حرف العين
عائشة بنت أبي بكر الصديق
ابن أبي قحافة القرشية. تزوَّجها رسول الله ﷺ بمكة وهي بنت ست سنين، وقيل: سبع، ودخل بها في المدينة وهي بنت تسع، وقيل: عشر. وكان مولدها سنة أربع من النُّبُوَّة، وأمها أم رومان بنت عامر بن عويمر، وكان صداقها أربعمائة درهم، وكانت أحب نسائه إليه، وكنيتها أم عبد الله؛ كنيت بابن أختها أسماء، وروت عائشة ألفي حديث ومائتي حديث وعشرة أحاديث.
ولها خطب ووقائع، وكانت هي السبب في وقعة الجمل المشهورة في الإسلام؛ وذلك أن عائشة خرجت إلى مكة وعثمان محصور، ثم رجعت من مكة تريد المدينة، فلما كانت برف لقيها رجل من أخوالها من ليث يقال له: عبيد بن أبي سلمة، فقالت له: مهيم؟ قال: قتل عثمان وبقوا ثماني، قالت: ثم صنعوا ماذا؟ قال: اجتمعوا على بيعة علي، فقالت: هذه انطبقت على هذه، إن تمَّ الأمر لصاحبك ردُّوني. فانصرفت إلى مكة وهي تقول: قتل والله عثمانُ مظلومًا، والله لأطلُبنَّ بدمه، فقال لها: ولِمَ، إن أول من أمال حرفه لأنتِ؟! ولقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلًا؛ فقد كفر! قالت: إنهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا، وقولي الأخير خير من قولي الأول، فقال لها ابن أبي سلمة:
فانصرفت إلى مكة فقصدت الحجر فنزلت فيه، فاجتمع الناس حولها فقالت: أيها الناس، إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المقتول ظلمًا بالأمس، ونقموا عليه استعماله من حدَثتْ سنُّه، وقد استعمل أمثالهم قبله، ومواضع من الحمى حماها لهم، فتابعهم ونزع لهم عنها، فلما لم يجدوا حجة ولا عذرًا بادروا بالعدوان، فسفكوا الدم الحرام، واستحلوا البلد الحرام، والشهر الحرام، وأخذوا المال الحرام. والله، لأصبع من عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم، ووالله لو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنبًا لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه، أو الثوب من درنه، أماصوه كما يماص الثوب بالماء — أي يغسل — فقال عبد الله بن عامر الحضرمي — وكان عامل عثمان على مكة: ها أنا أول طالب، فكان أول مجيب، وتبعه بنو أمية على ذلك، وبذا صارت الحرب بخبر طويل يخرجنا عن الموضوع وروده.
ومما قالت عائشة عند دخولهم المربد، واجتمع القوم وخرج أهل البصرة وعثمان بن حنيف — وكان عاملًا على البصرة — فتكلَّمتْ — وكانت جهورية الصوت — فحمدت الله وقالت: كان الناس يتجنون على عثمان ويُزَوِّرون على عماله بالمدينة فيستشيروننا فيما يخبرونا عنهم، فننظر في ذلك فنَجِده بَريًّا تقيًّا وفيًّا، ونجدهم فجرة غدرة كذبة، وهم يحاولون غير ما يُظهرون، فلما قووا كاثَروه؛ فتحوا عليه داره، واستُحلَّ الدمُ الحرام، والشهرُ الحرام، والبلدُ الحرام، بلا تِرَةٍ ولا غدر. ألا إن مما ينبغي، ولا ينبغي لكم غيره، أخذ قتلة عثمان، وإقامة كتاب الله، وقرَأتْ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَابِ اللهِ (آل عمران: ٢٣) الآية. وكانت فصيحة الكلام، صحيحة المنطق، فهاجَت السامعين.
وقالت أيضًا يوم الجمل: أيها الناس، صه صه؛ إن لي عليكم حق الأمومة وحرمة الموعظة، لا يتهمني إلا مَن عصى ربه. مات رسول الله ﷺ بين سَحْرِي ونَحْري، وأنا إحدى نسائه في الجنة، له ادخرني ربي وسلَّمني من كل بضاعة، وبي ميَّز بين منافقكم ومؤمنكم، وبي رخَّص الله لكم في صعيد الأبواء، ثم أبي ثالث ثلاثة من المؤمنين، وثاني اثنين الله ثالثهما، وأول مَن سُمِّي صديقًا. مضى رسول الله ﷺ راضيًا عنه، وطوَّقه طوق الإمامة، ثم اضطرب حبل الدين فمسك أبي بطرفيه، ورتق لكم فتق النفاق، وأغاض نبع الردة، وأطفأ ما حش يهود وأنتم يومئذ جحظ العيون تنظرون الغدرة، وتسمعون الصيحة، فرأب الثأي، وأوذم العطلة، وانتاش من المهواة، واجتحى دفين الداء حتى أعطن الوارد، وأورد الصادر، وعل الناهل، فقبضه الله واطئًا على هامات النفاق، مذكيًا نار الحرب للمشركين، وانتظمت بضاعتكم بحبله، ثم ولى أمركم رجلًا مرعيًّا إذا ركن إليه بعيدًا ما بين اللابتين عروكه للأذن بجنسه، صفوحًا عن أذاة الجاهلين، يقظان الليل في نصرة الإسلام، فسلك مسلك السابقة؛ ففرق شمل الفتنة، وجمع أعضادها جمع القرآن، وأنا نصب المسألة عن مسيري هذا لم ألتمس إثمًا، ولم أدلس فتنة أوطِّئكُموها. أقول قولي هذا صدقًا وعدلًا وإعذارًا وإنذارًا، وأسأل الله أن يصلي على محمد، وأن يخلفه فيكم بأفضل خلافة المرسلين.
وقال القاسم بن محمد بن أبي بكر: لما قتل أبي محمد بن أبي بكر بمصر جاء عمي عبد الرحمن بن أبي بكر فاحتملني أنا وأختًا لي من مصر، فقدم بنا المدينة، فبعثت إلينا عائشة فاحتُملتنا من منزل عبد الرحمن إليها، فما رأيت والدة قط ولا والدًا أبر منها، فلم نزل في حجرها، ثم بعثت إلى عمي عبد الرحمن.
فلما دخل عليها تكلمت فحمدت الله — عز وجل — وأثنت عليه، فما رأيت متكلمًا ولا متكلمة قبلها ولا بعدها أبلغ منها، ثم قالت: يا أخي، إني لم أزل أراك معرضًا عني منذ قبضت هذين البنيين منك، ووالله ما قبضتهما تطاولًا عليك ولا تهمة لك فيهما ولا لشيء تكرهه، ولكنك كنت رجلًا ذا نساء، وكانا صبيين لا يكفيان من أنفسهما شيئًا؛ فخشيت أن يرى نساؤك منهما ما يتقذرنَّ به من قبيح أمر الصبيان، فكنت ألطف لذلك وأحق لولايته، فقد قويا على أنفسهما وشبَّا وعرفا ما يأتيان، فها هما هذان، فضمَّهما إليك، وكُنْ لهما كحجية بن المضرب أخي كندة؛ فإنه كان له أخ يقال له: معدان، فمات وترك صبية صغارًا في حجر أخيه، فكان أبر الناس بهم، وأعطفهم عليهم، وكان يُؤثرهم على صبيانه، فمكث بذلك ما شاء الله.
ثم إنه عرض له سفر لم يجد بدًّا من الخروج فيه، فخرج وأوصى بهم امرأته — وكانت إحدى بنات عمه، وكان يقال لها: زينب — فقال: اصنعي ببني أخي ما كنت أصنع بهم، ثم مضى لوجهه فغاب شهرًا، ثم رجع وقد ساءت حال الصبيان وتغيَّرت، فقال: ويلك! ما لي أرى بني معدان مهازيل، وأرى بنيَّ سِمانًا؟ قالت: قد كنت أواسي بينهم، ولكنهم كانوا يعبثون ويلعبون، فخلا بالصبيان فقال: كيف كانت زينب تصنع بكم؟ قالوا: سيئة، ما كانت تعطينا من القوت إلا ملء هذا القدح من لبن، وأرَوه قدحًا صغيرًا، فغضب على امرأته غضبًا شديدًا وتركها، حتى إذا راح راعيًا إبله قال لهما: اذهبا فأنتما وإبلكما لبني معدان، فغضبت من ذلك زينب وهجرته، وضربت بينه وبينها حجابًا، فقال: والله لا تذوقين منها صبوحًا ولا غبوقًا أبدًا! وقال في ذلك:
قالت عائشة: فلما بلغ زينب هذا الشعر خرجت حتى أتت المدينة فأسلمت؛ وذلك في ولاية عمر بن الخطاب، فقَدِم حجية المدينةَ فطلب زينب أن تردَّ عليه — وكان نصرانيًّا — ونزل بالزبير بن العوام فأخبره بقصته، فقال له: إياك وأن يبلُغَ هذا عنك عمر فتلقى منه أذًى! وانتشر خبرُ حجية بالمدينة وعُلِم فيمَ كان مقدمُه، فبلغ ذلك عمر فقال للزبير: قد بلغني قصة ضيفك، ولقد هممت به لولا تحرُّمه بالنزول عليك، فرجع الزبير إلى حجية فأعلمه قول عمر، فمدحه بأبياته الآتي أولها: «إن الزبير بن عوام تداركني.»
ثم انصرف من عنده متوجهًا إلى بلده آيسًا من زينبَ كئيبًا حزينًا، فقال في ذلك:
وأنا — والله يا أخي — خشيت عليك من مثل ذلك؛ لئلا يصيبك مع نسائك ما أصاب حجية وزينب، وأما الآن فقد كبرا وصارا يمكنهما أن يدفعا عن أنفسهما تعديات غيرهما، فأخذهما عبد الرحمن إليه وهو يثني على عائشة.
وكانت رضي الله عنها أفصح أهل زمانها، وأحفظهم للحديث، روتْ عنها الرواة من الرجال والنساء، وكان مسروق إذا روى عنها يقول: حدثتني الصديقة بنت الصديق، البريئة المُبرَّأة، وكان أكابر الصحابة يسألونها عن الفرائض.
وقال عطاء بن أبي أرباح: كانت عائشة من أفقه الناس، وأحسن الناس رأيًا في العامة، وقال عروة: ما رأيت أحدًا أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشةَ، ولو لم يكن لعائشةَ من الفضائل إلا قصة الإفك لكفى بها فضلًا وعلو مجد؛ فإنها نزل فيها من القرآن ما يتلى إلى يوم القيامة. ولولا خوف التطويل لذكرنا القصة بتمامها، وهي أشهر من أن تذكر. وكان حسان بن ثابت عند عائشة يومًا فقال يرثي ابنته:
فقالت له عائشة: لكن لست أنت كذلك، فقال لها مسروق: أيدخل عليك هذا وقد قال الله — عز وجل: وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (النور: ١١)؟! قالت: أما تراه في عذاب عظيم؛ قد ذهب بصره؟! وباقي الأبيات:
وتوفيت عائشة سنة سبع وخمسين، وقيل: سنة ثمان وخمسين للهجرة، ليلة الثلاثاء، لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان. وأمرت أن تدفن بالبقيع ليلًا، فدفنت وصلى عليها أبو هريرة، ونزل قبرها خمسة: عبد الله وعروة ابنا الزبير، والقاسم وعبد الله ابنا محمد بن أبي بكر، وعبد الله بن عبد الرحمن، ولما توفي النبيُّ ﷺ كان عمرها ثمان عشرة سنة.
عائشة بنت طلحة
عائشة بنت طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن معد بن تيم.
وأمها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، وخالتها عائشة أم المؤمنين، وكانت عائشة بنت طلحة أشبه الناس بعائشة أم المؤمنين خالتها، فزوجتها بابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وكان ابن خال عائشة بنت طلحة، فلم تلد من أحد من أزواجها سواه، فولدت له عمران — وبه كانت تكنى — وعبد الرحمن، وأبا بكر، وطلحة، ونفيسة التي تزوجها الوليد بن عبد الملك، ولكل من هؤلاء عقب. وكان ابنها طلحة من أجود قريش، وتوفي عبد الله عنها ثم تزوجها بعده مصعب بن الزبير فأمهرها خمسمائة ألف درهم، وأهدى لها مثل ذلك.
وكانت عائشة بنت طلحة لا تستر وجهها من أحد! فعاتبها مصعب في ذلك فقالت: إن الله — تبارك وتعالى — وسمني بميسم جمال أحببت أن يراه الناس ويعرفوا فضله عليهم، فما كنت لأسترَه، ووالله ما فيَّ وصمة يقدر أن يذكرني بها أحد، وطالت مراجعة مصعب إياها في ذلك، وكانت شرسة الخلق — وكذلك نساء تميم هن أشرس خلق الله، وأحظاهن عند أزواجهن، وكانت عند الحسين بن علي أم إسحاق بنت طلحة فكان يقول: والله لربما حملت ووضعت وهي مصارمة لي لا تُكلِّمني — ونالت عائشة من مصعب وقالت: لا تكلمني أبدًا، وقعدت في غرفة وهيَّأت فيها ما يُصلحها، فجهد مصعب أن تُكلِّمه فأبَتْ.
فبعث إليها ابن قيس الرقيات فسألها كلامه، فقالت: كيف يميني؟ فقال: ها هنا الشعبي فقيه أهل العراق فاستفتيه، فدخل عليها فأخبرته، فقال: ليس هذا بشيء، فقالت: أيحلني ويخرج خائبًا؟! فأمرت له بأربعة آلاف درهم، وقال ابن قيس الرقيات لما رآها:
وكانت عزة الميلاء من أظرف الناس وأعلمهم بأمور النساء، وكان يألفها الأشراف وأرباب المروءات وغيرهم، فأتاها مصعبُ بن الزبير وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر وسعيد بن العاص فقالوا: إنا خطبنا فانظري لنا، فقالت لمصعب: ومَن خطبت يا ابن أبي عبد الله؟ فقال: عائشة بنت طلحة، فقالت: فأنت يا ابن أبي أحيحة؟ قال: عائشة بنت عثمان، قالت: فأنت يا ابن الصديق؟ قال: أم القاسم بنت زكريا بن طلحة.
قالت: يا جارية، هاتي منقلي — تعني خفيها — فلبستهما وخرجت ومعها خادم لها، ومضت فبدأت بعائشة بنت طلحة، فقالت: فديتُك، كنا في مأدبة لقريشٍ فتذاكروا جمال النساء وخلقهن فذكروك، فلم أدرِ كيف أصفك — فديتُك — فألقي ثيابك، ففعَلتْ، وأقبلتْ وأدبرتْ، فارتجَّ كلُّ شيء منها! فقالت لها عزة: خذي ثوبك — فديتك من كل سوء — فقالت عائشة: قد قضيتِ حاجتك وبقيتْ حاجتي، فقالت عزة: وما هي — بنفسي أنت؟ قالت: تغنيني صوتًا، فاندفعت تغني:
فقامت عائشة فقبلت ما بين عينيها، ودعت لها بعشرة أثواب، وبطرائف من أنواع الفضة وغير ذلك، ودفعته إلى جاريتها، فحملته وأتت النسوة على مثل ذلك؛ تقول ذلك لهن، حتى أتت القوم في السقيفة فقالوا: ما صنعت؟ فقالت: يا ابن أبي عبد الله، أما عائشة فلا والله ما رأيت مثلها مقبلة ومدبرة، محطوطة المتنين، عظيمة العجيزة، ممتلئة الترائب، نقية الثغر وصفحة الوجه، فرعاء الشعر، لفاء الفخذين، ممتلئة الصدر، خميصة البطن، ذات عكن، ضخمة السرة، مسرولة الساق، يرتج ما بين أعلاها إلى قدميها، وفيها عيبان؛ أما أحدهما فيواريه الخمار، وأما الآخر فيواريه الخف: عظم القدم، والأُذن، وكانت عائشة كذلك.
