حرف السين
سارة زوجة إبراهيم الخليل عليه السلام
كانت أحسن نساء زمانها جمالًا، وأوفرهن عقلًا وكمالًا، تزوجت بإبراهيم الخليل — عليه السلام — وكان يحبها محبة عظيمة، وكانت لم تعصه في شيء، وبذلك أكرمها الله تعالى.
وكان قدم بها إبراهيم إلى مصر وبها فرعون من الفراعنة الأولى، وقد وصف له حسنها وجمالها، فأرسل إلى إبراهيم — عليه السلام — فجاءه، فقال له: ما هذه المرأة منك؟ فقال: هي أختي، وتخوَّفَ إنْ قال هي امرأتي أن يقتله، فقال له: زيِّنها وأرسلها لي حتى أنظر إليها، فرجع إبراهيم إلى سارة وقال لها: إن هذا الجبار قد سألني عنك، فأخبرته أنك أختي، فلا تُكذِّبيني عنده فإنك أختي في كتاب الله — عز وجل — ثم أقبلت سارة على الجبار، وقام إبراهيم عليه السلام يصلي.
فلما دخلت عليه ورآها أهوى إليها يتناولها بيده، فيبست يده إلى صدره، فلما رأى ذلك عظم أمرها وقال لها: سلي ربك أن يطلق يدي فوالله لا آذيتُكِ، فقالت سارة: اللهم إن كان صادقًا فأطلق له يده، فأطلق الله تعالى يده.
وقيل: إنه فعل ذلك ثلاث مرات بقصد أن يتناولها فتيبس يده، فلما رأى ذلك ردها إلى إبراهيم ووهب لها هاجر، وهي جارية قبطية، فأقبلت إلى إبراهيم ومعها هاجر وهي تحمد الله تعالى على عصمتها من فرعون.
وكانت سارة قد منعت الولد حتى أسنَّت، فوهبت هاجر إلى إبراهيم بقولها: إني أراها امرأة وضيئة؛ فخذها لعل الله تعالى يرزقك منها بولد، فوقع إبراهيم على هاجر فولدت له إسماعيل — عليه السلام — وكانت سارة بنت تسعين سنة، وإبراهيم ابن مائة وعشرين سنة، وبُشِّر إبراهيم بأنه سيرزقه الله بولد من سارة، وقد كان، وحملت سارة بإسحاق.
قيل: وكانتْ حملتْ هاجر بإسماعيل فوضعتا معًا، وشبَّ الغلامان، فبينما هما يتناضلان ذات يوم، وكان إبراهيم — عليه السلام — سابَق بينهما، فسبق إسماعيل، فأخذه فأجلسه في حجره، وأجلس إسحاق إلى جانبه، وسارة تنظر إليه فغضبتْ وقالت: عمدت إلى ابن الأمة فأجلسته في حجرك، وعمدتْ إلى ابني فأجلسته إلى جانبك، وقد كان أخذها ما يأخذ النساء من الغيرة، فحلفت لتقطعن بضعة منها، ولتُغيرنَّ خلقتها، ثم ثاب إليها عقلها، فبقيت في ذلك، فقال إبراهيم — عليه السلام: اخْفِضيها واثقبي أذنها، ففعلت ذلك، فصارت سُنَّة في النساء.
ثم إن إسماعيل وإسحاق — عليهما السلام — اقتتلا ذات يوم كما تفعل الصبيان، فغضبت سارة على هاجر وقالت: لا تساكنني في بلد، وأمرت إبراهيم — عليه السلام — أن يعزلها عنها، فأوحى الله إليه أن يأتي بهما إلى مكة فذهب بهما.
وتوفيت سارة ولها من العمر مائة واثنتان وعشرون سنة، وقيل: مائة وسبع وعشرون بالشام، بقرية الجبابرة بأرض كنعان في جيرون، في مزرعة اشتراها إبراهيم — عليه السلام — ودُفنتْ بها.
سارة القرظية الإسرائيلية
كانت من يهود يثرب من بني قريظة، قيل: إن أبا جبلة، أحد ملوك اليمن، قصد المدينة في الجاهلية، وكان أهلها يهود، وبلغه عن ملكهم أمور فاحشة، فأوقع في اليهود بذي حرض، وهو وادٍ بالمدينة عند أُحد، فقالت سارة القرظية — وهي منهم — تذكر ذلك وترثي مَن قُتل من قومها:
سبيعة ابنة عبد شمس بن عبد مناف
هي زوجة مسعود بن مالك — يتصل نسبه إلى ثقيف. كانت مكرمة عند زوجها وقومها، مسموعة الكلمة لما لها من المكان والفضل، حتى إنه لما كان يوم الفجار الرابع في الجاهلية — وهو يوم عكاظ — ودارت الدائرة على بني قيس، وانتصر زوجها وحرب بن أمية على أعدائهم، فرآها تبكي حين تداعى الناس فقال لها: ما يبكيك؟ فقالت: لما يصاب غدًا من قومي.
فقال لها — وكان مسعود قد ضرب على امرأته سبيعة خباء: مَن دخل خباءك من قريش فهو آمن، فجعلت توصل به قطعًا ليتسع، فقال لها: لا تتجاوزي في خبائك؛ فإني لا أُمضي إلا من أحاط به الخباء، فأحفظها فقالت: أما والله إني لأظن أنك تود أن لو زدت في توسعته، فلما انهزمت قيس دخلوا خباءها مستجيرين بها، فأجار لها حرب بن أمية وقال لها: يا عمة، من تمسَّك بأطناب خبائك أو دار حوله فهو آمن، فنادت بذلك فاستدارت قيس بخبائها حتى كثروا جدًّا، فلم يبق أحد لا نجاة عنده إلا دارَ بخبائها؛ فقيل لذلك الموضع: مدار قيس، وكان يضرب به المثل.
وكان زوجها مسعود بن معتب قد خرج معه يومئذٍ بنوه من سبيعة؛ وهم: عروة ولوحة ونويرة والأسود، فكانوا يدورون وهم غلمان في قيس يأخذون بأيديهم إلى خباء أمهم ليُجيروهم كما أمرتهم أمهم أن يفعلوا، فخرج وهب بن معتب حتى وقف عليها وقال لها: لا يبقى طنب من أطناب هذا البيت إلا ربطت به رجلًا من بني كنانة، فنادت بأعلى صوتها أن وهبًا يحلف أن لا يبقى طنب من أطناب هذا البيت إلا ربط به رجلًا من بني كنانة، فالجد الجد، فلما هزمتْ لجئوا إلى خبائها فأجارهم حرب بن أمية.
ست الوزراء
لقب حفيدة العلامة وجيه الدين الحنبلي. ولدت سنة ٦٢٤ هجرية، وتوفيت سنة ٧١٧ﻫ، وهي مُحدِّثة مشهورة أخذت صحيح البخاري ومسند الإمام الشافعي عن أبي عبد الله الزبيدي، وقرأت على أبيها بعض الحديث، وكانت كما رواه صلاح الصفدي مُحدِّثة عصرها، واستقدمت إلى مصر، فأخذ عنها الحديث الأمير سيف الدين أرغون، والقاضي كريم الدين، ودرست البخاري مرارًا متوالية، وروى عنها كثير من مشاهير العلماء.
ست الكرام
بنت السيد سيف الدين عثمان الرفاعي، أخت السيد علي مهذب الدولة، والسيد عبد الرحيم ممهد الدولة، والسيد عبد السلام، أبناء عثمان — رضي الله عنهم. كانت وارثة محمدية، وولية علوية، ذات أخلاق هاشمية، وطباع مصطفوية، وأطوار فاطمية. عدَّها خالها السيد الكبير سلطان الأولياء مولانا السيد أحمد الرفاعي — رضي الله عنه — في طبقات ذكرها الإمام أحمد بن جلال — قدس سره — في «جلاء الصدا».
قال عند ذكرها: الست السعيدة الحميدة الشهيرة ذات السيرة الحميدة، والأوصاف السديدة، صاحبة الدرجات العاليات، والمقامات الثابتات، والمكاشفات الصادقة، ولية الله الملك القدير، بنت السيد عثمان من أخت السيد أحمد الكبير المسماة بست الكرام — نور الله مضجعها، وعطر بفضله مهجعها — كانت من أكثر الناس حياءً وإيمانًا وإيقانًا، ذات أسرار مخفية، وأحوال مرضية، تنفق على الفقراء كل ما تجد من الأموال، قنعت من الدنيا بالدون، وما وجد لها عن خدمة الله سكون، تنفق ما كان لها من الطعام وتبيتُ طاوية، وكانت بقضاء الله تعالى وقدره راضية.
