتته جدة الغلام — وهي أم سنان ابنة جشمة المذحجية — فكلمته في الغلام، فأغلظ لها مروان، فخرجت إلى معاوية، فدخلت عليه، فانتسبت، فعرفها، فقال لها: مرحبًا يا ابنة جشمة، ما أقدمك أرضنا وقد عهدتك تشتمينا وتحضين علينا عدونا؟ قالت: إن لبني عبد منافٍ أخلاقًا طاهرة، وأحلامًا وافرة، ولا يجهلون بعد علم، ولا يسفهون بعد حلم، ولا ينتقمون بعد عفوٍ. وإن أولى الناس باتباع ما سنَّ آباؤه لأنت، قال: صدقت. نحن كذلك، فكيف قولك:
قالت: كان ذلك يا أمير المؤمنين، وأرجو أن تكون لنا خلفًا، فقال رجل من جلسائه: كيف يا أمير المؤمنين وهي القائلة:
قالت: يا أمير المؤمنين، لسان صدق، وقول حق، ولئن تحقق ما ظننا فحظك الأوفر. والله ما أورثك الشنآن في قلوب السامعين إلا هؤلاء، فادحض مقالتهم، وأبعد منزلتهم. إنك إن فعلت ذلك تزددْ من الله قربًا، ومن المؤمنين حبًّا.
قال: وإنك تقولين ذلك، قالت: سبحان الله، والله ما مثلك مدح بباطل، ولا أعتذر إليه بكذب، وإنك لتعلم ذلك من رأينا وضمير قلوبنا. كان — والله — عليٌّ أحب إلينا منك، وأنت أحب إلينا من غيرك.
قال: فمَنْ؟ قالت: من مروان بن الحكم وسعيد بن العاص، قال: وبمَ استحققت ذلك عندك؟ قالت: بسعة حلمك وكريم عفوك، قال: إنهما يطمعان في ذلك، قالت: هما — والله — من الرأي على غير ما كنت عليه لعثمان بن عفان — رحمه الله — قال: والله لقد قاربت، ما حاجتك؟ قالت: يا أمير المؤمنين، إن مروان تَبَنَّكَ بالمدينة تَبَنُّكَ من لا يريد منها البراح؛ لا يحكم بعدل، ولا يقضي بسنة، يتبع عثرات المسلمين، ويكشف عورات المؤمنين. حبس ابن ابني فأتيتُه فقال: كنتِ وكنتِ. فأسمعتُه أخشنَ من الحجر، وألقمتُه أمرَّ من الصبر، ثم رجعت إلى نفسي بالملامة، وقلت: لم لا أصرف ذلك إلى من هو أولى بالعفو منه، فأتيتُك يا أمير المؤمنين لتكون في أمري ناظرًا، وعليه معديًا.
قال: صدقت. لا أسألك عن ذنبه والقيام بحجته، اكتبوا لها بإطلاقه، قالت: يا أمير المؤمنين، وأنَّى لي بالرجعة وقد نفد زادي، وكلَّت راحلتي؟ فأمر لها براحلة وخمسة آلاف درهم، وانصرفت إلى قومها.
أم عقبة زوجة غسان بن جهضم
كانت ابنة عمه، وكان مفتونًا بها؛ لأنها كانت من أجمل النساء وأحسنهن وأفضلهن خصالًا، وكان لما حضرته الوفاة جعل ينظر إليها ويبكي، ثم قال لها: إني منشدك أبيات أسألك فيها عما تصنعين بعدي، وأعزم عليك أن تصدقيني، فقالت: قل، فوالله لا أكذبك. فأنشد:
فأجابته:
فقال:
فلما مات توافد عليها الخطاب، فقالت:
فلما طالت الأيام وكثر إلحاح الناس أجابت الخاطب، فلما كانت الليلة التي زُفَّت فيها جاءها غسان في النوم فأنشد:
فانتهبت مرعوبة كأنما كان معها، فقالت النساء لها: ما دهاك؟ قالت: ما ترك غسان لي في الحياة أربًا، ولا في السرور رغبة، أتاني في المنام فأنشدني هذه الأبيات، ثم جعلت ترددها وتبكي، فشاغلنها بالحديث، فلما غفلن عنها أخذت شفرة فذبحت نفسها ووفت لزوجها.
أم عمران ابنة وقدان
كانت من النساء المتحمسات في الجاهلية، وكلامها يغلب عليه الهيجان بين العرب، قيل: إنها حينما قتل بعض رجال قومها قالت تحرضهم على أخذ ثأره، وتوبخهم على تغافلهم عنه:
أم قيس الضبية
لها في ابن سعد زوجها مراثٍ روَى منها صاحب الحماسة قولها:
أم كلثوم ابنة علي بن أبي طالب
أمها فاطمة ابنة رسول الله ﷺ. وُلدت قبل وفاة النبي. خطبها عمر بن الخطاب إلى أبيها علي، فقال: إنها صغيرة، فقال عمر: زوجنيها يا أبا الحسن؛ فإني أرصد من كرامتها ما لم يرصده أحد، فقال له علي: أنا أبعثها إليك، فإن رضيتها فقد زوجتكها، فبعثها إليه ببُرْده فقال لها: قولي له: هذا البُرد الذي قلت لك عليه، فقالت ذلك لعمر، فقال لها: قولي له: قد رضيتُ رضي الله عنك، ووضع يده عليها، فقالت له: أتفعل هذا؟ لولا أنك أمير المؤمنين لكسرت أنفك! ثم جاءت أباها فأخبرته وقالت له: بعثتني إلى شيخ سوء، قال: يا بنية، إنه زوجك.
فجاء عمر فجلس إلى المهاجرين في الروضة، وكان يجلس فيها المهاجرون الأولون، فقال: ارفئوني، فقالوا: بماذا يا أمير المؤمنين؟ قال: تزوجت أم كلثوم بنت علي؛ سمعت رسول الله ﷺ يقول: «كل سبب ونسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي وصهري.» وكان لي به ﷺ النسب والسبب، فأردت أن أجمع إليه الصهر، فرفَّئُوه، فتزوجها على مهرٍ أربعين ألفًا، فولدت له زيدًا ورقية، وتوفيت أم كلثوم وابنها زيد في وقت واحد — وكان زيد قد أصيب في حرب كانت بين بني عدي خرج ليصلح بينهم، فضربه رجل منهم في الظلمة فشجَّه وصرَعه، فعاش أيامًا ثم مات هو وأمه، وصلى عليهما عبد الله بن عمر، وقدمه الحسن بن علي — وذلك بعد وفاة عمر بن الخطاب، ولما قُتل عنها عمرُ تزوَّجها عون بن جعفر.
وقيل: لما تأيمت أم كلثوم بنت علي من عمر بن الخطاب دخل عليها الحسن والحسين أخواها فقالا لها: إنك ممَّن قد عرفت سيدة نساء المسلمين، وبنت سيدتهن، وإنك والله إن أمكنتِ عليًّا من رُمَّتك لنكحك بعض أيتامه، ولئن أردتِ أن تصيبي بنفسك مالًا عظيمًا لا تصيبينه، فوالله ما لبثا حتى طلع عليٌّ يتكئ على عصا، فجلس فحمد الله وأثنى عليه، وذكر منزلتهم من رسول الله ﷺ وقال: قد عرفتم منزلتكم عندي يا بني فاطمة، وآثرتكم على سائر ولدي لمكانكم من رسول الله ﷺ، وقرابتكم عنه.
قالوا: صدقت — رحمك الله — فجزاك الله عنا خيرًا، فقال: أي بُنيَّة، إن الله — عز وجل — قد جعل أمرك بيدك، وأنا أحب أن تجعليه بيدي، فقالت: أي أبتِ، إني امرأة أرغب فيما يرغب فيه النساء، وأحبُّ أن أصيب مما تصيب النساء من الدنيا، وأنا أريد أن أنظر في أمر نفسي، فقال لها: لا يا بنية، ما هذا من رأيك، وما هو إلا رأي هذين. ثم قام فقال: والله لا أكلم رجلًا منهما أو تفعلين، فأخذا بثيابه فقالا: اجلس يا أبانا، فوالله ما على هجرتك من صبر.
فقالا لها: اجعلي أمرك بيده، فقالت: قد فعلت، قال: فإني قد زوَّجتك من عون بن جعفر، وإنه لغلام. وبعث لها بأربعة آلاف درهم، وأدخلها عليه، وبقيت معه حتى مات عنها قتيلًا في وقعة كربلاء وهي مع أخيها الحسين، ورجعت مع السبايا من العراق إلى الشام، ثم إلى المدينة، وذلك في قصة مشهورة، وتوفيت في المدينة.
أم كلثوم ابنة عقبة بن أبي معيط
أسلمت وهاجرت وبايعت الرسول ﷺ، وكانت هجرتها سنة ٧ هجرية، وتزوجها زيد بن حارثة، فقتل عنها يوم مؤتة، ثم تزوجها الزبير بن العوام فولدت له زينب، وطلقها فتزوجها عبد الرحمن بن عوف، فولدت له إبراهيم وأحمد وغيرهما، ومات عنها فتزوجها عمرو بن العاص، فماتت عنده. وكانت أول مهاجرة من مكة إلى المدينة.
قيل: مشت على قدميها من مكة إلى المدينة، ولما عزمت على المهاجرة أتى أخواها عمارة والوليد يطلبانها، فنزلت الآية: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ (الممتحنة: ١٠). وكانت أم كلثوم أخت عثمان بن عفان لأمه، وقد نزلت فيها يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ۖ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ (الممتحنة: ١٠) إلى آخرها.