ثم قالت عزة: وأما أنت يا ابن أبي أحيحة، فإني والله ما رأيت مثل خلق عائشة بنت عثمان لامرأة قط؛ ليس فيها عيب، والله لكأنما أفرغت إفراغًا، ولكن في الوجه ردة، وإن استشرتني أشرتُ عليك بوجهٍ تستأنس به.
وأما أنت يا ابن الصديق، فوالله ما رأيت مثل أم القاسم؛ كأنها خوط بانة تنثني، وكأنها خدل عنان، أو كأنها خشف ينثني على رمل لو شئت أن تعقد أطرافها لفعلت، ولكنها شحنة الصدر وأنت عريض الصدر، فإذا كان ذلك كان قبيحًا. لا والله حتى يملأ كل شيء مثله، فوصلها الرجال والنساء وتزوجوهن.
وكان مصعب لا يقدر عليها إلا بتلاح يناله منها، وبكل مشقة، فشكا ذلك إلى ابن فروة كاتبه، فقال له: أنا أكفيك هذا إنْ أذنت لي، قال: نعم، افعلْ ما شئت؛ فإنها أفضل شيء نلتُه من الدنيا، فأتاها ليلًا ومعه أسودان، فاستأذن عليها فقالت له: أفي مثل هذه الساعة يا ابن أبي فروة؟! قال: نعم، فأدخلته، فقال للأسودين: احفرا ها هنا بئرًا، فقالت له جاريتها: وما تصنع بالبئر؟! قال: شؤم مولاتك، أمرني هذا الفاجر أن أدفنها حية وهو أسفكُ خلق الله لدم حرام، فقالت عائشة: فأنظرني أذهب إليه، قال: هيهات! لا سبيل إلى ذلك، وقال للأسودين: احفرا.
فلما رأت الجد منه بكتْ ثم قالت: يا ابن أبي فروة، إنك لقاتلي ما منه بد، قال: نعم، وإني لأعلم أن الله سيجزيه بعدك، ولكنه قد غضب وهو كافر الغضب! قالت: وفي أي شيء غضبه؟ قال: في امتناعك عنه، وقد ظنَّ أنك تُبغضينه وتتطلعين إلى غيره؛ فقد جنَّ، فقالت: أنشدك الله إلا عاودته، قال: إني أخاف أن يقتلني، فبكت وبكى جواريها، فقال: قد رققتُ لك، وحلَف أنه يُغرِّر بنفسه، ثم قال لها: فما أقول؟ قالت: تضمن عني أني لا أعود أبدًا، قال: فما لي عندك؟ قالت: قيام بحقك ما عشت، قال: فأعطيني المواثيق، فأعطته، فقال للأسودين: مكانكما، وأتى مصعبًا فأخبره، فقال له: استوثِقْ منها بالأيمان، ففعلتْ وصلحت بعد ذلك لمُصعَبٍ.
ودخل عليها مصعب يومًا وهي نائمة متصبحة ومعه ثمان لؤلؤات قيمتها عشرون ألف دينار، فأنبهها ونثَر اللؤلؤ في حجرها، فقالت له: نومتي كانت أحبَّ إليَّ من هذا اللؤلؤ، قال: وصارمتْ مُصعبًا مرَّةً فطالت مصارمتُها له، وشقَّ ذلك عليها وعليه، وكانت لمصعب حرب فخرج إليها ثم عاد وقد ظفر، فشكَتْ عائشة مصارمته إلى مولاة لها فقالت: الآن يصلح أن تخرجي إليه، فخرجت فهنَّأته بالفتح وجعلتْ تَمسَح التراب عن وجهه، فقال لها مصعب: إني أشفق عليك من رائحة الحديد، فقالت: لهو — والله — عندي أطيب من ريح المسك!
وقال ابن يحيى: كان مصعب من أشد الناس إعجابًا بعائشة بنت طلحة، ولم يكن لها شبيه في زمانها حسنًا ودماثة، وجمالًا وهيئة، ومتانة وعفة، وإنها دعتْ يومًا نسوة من قريش، فلما جِئْنها أجلستهن في مجلس قد نضد فيه الريحان والفواكه والطيب المجمر، وخلعت على كل امرأة منهن خلعة تامة من الوشي والخز ونحوهما، ودعت عزة الميلاء، ففعلت بها مثل ذلك وأضعفت، ثم قالت لعزة: هاتي يا عزة فغنينا، فغنت:
وكان مصعب قريبًا منهن ومعه إخوان له، فقام فانتقل حتى دنا منهن والستور مسبلة، فصاح: يا هذه، إنا قد ذُقناه فوجَدناه على ما وصفتِ، فبارك الله فيك يا عزة! ثم أرسل إلى عائشة: أما أنت فلا سبيل لنا إليك مع مَن عندك، وأما عزة فتأذنين لها أن تُغنِّينا هذا الصوت ثم تعود إليك، ففعَلتْ وغنَّته مرارًا، وكاد مصعب أن يذهب عقله فرحًا وسرورًا، وأمرها بالعود إلى مجلسها، وقضوا يومًا على أحسن حال!
ولما قُتل مصعب عن عائشة تزوَّجها عُمر بن عبيد الله بن معمر التميمي، فحمل إليها ألف ألف درهم وقال لمولاتها: لك عليَّ ألف دينار إن دخلتُ بها الليلة. وأمر بالمال فحُمل فأُلقي في الدار وغُطِّي بالثياب، وخرجت عائشة فقالت لمولاتها: أهذا فرش أم ثياب؟ قالت لها: انظري إليه، فنظرت فإذا هو مال، فتبسَّمتْ، فقالت لها مولاتها: أَجزاءُ مَن حمل هذا أن يبيت عزَبًا؟! قالت: لا والله، ولكن لا يجوز دخوله إلا بعدَ أن أتزينَّ له وأستعد، قالت: فيم ذا؟! فوجهك والله أحسن من كل زينة، وما تمدين يدك إلى طيب أو ثياب أو حلي أو فرش إلا وهو عندك، وقد عزمت عليك أن تأذني له، قالت: افعلي، فذهبت إليه فقالت: قُمْ بنا فقد قبلتْ، فجاءهم عند العشاء الأخيرة، وقالت حين دخل بها:
وكانت رملة بنت عبد الله بن خلف زوجة لعمر بن عبيد الله بن معمر، ولما تزوَّج عائشة قالت رملة لمولاة لعائشة: أريني عائشة متجردة ولك ألفا درهم، فأخبرت عائشة بذلك فقالت: فإني أتجرد فأعلميها ولا تُعرِّفيها أني أعلم، فقامت عائشة كأنها تغتسل وأعلمتها، فأشرفت عليها مُقبلة ومُدبرة، فأعطتْ رملةُ مولاتها ألفي درهم وقالت: لوددت أني أعطيتك أربعة آلاف درهم ولم أرها!
فمكثت عائشة عند عبيد الله بن معمر ثمان سنين، ثم مات عنها سنة اثنتين وثمانين، فتأيمت بعده، فخطبَها جماعة فردَّتهم ولم تتزوج بعده أبدًا.
وكانت عائشة من أشد الناس مغالظةً لأزواجها، وكانت تكون لكل من يجيء يحدثها في رقيق الثياب! فإذا قالوا: قد جاء الأمير، ضمَّت عليها مطرفها وقطَبتْ، وكانت كثيرًا ما تصف لعمر بن عبيد الله مصعبًا وجماله، وتغيظه بذلك، فيكاد أن يموت. وكان شديد الغيرة، فدخل يومًا على عائشة وقد ناله حر شديد وغبار، فقال لها: انفضي التراب عني، فأخذت منديلًا تنفض عنه التراب، ثم قالت له: ما رأيت الغبار على وجه أحدٍ قط أحسن منه على وجه مصعب! قال: فكاد يموت غيظًا.
ودخلت عائشة على الوليد بن عبد الملك وهو بمكة، فقالت: يا أمير المؤمنين، مُرْ لي بأعوانٍ، فضمَّ إليها قومًا يكونون معها، فحجَّت ومعها ستون بغلًا عليها الهوادج والرحائل، وكانت سكينة بنت الحسين — رضي الله عنهما — في تلك السنة، فقال حادي عائشة:
فشق ذلك على سكينة ونزل حاديها، فقال:
فأمرت عائشة حاديها أن يكفَّ فكفَّ، واستأذنت عاتكة بنت يزيد بن معاوية عبد الملك في الحج فأذن لها وقال: ارفعي حوائجك واستظهري؛ فإن عائشة بنت طلحة تحج هذه السنة، ففعلت، فجاءت بهيئة جهدت فيها، فلما كانت بين مكة والمدينة إذا بموكب قد جاء فضغطها وفرَّق جماعتها، فقالت: أرى هذه عائشة بنت طلحة، فسألت عنها فقالوا: هذه خازنتها، ثم جاء موكب آخر أعظم من ذلك الموكب فقالوا: عائشة! عائشة! فضغطهم، فسألت عنه فقالوا: هذه ماشطتها، ثم جاءت مواكب على هذا المنوال، ثم أقبلت كوكبة فيها ثلاثمائة راحلة عليها القباب والهوادج، فقالت عاتكة: ما عند الله خير وأبقى.
ووفدت عائشة بنت طلحة على هشام فقال لها: ما أوفدك؟ قالت: حبست السماء المطر، ومنع السلطان الحق! قال: إني سأعرفه حقك، ثم بعث إلى مشايخ بني أمية فقال: إن عائشة عندي، فأسمروا عندي الليلة، فحضروا، فما تذاكروا شيئًا من أخبار العرب وأشعارها وأيامها إلا أفاضت معهم فيه، وما طلع نجم ولا غار إلا سمَّته، فقال لها هشام: أما الأول فلا نكره، وأما النجوم فمن أين لك؟! قالت: أخذتها عن خالتي عائشة، فأمر لها بمائة ألف درهم وردَّها إلى المدينة.
ولما تأيمت عائشة كانت تقيم بمكة سنة وبالمدينة سنة، تخرج إلى مالها بالطائف وقصر لها فتتنزه، وتجلس بالعشيات فتتناضل بين يديها الرماة، فمرَّ بها النميري الشاعر، فسألت عنه فنُسب، فقالت له لما أتوها به: أنشدني مما قلت في زينب، فامتنع وقال: ابنة عمي وقد صارت عظامًا بالية، قالت: أقسمت عليك، فأنشدها قوله:
فقالت: والله ما قلت إلا جميلًا، ولا وصفت إلا كرمًا وطيبًا وتقًى ودينًا، أعطوه ألف درهم، فلما كانت الجمعة الأخرى تعرَّض لها فقالت: عليَّ به، فجاء فقالت: أنشدني من شعرك في زينب، فقال: أوَأنشدك من قول الحارث فيك؟ فوثَب مواليها، فقالت: دَعُوه؛ فإنه أراد أن يستقيد لابنة عمه! هات، فأنشدها:
فقالت: والله ما ذكر إلا جميلًا؛ ذكر أني إذا صبَّحت زوجًا بوجهي غدا بكواكب الطلق، وأني غدوت مع أمير تزوَّجني إلى الشرق؛ أعطوه ألف درهم، واكسوه حُلَّتين، ولا تَعُد لإتياننا يا نميري.
وقال أبو هريرة لعائشة يومًا: ما رأيت شيئًا أحسن منك إلا معاوية أول يوم خطب على منبر رسول الله ﷺ. فقالت: والله لأنا أحسن من النار في الليلة القرة في عين المقرور.
وكتب أبان بن سعيد إلى أخيه يحيى يخطب عليه عائشة بنت طلحة ففعل، فقالت ليحيى: ما أنزل أخاك أيلة؟ قال: أراد العزلة، قالت: اكتب إلى أخيك:
وقال عبد الله بن عبد الرحمن — وقد قيل له طلقها:
قال بعضهم: أذن المؤذن يومًا وخرج الحارث بن خالد إلى الصلاة، فأرسلت إليه عائشة ابنة طلحة أنه بقي علي شيء من طوافي لم أُتمَّه، فقعد وأمر المؤذنين فكفُّوا عن الإقامة، وجعل الناس يصيحون حتى فرَغت من طوافها، فبلغ ذلك عبد الملك بن مروان، فعزله وولَّى عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وكتب إلى الحارث: ويلك! أتركت الصلاة لعائشة بنت طلحة؟! فقال: والله لو لم تقضِ طوافها إلى الفجر لما كبَّرت، وقال في ذلك:
ولما قدمت عائشة إلى مكة أرسل إليها الحارث بن خالد — وهو أمير على مكة: إني أريد السلام عليك، فإذا خفَّ عليك أذنتِ — وكان الرسول الغريض — فقالت له: إنا حُرُم، فإذا أحللنا أذناك، فلما حلَّت سرت على بغلاتها، ولحقها الغريض بعسفان ومعه كتاب الحارث إليها وفيه قوله:
فلما قرأت الكتاب قالت: ما يدع الحارثُ باطلَه! ثم قالت للغريض: هل أحدثتَ شيئًا؟ قال: نعم، فاسمعي، ثم اندفع يغني في هذا الشعر، فقالت عائشة: والله ما قلنا إلا سددًا، ولا أردنا إلا أن نشتري لسانه، وأتى على الشعر كله فاستحسنته وأمرت له بخمسة آلاف درهم وأثواب، وقالت: زدني، فغناها في قول الحارث بن خالد أيضًا:
فقالت له عائشة: يا غريض، بحقي عليك، أهو أمرك أن تغنيني في هذا الشعر؟ فقال: لا وحياتك يا سيدتي، فأمرت له بخمسة آلاف درهم، ثم قالت له: غنني في شعر غيره، فغناها في قول ابن أبي ربيعة:
فضحكت ثم قالت: وأنت يا غريض؛ فأنعم الله بك عينًا، وأنعم بابن أبي ربيعة عينًا، لقد تلطفت حتى أديت إلينا الرسالة، وإن وفاءك له لما يزيدنا رغبة فيك وثقة بك. وقد كان عمر سأل الغريضَ أن يغنيها هذا الصوت، وقال له عمر: إن أبلغتها هذه في غناء فلك خمسة آلاف درهم، فوفى له بذلك، وأمرت له عائشة بخمسة آلاف درهم أخرى.
ثم انصرف الغريض من عندها فلقي عاتكة بنت يزيد بن معاوية، زوجة عبد الملك بن مروان، وكانت قد حجَّت في تلك السنة، فقال لها جواريها: هذا الغريض، قالت لهن: عليَّ به، فجيء به إليها، قال الغريض: فلما سلَّمتُ دخلتُ فردَّت عليَّ وسألتني عن الخبر، فقَصَصْتُه عليها، قالت: غنِّني بما غنيتَها به، ففعلت، فلم أرها تهشُّ لذلك، فغنَّيتُها مُعرِّضًا لها ومُذكِّرًا بنفسي في شعر مرة بن محكان السعدي يخاطب امرأته وقد نزل به أضياف:
قال: فقالت وهي مبتسمة: قد وجب حقك يا غريض، فغنِّني، فغنيتها:
فقالت: نعطيك النصف، ولا نضيع سهمك عندنا، ونجزل لك قسمك، وأمرت له بخمسة آلاف درهم، وثياب عدنية وغير ذلك من الألطاف، قال: وأتيت الحارث بن خالد فأخبرته وقصصت عليه القصة، فأمر لي بمثل ما أمرتا لي به جميعًا، فأتيت ابن أبي ربيعة وأعلمته بما جرى، فأمر لي بمثل ذلك، فما انصرف أحد من ذلك الموسم بمثل ما انصرفت: بنظرة من عائشة، ونظرة من عاتكة بنت يزيد؛ وهما أجمل نساء عالمهما، وبما أمرَتا لي، وبالمنزلة عند الحارث — وهو أمير مكة — وابن أبي ربيعة، وما أجازاني به جميعًا من المال.