كانت ذات شوق وحنين، وحزن وأنين وأرق، ولباسها الصوف الخشن القصير. تطحن حتى يعلو غبار الدقيق على وجهها. وكان خالها يُقرِّبها ويُدنيها منه، وبغرائب الأمور والأسرار يسرها. كانت حافظة للعهود، وبذلك كان يصفها ويعرفها لإخوتها ويقول: الحق يميل إليها، ويرضى لرضاها، ويقول لها: أي كرام وصل الله جناحك به بكرمه. نُقِل أنها في صغرها كانت تصعد أمام خالها كل مرة، فرأى ذلك أخوها السيد عبد السلام، فنقم عليها، فقال له: أما ترضون أن يكون منكم نساء لهن مقام الرجال. وكانت — قدس الله سرها — تقول: علامة القبول والتوفيق المواظبة على الخيرات، والمداومة عليها ما دام رمق من الحياة، وإن أهل القبول جعلوا الصدق مطيتهم، والتضرع إلى الله تعالى ديدنهم، ووصلوا بهذه الصفات إلى واهب العطيات، قال الزبير: توفيت سنة ٥٦٠ﻫ، ودفنت بمشهد أم عبيدة ببغداد — رضي الله عنها.
ست الملك بنت العزيز بالله
ست الملك بنت العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله الفاطمي معد بن المنصور إسماعيل بن القائم بأمر الله محمد بن عبيد الله الفاطمي العلوي.
كانت من أحسن نساء زمانها جمالًا، وأوفرهن عقلًا، وأثبتهن جنانًا، وأعلاهن رأيًا، وأشدهن حزمًا. شاركت أخاها الحاكم بأمر الله في الملك حتى إنه صار يقطع الأمور عن رأيها، وكلما خالفها في أمر تقوم عليه الرعية وينبذون طاعته، وهو يحسب ذلك من أخته ست الملك، حتى إنه تغير عليها وأراد قتلها، فصار يترقب الفرص وهي تُوجس منه خيفة إلى أن كثر ظلمه، وزاد عسفه، فكرهه الناس من سوء فعله، ومن شدة كراهتهم له كانوا يكتبون إليه الرقاع فيها سبُّه وسبُّ أسلافه والدعاء عليه، حتى إنهم عملوا من قراطيس صورة امرأة وبيدها رقعة.
فلما رآها ظن أنها تشتكي، فأمر بأخذ الرقعة منها وفيها كل لعن وشتيمة قبيحة وذكر حرمه بما يكره، فأمر بطلب المرأة، فقيل له: إنها من قراطيس، فأمر بإحراق مصر ونهبها، ففعلوا ذلك، وقاتل أهلها أشد قتال مدة يومين، وفي اليوم الثالث انضاف إليهم الأتراك والمشارقة، فقويت شوكتهم، وأرسلوا إلى الحاكم يسألونه الصفح، ويعتذرون إليه، فلم يقبل، فعادوا إلى التهديد.
فلما رأى قُوَّتهم أمر بالكف عنهم وقد أحرق بعض مصر، ونهب بعضها، وتتبع المصريون من أخذ نساءهم وأولاهم فابتاعوهم منه، وقد فضحت نساؤهم، فازداد غيظهم وحنقهم عليه، فظن أن ذلك من أخته ست الملك؛ لأنه بلغه أن الرجال يدخلون عليها، فأرسل يتهددها بالقتل، ولما رأت سوء تصرفه، وأنه ربما يطيع هواه فيقتلها، أرسلت إلى قائد كبير من قواد الحاكم يقال له: ابن داوس — وكان يخاف الحاكم — فقالت له: إني أريد أن ألقاك، ثم حضرت عنده وقالت له: أنت تعلم ما يعتقده أخي فيك، وأنه متى تمكن منك لا يُبقي عليك، وأنا كذلك، وقد انضاف إلى هذا ما تظاهر به مما يكره المسلمون ولا يصبرون عليه، وأخاف أن يثوروا به فيهلك هو ونحن معه، وتنقلع هذه الدولة، فأجابها إلى ما تريد، فقالت: إنه يصعد إلى هذا الجبل غدًا وليس معه غلام إلا الركاب وصبي، وينفرد بنفسه، فتقيم رجلين تثق بهما يقتلانه ويقتلان الصبي، ونقيم ولده بعده، وتكون أنت مدير الدولة، وأزيد في إقطاعك مائة ألف دينار، ثم أعطته ألف دينار للرجلين وانصرفت، فاختار اثنين من ثقاته وأخبرهما بالقصة، فمضيا إلى الجبل.
فلما انفرد الحاكم هجما عليه وقتلاه وأخفياه، وكان عمرُه ستًّا وثلاثين سنة وسبعة أشهر، فلما أيقنت الناس بقتله اجتمعوا إلى أخته ست الملك، فأَجلَستْ على كرسي الولاية علي بن الحاكم وهو صبي لم يناهز الحلم، وبايع له الناس، ولُقب بالظاهر لإعزاز دين الله، وأنفذت الكتب إلى البلاد بأن البيعة له، وفي الغد حضر ابن داوس بأمر من ست الملك ومعه قواده، فأمرت خادمًا لها أن يضربه بالسيف فقتله وهو ينادي: يا لثأر الحاكم، فلم يختلف فيه اثنان، وقامت ست الملك تُدبِّر الدولة مدة أربع سنوات وهي تعدل بين الرعية وتنصف المظلومين، حتى أحبها جميع الأهالي، وتمنوا أن مدتها تدوم. وتوفيت سنة ٤١٥ هجرية، وقد حزن عليها جميع أهل مصر، وتمنوا بقاءها تدبر المملكة حتى يكبر ابن أخيها، ولكن لله في حكمه إرادة.
سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان التميمية
كانت من النساء العاقلات الحكيمات ذوات الفصاحة والبلاغة وأصالة الرأي، حتى إنها قادت أكابر قومها إلى رأيها، وتحت طاعتها، وركبت على العرب في عساكر جرارة، ولما أقبلت من الجزيرة قاصدة المدينة لمحاربة أبي بكر وادَّعت النبوة كانت هي ورهطها في أخوالها من تغلب تقود أفناء ربيعة، وجاء معها الهذيل بن عمران من بني تغلب — وكان نصرانيًّا فترك دينه وتبعها — وعقبة بن هلال في النمر، وزياد بن بلال في إياد، والسليل بن قيس في شيبان، فأتاهم أمر أعظم مما هم فيه لاختلافهم.
وكانت سجاح تريد غزو أبي بكر، فأرسلت إلى مالك بن نويرة تطلب الموادعة، فأجابها وردَّها عن غزوها، وحمَلها على أحياء من بني تميم فأجابته وقالت: أنا امرأة من بني يربوع، فإن كان ملكًا فهو لكم، وهرب منها عطارد بن حاجب، وسادة من بني مالك وحنظلة إلى بني العنبر، وكرهوا ما صنع وكيع، وكان قد أودعها، وهرب منها أشباههم من بني يربوع وكرهوا ما صنع مالك بن نويرة، واجتمع مالك ووكيع وسجاح فسجعت لهم سجاح وقالت: أعدوا الركاب، واستعدوا للنهاب، ثم أغيروا على الرباب، فليس دونهم حجاب، فساروا إليهم فلقيهم ضبة وعبد مناة، فقُتل بينهم قتلى كثيرة، وأسر بعضهم من بعض، ثم تصالحوا، وقال قيس بن عاصم شعرًا أظهر فيه ندمه على تخلفه عن أبي بكر بصدقته، ثم سارت سجاح في جنود الجزيرة حتى بلغت النباج، فأغار عليهم أوس بن خزيمة الجهمي في بني عمرو، فأسر الهذيل وعقبة، ثم اتفقوا على أن يطلق أسرى سجاح ولا يطأ أرض أوس ومن معه.
ثم خرجت سجاح في الجنود وقصدت اليمامة وقالت: عليكم باليمامة، وزفوا زفيف الحمامة؛ فإنها غزوة صرامة، لا يلحقكم بعدها ملامة.