أم كلثوم ابنة عبدود
كانت أحسن نساء زمانها جمالًا، وأوفرهن عقلًا وكمالًا، ذات أدب وفصاحة، وكياسة وملاحة، ولها باع طويل في الشعر، ولما قتل أخوها يوم الخندق وكان قد خرج في نفر من القرشيين إلى المسلمين وقال لهم: مَن يُبارز؟ فبرز له علي بن أبي طالب فقال له: يا عمرو، إنك آليت على نفسك أنه لا يدعوك أحد إلى إحدى ثلاث إلا أجبته، وإني أدعوك إلى الإسلام، فقال: لا حاجة لي بذلك.
فقال: أدعوك إلى الانصراف؛ فإن كان محمد صادقًا تقربت عنده بذلك، وإن كان كاذبًا فما عليك من كذبه شيء، ويقع بيد غيرك، فقال: كيف تقول عني نساء قريش إن تركت النزال ورجعت؟ فقال له: إني أدعوك إلى النزال، فقال: هذه. ما كنت أظن أحدًا من العرب يتجاسر أن يدعوني إليها، ولكن يا ابن أخي، فوالله ما أحب أن أقتلك، فقال له علي: لكنني أحب أن أقتلك، فحمي عمرو عند ذلك واقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على علي فتنازلا وتجاولا، فقتله عليٌّ سنة ٥ للهجرة أو ٦٢٧ للميلاد، وذلك في خبرٍ طويل.
ولما نُعي عمرو إلى أخته أم كلثوم سألت: مَن قاتله؟ فقيل لها: علي بن أبي طالب، فقالت: لم يأت يومه إلا على يد كفء كريم، وأنشدت:
وأنشدت أيضًا:
ولما بلغت أبياتها إلى النبي ﷺ علم وفور عقلها، وأنها مائلة إلى الإسلام، فدعاها إلى ذلك، فلبَّت طلبه، وكان ذلك يوم فتح مكة، وبقيت إلى أن توفيت في حياته.
أم موسى الهاشمية
هي امرأة أديبة عاقلة حكيمة، ذات مكر ودهاء وفطنة، قد جعلها المقتدر كهرمانة داره سنة ٢٩٨ هجرية، فكانت تؤدي الرسائل من المقتدر وأمه إلى الوزير، وكان لها كلمة نافذة، وهي التي تسببت في عزل علي بن عيسى عن وزارة المقتدر سنة ٣٠٤ هجرية، وذلك أنها أرادت الدخول عليه لتتفق معه على ما يحتاج حرم الدار والحاشية من الكسوات والنفقات، فوصلت إليه وهو نائم، فقال لها صاحبه: إنه نائم فلا أحد يوقظه، فاجلسي في الدار ساعة حتى يستيقظ، فغضبت من هذا وعادت، فاستيقظ علي بن عيسى في الحال، وأرسل إليها حاجبه وولده يعتذر لها، فلم تقبل، ودخلت على المقتدر وتحرشت على الوزير عنده وعند أمه، فعزله، وأعيد أبو الحسن علي بن الفرات، ثم عزلها المقتدر سنة ٣١٠ﻫ، وذلك لأنها زوجت ابنة أختها من أبي العباس أحمد بن محمد بن إسحاق بن المتوكل، وأكثرت من النثار والدعوات، وخسرت أموالًا جليلة، فسعى بها أعداؤها إلى المقتدر وقالوا: إنها قد سعت لأبي العباس في الخلافة، وحلَّفت له القواد، وكثر القول عليها، فقبض عليها المقتدر وأخذ منها أموالًا جسيمة، وجواهر نفيسة.
أم ندبة زوجة بدر بن حذيفة
كانت عقيلة قومها، كريمة بيتها، مسموعة كلمتها، وكان ولدها ندبة — يكنى أبا قرافة — قد قتله قيس بن زهير العبسي في حرب داحس والغبراء، فقالت ترثيه وتلوم زوجها بقبول الدية:
أمالتونسا ابنة ثيودوريك
وأمها «أوديفليد» أخت «كلوفيس»، ملك فرنسا، وكانت «أمالتونسا» بيدها أزمة أحكام البلاد الإيطالية؛ وذلك لأنه لم يكن «لثيودوريك» ابن يرث ملكه من بعده، فزوج ابنته هذه بفتًى، سليل أحد أعضاء العائلة الملكية، الذي فر هاربًا إلى إسبانيا، فرقَّاه الملك الفوثي إلى رتبة قنصلية وأمير، ولكن ذلك الفتى لم يتمتع زمانًا طويلًا بلذة ارتقائه واقترانه ﺑ «أمالتونسا»، بل مات مخلفًا طفلًا يدعى «أثالاريك»، فتولت زوجته بعد وفاته وموت أبيها أحكام البلاد بالنيابة عن ابنها القاصر، واشتهرت هذه بجمالها البديع، وحسنها الباهر، وذكائها العظيم، وسعة معارفها، وكثرة عوارفها، وكان لها القدم الأولى في المباحث العلمية والفلسفية.
قيل: إنها درست اللغة اليونانية واللاتينية والفوثية، وتضلعت منها حتى أصبحت قادرة أن تتكلم بكل منها بفصاحة ورشاقة، ولا ريب أنها كانت حسنة المبادئ، كريمة النفس؛ لأنها عاملت الرومانيين سكان رومية وإيطاليا الأصليين معاملة رعاياها، وأشفقت عليهم، خلافًا للفوثيين الذين لم يزالوا يعتبرونهم أعداء وعبيدًا.
وكان ابنها «أثالاريك» خملًا يبغض العلوم والمعارف، ويتأوه من الدرس ومشقاته، وإجهاد العقل في سبيل التحصيل، وينفر من والدته لإكراهها إياه على المواظبة والاجتهاد، فحدث ذات يوم أن الفوثيين كانوا مجتمعين في قصر «رافنا»، ففرَّ هذا الأمير الفتى من غرفة أمه، وانتصب بين الجميع وهو يذرف عبرات الغضب والكبرياء، وشكا إلى الحاضرين قساوة أمه وضربها إياه بسبب عصيانه وعناده، فأثَّر هذا الكلام بأولئك المتوحشين، وتوهموا أن الملكة راغبة في إهلاك ابنها، واختلاس سرير ملكه، وطلبوا خلاص الفتى وتربيته كأجداده ورجال أمته في ميادين القتال والعراك؛ لينشأ بطلًا، وقدروا بفظاظتهم وإلحاحهم أن يحرموا الغلام وسائل التمدن والتهذيب، فتركوه وشأنه يقضي أوقاته في السكر والملاهي وارتكاب الفواحش.
ولما رأت الملكة عصيان ابنها وزيغه، وإحاطة الأعداء بها من كل جانب، خابرت «بوستنيان» بقصد السكن في بلاده، وأرسلت إلى مدينة «دارخيوم» في إقليم «أبيروس» ٤٠ ألف دينار، غير أن حب التسلط على الناس كان متسلطًا على فؤادها، فأعارت صبوة الطمع أذنًا صاغية، وقلبًا واعيًا، وحينما أزمعت على مبارحة إيطاليا نجحت بدسائسها وقدرت أن تهلك بعضًا من كبار الرؤساء الثائرين عليها، وتمكنت بموت هؤلاء من الاستبداد بالأحكام، والقبض على أزمة البلاد بالنيابة عن ابنها، كما كانت أولًا، غير أن هذا الفتى الجاهل لم يعش زمانًا طويلًا؛ لأن الفسق والفواحش واللذات أضنته، فمات يافعًا لم يتجاوز السادسة عشرة من العمر، فاضطرت إذ ذاك إلى مشاركة ابن عمها «سيبودونس» الجبان البخيل، فثار الفوثيون عليها، ونفوها إلى جزيرة صغيرة في بحيرة «بوليسنا»، وهناك قتلوها سنة ٥٣٨ق.م بالحمام خنقًا، وهكذا انتهت حياة هذه الملكة الفاضلة.
أمامة ابنة أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد مناف القرشية الهاشمية
أمها زينب ابنة رسول الله ﷺ. ولدت على عهد جدها ﷺ، وكان يحبها ويحملها في الصلاة، وكان إذا ركع أو سجد تركها، وإذا قام حملها.
ورُوي عن عائشة أن رسول الله ﷺ أهديت له هدية فيها قلادة من جزع فقال: «لأدفعنها إلى أحب أهلي إليَّ.» فدعا أمامة ابنة زينب فعلقها في عنقها. ولما كبرت أمامة تزوجها علي بن أبي طالب — رضي الله عنه — وكانت فاطمة أوصت عليًّا أن يتزوجها، فلما توفيت فاطمة تزوَّجها من الزبير بن العوام؛ لأن أباها قد أوصاه بها، فلما جُرح علي خاف أن يتزوجها معاوية، فأمر المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب أن يتزوجها بعده، فلما توفي علي وقضت العدة تزوجها المغيرة، فولدت له يحيى، وبه كان يكنى، فهلكت عند المغيرة.
أمامة ابنة حمزة بن عبد المطلب
أمها سلمى بنت عميس، وهي التي اختصم فيها علي وجعفر وزيد — رضي الله عنهم — لما خرجت من مكة وسألت كل من مر بها من المسلمين أن يأخذها فلم يفعل، فاجتاز بها عليٌّ فأخذها، فطلب جعفر أن تكون عنده؛ لأن خالتها أسماء ابنة عميس عنده، وطلبها زيد بن حارثة أن تكون عنده؛ لأنه كان قد آخى بينهما رسول الله ﷺ، فقضى بها النبي ﷺ لجعفر؛ لأن خالتها عنده، ثم زوجها رسول الله من سلمة ابن أم سلمة، وسماها الواقدي عمارة، وأخواها لأمها عبدُ الله وعبدُ الرحمن ابنا شداد، وهي من الصحابيات المحدثات اللاتي أخذ عنهن جملة من مشاهير المحدثين.