وقد قدم قادم إلى المدينة من مكة، فدخل على عائشة بنت طلحة فقالت له: من أين أقبل الرجل؟ قال: من مكة، فقالت: فما فعل الأعرابي؟ فلم يفهم ما أرادت، فلما عاد إلى مكة دخل على الحارث فقال له: من أين؟ قال: من المدينة، قال: فهل دخلت على عائشة بنت طلحة؟ قال: نعم، قال: ففي ماذا سألتك؟ قال: قالت لي: ما فعل الأعرابي؟ قال له الحارث: فعُدْ إليها ولك هذه الراحلة والحلة ونفقتك لطريقك، وادْفعْ إليها هذه الرقعة، وكتب إليها فيها:
ولقي عمر بن أبي ربيعة عائشة بمكة وهي تسير على بغلة لها، فقال لها: قفي حتى أسمعك ما قلت فيك، قالت: أوَقد قلت يا فاسق؟! قال: نعم، فوقفتْ فأنشدها:
فقالت: لا ورب الكعبة ما عنَّيتَنا طرفة عين قط، ثم أطلقت عنان بغلتها وسارت، ولم تزل تداريه وترفق به؛ خوفًا من أن يتعرض لها حتى قضت حجَّها وانصرفت إلى المدينة، فقال في ذلك:
ومن أشعاره أيضًا فيها قصيدته التي أولها:
ونقل صاحب الأغاني قال: بينما عمر بن أبي ربيعة يطوف بالبيت إذ رأى عائشة بنت طلحة — وكانت أجمل أهل دهرها — وهي تريد الركن تستلمه، فبهت لما رآها ورأته، وعلمت أنها قد وقعت في نفسه، فبعثت إليه بجارية لها وقالت: قولي له: اتق الله، ولا تقل هجرًا؛ فإن هذا مقام لا بد فيه مما رأيت، فقال للجارية: أقرئيها السلام وقولي لها: ابن عمك لا يقول إلا خيرًا، وقال فيها:
وقال فيها أشعارًا كثيرة، فبلغ ذلك فتيان بني تيم؛ أبلغهم إيَّاه فتًى منهم وقال لهم: يا بني تيم بن مرة، ها والله ليقذفن بنو مخزوم بناتنا بالعظائم وتغفلون! فمشى ولد أبي بكر وولد طلحة بن عبيد الله إلى عمر بن أبي ربيعة فأعلموه بذلك، وأخبروه بما بلغهم، فقال لهم: والله لا أذكرها في شعر أبدًا، ثم قال بعد ذلك فيها وكنَّى عن اسمها في قصيدته التي أولها:
ولم يزل عمر يتشبب بعائشة أيام الحج، ويطوف حولها، ويتعرض لها، وهي تكره أن يرى وجهها حتى وافقها وهي ترمي الجمار سافرة، فنظر إليها فقالت: أما والله لقد كنتُ لهذا منك كارهة يا فاسق، فقال:
ولما حجت عائشة بنت طلحة جاءتها الثريا وأخواتها ونساء أهل مكة القرشيات وغيرهن، وكان الغريض فيمن جاء، فدخل النسوة عليها فأمرت لهن بكسوة وألطاف كانت قد أعدتها لمن يَجيئُها، فجعلت تخرج كل واحدة ومعها جاريتها ومعها ما أمرت به لها عائشة، والغريض بالباب، حتى خرجتْ مولياته مع جواريهن الخلع والألطاف، فقال الغريض: فأين نصيبي من عائشة؟ فقلن له: أغفلناك وذهبتْ عن قلوبنا! فقال: ما أنا ببارحٍ من بابها أو آخذ بحظي منها؛ فإنها كريمة بنت كرام، واندفع يغني بشعر جميل:
فقالت: ويلكم! هذا مولى العيلات بالباب يذكر نفسه، هاتوه. فدخل، فلما رأته ضحكت وقالت: لم أعلم مكانك، ثم دعتْ له بأشياء أمرت له بها، ثم قالت له: إن أنت غنَّيتني صوتًا في نفسي فلك كذا وكذا — شيء سمَّته له — فغناها في شعر كثير:
فقالت له: ما عدوت ما في نفسي! ووصلته فأجزلت، قال إسحاق: فقلت لأبي عبد الله: وهل علمتَ حديث هذين البيتين؟ ولم سألت الغريض ذلك؟ قال: نعم، نقل عن الشعبي أنه قال: دخلت مسجدًا فإذا أنا بمصعب بن الزبير على سرير جالس، والناس عنده، فسلمت ثم ذهبت لأنصرف فقال لي: ادنُ مني يا شعبي، فدنوت حتى وضعت يدي على مرافقه، ثم قال: إذا قمتُ فاتبعني، فجلس قليلًا ثم نهض فتوجَّه نحو دار موسى بن طلحة فتَبعتُه، فلما دخل في الدار التَفَتَ إليَّ فقال: ادخلْ، فدخلت معه فإذا حَجَلة رأيتها لبعض الأمراء، فقمت ودخَل الحَجَلة فسمعت حركة، فكرهت الجلوس ولم يأمرني بالانصراف، فإذا بجارية قد خرجتْ فقالت: يا شعبي، إن الأمير يأمُرُك أن تجلس، فجلست على وسادة ورُفع سُجُفُ الحَجَلة فإذا أنا بمصعب بن الزبير، ورُفع السُّجُف الآخر فإذا أنا بعائشة بنت طلحة، قال: فلم أر زوجًا قط كان أجمل منهما: مصعب وعائشة، فقال مصعب: يا شعبي، هل تعرف هذه؟ فقلت: نعم، أصلح الله الأمير، قال: ومن هي؟ قلت: سيدة نساء المسلمين عائشة بنت طلحة، قال: لا، ولكن هذه ليلى التي يقول فيها الشاعر: «وما زلت من ليلى لدن طرَّ شاربي» — البيتين المتقدم ذكرهما — ثم قال: إذا شئت فقُمْ، فقُمتُ.
فلما كان العشي رحتُ وإذا هو جالس على سريره في المسجد، فسلَّمتُ، فلما رآني قال لي: ادْنُ منِّي، فدنوت حتى وضعت يدي على مرافقه، فأصغَى إليَّ فقال: هل رأيت مثل ذلك الإنسان قط؟ قلت: لا والله، قال: أفتدري لِمَ أدخلناك؟ قلت: لا، قال: لتُحدِّثَ بما رأيت!
فيظهر من هذه الرواية أن طبائعهم في ذاك العصر كانت كطباع الغربيين في عصرنا هذا من قبل النساء، لا كرجالنا الذين يخافون أن يُظهِروا للنساء أدنى شيء من الفضل؛ غيرة عليهن، ويزعمون أن هذا هو العز الأكبر. رجعنا إلى بقية الحديث: قال: ثم التفت إلى عبيد الله بن أبي فروة فقال: أعطه عشرة آلاف درهم وثلاثين ثوبًا، قال: فما انصرف يومئذٍ أحدٌ بمثل ما انصرف به؛ بعشرة آلاف درهم، وبمثل كارة القصار ثيابًا، وبنظرة من عائشة بنت طلحة!
عائشة النبوية ابنة جعفر الصادق
عائشة النبوية ابنة جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين، وأخت موسى الكاظم.
قال المناوي: كانت من العابدات المجاهدات، وكانت تقول — رضي الله عنها: وعزتك وجلالك لئن أدخلتني النار لآخذن توحيدي وأطوف به على أهل النار وأقول: وحَّدته فعذبني!
ماتت رضي الله عنها سنة ١٤٥ﻫ، ودفنت في المسجد المعروف باسمها الآن بناحية قراميدان بمصر، وقبرها يزار، وأهل مصر يعتقدون بها، ويتبركون بزيارتها، ومسجدها مقام الشعائر. وكان أبوها جعفر الصادق — رضي الله عنه — إمامًا نبيلًا، أخذ الحديث عن أبيه، وجدِّه لأمِّه القاسمِ بن محمد بن أبي بكر الصديق — رضي الله عنه — وعروة، وعطاء، ونافع، والزهري، وهو إمام مذهب الشيعة الإمامية.
عائشة بنت أحمد القرطبية
قال ابن حبان: لم يكن في زمانها من حرائر الأندلس مَن يُعادلها علمًا وفهمًا، وأدبًا وفصاحة وشعرًا، وكانت تمدح ملوك الأندلس وتخاطبهم بما يعرض لها من حاجة، وكانت حسنة الخط تكتب المصاحف، وماتت عذراء لم تتزوج، وكانت وفاتها سنة ٤٠٠ هجرية.
وقال صاحب المقرب: إنها من عجائب زمانها وغرائب أوانها، وأبو عبد الله الطبيب عمها، ولو قيل: إنها أشعر منه لجاز، ودخلت يومًا على المظفر بن المنصور بن أبي عامر وبين يديه ولَدٌ فارْتَجلَتْ:
وخطبها بعض الشعراء ممن لم ترضه فكتبت إليه:
عائشة بنت علي بن محمد بن عبد الغني بن المنصور الدمشقية
كانت عالمة عاملة كاملة، تعلَّمت النحو والصرف والبيان والعروض والحديث، وفتحت حلقة للتدريس. سمعت عن زوجها الحافظ نجم الدين الحسني، وعن الإمام ابن الخباز، والمرداوي، ومن بعدهما حدَّثت وانتفع الناس بمعارفها وعلومها، حتى إنها فاقت أهل زمانها علمًا وأدبًا ومعاشرة وعفة.
عائشة بنت محمد بن عبد الهادي
ابن عبد المجيد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة المقدسي، الصالحية الحنبلية.
سيدة المحدثين بدمشق. سمعت صحيح البخاري على حافظ العصر المعروف بالحجار، وروى عنها الحافظ ابن حجر، وقرأ عليها كُتبًا عديدة، وانفردت في آخر عمرها بعلم الحديث، وكانت سهلة في تعليم العلوم، لينة الجانب للتعليم. ومن العجائب أن ست الوزراء كانت آخر من حدَّث عن الزبيدي بالسماع، ثم كانت عائشة آخر من حدَّث عن صاحبه ابن الحجار بالسماع أيضًا، وبين وفاتهما مائة سنة!
وتوفيت عائشة هذه بدمشق سنة ٨١٦ﻫ، ودفنت بالصالحية. رحمة الله عليها.
عائشة بنت يوسف بن أحمد بن نصر الباعوني
كانت شاعرة مطبوعة، فاضلة أديبة، لبيبة عاقلة، وكان على وجهها من الجمال لمحة جمَّلها الأدب، وحلَّتها بلاغة العرب، فجعلتها بُغية ومُنية الراغبين. والذي أجمع عليه العارفون أن عائشة هذه بين المولدين تزيد عن الخنساء بين الجاهلين، وقد وصفها عبد الغني النابلسي بأنها فاضلة الزمان، وحليفة الأدب في كل مكان، ووصفها غيره من العلماء الأعلام بأنها ربة الفضل والأدب، وصاحبة الشرف والنسب.
وقد حضرت الفقه والنحو والعروض على جملة من مشايخ عصرها؛ مثل: جمال الحق والدين إسماعيل الحوراني، والعلامة محيي الدين الأرموي، وقد أخذ عنها جملة من العلماء الأعلام، وقد انتفع بها خلق كثير من الطالبين، ولها ديوان شعر بديع في المدائح النبوية كله لطائف.
ومن تآليفها: «مولد جليل للنبي ﷺ» اشتمل على فرائد النظم والنثر، ومن شعرها قولُها في جسر الشريعة — لما بنَاه الملكُ الظاهرُ برقوق — بيتين هدَما كثيرًا مما شيَّده فحول الشعراء من البيوت، وهما:
وبالحقيقة أن من رأى سحر بلاغتها فكأنما رأى هاروت وماروت. ومن شعرها البديع في الغزل قولها:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله محلي جياد الأفهام بعقود مدح الشفيع، ومجلي سلامة الأذواق بمكرر ذكره الرفيع، ومرصع تيجان البيان بجواهر سيرته الحسنى، ومزين سماء البلاغة بزواهر معجزه الأسنى، ومعجز العقول عن إدراك كنه صفاته، ومؤيس الأفكار من إحصاء خصائصه وآياته، وباعث الرسل مقررين لعظيم قدره، ومنزل الكتب مبينة لرفيع ذكره، ومعطر أرجاء الوجود بالثناء على خلقه العظيم، ومشرع ألوية التخصيص له بكرائم التسجيل، وجلائل التكريم، ومطلق ألسنة الإطناب في شرفه المطلق المفرد، ومفرده بكمال الاصطفاء، فما لكماله مثل ولا حد، حمدًا يجمع لي بين الأماني والأمان، ويقتضي المزيد من مبرات الشهود والعيان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة شافعة باتصال المدد، كافلة بالخلود في جنات العرفان إلى الأبد.
وأشهد أن سيد أعيان الكونين، وعين حياة الدارين محمدًا عبدُه ورسولُه، وحبيبُه وخليلُه ﷺ، صلاة تصلني وذريتي وأحبائي في كل نفس بنفائس صلاته، وتقتضي دوام البسط بتوالي إمداداته، وتشفع لنا بمراحم القبول، وتُسعفنا بكرائم الوصول صلاة لا ينقطع لها مدد، ولا ينقضي لها أمد، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى آل كلٍّ، وصحب كلٍّ، وسائر الصالحين، وسلِّم تسليمًا، وكرِّم تكريمًا.
وبعد، فهذه قصيدة صادرة عن ذات قناع، شاهدة بسلامة الطباع، منقحة بحسن البيان، مبنية على أساس تقوى من الله ورضوان، سافرة عن وجود البديع، سامية بمدح الحبيب الشفيع، مطلقة من قيود تسمية الأنواع، مشرقة الطوالع في أفق الإبداع، موسومة بين القصائد النبويات بمقتضى الإلهام الذي هو عمدة أهل الإشارات بالفتح المبين في مدح الأمين، استخرتُ الله تعالى بعد تمام نظمها، وثبوت اسمها، في شيء يروق الطالب موارده، وتعظم عند المستفيد فوائده، وهو أن أذكر بعد كل بيت حد النوع الذي بنيت عليه وافر شاهده؛ فإن ذلك مما يُفتَقَر إليه، وأنحو في ذلك سبيل الاختصار، ولا أخلُّ بواجب، وأُنبِّه على ما لا بد منه؛ قصد النفع الطالب، والمسئول من الفتاح بتأسيسها على قواعد أذن الله أن ترفع، ومن مثبت رفعها بوجاهة مدح الوجيه المشفع، أن يُصلِّي ويُسلِّم عليه، ويجعلها خالصة لوجهه الكريم، ووسيلة لي ولوالدي ولذريتي ولأحبائي ولمن والاني خيرًا إلى وفور الحظ من فضله العظيم، وأن يُنيلنا بوجاهة الممدوح لديه، وبحقه عليه نهاية الآمال، وما لم يخطر لنا على بالٍ من منائح الوصال، ومبارِّ الاتصال، ودوام العافية والآمال، وشمول العفو والرضوان. إنَّه جواد كريم رءوف رحيم، ومِن الله أستمد، وعليه أعتمد، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
براعة المطلع
الجناس المذيل والتام
الجناس المحرف
الجناس المُشوَّش
الجناس المُركَّب
الجناس المصحف والمطلق
الجناس المخالف
الجناس اللاحق
الجناس اللفظي
الجناس المعنوي
المناقضة
الرجوع
الاستدراك
المطابقة
التمثيل
الإبهام
الاستعارة
الأرداف
الافتتان
مراعاة النظير
عتاب المرء نفسه
المغايرة
سلامة الاختراع
التوشيع
المراجعة
القول بالموجب
التهكم
المواربة
ضرب المثل
النزاهة
تجاهل العارف
الهزل الذي يراد به الجد
البسط
التورية
التصدير
ما لا يستحيل بالانعكاس
تألف اللفظ والمعنى
التفويف
الإدماج
الاستخدام
المقابلة
تآلف اللفظ والوزن
تآلف المعنى والوزن
الإبداع
التفريع
القسم وجوابه
حسن البيان
التوشيح
المجاز
الاستطراد
التهذيب والتأديب
الانسجام
التشريع
الالتفات
الاحتراس
تأليف اللفظ باللفظ
التكرار
المناسبة
حسن النسق
الإيجاز
التتميم
التجريد
التمكين
الحذف
الاقتباس
النوادر
الكناية
المخلص
الإطراء
التكرار
التكميل
الترتيب
التسميط
السهولة
المماثلة
الاعتراض
الإيداع
الإشارة
التفسير
التوشيح
العنوان
التسهيم
حصر الجزئي وإلحاقه بالكلي
الاكتفاء
التوليد
التفصيل
الموارد
التقسيم
الجمع مع التقسيم
الجمع
القلب
تنسيق الصفات
التشطير
السجع
الترصيع
اللَّفُّ والنَّشْر
الإغراق
الغلو
المبالغة
الاتساع
الاتفاق
الجمع مع التفريق
التشبيه
التفريق
صحة الأقسام
الإشراك
التلمح
المذهب الكلامي
الالتزام
التوجيه
الترديد
التجزئة
الإيضاح
الاستتباع
السلب والإيجاب
التدبيج
تشبيه شيئين بشيئين
التنكيت
المساواة
نفي الشيء بإيجابه
جمع المؤتلف والمختلف
المدح في معرض الذم
الازدواج
التصريع
الفرائد
براعة المطلب
العقد
حسن الختام
إن ختام هذه القصيدة لم يأتِ في قصيدة غيرها من حسن الذوق السليم. ومن كثرة ما لها من العلم والفهم والاطلاع وسرعة الجواب فيه بدون روية؛ سألها سائل نظمًا عن وطء النائمة فقال:
فأجابته على البديهة قائلة:
وقد توفيت في القرن العاشر من الهجرة. رحمها الله رحمة واسعة.