فقصدت بني حنيفة، فبلغ ذلك مسيلمة، فخاف إنْ هو شُغِل بها تغلُّب ثمامة وشرحبيل بن حسنة والقبائل التي حولهم على هجر، وهي اليمامة، فأهدى لها، ثم أرسل إليها يستأمنها على نفسه حتى يأتيها، فأمَّنته، فجاءها في أربعين من بني حنيفة، فقال مسيلمة: لنا نصف الأرض ولقريش نصفها لو عدلت، وقد رد الله عليك النصف الذي ردت قريش. وكان ممَّا شرَع لهم أن مَن أصاب ولدًا واحدًا ذكرًا لا يأتي النساء حتى يموت ذلك الولد، فيطلب الواحد حتى يصيب ابنًا ثم يمسك.
وقيل: بل تحصن منها فقالت له: انزل، فقال لها: أبعدي أصحابك، ففعلت، وقد ضرب لها قبة وجمَّرها لتزكو بطيب الريح واجتمع بها، فقالت له: ما أوحى إليك ربك؟ فقال: ألم تري إلى ربك كيف فعل بالحُبلى، أخرج منها نسمة تسعى، بين صفاق وحَشًا، قالت: أشهد أنك نبي! قال: هل لك أنْ أتزوَّجك وآكل بقومي وقومك العربَ، فتزوجها بجوابها، وأقامت عنده ثلاثًا ثم انصرفت إلى قومها، فقالوا لها: ما عندك؟ قالت: كان على حقٍّ فتبعتُه وتزوجتُه، قالوا: هل أصدقك شيئًا؟ قالت: لا، قالوا: فارجعي فاطلبي الصداق، فرجعت.
فلما رآها أغلق باب الحصن، وقال: ما لك؟ قالت: أصدقني، قال: مَن مؤذنك؟ قالت: شبيب بن ربعي الرياحي، فدعاه وقال له: نادِ في أصحابك أن مسيلمة رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما جاءكم به محمد؛ صلاة الفجر وصلاة العشاء الآخرة، فانصرفت ومعها أصحابها، منهم عطارد بن حاجب، وعمرو بن الأيهم، وغيلان بن خرشة، وشبيب بن ربعي، فقال عطارد بن حاجب:
وصالحها مسيلمة على غلات اليمامة سنة تأخذ النصف، وتترك عنده من يأخذ النصف، فأخذت النصف وانصرفت إلى الجزيرة، وخلفت هذيلًا وعقبة وزيادًا لأخذ النصف الباقي، فلم يُفاجئهم إلا دُنوُّ خالد إليهم فارفَضُّوا، فما زالت سجاح في تغلب حتى نقلهم معاوية عام المجاعة، وجاءت معهم، وحسن إسلامهم وإسلامها، وانتقلت إلى البصرة وماتت بها، وصلى عليها سمرة بن جندب وهو على البصرة لمعاوية، قبل قدوم عبيد الله بن زياد من خراسان وولايته البصرة، وقيل: إنها لما قُتل مسيلمة سارت إلى أخوالها تغلب بالجزيرة فماتت عندهم ولم يُسمع لها بذكر.
سرى خانم
شاعرة تركية مشهورة ولدت في ديار بكر سنة ١٨١٤ ميلادية، و١٢٣٠ هجرية. أتت بغداد وزارت مدافن الأولياء ورجعت إلى ديار بكر، ثم شخصت إلى الآستانة وتوفيت فيها. ولها أشعار شائقة، ومنظومات رائقة، جميعها باللغة التركية والفارسية، أعرضنا عن إيراد شيء منها لأنه ليس من موضوع هذا الكتاب.
سعدى معشوقة مالك بن عقيل العذري
كانت ذات فصاحة وأدب وجمال، وكانت مع هذا الفتى على أعظم رتبة الحب من شدة تعلق كل منهما بصاحبه، وكان في الحي رجل يحبها وهى لا تحبه، فغار منهما فوشى به إلى أهلها، فحجبوها عنه، فتراسلا بالمحبة، وبلغه فأرسل زوجته عن لسانها إلى مالك بشتم وقطيعة، ولم يعرف أنها زوجة ذلك الرجل، ولم تدر الزوجة تفصيل الأمر، وكان عند مالك أنفة، فخرج إلى مكة ناقضًا للعهد.
فلما بلغ زوجة ذلك الرجل وجه الحيلة وما أخفاه زوجها أخبرت سعدى بما تم، فخرجت على وجهها إلى مكة حتى اجتمعت به، قال كعب بن مسعدة الغفاري: خرجت أنا ومالك نمشي في القمر وإذا بنسوة تقول إحداهن: أي والله هو، ثم قربن منا فقالت إحداهن: قل لصاحبك:
فقلت: قد سمعت فأجب، قال: قد انقطعت؛ فأجب أنت، فقلت ولم يحضرني غيره:
وانصرفنا فما استقرينا إلا وجارية تقول: أجب المرأة التي كلَّمتك، فلما جئت إليها قالت: أنت المجيب، قلت: نعم، قالت: فما أقصر جوابك؟ قلت: لم يحضرني غيره، فقالت: لم يخلق الله أحب إليَّ مَن الذي معك، فقلت: عليَّ أن أحضره إليك، فقالت: هيهات، فضمنتُه الليلة القابلة، ورجعت فرأيته في منزلي فأخبرني بالقصة كالمكاشف، فقلت له: قد ضمنت لها حضورك الليلة القابلة.
فلما كان الوقت مضينا، فإذا بالمجلس قد طُيِّب وفُرش، فجلسا فتعاتبا، فأنشدت أبيات عبد الله بن الدمينة:
فأجابها:
فالتفتت إليَّ وقالت: ألا تسمع؟ فغمزته فكفَّ، ثم أنشدت:
فأجابها:
ثم قبَّلها وأنشد:
فأجابته:
ولما أنشد: لقد كنت أنهى النفس … البيت، قالت له: وكنت تفعل؟ ما فيك خير بعدها! وافترقا، فقالت لكعب: ما قلت لك إنك لا تفي بضمانك، ولكن إذا كان السَّحَر فائتني، قال كعب: فجئت فإذا بالصياح، فسألت جارية عن الخبر فقالت: حين خرجتما جعلت في عنقها أنشوطة وخنقت نفسها، فلحقناها فخلصناها، فجلست ساعة تحادثنا وتفتكر فتقول: إنه لقاسي القلب، ثم شهقت فماتت، وبلغ الشاب فلزِم قبرها، فجاءته في النوم فقالت: هلَّا كان هذا من قبلُ، فمات من وقته.
سعدى الأسدية
كانت مهذبة شاعرة فصيحة. علِقها فتًى من قومها فمنعه أبوه أن يتزوَّج إلا بأرفع منها، وأبى الغلام إلا هي، فلما أيس أبوها زوَّجها من رجل آخر، فاشتدَّ وجْدُ الغلام بها، ولقيها يومًا فأنشد:
فأجابته سعدى تقول:
فقد أوضحت له أنها هالكة من الغد بعشقه، فلما كان الغد جاء فوجدها ميتة، فاحتملها إلى شِعْبٍ بذُرَى جبلٍ — يقال له: عرفات — ملتزمًا لها، فمات واختفى أمرهما حولًا، حتى مر شخص من العرب فسمع شخصًا على الجبل يقول:
فصعد الناس فوجدوهما على تلك الحالة فواروهما.
سفانة ابنة حاتم الطائي
كانت من أجود نساء العرب وأفصحهن مقالًا، وهي التي كانت سببًا لنجاة قومها من الأسر من أيدي المسلمين أمام رسول الله ﷺ، وذلك أن عدي بن حاتم كان يعادي النبي ﷺ، فبعث عليًّا إلى طيء، فهرب عديٌّ بأهله وولده ولحق بالشام، وخلف أخته سفانة، فأسرتها خيل رسول الله ﷺ.