أمامة المريدية
كانت شاعرة من شاعرات نساء العرب، إلا أن شعرها قليل، ولم يكن في وقتها مَن يجمع الشعر، وكانت صحابية محدَّثة أخذ عنها جملة من المحدثين.
ومما يروى عنها أنها قالت: لما قتل سالمُ بنُ عمير أبا عتيك — أحد بني عمرو بن عوف — وكان من المنافقين وظهر نفاقه، فقال رسول الله ﷺ: «من لي من هذا الخبيث؟» فخرج إليه سالم بن عمير فقتله، فقالت في ذلك:
أمامة ابنة ذي الأصبع
أبوها ذو الأصبع العدواني الشاعر الفارس المشهور. كانت أمامة شاعرة مشهورة يُشار إليها بالبنان، أخذت العلم والشعر عن والدها وهي أصغر أولاده، وكان يحبها محبة عظيمة، ولمحبته أحبها جميع قبيلتها، ولها يقول ورأته قد نهض وسقط وتوكأ على العصا فبكت فقال:
ومن شعرها قولها ترثي قومها:
أمة العزيز ابنة دحية الأندلسية الشريفة الحسنية
كانت ذات قناع، تفرعت من دوحة سناء أصلُها ثابت، وفرعها في السماء، وتجردت من سلالة أكابر وأشراف رقاة أسرَّة منابر من بني عبد مناف. تصرفت في أثناء شبيبتها بين دراسة معارف وإفاضة عوارف، لها أشعار رائقة معناها، بديعة مبناها، منها ما قاله الحافظ أبو الخطاب بن دحية في «المطرب من أشعار المغرب»، قال: أنشدتني أخت جدي الشريفة الفاضلة أمة العزيز الحسنية لنفسها:
هذا السؤال يحتاج إلى جواب، وقد رأيت للقاضي الإمام الفاضل أبي الفضل قاسم العقباني التلمساني — رحمه الله تعالى — جوابه، والغالب أنه من نظمه، وهو قوله:
أمة ابنة خالد بن سعيد
أمة ابنة خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشية الأموية، تكنى أم خالد، مشهورة بكنيتها، ولدت بأرض الحبشة مع أخيها سعيد بن خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، وأمها أميمة بنت خلف. تزوج أمَّ خالد الزبيرُ بن العوام، وولدت له عمرو بن الزبير، وخالد بن الزبير، وبه كانت تكنى، وهي من المحدثات المشهورات بالصدق، وقد روى عنها جملة من التابعين، منهم: موسى وإبراهيم ابنا عقبة، وكريب بن سليمان الكندي وغيرهم، ويُروى عنها أنها سمعت رسول الله ﷺ يتعوذ من عذاب القبر.
أميمة ابنة رقيقة
أميمة ابن رقيقة ابنة خويلد بن أسد، أخت خديجة بنت خويلد، فأميمة ابنة خالة أولاد النبي من خديجة، وهي أميمة بنت عبد بن بجاد بن عمير بن الحارث بن حارثة بن سعد بن تيم بن مرة، وكانت من المبايعات المحدثات. روى عنها محمد بن المنكدر وابنتها حكيمة بنت أميمة.
ورُوي عن محمد بن المنكدر أنه سمع أميمة بنت رقيقة تقول: بايعت النبي ﷺ في نسوة فقال لنا: «فيما استطعتن وأطقتن.» قلت: الله ورسوله أرحم منا بأنفسنا.
ومما روته حكيمة بنت أميمة عن أمها بنت رقيقة قالت: كان لرسول الله ﷺ قدح من عيدان يبول فيه يضعه تحت السرير، فجاءت امرأة اسمها بركة فشربته، فطلبه فلم يجده، فقيل: شربته بركة، فقال: «لقد احتظرت من النار بحظار.»
أميمة ابنة قيس بن أبي الصلت الغفارية
كانت عابدة، زاهدة، محبة للخير، صانعة للمعروف، ناهية عن المنكر، لها صحبة حسنة، وروت أحاديث كثيرة، وروى عنها جملة من التابعين، وكانت شفيقة على المجاهدين، ودائمًا تحضر الوقائع، وتداوي الجرحى، وتدور بين القتلى. وكانت تحث الناس على ذلك، فقالت يومًا لرسول الله ﷺ وقد جاءته في نسوة من غفار: إنا نريد أن نخرج معك في وجهك هذا فنداوي الجرحى، ونُعين المسلمين بما استطعنا، فقال رسول الله ﷺ: «على بركة الله.» وكان ذاهبًا إلى خيبر فذهبن معه، وصرن يداوين الجرحى، ويوارين القتلى، وهي تهديهن لما يلزم لذلك حتى انتهت الحرب ورجع المسلمون منصورين، فنالت بذلك رضا ربها ومدح قومها.
أم جعفر ابنة عبد الله بن عرفطة
أم جعفر ابنة عبد الله بن عرفطة بن قتادة بن معد بن غياث بن نداح بن عامر بن عبد الله بن خطمة بن مالك بن جشم بن الأوس.
كانت ذات عقل وأدب وعفة، وكان يشبب بها الأحوص، ولم يرها قط، فلما كثر تشبيبه وشاع ذكره، توعده أخوها أيمن وهدده ولم ينتهِ، فاستعدى عليه والي المدينة، فربطهما في حبلٍ ودفع إليهما سوطين وقال لهما: تجالدا، فتجالدا، فغلب أخوها الأحوص، وأتبعه أيمن حتى فاته الأحوص هربًا، وقد كان الأحوص قال فيها:
فقال السائب بن عمر يعارض الأحوص في هذه الأبيات ويُعيِّره بفراره:
فقال الأحوص:
ولما أكثر الأحوص من ذكرها جاءت متنقبة فوقفت عليه وهو في مجلس قومه ولا يعرفها، فقالت له: اقضِ ثمن الغنم التي ابتعتها مني، قال: ما ابتعتُ منك شيئًا، فأظهرت كتابًا قد وضعته عليه، وبكت وشكت حاجة وفاقة، وقالت: يا قوم كلِّموه، فلامه قومه وقالوا: اقض المرأة حقها، فحلف أنه ما رآها قط ولا يعرفها، فكشفت عن وجهها وقالت: ويحك! أما تعرفني؟ فجعل يحلف أنه ما يعرفها ولا رآها قط، حتى إذا استفاض قولها وقوله، واجتمع الناس وكثروا وسمعوا ما دار، وكثر لغطهم وأقوالهم؛ قامت ثم قالت: أيها الناس، اسكتوا. فسكت الناس، ثم أقبلت عليه وقالت: يا عدو الله، صدقت والله، ما لي عليك حق، ولا تعرفني، وقد حلفت على ذلك وأنت صادق، وأنا أم جعفر، وأنت تقول: قلت لأم جعفر، وقالت لي أم جعفر؛ فمن أين قلتُ لك وقلتَ لي وأنت لم ترني إلا هذه الساعة. فخجل الأحوص وانكسر عن ذلك وبرئت عندهم.
أميمة أم تأبط شرًّا
وهي من بني القين، بطن من فهم، ولدت خمسة نفر: تأبط شرًّا، وريش لغب، وريش نسر، وكعب جدر، والأتراكي، وقيل: إنها ولدت سادسًا، واسمه عمر، وتأبط شرًّا لقب به لأنه كان رأى كبشًا في الصحراء فاحتمله تحت إبطه، فجعل يبول عليه طول طريقه، فلما قرب من الحي ثقل عليه الكبش فلم يقله فرمى به، فإذا هو الغول، فقال له قومه: ما تأبطت يا ثابت؟ قال: الغول، قالوا: لقد تأبطت شرًّا؛ فسُمِّي بذلك، وقيل: بل قالت له أمه: كل إخوتك يأتيني بشيء إذا راح غيرَك، فقال لها: سآتيك الليلة بشيءٍ ومَضَى، فصاد أفاعي كثيرة من أكبر ما قدر عليه، ووضعهن في جراب، وذهب متأبطًا به، فألقاه بين يديها، ففتحته فتساعين في بيتها، فوثبتْ وخرجتْ، فقال لها نساء الحي: ماذا أتاك به ثابت؟ فقالت: أتاني بأفاعي في جراب، قلن: كيف حملها؟ قالت: تأبَّطها، قلن: لقد تأبط شرًّا؛ فلزمه هذا اللقب.
وكانت شاعرة من شاعرات العرب، وقولها منسجم، وله طلاوة، وأغلبه مراثٍ في ولدها تأبط شرًّا وخلافه، ومن ذلك قولها فيه:
ولها فيه أيضًا:
ولها مراثٍ وأشعار كثيرة غير ذلك.
أميمة ابنة خلف بن أسعد
أميمة ابنة خلف بن أسعد بن عامر بن بياضة بن سبيع بن جعثمة بن سعد بن مليح بن عمرو بن ربيعة الخزاعية.
وهي عمة طلحة بن عبد الله بن خلف المُلقَّب طلحة الطلحات، وهي زوجة خالد بن سعيد بن العاص. هاجرت معه إلى أرض الحبشة وكانت من السابقات إلى الإسلام.