عائشة بنت السيد عبد الرحيم الرفاعي
كانت والهة في الله خاشعة، تتكلم على الخواطر، وكانت تعدُّ من أعاظم أهل الحال، وقفت مرة فوق سطح الدار والفقراء يتواجدون في الرواق فقالت للنساء اللواتي حولها: أعطاني الله حالًا إن أردتُ منعتُ عن هؤلاء ما هم فيه!
فقالت النساء لها: بالله، يا سيدتنا، إلَّا ما فعلت! فرمقت حلقة الفقراء، فسكن القوم كأن لم يكن هناك ذكر ولا وَجْد! فضحِك أخوها السيد شمس الدين محمد وقال لولَدِه: اذهبْ فقبِّل رأسَ عمَّتك وقلْ لها: فلْتُفضْ على الناس مما أفاض الله لها. ففعل، فرمقت القوم مرة ثانية فرجعوا لوجدهم وما كانوا عليه!
توفيت بأم عبيدة في بغداد سنة ٦٣٥ﻫ، ودفنت بمشهدها المبارك — رضي الله عنها.
عائشة عصمت بنت إسماعيل باشا تيمور بن محمد كاشف تيمور
أديبة فاضلة، حكيمة عاقلة، بارعة باهرة، شاعرة ناثرة، رضعت أفاويق الأدب وهي في مهد الطفولية، وتحلَّت بحلى لغات العرب قبل تضَلُّعها باللغات التركية، وفاقت على أقرانها فصاحةً عند بلوغها سن الرشاد، وصارت ندرة زمانها بين أهل الإنشاء والإنشاد، ولم تدع لولَّادة مقالًا، ولم تترك للأخيلية مجالًا، وقد أخنَست الخنساء وأنْستْها صخرًا، وسارت في مضمار أدباء هذا العصر.
تعلمت العلم والأدب في مصر — القاهرة — على أساتذة أفاضل بين أبويها، وكان أكثر ميلها إلى علم النحو والعروض حتى بلغت في الشعر حدًّا لم يبلغه غيرها من نساء عصرها.
ولدت سنة ١٢٥٦ﻫ بمدينة القاهرة. والدتها جركسية الأصل، معتوقة والدها إسماعيل باشا تيمور. ولما انطوى بساط مهدها، وفرَّقت بين أبيها وجدها، بادرت والدتها إلى تعليمها فن التطريز، واستحضرت لها آلات التعليم، وكانت أفكارها غير متجهة لتلك؛ بل جل مرغوبها تعلُّم القراءة والكتابة، وقد عُلم منها هذا الميل من ائتلافها مع كتاب والدها، وكلما كانت والدتها تمنعها عن الحضور مع الكتاب وتُجبرها على تعلم التطريز تزداد هي نفورًا من طلب والدتها.
ولما رأى والدها تلك المحاورات تفرَّس فيها النجابة وقال لوالدتها: دعيها؛ فإن ميلها إلى القراءة أقرب، وأحضر لها اثنين من الأساتذة؛ أحدهما: يدعى إبراهيم أفندي مؤنس، كان يعلمها القرآن والخط والفقه، والثاني: يدعى خليل أفندي رجائي، كان يعلمها علم الصرف واللغة الفارسية.
وبعدما تعلمت القرآن الشريف تاقت نفسها إلى مطالعة الكتب الأدبية — وأخصها الدواوين الشعرية — حتى ترَبَّتْ عندها ملكة التصورات لمعاني التشبيهات الغزلية وخلافها، ولما صارت قريحتها تجود بمعانٍ مبتكرة لم يسبقها إليها غيرها؛ رأى والدها أن يستحضر لها أساتذة عروضيين من النساء الأديبات، وقبل إتمام ذلك صار زواجها من السيد الشريف محمود بك الإسلامبولي، ابن السيد عبد الله أفندي الإسلامبولي، كاتب ديوان همايوني بالآستانة سابقًا. وذلك كان في سنة ١٢٧١ هجرية.
وهنالك اقتصرت عن المطالعة وإنشاد الأشعار، والتفتت إلى تدبير المنزل وما يلزم له، خصوصًا حينما رُزقت بالأولاد والبنات، وبقيت على ذلك حتى كبرت لها بنت كان اسمها توحيدة، فألقت إليها زمام منزلها. وكان في تلك الفترة توفي والدها في سنة ١٢٨٩ﻫ، وزوجها في سنة ١٢٩٢ﻫ، وصارت حاكمة نفسها، فأحضرت لها اثنتين لهما إلمام بالنحو والعروض؛ إحداهما: تدعى فاطمة الأزهرية، والثانية: ستيتة الطبلاوية، وصارت تأخذ عليهما النحو والعروض حتى برعت وأتقنت بحوره، وأحسنت الشعر، وصارت تنشد القصائد المطولة والأزجال المتنوعة، والموشحات البديعة التي لم يسبقها أحد إلى معانيها، ومن ذلك قد جمعت ثلاثة دواوين بالثلاث لغات: العربية، والتركية، والفارسية.
وقبل أن تشرع في طبعها توفيت كريمتها توحيدة وهي في سن الثامنة عشرة من عمرها، فاستولى على المُترجَمة الحزن والأسف الشديد؛ حيث إنها كانت مُدبِّرة منزلها، ولم تحوجها لأحد سواها، وهناك تركت الشعر والعروض والعلوم، وجعلت ديدنها الرثاء والعديد والنوح مدة سبع سنوات حتى أصابها رَمَدُ العيون، وهنالك كثرت لواحيها وعواذلها من أولادها وصويحباتها، ونَهوها لتُقلِع عمَّا هي فيه.
وأخيرًا سمعت قول الناصحين، وقلَّلت شيئًا فشيئًا من البكاء والنوح حتى شفاها الله من مرض العيون، فجمعت ما وجدته من أشعارها، فوجدت بعضه، والباقي تفرَّق مدة حزنها، فجاء منه ديوان بالتركي سمَّته «شكوفة»، وهو تحت الطبع الآن بالآستانة العلية، وديوان عربي سمته «حلية الطراز»، وقد طُبع ونُشر وكان له وقع عظيم في النفوس، وقبول زائد عند أهل الأدب، وبعد ذلك رأت نفسها أنها قادرة على التأليف فألَّفت كتابًا سمته «نتائج الأحوال»، فجاء غريبًا في بابه، وقد طُبع ونُشر أيضًا.
ولما انتشرت مؤلفاتها المذكورة سارت في حديثها الركبان إلى أقصى العُمران، وطار صيتها في الآفاق، ووردت إليها التقاريظ من كل جهبذ أديب، ولوذعي أريب.
سيدتي ومولاتي، إنني قد تشرفت باطلاعي على حلية طرازكم التي تحلَّى بها جيد العصر، وأخجلت بسبك معانيها خنساء صخر، ألا وهي الدرة اليتيمة التي لم تأتِ فحول الشعراء بأحسنَ منها، وقصر نظم الدرِّ عنها، وشنَّفت بحسن ألفاظها مسامعنا، حتى غدا يحسدها السمع والبصر، وسارت في آفاقنا مسير الشمس والقمر.
ولقد تطفلت — مع اعترافي بالعجز والتقصير — بتقريظ لها وجيز حقير، فكنت كمن يشهد للشمس بالضياء، أو بالسمو للقبة الزرقاء، راجية من لدنكم قبوله بالإغضاء، ولا زلتم للفضل منارًا يسطع، وبين الأدباء في المقام الأرفع، بمَنِّ الله وكرمه:
سيدتي ومولاتي، أعرض أنني بينما أنا ألهج بذكر ألطافكم السنية، وأتنسَّم شذا أنفاسكم العبقرية، وأترقَّب لقاء أثر من لدنكم يتعلل به الخاطر، ويكتحل بإثمد مداده الناظر، وصلتني مشرفتكم الكريمة، وفريدة عقد وردكم اليتيمة، فجلت عن العين أقذاءها، وردت إلى النفس صفاءها، فتناولتها بالقلب لا بالبنان، وتصفحت ما في طيها من سحر البيان فقلت:
لعمري إنه كتاب حوى بدائع المنثور والمنظوم، وتحلى من درر الفصاحة فأخجلت لديه دراري النجوم، وقد تطفلت على مقامكم العالي بهذا الجواب ناطقًا بتقصيري، وضمنته من مدح سجاياكم الغراء وما يشفع لدى مكارمكم في قبول معاذيري، لا زلتم للفضل معدنًا وذخرًا، وللأدب كنزًا وفخرًا:
لا تصلح العائلات إلا بتربية البنات
إني وإن كنت لست أهلًا لمجال المقال في هذا المضمار، ومعترفة بقصر اليد عن قبض زمام المنال؛ لاعتكافي بخيمة الإزار، لكني أرى من خلال أطرافه أن مناهج التربية ظرف الكنوز، وبحدود مسالك التأديب مفاتيح كل جوهر مكنوز؛ فالواجب على كل ذي نفس كريمة أن يميل كل الميل إلى تلك السبل الفخيمة، ويحث كل عزيز له أن يرتع في مراتعها القويمة؛ ليحظى بتلك الجواهر اليتيمة، مع أني أرى الهيئة الشرقية لا تنظر إلا ما هو أمامها من الصالح فتخص به نفسها، ولو التفتت إلى ما بعد يومها وتفقدته لعضَّت أنامل الندم على ما فرَّطت، ووجدت بالالتفات إلى حكم بارئ النسمات، وموجد المخلوقات، وهي المصانع البديعة الربانية، والمباني الأصلية الطبيعية صيرورة مدار عمران هذا العالم على الزوجين.
ولو أمكن الانفراد؛ لخص عالم الأسرار أحدهما دون الآخر، وهو الأفضل، ولم يفقره إلى ما هو دونه، فكان التأمل في هَيُولَى هذا الكون موجبًا على الهيئة الرجولية العناية بتأديب البنات وتهذيب العائلات؛ لأن ثمرة السؤدد راجعة إليها، فلربما إنه عقد أمر على الرجل فأدهشه، فلمته الزوجة بأطراف بنانها الرقيقة، وأخمدت جذوة ولوعه بتدابيرها الدقيقة، وهو مع ذلك يجتهد في أن يكتم فضلها بين أفراد الهيئة، ويحذر من إعلانه؛ خشية أن يقال: هي ذات معلومية، فيكدر عيشه الصافي. وهذا بخلاف الدولة الغربية؛ فالأسف ثم الأسف على هيئة لم تمضِ فحصها في هذا النسق البديع، ولم تجهد نفسها في البحث على هذا الشرف الرفيع، والعجب ثم العجب على مدينة تشغف بتزيين فتياتها بحلي مستعار، وتستعين على إظهار جمالهن بزخرف المعادن والأحجار، وتتخيل أنها زادتهن بسطة في الحسن والدلال، والحال أنها ألقت تلك الأحداث في أخدود الوبال؛ لأنه لم يعد عليهن من تلك المستعارات إلا العجب والغرور المؤدي بهن إلى ساحة المباهاة والفجور؛ وذلك لكف بصيرتهن عن الإدراك، وعدم علمهن بنتائج الأحوال، وعواقب الأمور.
فلو اجتهدت الهيئة الرَّجُلية في حسن سلوكهن بالتربية، وجذبتهن بشواهد المدنية إلى طرف الاطلاع لتتوجت تلك الغانيات من تلقائها بيواقيت المعلومية، وتقلدت بلآلئ التفقه، وكلما شبَّت ألفت خطواتها في طرق الإدراك، وأدركت مزية حليها الأصيل فزادته جلاء، وفطنت بغلاء قيمته فأوقرته بهاء وسناء، واستغنت بلمعة شرفه عن أرفع جوهر قماش، ولو كان ملبسها ثوبًا من الشاش:
فأستوهبكم العفو يا أرباب العقول عما سأقول: نحن — معاشر المُخَدَّرات — أدرى منكم بنشأة الأطفال من بنين وبنات؛ إذ من المعلوم أن الطفل حيثما صار على كف القابلة بادر أولًا بالبكاء، ثم هجع برهة لفتوره مما لاقاه من التعب؛ لا سيما إطلاق صوته في الصياح الذي لم يكن سبق له، ثم ينتبه محركًا جيده يمينًا وشمالًا، فاتحًا فاه لطلب الغذاء، فترضعه أمه، فينام على أثر الشبع، فترى منه بسيمات خفيفة في أثناء نومه. وهذا دليل على أن دنيانا دار هم، ومحل أحزان وغم، كثيرة الجفاء، قليلة الصفاء.
فإذا أخذ الطفل في النمو وبلغ خمسة أشهر كانت أول فطنته معرفة أمه ثم أبيه، وتناول الشيء حيث هو منه لإيصاله إلى فيه، فلَكُم التأمل في مبنى هذه الإشارة الخفيفة، والعبارة اللطيفة، ثم كلما اشتدت أعصابه وقويت أعضاؤه علا صياحه، فتبادره الوالدة بألحان مُعدَّة إليه، فيُصغي لسماع تلك الألحان، وإذا ضاق صدره من ألم عالجته بكل حنان، وحملته ودارت به من مكان إلى مكان، فيفرج كربه، ويتلطف ألمه وهو يظن ذلك التلطف والتسكين بقدرتها، وتبيت في قلق وضنك من الشفقة عليه، فإذا عوفي أتى إليه الوالد بما يبهجه وتقر به عينه، حسب قدرته، فإذا كبر وترعرع وطمحت نفسه للشراسة الطفلية اخترعت له أمه ما يلهيه عن ذلك، وخوَّفته بمخترعات الأسماء؛ منها ما يتخيل به إرهابًا، وإذا صاح ذكرته به، وإذا تشيطن نادت به إليه؛ فيسكت الطفل، وتارة تذكر له أباه وتوجس به منه شرًّا، فتوقع في قلبه من جهته الرعب، فيستعظم قدرته، ويُكبره في عينه، ويجعل هيبته إنسان قلبه، ومركز ذاته.
فيا ليت شعري ماذا يكون من أمر هذه الفقيرة إلى العلوم وهي خاوية الوفاض عما تستحقه؟! إن في ذلك لحكمًا:
وكيف تحسن الشفقة الوالدية بإساءة المشفق عليه، فلو عنيت رجالنا — معاشر الشرقيين — بتربية بناتهم، وأجمعت على تلقين العلوم لهن بمقدار شفقتهم؛ لنالت أرفع مجد، وأهنأ جد، ولعوضت تلك الفتيات عن ذلك القلق براحة العرفان، وأوسعت بسواعد معلوميتهن مضيق السلوك إلى ساحة الإذعان، وقامت بواجبات التدبير، وهمت بوقاية أساس حليتها من التدمير؛ لأن تخرُّبَ الدُّور بعد انقطاع أهلها طبيعي؛ والطبيعي ليس بضارٍّ؛ إنما هُدم سقف الشرف بصرصر الجهل مع وجود الديار هو العار؛ بل النار. ومن المستغربات أن يُفرِّط الغارس في تمهيد الأصل، ويأسف على اعوجاج الفرع، هو المؤدِّي به، فلو أروت الرجال غرائسها من قرارة المعرفة والعرفان لاتكأت في ثقل الأحمال على قويم تلك الأفنان، وصعدت بمساعدتهن أعلى الدرج، وتمسكت بأقوى الحجج.