فلما أُتِي بها النبي ﷺ قالت: هلك الوالد وغاب الوافد، فإن رأيت أن تخلي عني ولا تُشمتَ بي أحياء العرب؛ فإن أبي كان سيد قومه: يفك العاني، ويقتل الجاني، ويحفظ الجار، ويحمي الذمار، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ويحمل الكَلَّ، ويعين على نوائب الدهر، وما أتاه أحد في حاجة فردَّه خائبًا. أنا بنت حاتم الطائي، فقال النبي ﷺ: «يا جارية، هذه صفات المؤمنين حقًّا، لو كان أبوك مسلمًا لترحمنا عليه، خلُّوا عنها؛ فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق.» وقال فيها: «ارحموا عزيزًا ذلَّ، وغنيًّا افتقر، وعالمًا ضاع بين جهال.» فأطلقها ومَنَّ عليها بقومها، فاستأذنته في الدعاء له، فأذن لها، قال لأصحابه: «اسمعوا وعُوا.» فقالت: أصاب الله ببِرِّك مواقعه، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة، ولا سلَب نعمة عن كريم قوم إلا وجعلك سببًا في ردِّها عليه، فلما أطلقها رجعت إلى قومها، فأتت أخاها عديًّا وهو بدومة الجندل فقالت له: يا أخي، ائتِ هذا الرجل قبل أن تعلقك حبائله؛ فإني قد رأيت هديًا ورأيًا سيغلب أهل الغلبة، رأيت خصالًا تعجبني، رأيته يحب الفقير، ويفك الأسير، ويرحم الصغير، ويعرف قدر الكبير، وما رأيت أجود ولا أكرم منه، وإني أرى أن تلحق به؛ فإن يك نبيًّا فللسابق فضله، وإن يك ملكًا فلن تزل في عزِّ اليمن.
فقدم عدي إلى النبي ﷺ فأسلم وأسلمت أخته سفانة، وكانت على جانبٍ عظيمٍ من الكرم، وكان أبوها يعطيها الضريبة من إبله، فتهبها وتعطيها الناس، فقال لها أبوها: يا بنية، الكريمان إذا اجتمعا في المال أتلفاه، فإما أن أُعطي وتمسكي، وإما أن أُمسك وتعطي؛ فإنه لا يبقى على هذا شيء، فقالت له: منك تعلمتُ مكارم الأخلاق.
سكينة ابنة الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه
كانت سيدة نساء عصرها، ومن أجمل النساء وأظرفهن وأحسنهن أخلاقًا. تزوَّجها مصعب بن الزبير فهلَك عنها، ثم تزوَّجها عبد الله بن عثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام، فولدت له قريبًا، ومات عنها، ثم تزوجها الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان وفارقها قبل الدخول، ثم تزوَّجها زيد بن عمرو بن عفان، فأمره سليمان بن عبد الملك بطلاقها ففعَل، وقيل في ترتيب أزواجها غير ذلك، والطرَّة السكينية منسوبة إليها.
ولها نوادر وحكايات ظريفة مع الشعراء وغيرهم، من ذلك أنها وقفت على عروة بن أذينة، وكان من أعيان العلماء وكبار الصالحين، وله أشعار رائقة، فقالت له: أنت القائل:
قال: نعم، قالت: لم يخرج هذا من قلبٍ سليم. وفي كتاب «الأغاني» كان اسم سكينة أميمة، وقيل: أمينة، ولقبتها أمها الرباب بسكينة، وفيها وفي أمها يقول الحسين بن علي:
وكانت سكينة تحب الهزل واللهو والطرب، وهي من الحذق على جانبٍ عظيم.
حُكي أنها حضرت مأتمًا فيه بنت عثمان بن عفان، فقالت بنت عثمان: أنا بنت الشهيد، فسكتت حتى إذا أذن المؤذن وقال: أشهد أن محمدًا رسول الله، قالت لها سكينة: هذا أبي أم أبوك، فقالت بنت عثمان: لا أفخر عليكم أبدًا. وكانت تجيء يوم الجمعة إلى المسجد فتقوم بإزاء ابن مطير، فإذا شتم عليًّا شتمته هي وجواريها، فكان يأمر الحارث أن يضرب جواريها. وكانت سكينة عفيفة تجالس الأجلَّة من قريش، وتجمع إليها الشعراء، وكانت ظريفة مزَّاحة، وكانت من أحسن الناس شعرًا، وكانت تصفف جُمَّتها تصفيفًا لم يُر أحسن منه.
وحُكي أنها أرسلت مرة إلى صاحب الشرط أن دخل علينا شاميٌّ فابعث إلينا بالشرط، فركب وأتى، وأمرت بفتح الباب، وخرجتْ جارية من جواريها وبيدها برغوث وقالت: هذا الشامي الذي شكوناه، فلما رأى الشرطي ذلك حصل له الخجل وذهب هو ورجاله بخجله، وكانت قد اتخذتْ أشعب الطماع مسامرًا لها ليُمازحها، وكانت تُدرُّ عليه العطايا، وتنشرح لأخباره المضحكة، وقيل: إنها خرجت لها سلعة في أسفل عينها حتى كبرت، ثم أخذت وجهها، وعظم ما بها، وكان «دراقيس» الطبيب منقطعًا إليها وفي خدمتها فقالت له: ألا ترى ما وقعت فيه؟ فقال: أتصبرين على ما يَمسُّك من الألم حتى أعالِجَك؟ قالت: نعم، فأضجَعها وشقَّ جلد وجهها أجمَع، وسلخ اللحم من تحته حتى ظهرت العروق، وكان منها شيء تحت الحدقة، فرفع الحدقة عنها حتى جعلها ناحية، ثم سلَّ عروق السلعة من تحتها وأخرجها، وردَّ العين إلى موضعها، وسكينة مضجعة لا تتحرك ولا تئن حتى فرغ وبرئت بعد ذلك، وبقي أثر تلك الحزازة في مؤخر عينها.
وقيل: إنه اجتمع في ضيافة سكينة يومًا جرير والفرزدق، وكُثيِّر عزة، وجميل صاحب بثينة، ونصيب، فمكثوا أيامًا، ثم أذنت لهم فدخلوا، فقعدت بحيث تراهم ولا يرونها، وتسمع كلامهم، ثم خرجت جارية لها وضيئة قد روت الأشعار والأحاديث فقالت: أيكم الفرزدق؟ فقال: ها أنا ذا، قالت: أنت القائل:
قال: نعم، قالت: فما دعاك إلى إفشاء السر؟ خذْ هذه الألف دينار والحقْ بأهلك، ثم دخلت على مولاتها وخرجت فقالت: أيكم جرير؟ قال: ها أنا ذا، فقالت: أنت القائل:
قال: نعم، قالت: أوَلا أخذت بيدها وقلت لها ما يقال لمثلها؟ أنت عفيف وفيك ضعف. خُذْ هذه الألف والحق بأهلك، ثم دخلت على مولاتها وخرجت وقالت: أيكم كُثير؟ قال: أنا، قالت: أنت القائل:
قال: نعم، قالت: قد ملحت وشكلت. خذ هذه الألف دينار واذهب لأهلك، ثم دخلت وخرجت وقالت: أيكم نصيب؟ قال: أنا، قالت: أنت القائل:
قال: نعم، قالت: ربيتنا صغارًا، ومدحتنا كبارًا، خُذْ هذه الألف دينار والحق بأهلك، ثم دخلت وخرجت فقالت لجميل: مولاتي تقرئك السلام وتقول لك: ما زلتُ مشتاقة لرؤيتك مذ سمعت قولك:
فجعلت حديثنا بشاشة، وقتلانا شهداء. خذ هذه الألف دينار والحق بأهلك.
ورويت عن سكينة قصة أخرى نحو هذه ظهرت بها حذاقتها وانتقادها على أفحل الشعراء، وكان عمرو بن عثمان لما تزوج بها عتَب عليها يومًا وخرج إلى مال له، فقالت لأشعب: إن ابن عثمان خرج عاتبًا عليَّ، فاعلم لي حاله، فقال لها: لا أستطيع أن أذهب الساعة، فقالت: أنا أعطيك ثلاثين دينارًا، قال أشعب: فأتيته ليلًا فدخلت الدار، فقال: انظروا من في الدار، فأتوه فقالوا: أشعب، فنزل عن فرشه إلى الأرض، فقال: أشيعب؟ قلت: نعم، قال: ما جاء بك؟ قلت: أرسلتني سكينة لأعلم خبرك، أتذكرتَ منها ما تذكرتْ منك، وأنا أعلم أنك قد فعلت حين نزلت عن فرشك إلى الأرض، قال: دعني من هذا وغنني:
قال: فغنيته، فلم يطرب، ثم قال: غنني — ويحك — غير هذا؛ فإن أصبت ما في نفسي فلك حلتي هذه وقد اشتريتها — آنفًا — بثلاثمائة دينار، فغنيته:
فقال: ما عدوت ما في نفسي، خذ الحُلَّة، قال: فأخذتها ورجعت إلى سكينة، فقصيت عليها القصة فقالت: وأين الحلة؟ قلت: معي، فقالت: وأنت الآن تريد أن تلبسها؟ لا والله ولا كرامة، فقلتُ: قد أعطانيها، فأي شي تريدين مني؟ فقالت: أنا أشتريها منك، فبعتها إياها بثلاثمائة دينار.