وقيل: اسمها أمينة، وقيل: همينة، وولدت بالحبشة سعيد بن خالد، وأمة بنت خالد، ولها صحبة حسنة، وعشرة لطيفة، ورجعت مع مَن رجع من مهاجري الحبشة إلى المدينة.
أميمة ابنة عبد شمس الهاشمي بن عبد مناف القرشي
وأمها تفخر بنت عبيد بن دوس بن كلاب، كانت ذات مجد أثيل، وبيت أصيل، وباع طويل. تزوجها حارثة بن الأوقص السلمي، فولدت له أمية بن حارثة، وقتل أبو سفيان بن أمية بن عبد شمس أخاها في يوم عكاظ من حرب الفجار. وكان يعدُّ أبو سفيان وإخوته من العنابس، وهي الأسد، فقالت أميمة ترثيه وترثي مَن قُتل في حرب الفجار من قريش:
أميمة ابنة عبد المطلب الهاشمية
كانت صاحبة جمال وجلال، وفصاحة وذكاء وبلاغة، وسخاء وشعر ونثر، ونسب وفخر، قال لها أبوها يومًا مع إخوتها: أسمعيني شعرك رثاءً بي كأني ميت! فقالت له: أُعيذُك من ذلك! فقال: لا بد من أن تقولي، فقالت:
أم هارون رضي الله عنها
كانت من الخائفات العابدات، وكانت تأكل الخبز وحده، وكانت تقول: ما أنشرح إلا بدخول الليل، فإذا طلع النهار اغتممت، وكانت تقوم الليل كله فتقول: إذا جاء السَّحَر دخل قلبي الروع، وصرخت مرةً فسمعتْ قائلًا يقول: خذوها، فوقعت مغشيًّا عليها، وما دهنت رأسها بدهن مدة عشرين سنة، وكانت إذا كشفت رأسها وُجد شعرُها أحسن من شعر النساء، وكانت إذا عرض لها الأسدُ في البريَّة قالت له: إن كان لك فيَّ شيء فكُل، فيولي راجعًا عنها. رضي الله عنها.
أمة الجليل رضي الله عنها
كانت من العابدات الزاهدات، واختلف مرة العابدون في تعريف الولاية على أقوال فقالوا: امضوا بنا إلى أمة الجليل، فقالوا لها: ما الذي عندك في تعريف الولاية؟ فقالت: ساعات الولي ساعات شغل عن الدنيا؛ ليس لولي في الدنيا ساعة يتفرغ منها لشيء دون الله — عز وجل — ثم قالت لواحدٍ منهم: من حدَّثكم أن أولياء الله تعالى لهم شغل بغير الله تعالى فكَذِّبوه. رضي الله عنها.
إنياس خليلة شارل السابع ملك فرنسا
ولدت في قرية «فرومنتو» من «تورين» نحو سنة ١٤٠٩م، وتوفيت نحو سنة ١٤٥٠م، وهي ابنة «سوريل دوسان جيرار» أحد أعوان الكونت «دوكليرمون». كانت في أول أمرها رفيقة ﻟ «إيزابو دو سورينه» دوقة «أنجو».
وسنة ١٤٣١م صحبت سيدتها إلى باريس، وزارت بلاط «شارل الرابع»، فلما رآها «شارل» المذكور فتن بجمالها، وسحر بمحاسنها، فأبقاها لديه، وجعلها رفيقة للملكة، ثم اتخذها عشيقة بعد أن ماطلته، وردَّت مطالبه، وبلَتْهُ بهيامٍ شديد، ويقال: إنها لم تستخدم ما كان لها عليه من السطوة إلا لإنهاض همته، وإثارة الحمية في صدره؛ لأنه كان قد استغرق في اللذات بينما كان الإنكليز يفتحون بلاده؛ وبذلك أنقذت فرنسا من وبالٍ عظيم، وخطرٍ جسيم؛ فتمكن حبها من قلب «شارل»، فأجزل لها العطاء، وفتح لها كفه كما فتح لها قلبه، فوهبها القصر المسمى بالفرنساوية «بوتي»، ومعناه: الجمال، وهو على ضفة نهر اﻟ «مرن» بقرب «سانمور»؛ ولذلك لقبت بمدام «لوبوتي»، ومعناه سيدة «بوتي» أو الجمال، وفي ذلك من التورية ما لا يخفى. وكانت الملكة نفسها تحبها وتكرم مثواها، إلا أن غناها وتنعمها حملا رجال البلاط والأمة على كرهها. وسنة ١٤٤٥م، أساء إليها ابن الملك «شارل السابع»، فتركت البلاط الملكي وأقامت في قصر كان قد بناه الملك في «لوس».
وسنة ١٤٥٠م، سارت إلى «جومياك» لمقابلة عاشقها، فتوفيت هناك فجأة، وظن الناس أن ابنه دسَّ إليها السم في بعض المشروبات، وكان قد ولد لها من «شارل السابع» ثلاث بنات، فاعترف بهن ورباهن، وكن يعرفن ببنات فرنسا.
أولغا امرأة إيفور دور يكوفتش
ثالث غراندوق روسي، وكانت تُلقَّب بالقديسة «أولغا». ولدت من عائلة فقيرة في قرية قرب «بسكوف»، وكانت ذات جمال بارع، وذكاء سامٍ، فتزوجها «إيفور» سنة ٩٠٣م، وجلس معها على كرسي الملك سنة ٩١٢م، ومات عنها سنة ٩٤٥م، فحكمت بعده بالنيابة عن ابنها «سفياتوشيلاف». وقد انقسمت حياتها من ذلك الوقت إلى حين وفاتها إلى قسمين ممتازين خصص أحدهما بالسياسة، والآخر بالدين والتعبد.
وسبب وفاة زوجها هو أنه جمع عسكرًا وخرج به ليغزو قبيلة «الدريفليان»، ويجمع منهم الضريبة السنوية، وبعد أن جمعها رجع ظافرًا، وبينما هو على الطريق خطر له أن ما جمعه يسير، فأمر عسكره بالرجوع ليجمع ضريبة أخرى، فأبت العسكر أن ترجع معه، فعاد بشرذمة يسيرة، فلما رأته تلك القبيلة سألته ماذا يطلب، فأمرها بجمع الجلود والعسل والمال، فلما سمعوا ذلك احتدوا غيظًا وهجموا عليه وقتلوا من معه، وأما هو فمسكوه وأحنوا شجرتين وربطوه بطرفيهما وتركوهما، فرجعتا إلى مكانهما؛ فتمزق الأمير إربًا إربًا، ومات شهيد الطمع، فلما قتله «الدريفليان» انتخبوا منهم عشرين رجلًا وأرسلوهم إلى امرأة «إيفور» يطلبون إليها أن تتزوج أميرهم، فلما أتى إليها الرسل سألتهم: ماذا يطلبون؟ فأجابوا: إننا قتلنا زوجك لأنه خرب أرضنا، والآن نطلب أن تقبلي أميرنا زوجًا لك.
فقالت: حسنًا تقولون. أجيب طلبكم، وإنما أريد أن أُعظِّمكم في أعين شعبي؛ فارجعوا إلى سفينتكم، وعندما يأتيكم رسلي اطلبوا إليهم أن يحملوكم على أكتافهم، وبعد انصراف الرسل أمرت «أولغا» أن يحفروا خندقًا وراء قصرها، وأرسلت رُسلها وأمرتهم أن يحملوهم ويطرحوهم في الحفرة. فلما أتى رسل «أولغا» إليهم قال لهم أولئك: لا نذهب مشاة، ولا نمتطي صهوات الجياد، ولا نركب العجلات؛ احملونا على أكتافكم. فأجابوا طلبهم، وعندما أتوا القصر طرحوهم في الحفرة المُعدة لهم وواروهم التراب، وبعد ذلك أرسلت «أولغا» تقول لهم: إذا كنتم ترغبون حقيقة أن أكون امرأة لأميركم فأرسلوا رؤساء قومكم لأحضر معهم، فلما أتوا أمرتهم أن يغتسلوا في الحمام.
فلما دخلوه أمرت بإحراقه، فماتوا عن بكرة أبيهم، وعند ذلك أرسلت تقول «للدريفليان»: استعدوا لاستقبالي، وهيئوا المشروبات على قبر زوجي؛ فإني عازمة على أن أبكي هناك، ومن ثم أتزوج بأميركم، فأجابوا طلبها. ولما قدمت إليهم سألوها: أين رجالنا؟ فأجابتهم: سيحضرون مع عسكر زوجي، وبعد ذلك أولمت وليمة عظيمة، وعندما لعبت الخمور في رءوس «الدريفليان» بطش بهم رجال «أولغا»، وقتلوا منهم خمسة آلاف رجل، ورجعت على الأعقاب إلى مدينتها. وبعد مضي سنة جمعت عسكرًا، وأخذت ابنها، وغزت «الدريفليان»، وحاصرت عاصمتهم.
ولما لم تقدر أن تأخذها أرسلت تقول لهم: أعازمون أن تموتوا جوعًا وعطشًا؟ اجمعوا لي جزية وأنا أرحل عنكم، وأنا أطلب منكم جزية خفيفة؛ وهي: ثلاث حمامات وثلاث عصافير من كل بيت، فسرُّوا سرورًا عظيمًا، وحالًا جمعوا المطلوب وأرسلوه على جناح السرعة، فأمرت «أولغا» عساكرها بأن يربطوا بأذنابها خرقًا ملوثة بمواد ملتهبة، وعندما يبدو لهم الظلام يشعلون الخرق ويطلقون الحمام والعصافير. ففعلوا ذلك، ورجع كل طير إلى عشه، فالتهمت النارُ البيوتَ، وفرارًا من الحريق هرب سكان المدينة، فلاقتهم «أولغا» بعسكرها وفرَّقتهم أيدي «سبأ»، ونهبت أرضهم، ودوخت عدة قبائل، وضربت عليهم الضرائب الثقيلة، ورجعت إلى «كييف» ثم سافرت إلى «نوفوغودود»، فاستمالت بحكمتها كل القلوب.