ولكن تعالت هيئتنا هذه في التنمق عن التهذيب بحجة أوهى من بيت العنكبوت، وهي أنهن إذا تعلمن الكتابة يعلقن بالهوى، ومغازلة السوى بالجوى، وبادرن بالمراسلات. ألم يطرق مسامعهم روايات الأُميين وأحاديث الجاهلين؟! فيا رجال أوطاننا، وملاك زمام شأننا، لِمَ تركتموهن سُدًى، وذهلتم عن مزايا التأمل في «ما تفعل اليوم ستلقاه غدًا»؟ فمن أنكم بخلتم عن أن تمدوهن بزينة الإنسانية الحقيقية، ورضيتم بتجردهن عن حليتها البهية، وهن بين أنامل سطوتكم أطوع من قلم، وخضوعهن لسلطتكم أشهر من نار على عَلَم، فعلامَ ترفعون أكف الحيرة عند الحاجة كالضالِّ المُعَنَّى وقد سخرتم بأمرهن، وازدريتم باشتراكهن معكم في الأعمال، واستحسنتم انفرادكم في كل معنى؟ فانظروا عائد اللوم على من يعود.
وإني أروم إظهار مقالي هذا، ولكني لم أَرَ ساعدًا يكون لي مساعدًا حتى منَحنى المرادُ مِفتاحَ درج ما كنَّه الفؤاد، وهي رسالة إحدى السيدات التي ترى تربية البنات من الواجبات. فيا لها من سيدة جلت بلوامع انتباهها في الليلة الليلاء سرجًا، ورقت بقوة إدراكها في هذا السبق درجًا، وأنشقت أذهان السامعين من زهر فطنتها أرجًا، وكحلت بإثمد نصحها عيون الناظرين فأحيت بصيرة، وأدارت أسنة اللوم عنهن؛ لأنها بقَدْرهن خبيرة! فَحُقَّ لي أن أُهنِّئ المُخَدَّرات بفضل تلك المُشارة التي شنَّفت مسامع الأيقاظ بهذه الإشارة. هذا وإني أرى أنجم مصابيحها الغراء تنور بين أيدي الفضلاء، وتهدي أن يميل كل دان بالالتفات إلى ذلك الثناء المشهود، وتشغف كل مبصر بقبس منه يوصله إلى سبيل المقصود. والسلام على من اتبع الهدى.
بسم الله أقول: وعزة مآثر البراعة، وعذوبة مذاق مزايا البلاغة، إني لأغبط كتابي لدى لقاء من أؤدي إليه جوابي، فلو تطاوعني الإرادة لقرنت عين الإنسان بكل عين من حروفه، وصيرت نفس مرآة العيان قرطي مظروفه، أو قبل الشمل هديًا لجعلت قربانه أبعد، أو رام أعظم رشوة وهبت إليه وجدًا لم أجد له حدًّا، وذلك عندما أقْبَل كتابكم من سماء المعاني بعبقري الخطاب، ونقشت رقة أرقام زبدة معانيه على صحاف الصدر، فنطق الجنان قبل اللسان بالترحاب، فلله در كتاب ما نطقت ولَّادة إلا بحروف هجايته، وما تغزل قيس إلا بألفاظ كادت تُداني براعة بدايته، قد أسس بشير يراعه بخلاصة تأثير مآله حديقة الحق بالود، وسقى عصير مداده غرائس صدق تفتر عن كل غرام ووجد، وقد عَنَّ لي أن أتتوج بتلك الحلية التي توسطت في فتح باب يانعة الوداد، وأنالتني نشيق تفاحات وردت هي لانتعاش الروح عين المراد، فأملي أن لا تبخلي علي بتلك العاطرة ما هب الصبا، كما أنك لا تبرحين من بالي ما لاح كوكب، لا زال سنا عرفانك لائحًا بتيجان الربا، وذكاء بهائك يُبدي سلامَ مَن حملها حبكم وصِبًا.
استهل براعة سلام حمل الشوق رسالته، وتقلد الشفق ما نشقت ناشقة عرف الوداد كفالته، ولو رضيت المجال في صدق المقال لنطق بخالص الوفاء مدادُ حروفه، وأقام بأداء التحية العاطرة قبل فضِّ ختام مظروفه، ولعمري قد توجته أزاهر الثناء بلآلئ غرَّاء، وكللته زواهر الوفاء من خالص الوداد إلى حضرة من لا تزال تستروح الأسماع بنسيم أنبائها صباحًا ومساء، وتشوق الأرواح إلى استطلاع بدر إنسانها الكامل أطرافًا وإناء. ومما زادني شوقًا إلى شوق، حتى لقد شب فيه طفل الشفق عن الطوق، اجتلائي حديقة الورد القدسية، ونافجة الأدب المِسْكيَّة. فيا لها من حديقة رمقتها أحداق الأذهان فاقتبست نَوْرًا ونُورًا، وانتشقتها مسام الآذان فثملتْ طربًا وسرورًا.
ومنذ سرحت في أرجاء تلك اليانعة إنسان العيون، وشرحت بأفكار البصيرة أسرار ذلك الدر المصون، لم أزل بين طرب أتوشح بوشاحه، وأدب أتعجب من حسن اختتامه وافتتاحه، وجعلت أغازل من نرجس تلك الروضة عيونًا ملكت مني الحواس، وأهصر من غصون ألفاتها كل ممشوق أهيف مياس، وأتأدب في حضرة وردها خوفًا من شوكة سلطانه، وأن حياتي بجميل الالتفات ضاحكة عن نفيس جمانه، وإذا بالياسمين الغضِّ قد ألقى نفسه على الثرى، ونادى بلسان الإفصاح: هل لهذه النضرة نظيرة يا ترى؟ فأشار المنثور بكفة الخضيب أن لا نظير لتلك الغادة، ونطق الزنبق بلسان البيان: لا تكتموا الشهادة، فعند ذلك صفق الطير بأكف الأجنحة وبشر، وجرى الماء لإذاعة نبأ السرور، فعثر بذيل النسيم وتكسر، وتمايلت أغصانها المورقة لسماع هذا الحديث، وأخذت نسماتها العاطرة في السير الحثيث إذاعة لتلك البشائر في العشائر، ونشرًا لهذه الفضائل التي سارت مسير المثل السائر، فقلت بلسان الصادق الأمين، بعد تحقق هذا النبأ اليقين: هكذا هكذا تكون الحديقة وإلَّا، وكذلك كذلك لتُكتب الفضائل وتُملى:
فتحمل عني أيها الصديق تحية إلى ربة هاتيك الحديقة، واشرح لديها حديث شغفي بفضلها الباهر على الحقيقة، واعتذر عن كتابي هذا؛ فقد جاء يمشي على استحياء، وكلما حرَّضه الشوق على القدوم يُبطئه الحياء، وكيف وقد حلَّ في منبع الفضائل والمقام الذي لم يدع مقالًا لقائل؟ فكأني إنما أهدي الثمر إلى هجر، وأمنح البحر الخضم بالمطر. أدام الله معالي تلك الحضرة، وزادها في كل حال بهجة ونضرة، ما لاح جبين هلال، وبلغ غاية الكمال.
ومن شعرها البديع قولها:
وقولها وقد توسَّلت بالمقام النبوي ﷺ:
وقولها غزلًا:
وقالت مشطرة لهذين البيتين:
وقالت في تشطيرهما أيضًا:
وقالت في ذلك أيضًا:
وقالت مخمسة للبيتين المذكورين:
وقالت تهنئ الخديوي السابق:
وقولها في الخمريات:
وقولها تهنئة بمولود:
وقالت ترثي ابنتها:
وقولها غزلًا:
وقولها غزلًا أيضًا:
وقالت مخمسة:
وقولها في صدر جواب:
وقالت استغاثة:
وقولها:
عائدة المدينة
أم ولد حبيب بن الوليد المرواني. كانت جارية حالكة اللون، تروي عن الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة وغيره من علماء المدينة المنورة. وهبها محمدُ بنُ يزيد بن مسلمة بن عبد الملك بن مروان الحبيبَ بن الوليد المرواني، فقدم بها إلى الأندلس وقد أعجب بعلمها وفهمها وفرط ذكائها، واتَّخذها لفراشه، وبقيت عنده معززة مكرمة إلى أن توفَّاها الله تعالى.
عاتكة بنت عبد المطلب الهاشمية
كانت من أوفر النساء القرشيات عقلًا، وأحلاهن منطقًا، وأحسنهن تصورًا وتبصرًا، ومما يروى عنها أنها قد رأت قبل قدوم ضمضم بثلاثة أيام رؤيا أفزعتها، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت: يا أخي، والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفزعتني، وتخوَّفت أن يدخل على قومك شر أو مصيبة؛ فاكتم عليَّ ما أُحدِّثك، قال لها: وما رأيت؟ قالت: رأيت راكبًا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته أن: انفروا يا آل غُدر لمصارعكم في ثلاث، وأرى الناس قد اجتمعوا إليه، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة، ثم صرخ بأعلى صوته: انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث، ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس، فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها، فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارْفَضَّتْ؛ فما بَقِي بيتٌ من بيوت مكة ولا دار من دورها إلا دخلتها منها فلقة.
قال العباس: إن هذه لرؤيا، وأنت فاكتميها ولا تذكريها لأحد، ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة — وكان له صديقًا — فذكرها له واستَكْتَمه إياها، فذكرها الوليد لأبيه عتبة، ففشا الحديث حتى تحدَّثت به قريش.
قال العباس: فغدوت أطوف بالبيت وأبو جهل — هشام — ورهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رآني أبو جهل قال لي: يا أبا الفضل، إذا فرغت من طوافك فأقْبِل إلينا، فلما فرغتُ أقبلتُ إليه حتى جلستُ معهم، فقال لي أبو جهل: يا بني عبد مناف، متى حدثت فيكم هذه النبيَّة؟ قال: قلت: وما ذاك؟ قال: الرؤيا التي رأتها عاتكة، قلت: وما رأت؟ قال: يا بني عبد المطلب، أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم؟! قد زعمت عاتكة في رؤياها أنها قالت: انفروا في ثلاث، فنتربص بكم هذه الثلاث، فإن يكن ما قالت حقًّا فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء؛ نكتب كتابًا عليكم أنكم أكذب أهل بيت في العرب!
قال العباس: فوالله ما كان إليه مني كبير إلَّا أن جحدتُ ذلك، وأنكرتُ أن تكون رأتْ شيئًا، قال: ثم تفرقنا، فلما أمسينا لم تبقَ امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع برجالكم ويتناول النساء وأنت تسمع ولم يكن عندك غيرة بشيء مما سمعت، قلت: قد والله فعلتُ، ما كان مني إليه من كبير، وايمُ الله لأتعرضنَّ له؛ فإن عاد لأكْفِينَّكُمُوه.
قال: فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا حديدٌ مُغضبٌ أرى قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه، قال: فدخلت المسجد فرأيته. والله إني لأمشي نحوه العرضنة ليعود لبعض ما كان فأُوقع به — وكان رجلًا خفيفًا، حديد الوجه، حديد اللسان، حديد النظر — إذ خرج نحو باب المسجد يشتدُّ، قال: قلت في نفسي: ما له لعنه الله؟! أكل هذا فرقًا أن أشاتمه؟! فإذا هو قد سمع ما لم أسمع صوتَ ضمضم بن عمرو الغفاري وهو يصرخ ببطن الوادي: يا معشر قريش، اللطيمة! أموالكم مع أبي سفيان بن حرب قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها، الغوثَ الغوثَ، قال: فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر.
قال: فتجهز الناس سِراعًا وقالوا: لا يظن محمد وأصحابه أن يكون كعير ابن الحضرمي، كلَّا والله ليعلمن غير ذلك! فكانوا بين رجلين: إما خارج، وإما باعث مكانه رجلًا، وأرغبت قريش فلم يتخلف من أشرافها أحد إلا أبو لهب بن عبد المطلب تخلَّف فبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة. وكان ذلك في وقعة بدر، وخبرها مشهور.
ومن شعرها قولها ترثي أباها مع إخوتها في حال حياته حين طلب منها ذلك:
وقولها في الحماسة:
ولها أشعار كثيرة غير هذه لم نقف عليها لعدم ورودها في كتب التاريخ.
عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل
كانت من الفصاحة على جانب عظيم، وقد أعطيت شطر الحسن فعشقها عبد الله بن أبي بكر الصديق وكلف بها حتى كاد أن يطير عقله، فلما تزوج بها أقام سنة لم يشتغل بسواها، فلما كان يوم جمعة وهو معها؛ إذ فاتته الصلاة وهو لا يدري! وجاء أبوه فوجده عندها، فقال له: أجمعت؟ فقال: وهل صلى الناس؟! فقال: قد ألهتك عن الصلاة، طلِّقْها، فطَلَّقها، واعتزلتْ ناحية، فلما كان الليل قلق قلقًا شديدًا فأنشد:
وكان أبو بكر على سطحٍ يُصلي فسمعه، فرقَّ له فقال له: راجعها، ثم ضمَّها إليه وأعطاها حديقة على أن لا تتزوج بعده، وأنشد:
فلما قتل بالطائف رثته فقالت:
وتزوَّجها عمرُ بعد أن استفتى عليًّا في ذلك، فأفتى بأنها ترد الحديقة إلى أهله وتتزوج، ففعَلت، فذكَّرها علي بقولها: «فآليت لا تنفك» البيت، ثم قال: كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (الصف: ٣)، ثم تزوجها بعده الزبير، وبعده الحسين بن علي — عليه السلام — حتى قال عمر: من أراد الشهادة فليتزوج عاتكة، وخطبها علي فقالت: إني لأضن بك عن القتل! وخطبها مروان بعد الحسين، فقالت: ما كنت متخذة حمًا بعد رسول الله ﷺ. وقالت عاتكة ترثي عمر بن الخطاب:
ولها فيه أيضًا:
وقالت ترثيه أيضًا:
وقالت ترثي الزبير وتخاطب عمرو بن جرموز الذي قتله غدرًا عند رجوعه من حرب الجمل:
وقالت ترثي الحسين عليه السلام:
عاتكة ابنة معاوية بن أبي سفيان الأموي
كانت في الحسن أعجوبة زمانها، وفي الأدب نادرة أقرانها. تعلَّمت الغناء وضروبه، ولها فيه بعض ألحان، وكان يختلف إليها بعض مغنيات مكة والمدينة فتحسن صلتهن وتجيزهن، وتطلب منهن أن لا يقطعن عنها.