وقال بعضهم: كان ابن سريج قد أصابته الريح الخبيثة، وآلى يمينًا أن لا يغني، ونسك ولزم المسجد الحرام حتى عُوفي، ثم خرج فأتى المدينة ونزل على بعض إخوانه من أهل النسك والقراءة، فأقام في المدينة حولًا ثم أراد الشخوص إلى مكة، وبلغ ذلك سكينة، فاغتمت لذلك غمًّا شديدًا، وضاق به ذرعها، وكان أشعب يخدمها، وكانت تأنس بمضاحكته ونوادره، فقالت لأشعب: ويلك! إن ابن سريج شاخص، وقد دخل المدينة منذ حول ولم أسمع من غنائه قليلًا ولا كثيرًا، ويعزُّ عليَّ ذلك، فكيف الحيلة في الاستماع منه ولو صوتًا واحدًا؟
فقال لها أشعب: جعلت فداك وأنَّى لك بذلك والرجل اليوم زاهد ولا حيلة فيه؟! فارفعي طمعك، وامسحي بوزك تنفعك حلاوة فمك، فأمَرت بعض جواريها فوطئن بطنه حتى كادت أن تخرج أمعاؤه، وخنقته حتى كادت نفسه أن تتلف، ثم أمرت به فسُحب على وجهه حتى أخرج من الدار إخراجًا عنيفًا، فخرج على أسوأ الحالات، واغتمَّ أشعب غمًّا شديدًا، وندم على ممازحتها في وقت لا ينبغي له ذلك، فأتى منزل ابن سريج ليلًا فطرقه، فقيل: من هذا؟ فقال: أشعب، ففتحوا له، فرأى على وجهه ولحيته التراب والدم سائلًا من أنفه وجبهته على لحيته، وثيابه ممزقة، وبطنه وصدره وحلقه قد عصرها الدوس والخنق، ومات الدم فيها، فنظر ابن سريج إلى منظر فظيع هاله وراعه، فقال له: ما هذا؟ ويحك! فقصَّ القصة عليه، فقال ابن سريج: إنا لله وإنا إليه راجعون، ماذا نزل بك؟ والحمد لله الذي سلَّم نفسك. لا تعودنَّ إلى هذه أبدًا.
قال أشعب: فديتك، هي مولاتي ولا بد لي منها، ولكن هل لك حيلة في أن تسير إليها وتغنيها فيكون ذلك سببًا لرضاها عني؟ قال ابن سريج: كلا، والله لا يكون ذلك أبدًا بعد أن تركته، قال أشعب: قد قطعتْ أملي، ورفعتْ رزقي، وتركتْني حيران بالمدينة لا يقبلني أحد، وهي ساخطة عليَّ، فالله الله فيَّ وأنا أنشدُك الله ألا تحمَّلت هذا الإثم فيَّ، فأبى عليه.
فلما رأى أشعب أن عزم ابن سريج قد تمَّ على الامتناع قال في نفسه: لا حيلة لي وهذا خارج، وإن خرج هلكت، فصرخ صرخة فتحت آذان أهل المدينة، ونبَّه الجيران من رقادهم، وأقام الناس من فُرشِهم، ثم سكت فلم يَدرِ الناسُ ما القصة عند خُفوت الصوت بعد أن راعهم، فقال له ابن سريج: ويلك! ما هذا؟ قال: لئن لم تَسرْ معي إليها لأصرخن صرخة أخرى لا يبقى أحد بالمدينة إلا صار بالباب، ثم لأفتحنَّه ولأُرِينَّهم ما بي، ولأعلِمنَّهم أنك أردت أن تفعل كذا وكذا بفلان — يعني غلامًا كان ابن سريج مشهورًا به — فمنعتُك وخلَّصتُ الغلام من يدك حتى فتح الباب ومضى، ففعلت بي هذا غيظًا وتأسفًا، وأنك إنما أظهرتَ النُّسك والقراءة لتظفر بحاجتك منه — وكان أهل مكة والمدينة يعلمون حاله معه — فقال ابن سريج: اعزبْ — أخزاك الله!
قال أشعب: والله الذي لا إله إلا هو، وإلَّا فما أملك صدقة وامرأتي طالق ثلاثًا، وهو نحير في مقام إبراهيم والكعبة وبيت النار، والقبر قبر أبي رغال، إن لم تنهض معي في ليلتي هذة لأفعلنَّ ما قلتُ لك، فلما رأى ابن سريج الجدَّ منه قال لصاحبه: ويحك! أما ترى ما وقعنا فيه — وكان صاحبه الذي نزل عنده ناسكًا؟ فقال: لا أدري ما أقول فيما نزل بنا من هذا الخبيث؟ وتذمم ابن سريج من الرجل صاحب المنزل فقال لأشعب: اخرج من منزل الرجل، فقال: رجلي على رجلك، فخرجا.
فلما صارا في بعض الطريق قال ابن سريج لأشعب: امض عني، قال: والله لئنْ لم تفعلْ ما قلت لأصيحنَّ الساعة حتى يجتمع الناس ولأقولنَّ إنك أخذت مني سوارًا من ذهب لسكينة على أن تجيئها لتُغنِّيها سرًّا، وإنك كابرتني عليه وجحدتني وفعلتَ بي هذا الفعل، فوقع ابن سريج فيما لا حيلة له فيه فقال: امض لا باركَ الله فيك، فمضى معه، فلما صار إلى باب سكينة قرع الباب فقيل: مَن هذا؟ فقال: أشعب قد جاء بابن سريج، ففُتِح البابُ لهما ودخلا إلى حجرة خارجة عن دار سكينة فجلسا ساعة، ثم أذن لهما فدخلا إلى سكينة فقالت: يا عبيد، ما هذا الجفاء؟ قال: قد علمت — بأبي أنت — ما كان مني، قالت: أجل.
فتحدَّثا ساعة وقصَّ عليها ما صنع به أشعب، فضحكت وقالت: لقد أذهب ما كان في قلبي عليه، وأمرت لأشعب بعشرين دينارًا وكسوة، ثم قال لها ابن سريج: أتأذنين — بأبي أنت؟ قالت: وأين؟ قال: إلى المنزل، قالت: برئت من جدي إن برحت من داري ثلاثًا، وبرئت من جدي إن أنت لم تُغنِّ إن خرجت من داري شهرًا، وبرئت من جدي إن أقمت في داري شهرًا إن لم أضربك لكل يوم تقيم فيه عشرًا، وبرئت من جدي إن حنثتُ في يميني أو شَفَّعتُ فيك أحدًا، فقال عبيد: وا سخنة عيناه! وا ذهاب ديناه! وا فضيحتاه! ثم اندفع يغني:
فقالت سكينة: فهل عندك يا عبيد من صبر؟ ثم أخرجت دملجًا من ذهب كان في عضدها وزنُه أربعون مثقالًا فرَمتْ به إليه، ثم قالت: أقسمتُ عليك إلا ما أدخلته في يدك، ففعل ذلك، ثم قالت لأشعب: اذهب إلى عزة الميلاء فأقرئها مني السلام، وأعلمها أن عبيدًا عندنا، فلتأتنا متفضلة بالزيارة، فأتاها أشعب فأعلمها، فأسرعت المجيء، فتحدَّثوا باقي ليلتهم، ثم أمرتْ عبيدًا وأشعب فخرَجا فناما في حجرة مواليها، فلما أصبحت هيئ لهم غداؤهم، وأذنت لابن سريج فدخل فتغدى قريبًا منها مع أشعب ومواليها، وقعدت هي مع عزة وخاصة جواريها، فلما فرغوا من الغداء قالت: يا عز، إن رأيتِ أن تُغنِّينا فافعلي، فقالت: أي وعيشك، فتغنَّت لحنها في شعر عنترة العبسي:
فقال ابن سريج: أحسنت والله يا عزة. وأخرجت سكينة الدملج الآخر من يدها فرمَتْه لها وقالت: صيِّري هذا في يدك، ففعلتْ، ثم قالتْ لعبيد: هاتِ غنِّنَا، فقال: حسبُك ما سمعتِ البارحة، فقالت: لا بد أن تغنينا في كل يوم لحنًا، فلما رأى ابن سريج أنه لا يقدر على الامتناع مما تسأله غنَّى:
ثم قالت لعزة في اليوم الثاني غنِّي، فغنَّت لحنها في شعر الحارث بن خالد:
قال ابن سريج: والله ما سمعت مثل هذا قط حسنًا ولا طيبًا، ثم قالت لابن سريج: هات، فاندفع يغني:
فقالت سكينة: قد علمت ما أردت بهذا، وقد شفَّعناك ولم نردَّك، وإنما كانت يميني على ثلاثة أيام، فاذهب في حفظ الله وكلاءته، ثم قالت لعزة: إذا شئتِ أقمتِ أو انصرفتِ، ودعتْ لها بحُلَّة، ولابن سريج بمِثلِها، وانصرفت، وأقام عبيد حتى انقضت ليلته وانصرف، فمضى من وجهه إلى مكة راجعًا.