وسنة ٦٥٥م، سلَّمت زمام الملك لابنها المذكور، وتفرغت لأمور العبادة، فاعتنقت المذهب المسيحي، وعمَّدها في القسطنطينية في السنة المذكورة البطريرك بحضور الإمبراطور «قسطنطين بورفيرو جينيتوس»، وحاولت إقناع ابنها بالاقتداء بها، فلم يغن اجتهادها شيئًا، وماتت سنة ٩٦٨م، فأسف عليها الناس جدًّا، واحترمها الروس احترام قديسة. وفي أيامها ذاع اسم روسيا في الأقطار العربية الشاسعة.
أولمبياس ابنة نيو بتوليمس
أولمبياس ابنة نيو بتوليمس ملك أبيروس وامرأة فيلبس المكدوني وأم إسكندر الكبير.
اشتهرت بكثرة قبائحها، وتسليمها نفسها إلى شهواتها، فهجَرها «فيلبس»، فمضت إلى «أبيروس»، ودسَّت إلى زوجها مَن قتله وهو في «بوسانياس»، ثم رجعت إلى «مكدونيا» وأعلنت فرحها بقتل زوجها.
واحتفلت بجنازة «بوسانياس» قاتله بلا وجل ولا خجل، ولما ملك ابنها الإسكندر حاولت أن تشاركه في الملك، غير أن حكمته حالت دون مطامعها. ولما مات إسكندر طمعت في الاستيلاء على المملكة، غير أن ثبات «أنتيباتر» وزيره اضطرها إلى الرجوع إلى «أبيروس»، فدعا بها «بوليسيرخون» الذي خلف «إنتيباتر» ولقَّبها نائبة الملك، فلم تلبث أن قتلت «أدخيدوس» — وهو ابن «فيلبس» من امرأة أخرى — وعددًا كثيرًا من أعوانه، فكانت مثالًا لسفك دم عائلة الإسكندر، وقتلت «نيكانور» — أخي «كاسندروس» — فأتى إليها «كاسندروس» وحاصرها في «بدنا»، وحصر معها حفيدها «إسكندر أيفوس» ابن الإسكندر الأكبر؛ أملًا في معاونة الأمة لها إذا رأوه معها، فلم يلتفت إليها أحد، فاستسلمت، فلم يجسر «كاسندروس» أن يقتلها بنفسه وهي أم سيده، فوكل بقتلها جماعة من الضابطة المكدونيين، غير أن هيبتها وتذكرهم مجد ابنها منعاهم عن إتمام العمل، فدعا «كاسندروس» الذين قتلت «أولمبياس» أبناءهم وأقرباءهم، فذبحوها بدون تردد، وذلك سنة ٣١٧ قبل المسيح.
أوجين ملكة الفرنسيس
هي حليلة «شارل لويس» بن «لويس نابليون» الذي تولى سدة الملك باسم «نابليون الثالث». كانت في صباها المشار إليها بالبنان، والمُثنَى عليها بكل شفة ولسان. ولِمَا أودَعها اللهُ من الحسن واللطف وحسن التربية، مع الكياسة والرقة والظرف رقَتْ في عصر زوجها مقامًا تحسدها عليه السَّبعُ الطِّباق، وبلغت شأوًا أطار ذكرها في الآفاق، وناهيك أنها تصدرت في مائدة جمعت ملوك الأرض، وكلهم يحسب احترامها كالسُّنَّة، وتعظيمها كالفرض. وحسبك أنها لما أتت مصر عام الاحتفال بفتح خليج السويس كان عزيز مصر في خدمتها، ولفيف من أمراء الشرق والغرب في عداد حاشيتها.
ولما قدمت القسطنطينية استقبلها ساكن الجنان السلطان عبد العزيز حتى المرفأ، وأبدى لها من التحية والتبجيل ما يعزُّ عن المثيل.
وإذ ذكت نار الحرب بين الفرنسيس والألمان، أقامها الإمبراطور خليفة له على العرش تنظر في أمره، وتقضي في حالتي خلِّه وخَمْره، وخرج قائدًا للجيش يصدم به العدو، ولسان حاله يقول:
فإن الدهر بعد أن سقاها سلسبيلًا، ودار عليها من الصفو أكوابًا كان مزاجها زنجبيلًا في سدرٍ مخضود، وطلحٍ منضود، وظلٍ ممدود، عاضها بالزقوم والغسلين، وهبط بها من أعلى عليين إلى أسفل السافلين، فغادرها سموم وحميم، وظل من يحموم لا باردٍ ولا كريم، وذلك أن زوجها بعد أن كان حالفه النصر في معركة «سادبروك» وأمل العالم لأمة الفرنسيس بالفتح المبين، والفوز المكين، خالفه التوفيق في سائر المعارك، فقهره أعداؤه، أي قهر وكسره مساجلوه، أي كُسر، حتى إذا زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، دخل إلى الاستئمان بعد واقعة «سيدان» التي حدثت في أربعة أيلول عام ١٨٧٠م، فاخترط حسامه وسلَّمه إلى الملك «غليوم» عدوه الألد، مكتفيًا من النصر بالأسر مع ثمانين ألفًا من جيشه، وما برح مأسورًا في «فاستافاليا» من بلاد الألمان حتى حميت لظى الحرب بين الفريقين.
ثم لم يأتِ حين من الدهر حتى ألمَّ به داء في المثانة عياء ذهب به إلى دار الفناء، بعد أن أذاقه صنوف الويل وأفانين البرحاء، تاركًا وراءه المسكينة «أوجين» على فراش من القتاد، ووسادة من الرمضاء. ولم يكتف بهذا الدهرُ الظالمُ حتى نكلها في وحيدها وبقية آمالها البرنس «أميربال» شهيدًا في بلاد «الفرولوس» الإفريقية، مطعونًا بأسنة أمة بربرية وهو يافع في نضارة العمر، وريعان الشباب. وبقيت بعده كالغزالة النافرة من زُرُود جزعًا على خِشْفها العزيز تنثر لآلئ الدمع على يواقيت الخدود، وتغرس عقيق الشفاه ببرد الثغر البرود، ولسان حالها يقول: لقد جئت يا دهر شيئًا فريًّا، يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيًّا منسيًّا، تحاول الاعتصام بالصبر على ما انتابتها به الأيام، وهو بعيد عنها بُعد المسجد الأقصى عن المسجد الحرام. وبقيت على ذلك إلى هذه الأيام.
أيريني إمبراطورة بيزنطية
ولدت في أثينا سنة ٧٥٣م، وتوفيت في جزيرة «لسيوس» سنة ٨٠٣م، واشتهرت بالعقل والجمال، فاختارها «قسطنطين كويردنيموس» زوجة لابنه المعروف ﺑ «لاون» الرابع، فاستولت على قلبه كل الاستيلاء. ولما مات عهد إليها وصاية ابنه «قسطنطين الخامس» سنة ٧٨٠م، فقامت بأعباء الملك حق القيام، حتى إذا ساعدها القدر، وخدمها السعد، بطرت واستكبرت وداخلها الطمع، فعقدت مع هارون الرشيد صلحًا غير موافق لانتفاعها به.
وسنة ٧٨٧م، عقدت مجمعًا في «نيقية» أمرت فيه بعبادة الأيقونات، وألغت انشقاق الكنيسة الشرقية، فلما رشد ابنها سنة ٧٩٠م نفاها وهجرها في قصر، لكنها تخلصت بعد خمس عشرة سنة، واتصل بها الأمر لكي تستبد بالمملكة، إلى أن سملت عيني ابنها بلا خوف ولا خجل. ولكي تُنسي الناس هذا العمل الفظيع شرعت بأعمال عظيمة، فقيل: إنها عرضت نفسها على «شارلمان» ليتزوجها، أو قبلت بالأقل أن تُزوِّج إحدى بناتها بأحد أولاده، لكن قبل أن يتم ذلك حجر عليها «نيقيفورس»، خازنها الأكبر، سنة ٨٠٢م، ونفاها إلى جزيرة «لسيوس»، فحط بها الدهر هناك حتى احتاجت أن تأكل من غزل يدها، وهناك ماتت سنة ٨٠٣م، فتأثر اليونان لمصائبها، وجعلوها قديسة، وأقاموا عيد تذكار لها في ١٥ آب من كل سنة، واسمها في بعض كتب العرب «أريني».
إيزابيلا الأولى المُلقَّبة بالكاثوليكية ملكة قسطيلة ولاون
ولدت سنة ١٤٥١م، وتوفيت سنة ١٥٠٤م. كانت بنت «يوحنا الثاني» ملك قسطيلة من «إيزابيلا» البرتغالية زوجته الثانية، وفي السنة الرابعة من عمرها توفي أبوها، فخلفه في الملك ابنه «هنري» من «ماريا» الأراغونية زوجته الأولى، واستمرت «إيزابيلا» مع أمها إلى سنة ١٢ من عمرها، وكانتا منفردتين في بليدة «أريقالوا»، فلما ولدت «جوانا» نقلها «هنري» إلى بلاطه، محاولًا بذلك أن يمنع تألف حزب يُمكِّنها إرث الملك من بعده بدل البرنسيس «جوانا» المذكورة. وكان حصولها على تاج الملك أمرًا مستبعدًا؛ لأن أخاها البكري كان ملكًا وله بنت، وكان لها أيضًا أخ أصغر منها في قيد الحياة، غير أن أكابر ملوك أوروبا أتوها خاطبين أملًا بمستقبلها.