وفي بعض السنين لم يأتها أحد من مكة والمدينة، فاستأذنت من أبيها أن يسمح لها بالحج، فسمح لها، فتجهزت بجهاز عظيم لم يُرَ مثله، وسارت على البر تحملها وركبها المطايا، فلما وصلت لمكة نزلت بذي طوى، فمر بها وهب الجمحي — المعروف بأبي دهبل — وكان شاعرًا جليلًا، غَيْسَانيًّا جميلًا، فجعل يُسارقها النظر وجَمَرات الوَجْد تتأجج بفؤاده قاذفة بالشرر، وكان الوقت هجيرًا والجواري رافعات عنها الأستار، ففطنت له، فذعرته وشتمته كثيرًا، ثم أمَرت بالسجوف، فحجب بظلامها شمس النهار، فقال:
فشاعت أبياته في مكة واشتهرت، وغُنِّي بها حتى سمعتها عاتكة إنشادًا وغناءً، فطربت لها وسُرَّت، وبعثت إليه تهديه فتراسلا وتحابَّا، ولما صدرت عن مكة خرج في ركبها إلى الشام، فكانت تتعاهده باللطف والإحسان، حتى إذا وردت دمشق ورد معها، فانقطعت عن لقائه فمرض حتى عزَّ شفاءُ دائه فقال:
ففشا هذا الشعر حتى بلغ معاوية، فصبر حتى إذا كان يوم الجمعة دخل عليه الناس يسلمون وينصرفون، وكان فيهم وهب، فلما أزمع الرجوع ناداه معاوية حتى إذا خلا لهما الجو قال: ما كنت أحسب أن في قريش أشعر منك؛ تقول:
غير أنك قلت:
والله إن فتاة أبوها معاوية، وجدها أبو سفيان، وجدتها هند بنت عتبة لَكَمَا ذكرت، وأي شيء زدت في قدرها، ولقد أسأت بقولك: ثم خاصرتها! فقال: والله لم أقل هذا، وإنما قيل عن لساني، فقال معاوية: أما منِّي فليهدأ روعك؛ لأني عليم بعفاف فتاتي، وإنه مغتفر لفتيان الشعراء التشبيب بمن أرادوا، ولكني أكره لك جوار أخيها يزيد؛ فإن له سورة الشباب، وأنفة الملوك. فحَذِر وهبٌ ورحل إلى مكة، فبينما معاوية في مجلسه يومًا إذا بخصي يقول له: لقد سقط يا أمير المؤمنين إلى عاتكة اليوم كتابٌ أبكتها تلاوته بما أصارها حتى الساعة حزينة، فقال: علي به بألطف حيلة، فلما أوتيه قرأ فيه:
فبعث إلى يزيد، فلما جاء وجده مطرقًا كئيبًا، فاستجلاه الأمر فقال: هو نبأ يقلق فيمرض فيحير؛ إن هذا الفاسق القرشي كتب إلى أختك بهذه الأبيات، فلم تزل باكية حتى الساعة، قال يزيد: الخطب دون ما تتوهم؛ عَبدٌ لنا يرصده ويقتله! فقال معاوية: يا يزيد، والله إن تقتلْ قرشيًّا هذا حالُه صدَّق الناس مقالَه، قال: يا أمير المؤمنين، إنه نظم أبياتًا غير هذه وتناشدها المَكِّيُّون، فسارت حتى بلغتني فأوجعتني وحملتني على ما أشرتُ، فقال: وما هي؟ فأنشد:
فقال معاوية: قد والله فهمتُ المعنى؛ لأني أراه يشكو الحرمان، فالخطب فيه يسير، ثم حجَّ عامئذ للسبب عينه، ولما انقضت المناسك دعا بأشراف قريش وشعرائهم وأجزل لهم الصلات. فلما أزمع وهبٌ الانصراف قال: إيه يا وهب، ما لي أرى يزيد ساخطًا عليك في قواريض تأتيه عنك وشعر تنطق به؟! فبدأ أبو دهبل يطيل الاعتذار ويحلف أنه مكذوب عليه، فقال معاوية: لا بأسَ عليك وما يضرُّك ذلك، فأيُّ بنات عمِّك أحبُّ إليك، قال: فلانة، فقال: قد زوَّجتك بها وأمْهَرتها بألفي دينار، ووهَبتُك ألف دينار.
فلما استوفاها قال: إن رأى أمير المؤمنين أن يعفو عما مضى، فإن نطقت ببيت في معنى ما سبق فقد أبحت به دمي، وأما ابنة عمي فهي طالق بتاتًا! فسُرَّ معاوية ووعده بإدرار الصلة كل عام، وهو لم يقل فيها شعرًا، ووفى بوعده، وبقيت عاتكة مغرمة به إلى أن ماتت.
عاتكة بنت يزيد بن معاوية
وأمها أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر بن كريز. تزوجها عبد الملك بن مروان، فهي أم يزيد بن عبد الملك بن مروان. وكان يحبها عبد الملك حبًّا مفرطًا، فغضبت عليه مرة — وكان بينهما باب محجبة — فأغلقت ذلك الباب، فشق غضبها على عبد الملك، وشكا إلى رجل من خاصته يقال له: عمر بن بلال الأسدي.
فقال: ما لي عندك إن رضيتْ؟ قال: حكمك، فأتى عمر إلى بابها وجعل يتباكى وأرسل إليها السلام، فخرجت إليه حاضنتها ومواليها فقلن: ما لك؟ قال: فزعت إلى عاتكة ورجوتها وقد علمت مكاني من أمير المؤمنين معاوية ومن أبيها بعده، قلن: وما لك؟! قال: ابناي — لم يكن لي غيرهما — قتَل أحدُهما صاحبَه.
فقال أمير المؤمنين: أنا قاتلُ الآخر به، فقلت: أنا الوليُّ وقد عفوتُ، قال: لا أُعوِّد الناس على هذه العادة، فرجوتُ أن ينجي الله ابني هذا على يدها، فدخلن عليها فذكَرْن ذلك لها فقالت: وكيف أصنع مع غضبي عليه وما أظهرت له؟! قلن: إذن والله يقتل، فلم يزلن بها حتى دعت بثيابها فلبستها، ثم خرجت نحو الباب، فأقبل حديج الخصي قال: يا أمير المؤمنين، هذه عاتكة قد أقبلت، قال: ويلك! ما تقول؟! قال: قد والله طلعت، فأقبلت وسلَّمت، فلم يردَّ عليها السلام، فقالت: أما والله لولا عمرُ ما جئتَ؛ إن أحد بنيه تعدى على الآخر فقتله فأردتَ قتل الآخر، وهو الوليُّ وقد عفا! قال: إني أكره أن أُعوِّد الناس على هذه العادة، قالت: أنشدك الله يا أمير المؤمنين؛ فقد عرفت مكانه من أمير المؤمنين معاوية، وقد طرق بابي، فلم تزل به حتى أخذتْ برجله فقبَّلتها، فقال: هو لك، ولم يبرحا حتى اصطلحا، ثم راح عمر بن بلال إلى عبد الملك فقال: كيف رأيت؟ قال: رأينا أثرك، فهاتِ حاجتك، قال: مزرعة بعدَّتها وما فيها، وألف دينار، وفرائض لولدي وأهلي، قال: ذلك لك؟ ثم اندفع عبد الملك يتمثل بشعر كثير: «وإني لأرعى قومها من جلالها.»
ولعاتكة هذه حكاية مع الشعراء، وذلك ما حكاه نصيبٌ قال: إنه خرج هو وكُثيِّر والأحوص غبَّ يوم أمطرت فيه السماء، فقال: هل لكم في أن نركب جميعًا فنسير حتى نأتي العقيق؟ قالوا: نعم، فركبوا أفضل ما عندهم من الدواب، ولبسوا أحسن ما يقدرون عليه من الثياب، وتنكروا ثم ساروا حتى أتوا العقيق، فجعلوا يتصفَّحون الأماكن حتى رفع لهم سواد عظيم، فأمُّوه حتى أتوه، فإذا وصائف وخدم ونساء بارزات، فسألنهم أن ينزلوا فنزلوا، ودخلت امرأة من النساء فاستأذنت لهم، فلم تلبث أن جاءت المرأة فقالت: ادخلوا، فدخلوا على امرأة جميلة برزة على فرش لها! فرحبت وحيَّت، وإذا كراسي موضوعة، فجلسوا جميعًا في صف واحد؛ كل إنسان على كرسي.
فقالت: إن أحببتم أن ندعو بصبي لنا فنَعرُكَ أُذنَه ونُصيِّحَه فعلنا، وإن شئتم بدأنا بالغداء؟ فقالوا: بل تَدْعِينَ بالصبي ولن يفوتنا الغداء، فأومأت بيدها إلى بعض الخدم، فلم يكن إلا كلمح البصر حتى جاءت جارية جميلة عليها مطرف قد سترت نفسها به، فكشفوه عنها، وإذا جارية ذات جمال قريبة من جمال مولاتها، فرحبت بهم وحيَّتهم، فقالت لها مولاتها: خذي — وَيْحَك — من قول نُصيب — عافى الله نصيبًا:
فغنَّته، فجاءت به كأحسن ما سمع بأحلى لفظ، وأشجى صوت، ثم قالت لها: خذي أيضًا من قول نصيب — عافاه الله:
قال: فجاءت به أحسن من الأول، فكدت أطير سرورًا، ثم قالت: ويحك! خذي أيضًا قوله:
قال نصيب: فجاءني والله شيء حيرني وأذهلني طربًا؛ لحسن الغناء، وسرورًا باختيارها لشعري، وما سمعت فيه من حسن الصنعة وجودتها وإحكامها، ثم قالت لها: خذي من قوله أيضًا:
قال نصيب: فوالله لقد زهوت بما سمعت زهوًا خيل لي أني من قريش، وأن الخلافة لي، ثم قالت: حسبك يا بنية، هات الطعام يا غلام، فوثب الأحوص وكثير وقالا: والله لا نطعم لك طعامًا، ولا نجلس لك في مجلس؛ فقد أسأت عشرتنا، واستخففت بنا، وقدمت شعر هذا على شعرنا، وأسمعت الغناء فيه، وإن في أشعارنا لما يفضل شعره، وفيها من الغناء ما هو أحسن من هذا، فقالت: على معرفةٍ كلُّ ما كان مني، فأي شعركما أفضل من شعره؟ أقَولُك يا أحوص:
أم قولك يا كثير في عزة:
أم قولك فيها:
فخرجا مغضبين، وبقي نصيب فتغدى عندها، وأمرت له بثلاثمائة دينار وحلتين وطيب، ثم دفعت له مائتي دينار وقالت: ادفعها إلى صاحبيك؛ فإن قبلاها وإلا فهي لك، قال نصيب: فذهبت بالبدرة حتى أتيتُ رفيقيَّ، فعرضت عليهما نصيبهما، فأبيا أن يأخذاه، فأخذته لنفسي وبلغها الخبر فقالت: حسنًا والله فعلت. وبقي كثير والأحوص يترقبان لها الفرص حتى يهجواها بشيء فلم يقدرا عليها؛ خوفًا من بأسها وسطوتها، ومداراةً لها، وأما هي فبقيت مُكرَّمة عند عبد الملك، وفي خلافة ولدها أيضًا، حتى ماتت في آخر خلافة ولدها، ودفنت بما يليق بها من الرفعة والإكرام.
عاصية البولانية بنت عبد العزى الطائي
كانت شاعرة مجيدة، وشعرها قليل، قيل: إن بني محارب غزت طيئًا وفتكت فيهم لغياب سُراتهم، ورجعت غانمة، فقالت عاصية تندب قومها وتهجو محاربًا بقولها:
عبدة محبوبة بشار بن برد
كانت ذات عقل وأدب، وفصاحة وكياسة، وصوت حسن، ومنطق عذب، وكان سبب عشق بشار لها أنه كان له مجلس يجلس فيه يقال له: البردان، فبينما هو في مجلسه ذات يوم وكان النساء يحضرنه؛ إذ سمع كلام امرأة أشجاه نغمُها وحُسنُ ألفاظها، فدعا بغلامه فقال: إني قد علقت امرأة، فإذا تكلَّمتْ فانظر مَن هي وأعرفها، فإذا انقضى المجلس وانصرف أهله فاتبعها، وأَعْلِمْها أني لها محبٌّ، وأَنْشِدْها هذه الأبيات، وعرِّفها أني قُلْتها فيها:
فأبلغها الغلام الأبيات، فهشَّت لها، وكانت تزوره مع نسوة يصحبنها فيأكلن عنده ويشربن وينصرفن، بعد أن يُحدثها ويُنشدها، ولا تُطمِعه في نفسها، ومما قال فيها:
وقال فيها أيضًا — وهو أجود ما قال فيها:
وجاءته يومًا مع خمس نسوة قد مات لإحداهن قريب يسألنه أن يقول شعرًا يَنُحنَ عليه به، فوافينه في مجلسه المسمى ﺑ «البردان» — وكان له مجلس يجلس فيه بالغداة يسميه «البردان»، وآخر يجلس فيه عشية يسميه «الرقيق»، فاستأذَنَّ بالدخول عليه فأذِنَ لهن، فلما دخلن نظرن إلى النبيذ مصفى في قنانيه، فقالت إحداهن: هو خمر، وقالت الأخرى: هو زبيب وعسل، وقالت الثالثة: هو نقيع زبيب، فقال: لست بقائل لَكُنَّ حرفًا أو تطعمن من طعامي، وتشربن من شرابي! فأمسكن ساعة، ثم قالت إحداهن: ما عليكن من ذلك؟! فأقمن يومهن وأكلن من طعامه وشربن من شرابه، وأخذن من شعره، وبلغ ذلك الحسن البصري فعابه، فبلغ بشارًا كلامه — وكان بشار يلقب الحسن البصري بالقس — فقال:
العبادية جارية المعتضد بن عباد والد المعتمد
أهداها إليه مجاهد العامري، وكانت أديبة، ظريفة، كاتبة، ذاكرة لكثير من اللغة، فصيحة، وأخذ عنها العروض.
توفيت بدانية بعد سيدها في عام الخمسين والأربعمائة. وقد تركت لها ذكرًا جميلًا وفخرًا طويلًا تتحدث به الأجيال من بعدها. رحمها الله تعالى.
عريب
كانت مغنية محسنة، وشاعرة صالحة الشعر، وكانت مليحة الخط والمذهب في الكلام، ونهاية في الحسن والجمال والظرف وحسن الصورة، وجودة الضرب، وإتقان الصنعة، والمعرفة بالنغم والأوتار، والرواية للشعر والأدب. لم يتعلق بها أحد من نظرائها، ولا رؤي في النساء بعد القيان الحجازيات القديمات — مثل: جميلة، وعزة الميلاء، وسلَّامة الزرقاء، ومن جرى مجراهن على قلة عددهن — نظيرٌ لها.
وكانت فيها من الفضائل التي وصفناها ما ليس لهن، مما يكون لمثلها من جواري الخلفاء ومن نشأ في قصور الخلافة، وغذي برقيق العيش الذي لا يدانيه عيش الحجاز والنشء بين العامة والعرب الجفاة، ومن غلظ طبعه. وقد شهد لها بذلك مَن لا يحتاج مع شهادته إلى غيره.
وكانت عريب لعبد الله بن إسماعيل، صاحب مراكب الرشيد، وهو الذي ربَّاها وأدبها وعلَّمها الغناء. ونقل صاحب الأغاني من حديث إسماعيل بن الحسين خال المعتصم أنها ابنة جعفر بن يحيى البرمكي، وأن البرامكة لما انتهبوا سُرقت وهي صغيرة.
وقيل: إن أم عريب كانت تسمى فاطمة، وكانت قيِّمة لأم عبد الله بن يحيى بن خالد، وكانت صبية نظيفة، فرآها جعفر بن يحيى فهويها، وسأل أم عبد الله أن تزوجه بها، ففعلت، وبلغ الخبر يحيى بن خالد فأنكره وقال له: أتتزوج من لا يُعرَف لها أم ولا أب؟! اشترِ مكانها مائة جارية وأخْرِجْها! فأخرجها إلى دار في ناحية باب الأنبار سرًّا من أبيه، ووكل بها مَن يحفظها، وكان يتردد إليها؛ فولدت عريب في سنة إحدى وثمانين ومائة، فكانت سنوها إلى أن ماتت ستًّا وتسعين سنة.
وقيل: إن أم عريب ماتت في حياة جعفر، فدفعها إلى امرأة نصرانية وجعلها داية لها، فلما حدثت الحادثة بالبرامكة باعتها من سنبس، فباعها من المراكبي، وقيل: إن الفضل بن مروان كان يقول: كنت إذا نظرت إلى قدمي عريب شبهتهما بقدمي جعفر بن يحيى، قال: وسمعت من يحكي أن بلاغتها في كتبها ذكرت لبعض الكتاب فقال: فما يمنعها من ذلك وهي بنت جعفر بن يحيى؟!