واجتمع يومًا نسوة عند سكينة بنت الحسين — عليهما السلام — وهن بالمدينة، فذكرنَ عمر بن أبي ربيعة وشعره وظرفه، وحسن مجلسه وحديثه، وتشوَّقنَ إليه وتمنينه، فقالت سكينة: أنا آتي لكُنَّ به، فبعثت إليه رسولًا وهو يومئذٍ بمكة، ووعدته أن يأتيها في الصورين في ليلة سمَّتها له، فوافاها على رواحله ومعه الغريض، فحدثهن حتى وافى الفجر وحان انصرافهن، فقال لهن: إني والله مشتاق إلى زيارة قبر النبي ﷺ والصلاة في مسجده، ولكن لا أخلط بزيارتكن شيئًا، ثم انصرف إلى مكة وقال:
قال: وانصرف عمر والغريض معه، فلما كان بمكة قال عمر: يا غريض، إني أريد أن أخبرك بشيء يتعجل لك نفعه، ويبقى لك ذكره، فهل لك فيه؟ قال: افعلْ من ذلك ما شئتَ، وما أنت أهله، قال: إني قد قلتُ في هذه الليلة التي كُنَّا فيها شعرًا، فامض به إلى النسوة فأنشدهن ذلك، وأخبرهن أني وجهتُ بك فيه قاصدًا.
قال: نعم، فحمل الغريض الشعر ورجع إلى المدينة فقصد سكينة وقال لها: جعلتُ فداك يا سيدتي ومولاتي، إن أبا خطاب — أبقاه الله — وجَّهني إليكِ قاصدًا، قالت: أوَليس في خير وسرور تركته؟ قال: نعم، قالت: وفِيمَ وجَّهك أبو الخطاب — حفظه الله؟ قال: جعلت فداك، إن ابن أبي ربيعة حمَّلني شعرًا وأمرني أن أنشدك إياه، قالت: فهاته، فأنشدها الشعر بتمامه، قالت: فيا ويحه! فما كان عليه أن لا يرحل في غده! فوجَّهتْ إلى النسوة فجمَعتهنَّ وأنشدتهن الشعر وقالت للغريض: هل عملت فيه شيئًا؟ قال: قد غنَّيتُه ابن أبي ربيعة، قالت: فهاته، فغنَّاه الغريض، فقالت سكينة: أحسنتَ والله وأحسنَ ابنُ أبي ربيعة، لولا أنك سبقت فغنيته عمر قبلنا لأحسنَّا جائزتك. يا بنانة، أعطه بكل بيت ألف درهم، فأخرجت إليه بنانة أربعة آلاف فدفعتها إليه، وقالت له سكينة: لو زادنا عمر لزدتك.
وكانت وفاة السيدة سكينة بمكة في ربيع الأول سنة ١٢٦ﻫ، وقيل: سنة ١١٧ﻫ بالمدينة، وهو الأرجح.
سلمى الملقبة ﺑ «قرة العين»
كانت فَتِيَّةً بارعة الجمال، متوقدة الجنان، فاضلة عالمة. أبوها أحد المجتهدين في العجم، وكانت متزوجة بمجتهد آخر. طلَّقت نفسها من زوجها على خلاف حكم شريعة الإسلام، وَأَمَتْ السَّيِّدَ «علي محمد» تلميذ الشيخ أحمد زين الدين الأحسائي، الذي مزج التصوف والفلسفة بالشريعة، وتسمى السيد علي — المذكور — بالبابي، وطريقته تسمَّت به. وكانت قرة العين تُكاتبه ويكاتبها، فكان يُخاطبها في مكاتباته ﺑ «قرة العين»، فلُقِّبت بذلك، وكانت تُناظر العلماء والفضلاء مكشوفة الوجه بدون حجاب.
ثم لما وقعت المحاربة بين البابيين وعساكر الدولة في مازندران جيَّشت جيشًا وقادته مكشوفة الوجه، وسارت أمامه طالبة إعانتهم، وفي أثناء الطريق قامت في الناس خطيبة وقالت: «أين أحكام الشريعة الأولى — أعني المحمدية؟ قد نُسختْ، وإن أحكام الشريعة الثانية لم تصل إلينا؛ فنحن الآن في زمن لا تكليف فيه بشيء.»
فوقع الهرج والمرج، وفعل كلٌّ من الناس ما كان يشتهيه من القبائح، ثم قبض عليها ولبست البرقع جبرًا، وحُكم عليها بأن تُحرَق حية، ولكن الجلاد خنَقها قبل أن تشتعل النار بالحطب الذي أُعدَّ لإحراقها.
سلمى امرأة عروة بن الورد
هي امرأة من بني كنانة، وتكنى أم وهب، وكان عروة بن الورد قد أغار عليهم فأصابها منهم، وكانت بكرًا فأعتقها واتخذها لنفسه، فمكثت عنده بضع عشرة سنة، وولدت له ولدًا وهو لا يشك في أنها أرغب الناس فيه، وهي تقول له: لو حججتَ بي فأمُرَّ على أهلي وأراهم، فحجَّ بها، فأتى إلى مكة ثم أتى إلى المدينة. وكان يخالط من أهل يثرب بني النضير، وكان قومها يخالطون بني النضير، فأتوهم وهو عندهم فقالت لهم سلمى: إنه خارج بي قبل أن يخرج الشهر الحرام، فتعالوا إليه وأخبروه أنكم لا تحبون أن تكون امرأة منكم معروفة النسب مَسبيَّة، وافتدوني منه؛ فإنه لا يرى أني أفارقه ولا أختار عليه أحدًا، فأتوه فسقوه الشراب، فلما ثمل قالوا له: فادنا بصاحبتنا؛ فإنها وسيطة النسب فينا معروفة، وإنه عارٌ علينا أن تكون مسبية، فإذا صارت إلينا وأردت معاودتها فاخطبها إلينا؛ فإننا ننكحك.
فقال لهم: ذلك لكم، ولكن لي الشرط فيها أن تخيروها؛ فإن اختارتني انطلقت معي إلى ولدها، وإن اختارتكم انطلقتم بها، قالوا: ذلك لك، قال: دعوني ألهو بها الليلة وأفاديها غدًا.
فلما كان الغد جاءوه فامتنع من فدائها، فقالوا له: قد فاديتنا بها منذ البارحة، وشهد عليه بذلك جماعة ممن حضر، فلم يقدر على الامتناع وفاداها.