قال «برسكوت»: وكان «فردينندو» أول من خطبها، وهو الذي تزوجها بعد أن حال دون ذلك مصاعب شتى؛ فإنها خطبت في السنة الحادية عشرة من عمرها لأخيه «كارلوس»، وكان قد بلغ الأربعين، فدُفع عنها ذلك المكروه بموت «كارلوس» بالسُّم، وسنة ١٤٦٤م وُعد بها أخوها «هنري ألفونس»، ملك البرتغال، فعارضته في ذلك مُدَّعيةً أن بنات ملوك «قسطيلة» لا يتزوجن إلا بموافقة أشراف المملكة، ثم حدثت ثورة رياسة مركيز «فلينا» وعمه رئيس أساقفة «طليطلة»، وكان من بواعثها اعتقاد كثيرين من الأشراف أن البرنسيس «جوانا»، التي أقسم لها أكابر الدولة بالطاعة بناء على طلب الملك، لم تكن من صلبه، بل من صلب «بلتران دولا كويبا»، عشيق الملكة، فأعلن الثائرون انتقال الملك من «هنري» إلى أخيه «ألفونس»، وجمعوا جيشًا لإجراء ذلك، فحاول الملك إسكان رؤسائهم بتزوج «إيزابيلا» بالدون «بدرو جيرون» الفاسق أخي مركيز «فلينا».
أما هي فقالت لأخيها: إن زوجتني به أشق صدره بخنجر وأرفع عن نفسي العار، غير أن الدون المذكور مات في طريقه إلى العُرس، وبعد ذلك بسنتين؛ أي سنة ١٤٦٨م، توفي «ألفونس»، فعرض الثائرون تاج الملك على «إيزابيلا»، فرفضته وآثرت أن تُجعَل وارثةً لأخيها، فعاهد العصاة «هنري» على أن يطلق الملكة، ويعترف بأن «إيزابيلا» وارثة لمملكتي «قسطيلة» و«لاون»، وأن لها حقًّا في اختيار بعل تتزوجه برضاها. ولم يلبث المجلس العالي أن قرر حق «إيزابيلا» في الإرث.
أما «هنري» فلا يبالي بشروط المعاهدة، وحاول إكراه أخته على الاقتران بملك البرتغال، غير أن السياسة والحب استمالاها إلى «فردينندو» برنس «أراغون»، فتهددها أخوها بالحبس فلم تعبأ به، وعزمت على أن تباشر الأمر بنفسها، فردت الرسول الأرغواني بجواب مرضٍ، ووقع «فردينندو» على عقد الزواج في «سرفيرا»، وذلك سنة ١٤٦٩م، وضمن لعروسه جميع حقوقها الملكية الأصلية في «قسطيلة» و«لاون»، فأنفذ «هنري» في الحال فرقة من العساكر لإلقاء القبض على شقيقته، فهربت إلى بلاد الوليد، وأرسلت إلى «فردينندو» تحثه على أن يوافيها بسرعة لإتمام الزواج، فلم يتمكن «فردينندو» من أن يسير بخفر؛ لأن أباه كان يحارب عصاة «قطالونيا»، وكان بيت المال فارغًا، فلبس ثوب خادم وسار متنكرًا مع ستة رفقاء استأمنهم، فلم يعرفه العساكر الذين أقامهم «هنري» لمنعه المرور، وخرج من تلك المدينة بزي لائق، فأغذوا السير إلى بلاد الوليد، وتزوج «إيزابيلا» سنة ١٤٦٩م.
فأعلن «هنري» أن أخته أضاعت جميع الحقوق التي تقررت لها بموجب المعاهدة، وجعل «جوانا» ولية عهده، فانقسمت البلاد إلى قسمين كبيرين متحاربين، وعضدت فرنسا الملك، غير أن «إيزابيلا» كانت بحكمتها وفضائلها تستميل إليها أهالي «قسطيلة» شيئًا فشيئًا، وتكتسب طاعتهم وأمانتهم.
وفي سنة ١٤٧٤م، توفي «هنري»، وبعد يومين من وفاته أقيمت «إيزابيلا» ملكة في «سيروفيا»، فأقسم لها كثيرون من الأشراف بالطاعة، إلا أن حزب «جوانا» كان قويًّا، فلم تعترف البلاد كلها بالملكة إلا بعد حرب جرت لها مع «ألفونس»، ملك البرتغال، وكان قد خطب «جوانا».
ومن ثم شرعت في أعمال تحلى بها تاريخ إسبانيا، فأصلحت قوانين البلاد، وأدارت الملكة الشئون الداخلية، وعضدت الآداب والصنائع، وبذلت جهدها في تغيير تصرفات زوجها؛ فإنها كانت قرينة القساوة والخداع. ومع أنها كانت روح الحرب التي شهرت على العرب، وكانت تحارب فيها بنفسها، وتلبس درعًا — لم يزل محفوظًا إلى الآن في مدريد — كانت تقاوم القساوة التي اتخذها الإسبانيول في تلك الأيام سياسة نحو الأمة المذكورة، ولم تأمر بطرد اليهود من «قسطيلة»، ولا سلمت — على غير إرادتها — بإجراء الفحص الديني إلا لاعتقادها أن سلامة الدين الكاثوليكي تتوقف على ذلك، وزادها شهرة مساعدتها «كرستوفورس كولومبوس»، فاتح أميركا، على إنفاذ مقاصده؛ فإن الأسطول الذي اكتشف به أميركا جُهِّز على نفقتها، وضادَّت استرقاق الهنود الأمريكان.
فلما وصل الأسرى الذين أرسلهم إليها «كرستوفورس» المذكور، أمرت بإرجاعهم إلى بلادهم، وبمساعدة الكردينال «كسيمنس» أصلحت الراهبات، وبذلك جعلت للكنيسة في إسبانيا نظامًا ثابتًا راهنًا كالنظام الذي سنته للدولة، ولم يكن المال ولا علو المرتبة يشفعان عندها بالمذنبين، بل كان سيف العدل يعلو رقاب المجرمين من الأكابر والأصاغر والإكليروس على حد سواء، وكانت «إيزابيلا» جامعة بين عقل الرجال ومحاسن النساء، وفضائل ناضرة عديمة النظير، فباتت موضوعًا محبوبًا للمؤرخين في الأعصر التالية، والإسبانيول الآن يحبون ذكرها كما كان رعاياها منهم يحبون شخصها.
أما الموت الفجائي الذي أصاب كلًّا من الدون «كارلوس» والدون «بدرو جيرون» وأخيها «ألفونس»، فلم يوقع عليها أقل شبهة، مع أنه نالها بذلك ربح عظيم، وكانت تحب زوجها حبًّا شديدًا لا يعتريه فتور البتة، غير أنه لم يكن يقابلها دائمًا بمثل ذلك، وكانت تقواها الطبيعية تزين كل أعمال حياتها، وكان جمال خُلقها يعادل حسن خَلقها، وكانت صافية اللون، ذات عينين زرقاوين، وشعر أسمر. وولد لها خمسة أولاد؛ وهم: «إيزابيلا» التي تزوجت «عمنوئيل»، ملك البرتغال، و«جوان» وكان أميرًا فاضلًا توفي سنة ١٤٩٧م وله من العمر ٢٠ سنة، و«جوانا» التي تزوجت «فيليب» أرشيدوق «أوستريا»، وولد لها منه الإمبراطور «كارلوس الخامس»، و«ماريا» التي تزوجت «عمنوئيل» بعد وفاة أختها، و«كاترينا» زوجة «هنري الثامن» ملك إنكلترا.
إيزابيلا الثانية ملكة إسبانيا
ولدت في مدينة «مدريد» سنة ١٨٣٠م، وهي بكر بنات «فردينندو السابع» من «ماريا كرسنينا»، رابع زوجاته. نشأ عن مسألة إرثها الملك بعد أبيها حرب أهلية شديدة؛ لأنه لم يكن لأبيها ولد ذكر يخلفه. ففي ٢٩ آذار (مارس) سنة ١٨٣٠م، أبطل القانون الذي وضعه «فيليب الخامس»، ومآله حرم الإناث تخت الملك، وجعل بنته خليفة له، وبذلك حرم أخاه الدون «كارلوس» ولي العهد ما كان له من الحق المقرر بموجب القانون المذكور.
وفي سنة ١٨٣٣م، توفي «فردينندو» وكانت «إيزابيلا» في السنة الثالثة من عمرها، فأقيمت ملكة فشهر الدون «كارلوس» السلاح، وعضده حزب كبير سمي بالكارلوسي نسبة إليه، ولم تلبث دائرة الخلاف أن اتسعت وصارت إلى حرب أهلية رديئة، وانحاز الإكليروس إلى الدون «كارلوس». أما حزب الملكة فسُمي بحزب الحرية أو بالحزب النظامي؛ لأن أم الملكة التي استولت على زمام الملك بالنيابة عن ابنتها تعهدت بوضع قانون أساسي لإسبانيا، وكان معظم الشعب من حزب إيزابيلا.
وفي سنة ١٨٣٤م، أجمع أكثر أعضاء المجلس العالي على حرمان الدون «كارلوس» ونسله الملك.