وروى أبو الفرج الأصبهاني عن محمد بن خلف أنه قال: قال لي أبي: ما رأيت امرأة أضرب من عريب، ولا أحسن صنعة، ولا أحسن وجهًا، ولا أخف روحًا، ولا أحسن خطابًا، ولا أسرع جوابًا، ولا ألعب بالشطرنج والنرد، ولا أجمع لخصلة حسنة لم أر مثلها في امرأة غيرها، قال حماد: فذكرت ذلك ليحيى بن أكثم في حياة أبي، فقال: صدق أبو محمد، هي كذلك، قلت: أفسمعتها؟! قال: نعم، هناك — يعني في دار المأمون — قلت: أفكانت كما ذكر أبو محمد في الحذق؟ فقال يحيى: هذه مسألة الجواب فيها على أبيك؛ فهو أعلم مني بها، فأخبرت بذلك أبي فضحك ثم قال: أما استحيت من قاضي القضاة أن تسأله عن مثل هذا.
وأخبر علي بن يحيى أنه كان لإسحاق صناجة وكان معجبًا بها، واشتهاها المعتصم في خلافة المأمون، فبينما هو ذات يوم في منزله إذ أتاه إنسان يدق الباب دقًّا شديدًا، قال: فقلت: انظروا انظروا من هذا؟ فقالوا: رسول أمير المؤمنين، فقلت: ذهب صناجتي، تجده ذكَرها له ذاكرٌ فبعث إليَّ فيها.
فلما مضى بي الرسول انتهيت إلى الباب وأنا مسخن، فدخلت فسلَّمت فردَّ عليَّ السلام، ونظر إلى تغيُّر وجهي، فقال لي: اسكن، فسكنتُ، فقال لي عن صوت، وقال: أتدري لمن هو؟ فقلت: أسمعه، ثم أخبر أمير المؤمنين إن شاء الله بذلك، فأمر جارية من وراء الستارة فغنته وضربت، فإذا قد شبهته بالقديم، فقلت: زدني معها عودًا آخر؛ فإنه أثبت لي، فزادني عودًا آخر فقلت: هذا الصوت محدث لامرأة ضاربة، قال: من أين؟ قلت: ذلك، قلت: لما سمعت لينه عرفت أنه محدث من غناء النساء، ولما رأيت جودة مقاطعه علمت أن صاحبته قد حفظت مقاطعه وأجزاءه، ثم طلبت عودًا آخر فلم أشك، فقال: صدقت، الغناء لعريب. وقال يحيى بن علي: أمرني المعتمد على الله أن أجمع غناءها الذي صنعته، فأخذت منها دفاترها وصحفها التي كانت قد جمعت فيها غناءها، فكتبته فكان ألف صوت. وسأل ابن خرداذبه عريب عن صنعتها فقالت: قد بلغت إلى هذا الوقت ألف صوت. ونقل الأصبهاني عن محمد بن القاسم أنه جمع غناءها من ديواني ابن المعتز وأبي العبيس بن حمدون، وما أخذه عن بدعة جاريتها، فقابل بعضه ببعض، فكان ألفًا ومائة وخمسة وعشرين صوتًا.
ودخل ابن هشام على المعتز وهو يشرب وعريب تغني فقال له: يا ابن هشام، غَنِّ، فقال: تُبتُ عن الغناء مُذ قتل سيدي المتوكل، فقالت له عريب: قد والله أحسنت حيث تبت؛ فإن غناءك كان قليل المعنى لا متقن ولا صحيح ولا طريب! فأضحكت أهل المجلس جميعًا منه، فخجل، فكان بعد ذلك يبسط لسانه فيها ويعيب صنعتها ويقول: هي ألف صوت في العدد، وصوت واحد في المعنى، وهي مثل قول أبي دلف في خالد بن يزيد حيث يقول:
قال الأصبهاني: وليس الأمر كما قال؛ إنها لصنعة شبهت فيها بصنعة الأوائل، وجودت وبرزت؛ منها: أأن سكنت نفسي وقل عويلها، ومنها: يقول همي يوم ودعتها، ومنها: إذا أردت انتصافًا كان ناصركم، وعدد لها جملة أصوات في الأغاني لا لزوم لذكرها هنا، وقيل: إن مولى عريب خرج إلى البصرة وأدبها وخرجها، وعلَّمها الخط والنحو والشعر والغناء، فبرعت في ذلك كله، وتزايدت حتى قالت الشعر، وكان لمولاها صديق يقال له: حاتم بن عدي، من قواد خراسان، وقيل: إنه كان يكتب لعجيف على ديوان الفرض، فكان مولاها يدعوه كثيرًا ويخالطه، ثم ركبه دين فاستتر عنده، فمد عينه إلى عريب فكاتبها فأجابته، وكانت المواصلة بينهما، وعشقته عريب، فلم تزل تحتال حتى اتخذت سُلَّمًا من عقب، وقيل: من خيوط غلاظ وسترته، حتى إذ همَّت بالهرب إليه بعد انتقاله عن منزل مولاها بمدة، وقد أعد لها موضعًا؛ لفت ثيابها وجعلتها في فراشها بالليل، ودثرتها بدثارها، ثم تسورت من الحائط حتى هربتْ، فمضت إليه فمكثت عنده زمانًا.
وقيل: إنها لما صارت عنده بعث إلى مولاها يستعير منه عودًا تُغنِّيه به، فأعاره عودَها وهو لا يعلم أنها عنده، ولا يتهمه بشيء من أمرها، فقال عيسى بن عبد الله بن إسماعيل المراكبي — وهو عيسى بن زينب — يهجو أباه ويُعيِّره بها! وكان كثيرًا ما يهجوه:
وأخبر بعضهم أنها ملته بعد ذلك فهربت منه، فكانت تغني عند أقوام عرفتهم ببغداد متسترة متخفية، فلما كان يوم من الأيام اجتاز ابن أخ للمراكبي ببستان كانت فيه مع قوم تغني، فسمع غناءها فعرفه، فبعث إلى عمه من وقته وأقام هو بمكانه، فلم يبرح حتى جاء عمُّه، فلَبَّبها وأخذها فضربها مائة مقرعة وهي تصيح: يا هذا، أنا لست أصبر عليك امرأة حرة، إن كنت مملوكة فبعني، لست أصبر على الضيقة! فلما كان من غدٍ نَدِم على فعله، وسار إليها فقبل رأسها ورجلها، ووهب لها عشرة آلاف درهم، ثم بلغ محمدًا الأمين خبَرها فأخذها منه.
قال: وكان خبرها سقط إلى محمد في حياة أبيه، فطلبها منه فلم يجبه إلى ما سأل، وقبل ذلك كان طلب منه خادمًا عنده، فاضطغن لذلك عليه، فلما ولي الخلافة جاء المراكبي ليُقبِّل يده، فأمر بمنعه ودفعه، ففعل ذلك الشاكري فضربه المراكبي وقال له: أتمنعني من يد سيدي أن أُقبِّلها؟! فجاء الشاكري لما نزل محمد فشكاه، فدعا محمد بالمراكبي وأمر بضرب عنقه، فسأل في أمره فأعفاه وحبسه، وطالبه بخمسمائة ألف درهم مما اقتطعه من نفقات الكراع، وبعث فأخذ عريب من منزله مع خدم كانوا له، فلما قتل محمد هربت إلى المراكبي فكانت عنده، قال: وأنشدني بعض أصحابنا لحاتم بن عدي الذي كانت عنده لما هربت إليه، ثم ملته فهربت منه، وهي أبيات هذان منها:
وقد ذكر بعضهم رواية تخالف هذه، وهي أنها هربت من دار مولاها المراكبي إلى محمد بن حامد الخاقاني المعروف بالخشن، أحد قواد خراسان، قال: وكان أشقر أصهب الشعر أزرق، وفيه تقول عريب — ولها فيه مزج ورمل من روايتي الهشامي وأبي العباس:
وقيل: إن ابن المدبر قال: خرجت مع المأمون إلى أرض الروم أطلب ما يطلبه الأحداث من الرزق، فكنا نسير مع العسكر، فلما خرجنا من الرقة رأينا جماعة من الحرم في العماريات على الجمازات — وكنا رفقة وكنا أترابًا — فقال لي أحدهم: على بعض هذه الجمازات عريب، فقلت: مَن يراهنني أمر في جنبات هذه العماريات؟ وأنشد أبيات عيسى بن زينب:
فراهنني بعضهم وعدل الرهنان، وسرت إلى جانبها فأنشدت الأبيات رافعًا صوتي بها حتى أتممتها، فإذا بامرأة قد أخرجت رأسها فقالت: يا فتى، أنسيت أجود الشعر وأطيبه؟! أنسيت قوله:
اذهبْ فخُذْ ما بالغت فيه، ثم ألقت السجف، فعلمتُ أنها عريب وبادرت إلى أصحابي؛ خوفًا من مكروه يلحقني من الخدم.
وقال عمر بن شبة: كانت للمراكبي جارية — يقال لها: مظلومة — جميلة الوجه، بارعة الحسن، فكان يبعث بها مع عريب إلى الحمام، أو إلى من تزوره من أهله ومعارفه، فكانت ربما دخلت معها إلى ابن حامد الذي كانت تميل إليه، فقال فيها بعض الشعراء:
وأخبر بعضهم أنه لما نمى خبر عريب إلى محمد الأمين بعث في إحضارها وإحضار مولاها، فأُحْضِر، وغنَّت بحضرة إبراهيم بن المهدي تقول:
فطرب محمد واستعاد الصوت مرارًا وقال لإبراهيم: يا عم، كيف سمعتَ؟ قال: يا سيدي، سمعت حسنًا، وإن تطاولت بها الأيام وسكن روعها ازداد غناؤها حسنًا، فقال للفضل بن الربيع: خذها إليك وساوم بها، ففعل، فاشتط مولاها في السوم، ثم أوجبها له بمائة ألف دينار، وانتقض أمر محمد وشغل عنها فلم يأمر لمولاها بثمنها حتى قتل، بعد أن افتضها، فرجعت إلى مولاها، ثم هربت منه إلى حاتم بن عدي.
وقيل: إنها هربت من مولاها إلى ابن حامد، فلم تزل عنده حتى قدم المأمون بغداد، فتظلم إليه المراكبي من محمد بن حامد، فأمر بإحضاره فأحضر، فسأله عنها فأنكر، فقال له المأمون: كذبتَ؛ قد سقط إليَّ خبرُك، وأمر صاحب الشرطة أن يُجرِّده في مجلس الشرطة ويضع عليه السياط حتى يردها، فأخذه وبلغها الخبر، فركبت حمارَ مُكَارٍ وجاءت وقد جُرِّد ليضرب وهي مكشوفة الوجه وهي تصيح: أنا عريب، إن كنت مملوكة فليبعني، وإن كنت حرة فلا سبيل له عليَّ، فرفع خبرها إلى المأمون، فأمر بتعديلها عند قتيبة بن زياد القاضي، فعدلت عنده، وتقدم إليه المراكبي مطالبًا بها، فسأله البينة على ملكه إياها، فعاد متظلمًا إلى المأمون وقال: قد طولبتُ بما لم يُطالب به أحدٌ في رقيق، ولا يوجد مثله في يد من ابتاع عبدًا أو أمة، وتظلمت إليه زبيدة وقالت: مِن أغلظ ما جرى عليَّ بعد قتل محمد ابني هجوم المراكبي على داري وأخذه عريبًا منها.
فقال المراكبي: إني أخذت ملكي؛ لأنه لم ينقدني الثمن! فأمر المأمون بدفعها إلى محمد بن عمر الواقدي — وكان قد ولَّاه القضاء بالجانب الشرقي — فأخذها من قتيبة بن زياد، فأمر ببيعها ساذجة، فاشتراها المأمون بخمسة آلاف درهم، فذهبت به كل مذهب ميلًا إليها وحبًّا لها، وقيل: إنه لما مات المأمون بيعت في ميراثه، ولم يُبَعْ له عبدٌ ولا أمةٌ غيرها، فاشتراها المعتصم بمائة ألف درهم، ثم أعتقها؛ فهي مولاته.
وذكر بعضهم أنها لما هربت من دار محمد لما قُتل تدلَّت من قصر الخلد بحبل إلى الطريق، وهربت إلى حاتم بن عدي، وقيل: إن المأمون اشتراها بخمسة آلاف دينار، ودعا بعبد الله بن إسماعيل فدفَعها إليه، وقال: لولا أني حلفت أن لا أشتري مملوكًا بأكثر من هذا لزدتك، ولكني سأوليك عملًا تكسب فيه أضعافًا لهذا الثمن مضاعفة! ورمى إليه بخاتمين من ياقوت أحمر قيمتهما ألفا دينار، وخلع عليه خلعة سنية، فقال: يا سيدي، إنما ينتفع الأحياء بمثل هذا، وأما أنا فإني ميت لا محالة؛ لأن هذه الجارية كانت حياتي، وخرج عن حضرته فاختلط وتغير عقله ومات بعد أربعين يومًا!
وقيل: إن إبراهيم بن رباح كان يتولى نفقات المأمون، فوصف له إسحاق بن إبراهيم الموصلي عريب، فأمره أن يشتريها، فاشتراها بمائة ألف درهم، قال: فأمرني المأمون بحملها، وأن أحمل لإسحاق مائة ألف درهم أخرى، ففعلت ذلك، ولم أدر كيف أثبتها، فحكيت في الديوان أن المائة ألف خرجت في ثمن جوهرة، والمائة ألف الأخرى أخرجت لصائغها ودلالها! فجاء الفضل بن مروان إلى المأمون وقد رأى ذلك فأنكره، وسألني عنه فقلت: نعم؛ هو ما رأيت، فسأل المأمون عن ذلك وقال: أوجب لدلال وصائغ مائة ألف درهم؟! وغلظ القصة، فأنكَرها المأمون، فدعاني، ودنوتُ إليه وأخبرته المال الذي خرج في ثمن عريب وصلة إسحاق وقلت: أيما أصوب يا أمير المؤمنين؛ ما فعلت، أو أثبت في الديوان أنها خرجت في صلة مغنٍّ وثمن مغنية؟! فضحك المأمون وقال: الذي فعلت أصوب، ثم قال للفضل بن مروان: يا نبطي، لا تعترض على كاتبي هذا في شيء.
وقيل: إن عريب لما صارت في دار المأمون احتالت حتى واصلت محمد بن حامد، وكانت عشقته وكاتبته، ثم احتالت في الخروج إليه، وكانت تلقاه في الوقت بعد الوقت حتى حبلت منه وولدت بنتًا، وبلغ ذلك المأمون فزوَّجه إياها. وأخبر بعضهم أنه لما وقف المأمون على خبرها مع محمد بن حامد أمر بإلباسها جبة صوف، وختم زيقها وحبسها في كنيف مظلم شهرًا لا ترى الضوء، يدخل إليها خبز وملح وماء من تحت الباب في كل يوم، ثم ذكرها فرقَّ لها وأمَر بإخراجها، فلما فتح الباب وأخرجت لم تتكلَّم بكلمة حتى اندفعت تغني:
فبلغ ذلك المأمون فعجب منها وقال: لن تصلح هذه أبدًا! فزوَّجها إياه.
وذكر صاحب الأغاني أن المأمون اصطبح يومًا ومعه ندماؤه، وفيهم محمد بن حامد، وجماعة المغنين، وعريب معه على مصلاه، فأومأ محمد بن حامد إليها بقبلة فاندفعت تغني ابتداء:
تريد بغنائها جواب محمد بن حامد بأن تقول له: طعنة، فقال لها المأمون: أمسكي، فأمسكت، ثم أقبل على الندماء فقال: من فيكم أومأ إلى عريب بقبلة؟! والله لئن لم يصدقني لأضربنَّ عُنقَه، فقام محمد بن حامد فقال: أنا يا أمير المؤمنين أومأت إليها، والعفو أقرب للتقوى، فقال: قد عفوت، فقال: كيف استدل أمير المؤمنين على ذلك؟!
قال: ابتدأت صوتًا وهي لا تغني ابتداء إلا لمعنًى، فعلمتُ أنها لم تبتدئ بهذا الصوت إلا لشيء أومئ به إليها، ولم يكن من شرط هذا الموضع إلا إيماء بقبلة، فعلمت أنها أجابت بطعنة. ومن شعرها في محمد بن حامد:
وأخبر بعضهم أنها كانت تتعشق أبا عيسى بن الرشيد، وروى غيره أنها ما عشقت أحدًا من بني هاشم أصفته المحبة من الخلفاء وأولادهم سواه، وكانت لا تضرب المثل إلا بحسن وجه أبي عيسى وحُسن غنائه.