فلما فادوه بها خيَّروها فاختارت قومها، ثم أقبلت عليه فقالت: يا عروة، أما إني أقول فيك — وإن فارقتُك — الحق. والله ما أعلم امرأة من العرب ألقت سترها على بَعلٍ خير منك، وأغض طرفًا، وأقل فحشًا، وأجود يدًا، وأحمى لحقيقة، والله إنك ما علمت لضحوك وقور، كسوب مدبر، خفيف على متن الفراش، ثقيل على ظهر العدو، طويل العماد، كثير الرماد، راضي الأهل والأجانب، وما مر عليَّ يوم منذ كنت عندك إلا والموت فيه أحب إلي من الحياة بين قومك؛ لأني لم أكن أشأ أن أسمع امرأة من قومك تقول: قالت أمة عروة كذا وكذا إلا سمعته، ووالله لا أنظر في وجه غطفانية أبدًا؛ فارجع راشدًا إلى ولدك وأحسن إليهم، ثم فارقته، فقال عروة في ذلك:
فتزوجها رجل من بني عمها فقال لها يومًا من الأيام: يا سلمى، أثني عليَّ كما أثنيت على عروة — وكان قولها فيه اشتهر — فقالت له: لا تُكلِّفني ذلك؛ فإن قلت الحق أغضبتك، وإلا واللات والعُزَّى لا أكذب، فقال: عزمتُ عليك لتأتين في مجلس قومي فلتثنين عليَّ بما تعلمين.
وخرج فجلس في نديِّ القوم وأقبلتْ، فرماها القوم بأبصارهم، فوقفت عليهم وقالت: أنعموا صباحًا. إن هذا عزَم عليَّ أن أُثني عليه بما أعلم، ثم أقبلتْ عليه فقالت: والله إن شملتك لالتحاف، وإن شربك لاشتفاف، وإنك لتنام ليلة تخاف، وتشبع ليلة تضاف، وما ترضي الأهل ولا الجار، ثم انصرفت عنه فلامه قومه وقالوا: ما كان أغناك عن هذا القول منها.
سلامة القس
هي جارية كانت لسهل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، فاشتراها يزيد بن عبد الملك بثلاثة آلاف دينار، فأعجب بها وغلبتْ على أمره.
وسبب ما قيل لها سلامة القس: أن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمارة — أحد بني جشم بن معاوية بن بكر، وكان فقيهًا عابدًا مجتهدًا في العبادة، وكان يُسمَّى القس لعبادته — مرَّ يومًا بمنزل مولاها، فسمع غناءها فوقف يسمعه فرآه مولاها، فقال له: هل لك أن تنظر وتسمع؟ فأبى، فقال له: أنا أقعدها بمكان لا تراها وتسمع غناءها، فدخل معه، فغنته فأعجبه غناؤها، ثم أخرجها مولاها إليه، فشغف بها وأحبها وأحبته هي أيضًا — وكان شابًّا جميلًا — وكثر تردده على منزل مولاها.
فقالت له يومًا على خلوة: أنا والله أحبك، قال: وأنا والله أحبك، قالت: أحب أن أُقبِّلك، قال: وأنا والله كذلك، قالت: أحبُّ أن أضع بطني على بطنك، قال: وأنا والله، قالت: فما يمنعك؟ قال: قوله تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (الزخرف: ٦٧) وأنا أكره أن تئُول خلَّتنا إلى عداوة، ثم قام وانصرف عنها وعاد إلى عبادته، وله فيها أشعار؛ منها:
وله فيها:
فلذلك قيل لها: سلامة القس.
وكانت أخذت الغناء عن معبد، وتعلمت منه جملة أصوات، وكان يريدها ويقدمها على غيرها من مولدات المدينة؛ ولذلك لما مات عظم موته عندها، فجاءت في مشهده وصارت تُفرِّق الناس حتى قربت من النعش وقد أضرب الناس عنه ينظرون إليها، وقد أخذت بعمود السرير وهي تبكي وتقول:
وكان يزيد أمر معبدًا أن يُعلِّمها هذا الصوت، فعلَّمها إيَّاه، فندبته به يومئذٍ. وكانت لها مناظرات ومحاورات ومجالس أنس مع حبابة ويزيد لم يسبق لأمثالهم من الخلفاء والملوك، ولم يصل أحد إلى ما وصلوا إليه.
سميراميس ملكة أشور
كانت أجمل أقرانها وأشجع أهل زمانها. وليت العرش بعد زوجها «فينوس»، فكان من همها تحسين مدينة بابل، فشادت بها الهياكل العظيمة، وأنشأت القصور المزخرفة، وغرست الرياض والبساتين، واحتفرت الترع والخلجان، ومدت عليها المعابر والقناطر، وبنت في ساحة المدينة هيكل «بور» إله الأشوريين، وأقامت فيه تمثالًا ذهبيًّا طوله ٤٠ قدمًا. وكان هذا الهيكل أعظم بناء قام به البشر — بلغ ارتفاعه ٦٦٠ قدمًا أعلى من الهرم المصري الأكبر — قال عنه «هيرودوتوس» المؤرخ: إنه مربع الشكل مساحته ٤٠٠ ذراع في وسطه برج يرتفع نحو ٦٠٠ قدم، ويعلوه سبعة أبراج علو كل منها ٧٥ قدمًا، وفي البرج الأخير مسجد فيه تمثال من ذهب، وبقربه مائدة ومنصة ذهبيتان ثمنهما نحو ٢٢٥ مليونًا، وفي فناء هذا المسجد مذبحان أحدهما ذهبي يوقد عليه في كل عيد ٣٠٠٠ أقة بخور.
وبالجملة فإن هذه المملكة هي التي أحيت لبابل رونقها المذكور، وبهاءها المأثور، وهي التي أولتها تلك العظمة والشهرة، بيد أنها لم تكتف بما أكسبها سعيها هذا من الفخر، بل جمحت نفسها إلى الغارة، فأثارتها شعواء على مصر، فالحبشة، ففلسطين، فالهند، فانتصرت في جميع غزواتها إلا في الهند؛ فإن أفيالها قد ألقت الرعب في قلوب العسكر ولم تطل حياتها.
ولما بلغها خبر «أفيل» ملك الهند ارتابت وخافت من انتصار الهنود عليها، وإذ لم يكن عندها قوة تضاهيها اجتهدت أن تدفع عنها هذه البلية بطريقة احتيالية، فأمرت قواد العسكر بذبح ثلاثة آلاف بقرة من ذوات اللون الأسمر، وأن يسلخوها ويُفصِّلوا جلودها على هيئة الأفيال ويُلبسوها للجمال، فامتثلوا ما أمرت، وفعلوا ما ذكرت، وعلى هذه الصورة أنزلتها إلى ميدان الحرب لتلقي الرعب في قلوب الأعداء بإظهارها لهم استعداداتها الحربية، وشوكتها القوية.
فلما انتشب القتال بين الفريقين انعطف ملك الهند بأفياله الحقيقية على عساكر الأشوريين، وتقدمت الملكة «سميراميس» بجمالها وفرسانها وجلود ثيرانها، ولما اقترن العسكران والتقى الجيشان انكشفت للهنود تلك الحيلة، وتحقق عندهم أنه لا يوجد عند الأعداء أفيال كافية لهم، وإن ما يُرى إنما هو حيلة وخداع، فتشجعوا وهجموا على صفوف الأشوريين هجمة هائلة، فالتقتهم الملكة «سميراميس» برجالها وأبطالها، فاشتد القتال وعظمت الأهوال، ودخلت أفيال الهنود بين صفوف الأشوريين فكانت تخطف الرجال عن خيولها وتدوسها، فما لبثت الجمال المصطنعة أن ولت الأدبار، وطلبت النجاة والفرار، ولم تكن إلا برهة يسيرة حتى انكسر جيش الأشوريين، وانتصرت الهنود انتصارًا عظيمًا، وكسبت غنائم جسيمة.
وكانت الملكة «سميراميس» قد انجرحت جرحًا بليغًا، ولكنها فازت بالهزيمة؛ بسبب خفة فرسها، ورجعت إلى بلادها مدحورة صاغرة.
ومن ذلك الحين زهدت في متاع الدنيا، ومالت إلى الخمول، فقتلها بعد يسير ابنها «تيتاس»، وذلك سنة ٢٠٠٠ قبل الميلاد، فأنزلها الأشوريون منزلة الإله، وأقاموا لها صورًا منقوشة بهيئة حمامة، زعمًا منهم أنها نقلت عقب موتها بجسم حمامة، وهي في كل حال فخر نساء العصر القديم، ونور مشكاته.