وفي سنة ١٨٣٩م، عقد الصلح بين الجنرال «ماروكي» الكارلوسي، والجنرال «إسبرتيرو» النظامي، وهرب الدون «كارلوس» إلى فرنسا. وفي أثناء الحرب كانت الملكة النائبة تتردد بين حزب المحافظين أو المعتدلين وحزب الحرية. أما وزارة «منديزابال» فغيرت النظام، ووسعت دائرة قانون الانتخاب، وقامت بإصلاحات أخرى غير أن ديوان المشورة الكبير لم يكتف بذلك، وطلب إعادة النظام الذي تقرر سنة ١٨١٢م، فحصل عليه أخيرًا ثورة حدثت في «مدريد» سنة ١٨٣٧م.
وفي سنة ١٨٣٩م، حدثت ثورتان في «برشلونا» و«مدريد» فأكرهت أم الملكة على الفرار إلى فرنسا.
وفي سنة ١٨٤٠م، تولى «إسبرتيرو» زمام البلاد، وفي سنة ١٨٤١م جُعل وكيلًا للملك، غير أن أصدقاء «كرستينا» والمحافظين ثاروا عليه واضطروه إلى الاستعفاء، وكانت الملكة قد ناهزت سن الرشاد، ولم يبق إلا ١١ شهرًا لبلوغها السن القانونية، فضرب عنها المجلس العالي صفحًا وأجلسها على تخت الملك في ١٠ تشرين الثاني (نوفمبر) سنة ١٨٤٣م.
وفي سنة ١٨٤٤م، وجهت رياسة الوزارة إلى الجنرال «زفايز» الذي كان قد تولى رياسة الثائرين، وفي السنة التالية غُير النظام تغييرًا غير موافق لأهل الحرية.
وفي سنة ١٨٤٦م، تزوجت «إيزابيلا» بابن عمها الدون «فرنشسكو دواسبس» وفقًا لمشورة الملك «لويس فيليب»، وفي الوقت نفسه زوجت أختها «ماريا فردييند لويزا» بدوق «منينسيا»، غير أن زواج الملكة أدى إلى تأويلات مستهجنة، ووقع الخلاف بين الزوجين، وكثرت الإشاعات، فذهب قوم إلى أن الملك ليس كفئًا للملكة، وكان آخرون يتهمون الملكة بخيانة زوجها. وعقدت «إيزابيلا» الصلح مع النمسا وبروسيا.
وفي سنة ١٨٤٩م، أنفذت جيشًا لمساعدة البابا، وفي سنة ١٨٥٢م، حاول بعضهم قتلها، فحملها الحزب المحافظ على فض المجلس العالي، واتخاذ وسائل مشددة، ونفي كثيرين من جنرالية الحزب النظامي.
وفي سنة ١٨٥٤م، قام الجنرال «لودونل» والجنرال «دلشي» بثورة عسكرية ومدنية في «مدريد»، وتمكن من إقامة حكومة محلية، فهربت أمام الملكة ثانية إلى فرنسا. أما «إيزابيلا» فصرحت بالعفو التام، وفتحت مجلسًا عاليًا جديدًا، وأباحت بيع الأوقاف.
وفي سنة ١٨٥٦م، حاول «أودونل» أخذ القوة بالبطش، وأخمدت الملكة ثورات حدثت في جنوب إسبانيا، فتوطد سلطانها، وأعادت النظام الذي تقرر سنة ١٨٤٥م، فأدى إلى نهج سياسة مضادة لأهل الحرية.
وكانت نتيجة ذلك سقوط وزارة «ترفايز» في السنة التالية، وقيام وزارة أخرى تميل إلى الحزب النظامي، وذلك في سنة ١٨٥٧م، وتولى «أودونل» قيادة العساكر التي أنفذت لمحاربة مراكش، فاستظهر على المراكشيين وانتهت الحرب سنة ١٨٦٠م.
ثم تداخلت «إيزابيلا» مع فرنسا في أمور المكسيك، وأرسلت إليها جيشًا تحت قيادة الجنرال «بريم» سنة ١٨٦١م، إلا أن الجنرال المذكور لم يلبث أن قصر حبل المداخلة، وحاولت الملكة الاستيلاء على «سنتود» و«منفو» و«بيرو» و«شيلي» ففشلت.
وفي سنة ١٨٦٦م، استعفى وزراؤها، فاضطر الأمر إلى تقرير مبطل نظام سنة ١٨٦١م، الذي بموجبه ضمت جمهورية «دومينيكا» إلى الملكة، وفي السنة نفسها أمرت ببيع جميع الأملاك المختصة بأفراد البيت المذكور، وصرفت أثمانها في أمور نافعة للأمة.
وفي سنة ١٨٦٦م، حملها الإكليروس والوزارة الجديدة التي تألفت تحت رياسة «ترفايز» على إبطال حرية المطبوعات، وجعل التعليم العمومي في أيدي خدَمة الدين، فحدثت ثورات تولى قيادة بعضها «بريم»، وذلك في السنة نفسها والسنة التالية. وكان الثائرون منتشرين في جهات مختلفة من البلاد، غير أن مساعيهم هبطت لعدم انتظامهم. وخلف «ترفايز» في رياسة الوزارة «غنزالز برافو»، فضادَّ أهل الحرية أكثر من سلفه، غير أنه سنة ١٨٦٨م ابتدأت الثورة في قادس، فانتشرت في الحال في إسبانيا كلها، ونشأ عنها فرار الملكة إلى فرنسا مع أولادها وعشيقها «مرفوري»، وقسيسها «كلاريت»، فقدَّم لها «نابليون الثالث» قصر «بوفاه»، صدَّرت منه إعلانًا إلى الشعب الإسبانيولي، فأقامت به الحجة على الثورة.
وفي سنة ١٨٦٨م، صُرح في «مدريد» بخلعها، فاستوطنت «باريس»، غير أنها أقامت مدة في «جنيفا» في أثناء الحرب التي جرت بين فرنسا وجرمانيا.
وفي ٢٥ حزيران (يونيو) سنة ١٨٧٠م، تنازلت عن تخت الملك لابنها «ألفونس»، فسمى نفسه «ألفونس الثاني عشر» في إسبانيا.
إيزابيلا فيليب لوبل الملقبة بالفرنساوية ملكة إنكلترا
والدها «فيليب» ملك فرنسا. ولدت سنة ١٢٩٢م، وتوفيت سنة ١٣٥٨م، وتزوجت «إدوارد الثاني»، ملك إنكلترا، سنة ١٣٠٧م، غير أنه أهملها؛ لأن ندماءه الأشرار كانوا قد ملكوا قلبه، فكان يوافقهم في جميع آرائهم ومشوراتهم، فصرَّحت بخلعه بمساعدة أخيها «شارل لوبل»، واستولى على زمام الملك بالوكالة عن ابنها «إدوارد الثالث» سنة ١٣٢٦م، إلا أن عشيقها «روجر مرتيمر» أهلك «إدوارد الثاني» في السنة الثانية بعد أن أذاقه العذاب، فاغتاظ ابنها وخلع نيرها، وأمر بقتل «مرتيمر» سنة ١٣٣٠م.
أما هي، فحبسها في سجن ماتت فيه بعد ٢٨ سنة. وقد زعم «إدوارد الثالث» وحلفاؤه أن لهم حقًّا في ملك فرنسا؛ لأن «إيزابيلا» المذكورة كانت من البيت الملكي الفرنساوي، وقيل: إنها لما توجهت إلى فرنسا لتسوية الخلاف الذي وقع بين أخيها وزوجها، رأت كثيرين من الإنكليز الهاربين وهم من أصحاب «أرل لنكستر»، وكان أكثرهم إقدامًا ونشاطًا شاب اسمه «روجر مرتيمر»، فجمعتهم إليها وقر رأيهم على خلع «إدوارد».
وفي شهر أيلول (سبتمبر) سنة ١٣٢٦م، وصلت الملكة إلى ساحل «سفلك» بعساكر أجنبية مؤلفة من ٣٠٠٠ مقاتل تحت قيادة «روجر مرتيمر» و«جون منهينو»، فأسرع لملاقاتها أكابر الأشراف والقسوس، واستنجد «إدوارد» برعاياه، فلم ينجده أحد، ففر هاربًا إلى تخوم «ولس»، فاقتفت الملكة أثره وقبضت عليه في دير «نيت» من «كونتيه كلامرغان»، وأرسلته إلى قلعة «كبتلورس». وفي تلك الأثناء ألقي القبض على «هدلود سنسر» وقتل خنقًا، واجتمع المجلس العالي بأمر «إيزابيلا» و«مرتيمر» فأصدر قرارًا في شهر يونيو سنة ١٣٢٧م يؤذن بسقوط «إدوارد أف كرنارفون»، ونقله إلى قلعة «بيركلي»، وكان حرسه من الأوباش فبقي فيها إلى أن وجد في ٣١ أيلول عند الصباح ملقًى ميتًا على فراشه. وكان قد سُمع صراخ وأنين من غرفته، ولم تبق جثته على حالها الطبيعية، فدل ذلك على أنه قتل قتلًا ذريعًا، والمظنون أن أمعاءه أُحرقت بحديد محمَّى بالنار.