سمية أم عمار بن ياسر
هي سمية بنت خياط، كانت أمَة لأبي حذيفة بن المغيرة المخزومي، وكان ياسر حليفًا لأبي حذيفة، فزوَّجه سمية فولَدت له عمارًا، فأعتقه أبو حذيفة. وكانت من السابقين إلى الإسلام، قيل: كانت سابع سبعة في الإسلام، وكانت ممن يعذب في الله — عز وجل — أشد العذاب.
قال أحد رجال آل عمار بن ياسر: إن سمية أم عمار عذَّبها هذا الحي من بني المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم على الإسلام وهي تأبى غيره حتى قتلوها. وكان رسول الله ﷺ مرَّ بعمار وأمه وأبيه وهم يُعذَّبون بالأبطح في رمضاء مكة فيقول: «صبرًا آل ياسر؛ موعدكم الجنة.»
وروي أن أبا جهل ضربها في قلبها بحربة في يده فقتلها، فهي أول شهيد في الإسلام، قال مجاهد: أول من أظهر الإسلام بمكة سبعة: رسول الله ﷺ، وأبو بكر، وبلال، وضباب، وصهيب، وعمار، وسمية.
فأما رسول الله ﷺ وأبو بكر فمنعهما قومها، وأما الآخرون فأُلبِسوا أدراع الحديد، ثم صهروا في الشمس، وجاء أبو جهل إلى سمية فطعَنها بحربة فقتلها.
سودة بنت زمعة
ابن قيس بن عبد شمس بن عبدود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي القرشية العامرية، وأمها الشموس بنت قيس بن زيد بن عمرو بن لبيد بن خراش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار الأنصارية.
وسودة هي زوجة النبي ﷺ. تزوجها ﷺ بمكة بعد وفاة خديجة وقبْل عائشة، وكانت قبله تحت ابن عمها السكران بن عمرو، أخي سهيل بن عمرو من بني عامر بن لؤي، وكان مسلمًا فتوفي عنها فتزوجها رسول الله ﷺ ولم تصب منه ولدًا إلى أن مات.
وعن ابن عباس قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول الله ﷺ فقالت له: لا تطلقني وأمسكني، واجعل يومي لعائشة، ففعل، فنزلت: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ۚ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ (النساء: ١٢٨). فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز.
وروي عن سودة بنت زمعة قالت: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: إن أبي شيخ كبير لا يستطيع أن يحج، قال: «أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه قُبِل منك؟» قال: نعم، قال: «فالله أرحم. حجَّ عن أبيك.» وتوفيت سودة آخر خلافة عمر.
سودة ابنة عمار بن الأشتر الهمدانية
كانت أديبة عاقلة شاعرة. وفدتْ على معاوية بن أبي سفيان فاستأذنت عليه فأذن لها، فلما دخلتْ عليه سلَّمت فقال لها: كيف أنت يا بنت الأشتر؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين، قال لها: أنت القائلة لأخيك:
فقالت: يا أمير المؤمنين، مات الرأس وبتر الذَّنَب؛ فدَعْ عنك تذكار ما قد نسي، قال: هيهات! ليس مثل مقام أخيك يُنسى، قالت: صدقت والله يا أمير المؤمنين، ما كان أخي خفي المقام، ذليل المكان، ولكن كما قالت الخنساء:
وبالله أسأل أمير المؤمنين إعفائي مما استعفيته، قال: قد فعلت، فقولي حاجتك، قالت: إنك للناس سيد، ولأمورهم مُقلَّد، والله سائلك عما افترض عليك من حقنا، ولا تزال تقدم علينا من ينهض بعزك، ويبسط بسلطانك، فيحصدنا حصاد السنبل، ويسومنا الخسف، ويسألنا الجليلة. هذا ابن أرطأة قدم بلادي، وقتل رجالي، وأخذ مالي، ولولا الطاعة لكان فينا عزٌّ ومنعة، فإما عزلته فشكرناك، وإما لا فعرفناك، فقال معاوية: إياي تهددين بقومك؟! والله لقد هممت أن أردك إليه على قتب أشرس فينفذ حكمه فيك، فسكتت، ثم قالت:
بسم الله الرحمن الرحيم قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (الأعراف: ٨٥)، وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (الأنعام: ١٠٤). إذا أتاك كتابي فاحتفظ بما في يديك حتى يأتي من يقبضه منك، والسلام.
فعزله، فقال معاوية: اكتبوا لها بالإنصاف لها، والعدل عليها، فقالت: لي خاصة أم لقومي عامة؟ قال: وما أنت وغيرك؟ قالت: هي والله الفحشاء واللؤم. إن كان عدلًا شاملًا وإلَّا يسعني ما يسع قومي، قال لها: جرَّأكم ابن أبي طالب وغرَّكم قوله:
وقوله:
اكتبوا لها بحاجتها. فكتبوا لها وانصرفت.
سوسن زوجة بواكيم ملكة بني إسرائيل
من سبط يهوذا، وقد ذكَّرت هذه القصة في التوراة بما في سفر «دانيال» — عليه السلام — أنه لما كان في السنة الثالثة من ملك بواكيم قدم «بختنصر» ملك بابل إلى أورشليم وسلمها الله — سبحانه وتعالى.
ثم نزل في بيت المقدس، ولما استقرت آراؤهم على الشريعة الناموسية الموسوية حكَّم شخصين قاضيين عُرفا بالعبادة والزهد في بني إسرائيل، فكانا يَحكُمان في الشعب، ويأويان إلى بيت بواكيم الملك، وكانت سوسن في أرفع رتبة من الجمال والحسن وبهجة المنظر والصلاح؛ لأن والديها كانا صدِّيقين في بني إسرائيل.
وكانت في كل يوم تنزل إلى بستانها للنزهة، فرآها القاضيان فوقعت منهما، فاشتغلا بها عن النظر في الحكومات، وكتَم كلٌّ عن الآخر حتى إذا كان منتصف النهار من يوم شديد الحر قال كل منهما لصاحبه: قد اشتد الحر؛ فليذهب كل منا فيستريح، وخرَجا مُضمِري العود رجاء الظفر بالجارية.
فلما التقيا فحص كل عن عود الآخر، فأظهرا ما عندهما من حبها، واتفقا عليها، وإنها دخلت مع جاريتين البستان فعزمتْ على الحموم وقد استخفيا، فأرسلت الجاريتين لتأتياها بما يلزم لها، فظهر القاضيان وأغلقا الأبواب وقالا لها: لئن لم تجيبينا وإلا قلنا: إنا وجدنا معك شابًّا، ومن أجل ذلك أرسلت الجاريتين. وأنت تعلمين مكاننا من بني إسرائيل، قالت سوسن: والله لا أغضب ربي أبدًا، وصرختْ فصرخ القاضيان، ومضى أحدهما ففتح الباب، وجاء العبيد فأخبراهم بالقصة، فبقوا مبهوتين؛ لأنهم لا يعلمون عليها سوءًا.
ثم أتى «بواكيم» فأعلموه بالأمر، وأنهما لم يقدرا على مسك الشاب، فجمع الشعب وتقدم الشيخان فكشفا عن سوسن وقالا: نشهد على هذه أنها دخلت البستان ومعها جاريتان فأرسلتهما وأغلقت الأبواب، فجاء حدث من وراء شجرة فضاجعها، فحين رأينا المعصية صِحْنا فانفلت الشابُّ، فبكت سوسن ورفعت طرفها إلى السماء وقالت: يا الله، يا دائم، يا عالم الخفيات، أنت تعلم أنهما كذبا عليَّ.
ثم أقاماها للقتل، وكان «دانيال» — عليه السلام — شابًّا عمره ثلاث عشرة سنة، فجاء وصاح عليهم أن قفوا؛ فإنها بريئة بما رُميتْ به، ثم أمر بالتفريق بينهما، فقال لأحدهما: من أي شجرة جاء الحدث؟ فقال: من تحت شجرة بطم، فقال: كذبت، وهذا ملاك الله شاهد عليك بالكذب، ثم أخَّره وقدَّم الآخر وقال له: مِن تحت أي شجرة جاء الحدث؟ فقال: من تحت شجرة زيت، فقال: كذبت، وأقامهما فنُشرا ونزلت نار فأحرقتهما. تأمَّل. وحفظ الله الدم الزكي، وعظم أمر دانيال — عليه السلام.