ولما بلغ «إدوارد الثالث» من العمر اثنتي عشرة سنة، أخذته والدته الملكة «إيزابيلا» المذكورة إلى فرنسا، ولبثت ملكية «شارل الرابع» في ولايتي «غينا» و«نبتيو» اللتين وهبه إياهما أبوه «إدوارد الثاني»، وهناك عقدت الملكة «إيزابيلا» بين «إدوارد» وبين «فيليب» عقد زواج، فتزوجها في ٢٤ يونيو سنة ١٣٢٨م. ولما أسر «إدوارد الثاني» وسمي «إدوارد الثالث» ملكًا لإنكلترا، أمرت الملكة «إيزابيلا» بتعيين أربعة أساقفة وعشرة أشراف لكي يقرروا وكالة الملك، وكان أكثرهم من حزبها، فقرروا لها وﻟ «مورتيمر» — الذي صار آل «مرنش» — حق إدارة المملكة من تلك الأثناء.
فقضى «روبرت تروسل» شروط الهدنة التي كانت بينه وبين مملكة إنكلترا، وأنفذ جيشًا عظيمًا تحت قيادة «رندولف» و«زغلاس»، فحملوا في كتيبة «كمبرلانة»، وألقوا فيها الخراب والدمار، فأرسلت «إيزابيلا» ولدها «إدوارد» إلى «انشيمال» بجيش يزيد عن الأربعين ألف مقاتل. وهناك حصل بينه وبين الأسكوتسيين وجرى له معهم موقعتان، وهم في مراكز منيعة جدًّا، فلم يتمكن من التغلب عليهم، ويقال: إنه بكى لما رأى جماعة يسيرة قد استظهروا عليه وأنهى تلك الحرب المشئومة، فعقد معاهدة اعترف فيها باستقلال «أسكوتسيا» تمامًا. وهذه الحالة ألقت المسئولية على «إيزابيلا» و«مرتيمر»، وكانا قد غاظا الشعب بأفعالهما ضد «أرل أف كونت»، فإنهما سعيا في قتله لخيانة كبرى اتهماه بها، وذلك سنة ١٣٣٠م.
وفي السنة نفسها، استبد «إدوارد» بالسلطة، وتخلص من طاعة أمه ومحبيها، وقتل «مرتيمر» لخيانة بدت منه، وأما «إيزابيلا» فأمر بحبسها طول حياتها في قصر «رشتنغ» حتى توفيت كما تقدم.
إيزابيلا البافارية ملكة فرنسا
وهي ابنة دوق «باباريا». ولدت سنة ١٣٧١م، وتوفيت سنة ١٤٣٥م. تزوجت «شارل السادس» سنة ١٣٨٥م، فلما جنَّ سنة ١٣٩٢م جُعلت رئيسة لمجلس الوكالة الملكية، وكان من أعضائه دوق «أورليان» أخو الملك، و«جان» دوق «بورغونيا» المُلقَّب بعديم الخوف؛ فحصل بين هذين الأميرين مناظرة شديدة نشأ عنها الخصام الذي جرى بين البورغونيين والأرمنياكيين، وكانت «إيزابيلا» تميل إلى دوق «أورليان».
ويقال: إنه كان بينهما علائق حبية، فأضمر لها دوق «بورغونيا» الشر، وقتل خصمه سنة ١٤٠٧م رغبةً في الانتقام منها، فغمها الأمر جدًّا، ولكنها رضيت بمعاهدة القاتل لتحفظ لنفسها السلطان. ولما قتل دوق «بورغونيا» نفسه سنة ١٤١٩م، واطأت خلفه «فيليب لوبون» على تسليم فرنسا ليَدٍ أجنبية، حارِمةً بذلك من الملك نفس ابنها «شارل السابع»، ووقعت على معاهدة «تروا» التي بموجبها وجه تخت فرنسا إلى «هنري الخامس»، ملك إنكلترا، وذلك سنة ١٤٢٠م، وقلت أهميتها بعد وفاة «شارل السادس» و«هنري الخامس» سنة ١٤٢٢م، فلم تكن تتداخل في الأحكام، وفي سنة ١٤٣٥م، توفيت مصحوبة باحتقار الشعب غير مأسوف عليها.
ألمس
المغنية الشهيرة التي فاقت كافة أرباب الألحان وآلات الطرب، وحازت شهرة عظيمة لا مزيد عليها، وقد جمعت أموالًا كثيرة حتى قيل فيها: إنها سلبت أموال القطر المصري برقة صنعتها، وحلاوة صوتها الشاجي، وكانت ابنة رجل فقير يتعاطى صنعة الصباغة، وكان ظهورها في أواخر أيام سعيد باشا وأوائل حكم إسماعيل باشا الخديوي، وكانت في ذلك الوقت سائدة على مغنيات مصر، لا سيما «ساكنة» المغنية الشهيرة، وكانت قد أسنت، وكانت «ألمس» صغيرة لا تتجاوز — على ما بلغني — الثانية عشرة من سِنِيِّها، وكان اسمها الحقيقي «سكينة»، ولكنها في مبادئ ظهورها لقبت باسم «ألمس»، وقد غلب على الاسم الأصلي، فشهرت به، وفي أول ظهورها قد طلبت إحدى سيدات العائلة الخديوية جملة بنات من بنات الأهالي حسنات الأصوات لأجل تعليمهن الألحان، فجاءتها إحدى أتباعها بما طلبت، ومن جملتهن «ألمس»، فاختبرت أصوات الجميع فلم يرق لها سوى صوت المترجَمة، فطلبت إليها الإقامة عندها فامتنعت، واعتذرت أنها لا تقدر على ترك والدها الفقير، فقبلت عذرها بكل أسف، وأنعمت عليها بشيء من النقود وانصرفت، ثم بعد ذلك اشتهرت بين سيدات مصر وذواتها، فكثر طلبها وتحدث بذكرها الرجال والنساء.
ولما رأت «ساكنة» المغنية ذلك خافت على مركزها وشهرتها أن تسترها «ألمس» بما منحها الله من حسن الصوت، ورقة الصنعة، فضمتها إليها، وصارت من ضمن أتباعها، فصار الالتفات الكلي من الأهالي وولاة الأمور لجهة «ألمس»، وصارت «ساكنة» لا يُعبأ بها، فداخلها الحسد والحقد، فساءت معاملتها. ولما رأت المترجَمة ذلك انفصلت عنها، وجعلت لها تختًا خصوصيًّا، وكبُر شأنها، وطلبها ولاة مصر وذواتها، وتُركت «ساكنة» ونُسي أمرها، فزاد الحقد والحسد لها من جميع مغنين ومغنيات مصر. وكان عبده الحمولي المغني الشهير هو المشهور بين الرجال في ذلك الوقت، فأخذه الخوف على شهرته، وارتعب من إطفاء اسمه كما حصل ﻟ «ساكنة»، فأظهر ﻟ «ألمس» في بادئ الأمر العداوة، ووقع الخلاف حتى صار إذا أراد أن يزين أفراحه ويجعل لها رونقًا جمع ما بينهما في سامرٍ واحد، فيظهر كل منهما ما عنده من حسن الصنعة، ورقة الصوت، فيطرب السامعون ويصحُّ فيهم المثل السائر: «تشاحنت المراكبية بسعد الركاب.»
ولما رأى ذلك عبده الحمولي، وأن الأهالي متجهة أفكارها إلى جهة «ألمس»، وكثر مادحوها، وقل الالتفات إلى جهته، عمد إلى الحيلة والمكر اللذين يتهم بهما النساء، وأظهر لها الحب والود الذي لا يُشك فيه، وطلب إليها الاقتران، وبذل جهده في إتقان الحيلة حتى قبلت اقترانها به، وكانت من قبل تزوجت برجل إيراني وانفصلت منه — لا أعلم إن كان بموت أو بالحياة.
ولما دخلت على عبده كان آخر العهد بها، فمنعها عن الغناء وتقدم هو، فرجعت له شهرته الأولى؛ إذ لم يبق غيره في القطر المصري، وأسف الأهالي جميعًا من غياب سناء «ألمس» عن عيونهم، وحزن الكثير من هذا الاقتران.
ولما صارت تحت حكمه سلَّمت له كل مالها وما تملكه، ففتح محل تجارة، وحيث إنه كان مسرفًا في بذل الأموال لم تدم تجارته إلا قليلًا، فقفل محله التجاري.
وكانت المترجَمة حملت منه ولم تلد، بل توفاها الله بحملها وهي في نضارة الشباب، وعنفوان الصبا، فأسف عليها المصريون كل الأسف، وكان لها يوم مشهود جمع أكابر مصر وأصاغرها، واحتفل بمشهدها تقله أعناق الرجال، وتسقى الأرض بأنهر من الدمع المدرار.
وحزن عبده عليها الحزن الشديد، وحاقه الندم على ما فرط منه في معاملتها بالقسوة؛ حيث إنه كان يعاملها بكل فظاظة وهجر، حتى قيل: إنه كان يقصد خسارة أموالها، فيركب العربة تقلها الخيل الجياد من خيلها، فلا يحملانه أكثر من الأسبوع، وخسرت التجارة ما ينوف عن الثلاثين ألف جنيه، وغير ذلك من الخسائر الباهظة غير ما عاملها به من الهجر والإعراض، فلحِقها الغمُّ وندمت من حيث لا ينفع الندم، حتى قيل: إن ذلك كان سبب موتها لما لحقها من الكدر.
فأثر هذا الأمر في عبده بعد موتها، وثابر على الحزن مدة من الزمن، وغنى عليها بألحانٍ محزنة نذكرها على سبيل الاستئناس، وهي:
مذهب
دور
دور
دور
هذا ما بلغني من ترجمة «ألمس»، ولم أجد من يطلعني على شيء من نوادرها وملحها الكثيرة.