وروي أن عريب كانت تتعشق صالحًا المنذري الخادم وتزوجته سرًّا، فوجَّه به المتوكل إلى مكان بعيد في حاجة له، فقالت:
قال: فغنته يومًا بين يدي المتوكل، فاستعاده مرارًا وشرب عليه يومًا! ودخلت عليها إحدى جواري المتوكل فقالت لها: تعالي إلي، فجاءت، فقالت: قبِّلي هذا الموضع مني فإنك تجدين ريح الجنة، وأومأت إلى صدغها ففعلتْ، ثم سألتها عن السبب في ذلك، قالت: قبَّلني صالح المنذري في هذا الموضع!
وقال عبد الله بن حمدون: إن عريب زارت محمد بن حامد ذات يوم وجلسا جميعًا للمنادمة، فجعل يبث شوقه إليها، ويعاتبها على بعض أشياء فعلتها ويقول لها: فعلت كذا وكذا، فالتفتت إليه وقالت: يا هذا، أرأيت مثل ما نحن فيه؟! ثم أقبلت عليه وقالت: يا عاجز، دَعْنا الآن في انشراحنا، وإذا كان الغد فاكتُبْ لي بعتابك ودعِ الفُضول؛ فقد قال الشاعر:
بسم الله الرحمن الرحيم، يا عجمي، يا غبي، أظننت أني من الأتراك ووحشي الجند فبعثت إليَّ بخبز ولحم وحلواء؟! الله المستعان عليك يا فدتك نفسي! قد وجَّهت إليك زلة من حضرتي، فتعلَّم ذلك من الأخلاق ونحوها من الأفعال، ولا تستعمل أخلاق العامة في الظرف، فيزداد العيب والعتب عليك إن شاء الله. فكشفت المنديل فإذا فيه طبق ومكبة من ذهب منسوج على عمل الخلافة، وفيه زبدية فيها لفتان من رقاق وقد عصبت طرفيهما، وفيهما قطعتان من صدر دجاج مشوي، وبقل وطلع وملح، ثم انصرف رسولها.
وعن علوية قال: أمرني المأمون أنا وسائر المغنين في ليلة من الليالي أن نصير إليه بكرة ليصطبح، فغدونا، ولقيني المراكبي مولى عريب في الطريق — وهي يومئذٍ عنده — فقال لي: يا أيها الرجل الظالم المعتدي، أما ترق وترحم وتستحي! عريب هائمة بك وتحب أن تراك! قال علوية: أم الخلافة زانية إن تركت عريب بها! ومضيتُ معه، فحين دخلت قلت له: استوثق من الباب؛ فإني أعرف خلق الله بفضول البوابين والحجاب! فدخلت وإذا عريب جالسة على كرسي يطبخ بين يديها ثلاث قدور فجلسنا وأحضر الطعام، فأكلنا ودعونا بالنبيذ فجلسنا نشرب، ثم قالت: يا أبا الحسن، صنعت البارحة صوتًا في شعر لأبي العتاهية، فقلت: وما هو؟ فقالت:
وقالت لي: قد بقي فيه شيء، فلم نزل نكرره ونردده أنا وهي حتى استوى، ثم جاء حجَّاب المأمون فكسروا باب المراكبي واستخرجوني، فدخلت على المأمون، فلما رأيته أقبلت أمشي إليه برقص وتصفيق وأنا أغني الصوت، فسمع هو ومن عنده ما لم يسمعوه، واستظرفوه وطربوا منه جدًّا، وسألني فأخبرته الخبر، فقال لي: ادنُ مني وردده، فرددته سبع مرات، فقال لي في آخر مرة: يا علوية، خذ الخلافة وأعطني هذا الصاحب!
قال القاسم بن زرزور: حدثتني عريب قالت: كنت في أيام محمد ابنة أربع عشرة سنة، وكنت أصوغ الغناء وأنا في ذلك السن، قال القاسم: وكانت عريب تكايد الواثق فيما يصوغه من الألحان، وتصوغ في ذلك الشعر بعينه لحنًا فيكون أجود من لحنه؛ فمن ذلك:
فكان لحنها فيه خفيف ثقيل، ولحن الواثق رمل، ولحنها أجود من لحنه، والثاني وهو:
فكان لحنها ولحن الواثق فيه من الثقيل الأول، ولحنها أجود من لحنه.
قال ابن المعتز: وكان سبب انحراف الواثق عنها كيادها إياه، وسبب انحراف المعتصم عنها أنه وجد لها كتابًا إلى العباس بن المأمون في بلاد الروم مضمونه: اقتل أنت العلج حتى أقتل أنا الأعور الليلي ها هنا — تعني الواثق — وكان يسهر الليل، وكان المعتصم استخلفه ببغداد.
وقال صالح بن علي بن الرشيد: تمارى خالي أبو علي مع المأمون في صوت، فقال المأمون: أين عريب؟ فجاءت وهي محمومة فسألها عن الصوت، فولَّت لتجيء بعودٍ فقال لها: غنِّيه بغير عود، فاعتمدت على الحائط لعدم قوتها على مفعول الحمى وغنَّت، فأقبلتْ عقرب فرأيتها قد لسعت يدها مرتين أو ثلاثًا، فما نحت يدها ولا سكتت حتى أفرغت الصوت، ثم سقطت وقد غشي عليها، فأقيمت من حضرة المأمون وهو لا يكاد أن يملك نفسه أسفًا وفرقًا عليها، وقيل: إن المأمون كان يحبها الحب المفرط، حتى إنه كان يُقبِّل قدميها ويُمرِّغ عليها الخدود إذا رأى منها انحرافًا عنه في شيء ما!
وقال أبو العباس بن الفرات: قالت لي تحفة — جارية عريب: كانت عريب تجد في رأسها بردًا، فكانت تغلف شعرها مكان الغسلة بستين مثقالًا مسكًا وعنبرًا، وتغسله من الجمعة إلى الجمعة، فإذا غسلته أعادته كما كان، وتُقسِّم الجواري غُسالة رأسها بالقوارير، وما تسرحه منه بالميزان!
وروي عن علي بن يحيى أنه قال: دخلتُ يومًا على عريب مسلمًا عليها، فلما جلسنا هطلت السماء بالأمطار، فقالت: أقمْ عندي اليوم حتى أغنِّيك أنا وجواريَّ، وابعث إلى من أحببتَ من إخوانك، قال: فأمرت بدوابي فردت وجلسنا نتحدث، فسألتني عن خبرنا بالأمس في مجلس الخليفة، ومن كان يغنينا، وأي شيء استحسنَّا من الغناء؟ فأخبرتها أن صوت الخليفة كان لحنًا صنعه بنان، فقالت: وما هو؟ فأخبرتها أنه في هذه الأبيات:
قال: فوجهت رسولًا إلى بنان فحضر من وقته وقد بلته السماء، فأمرت بخلع ملابسه وألبسته ملابس فاخرة، وقُدِّم له طعام فأكل وجلس يشرب معنا، وسألته عن الصوت فغنَّاه مرارًا، فأخذت دواة وقرطاسًا وكتبت:
قال علي بن يحيى: فما شربنا بقية يومنا إلا على هذه الأبيات.
وقال الفضل بن العباس بن المأمون: زارتني عريب يومًا ومعها عدة من جواريها، فوافتنا ونحن في شرابنا، فتحداثنا ساعة وسألتها أن تقيم عندنا باقي يومها، فأبت وقالت: قد دعاني جماعة من إخواني من أهل الأدب والظرف، وهم مجتمعون في جزيرة المؤيد، فيهم: إبراهيم بن المدبر، وسعيد بن حميد، ويحيى بن عيسى، وقد عزمت على المسير إليهم، قال: فحلفت عليها بالإقامة عندنا، فأقامت ودعت بدواة وقرطاس، فكتبت بعد البسملة في سطر واحد ثلاثة أحرف متفرقة؛ وهي: «أردت، لولا، لعلي.»
وأرسلتها فأخذها ابن المدبر وكتب تحت كل حرف هكذا: «ليت، ماذا، أرجو.» ووجه بالرقعة، فلما رأتها صفَّقت وقالت: أأترك هؤلاء وأقعد عندكم؟! لا والله إذا تركني الله من يديه! ولكني أخلف عندكم بعض جواري يَكْفِينَكم وأقوم إليهم، ففعلت، وأخذت معها بعض جواريها، وتركت بعضهن وانصرفت.
وعتب المأمون يومًا على عريب فهجرها أيامًا، ثم اعتلت فعادها فقال لها: كيف وجدتِ طعم الهجر؟ فقالت: يا أمير المؤمنين، لولا مرارة الهجر ما عرفت حلاوة الوصل، ومَن ذمَّ بدءَ الغضبِ حَمِد عاقبةَ الرضا، قال: فخرج المأمون إلى جلسائه فحدثهم بالقصة تمامًا، ثم قال: أترى لو كان هذا من كلام النظام، ألم يكن كبيرًا؟!
وقال أحمد بن أبي داود: جرى بين عريب والمأمون كلام، فكلمها المأمون في شيء غضبت منه؛ فهجرته أيامًا، قال أحمد بن أبي داود: فدخلت يومًا فقال: يا أحمد، اقض بيننا بالصلح، فلما كلمتها في ذلك قالت: لا حاجة لي في قضائه ودخوله فيما بيننا، وأنشأت تقول:
فلما سمع المأمون ذلك دخل إليها بالصلح واصطلحا، قال حمدون: كنت حاضرًا في مجلس المأمون ببلاد الروم بعد صلاة العشاء الأخيرة في ليلة ظلماء ذات رعود وبروق فقال لي: اركب الساعة فرس النوبة وسر إلى عسكر أبي إسحاق — يعني المعتصم — فأدِّ إليه رسالتي، قال: فركبت ومضيتُ، وبينما أنا في الطريق إذ سمعتُ وقع حافر دابة، فرهبت من ذلك وجعلت أتوقَّاه حتى صكَّ ركابي في ركاب تلك الدابة، وبرقتْ بارقةٌ فتأملتُ وجه الراكب وإذا هي عريب، فقلت: عريب؟ قالت: نعم، أنت حمدون؟ قلت: نعم، فمن أين أتيتِ في هذا الوقت؟ قالت: من عند محمد بن حامد، قلت: وما صنعتِ عنده؟ قالت: عجبتُ من سؤالك هذا؛ أترى أن عريب تخرج من مضرب الخليفة في مثل هذا الوقت لتزور محمد بن حامد وتقول لها: ماذا كنتِ تصنعينَ عندَه؟! خرجت لأصلي معه التراويح أو لأدرس عليه شيئًا من الفقه! يا أحمق، خرجت لأزور حبيبي كما يتزاور المحبون، وما يفعلون من عتاب وصلح، وغضب ورضا، وشكوى غرام وبث أشواق وما أشبه! فأخجلتني وغاظتني، ثم رجعت إلى المأمون بعد أداء الرسالة، وأخذنا في الحديث وتناشدنا الأشعار، وهممت والله أن أخبره خبرها، ثم رهبته فقلت: أقدم قبل ذلك تعريضًا بشيء من الشعر فأنشدتُه:
قال: فقال لي المأمون: اخفض صوتك لئلا تسمعك عريب فتغضب وتظن أننا في حديثها! فلما سمعت ذلك أمسكتُ عما أردتُ أن أُخبِره به، واختار الله لي السلامة.
وقال اليزيدي: خرجنا مع المأمون إلى بلاد الروم فرأيت عريب في هودج، فلما رأتني قالت: يا يزيدي، أنشدني شعرًا قُلتَه حتى أصنع فيه لحنًا، فأنشدتها:
قال: فتنفست تنفسًا ظننتُ أن ضلوعها قد تقصَّفت منه، فقلتُ لها: هذا والله تنفس عاشق، فقالت: اسكت يا عاجز، أنا أعشق؟! بل أنا معشوقة في كل نادٍ، واللهِ لقد نظرتُ نظرةً مُريبةً في مجلس فادَّعاها من أهل المجلس عشرون رئيسًا ظريفًا!
قال أحمد بن حمدون: وقع بين عريب وبين محمد بن حامد خصام — وكان يجد بها وجدًا مفرطًا — فكادا يخرجان من شرهما إلى القطيعة، وكان في قلبها منه كما لها عنده من الحب، فلقيته يومًا فقالت له: كيف قلبك يا محمد؟ قال: أشقى والله مما كان وأشد لوعة، فقالت: استبدل بديلًا، فقال لها: لو كانت البلوى بالخيار لفعلتُ! فقالت: لقد طال إذن تعبُك، فقال: وما يكون أصبر مكرهًا؛ أما سمعت قول العباس بن الأحنف:
فلما سمعت ذلك ذرفت عيناها واعتذرت، وعاتبته واصطلحا وعادا إلى ما كانا عليه من صدق المودة وحسن المعاشرة.
وقال ابن المراكبي: قالت لي عريب: حجَّ بي أبوك وكنتُ في طريقي أطلب الأعراب فأستنشدهم الأشعار، وأكتب عنهم النوادر وجميع ما أسمعه منهم، فوقف علينا شيخ من الأعراب يسأل، فاستنشدته فأنشدني:
فاستحسنته ولم أكن سمعته قبل ذلك، قلت: فأنشدني باقي الشعر، فقال لي: هو يتيم، فاستحسنت قوله وبررته، وحفظت البيت وغنَّيت فيه صوتًا من الثقيل الأول، ومولاي لا يعلم بذلك؛ لأنه كان ضعيفًا، فلما كان في ذلك اليوم عشيًّا قال لي: ما كان أحسن ذلك البيت الذي أنشدك إياه الأعرابي وقال لك: إنه يتيم، أنشدينيه إن كنتِ حفظتِه فأنشدته وأعلمته أني غنيتُ به، ثم غنَّيته له فوهب لي ألف درهم بهذا السبب، وفرح بالصوت فرحًا شديدًا.
وقال ميمون بن هارون: إنه كان في مجلس جعفر بن المأمون وعندهم أبو عيسى، وعلي بن يحيى، وبدعة جارية عريب، وتحفة، وهما تغنيان الصوت، فذكر علي بن يحيى أن الصوت لغير عريب، وذكر أنها لا تدَّعيه وكابَر في ذلك، فقام جعفر بن المأمون فكتب رقعة إلى عريب ونحن لا نعلم يسألها عن أمر الصوت، وأن تكتب إليه بالقصة، فكتبت إليه بخطها بعد البسملة:
أنا المسكين وحيدة فريدة بغير مؤنس وأنتم فيما أنتم فيه، وقد أخذتم أنسي ومن كان يلهيني — تعني بذلك جاريتيها تحفة وبدعة — فأنتم في القصف والعزف وأنا في خلاف ذلك. هناكم الله وأبقاكم، وسألتَ — مدَّ الله في عمرك — عما اعترض فيه فلان في هذا الصوت، والقصة فيه ما هو كذا. وذكرت القصة بتمامها مع الأعرابي، ولما وصل الجواب إلى جعفر بن المأمون قرأه وضحك، ثم رمى به إلى أبي عيسى وقال: اقرأ، وكان علي بن يحيى إلى جانبي فأراد أن يستلب الرقعة، فمنعته وقمت إلى ناحية وقرأتها، فأنكر ذلك وقال: ما هذا؟ فوارينا الأمر عنه؛ لئلا تقع عربدة، وكان مبغضًا لها.
وقال أحمد بن الفرات عن أبيه: إنه قال: كنا يومًا عند جعفر بن المأمون نشرب وعريب حاضرةٌ إذ غنَّى بعض من كان هناك:
فضحكت عريب وصفَّقت وقالت: ما على وجه الأرض أحد يعرف هذا الصوت غيري، فلم يقدر أحد من القوم على مساءلتها عنه غيري، فسألتُها فقالت: أنا أخبركم بقصته، ولولا أن صاحب القصة قد مات لما أخبرتكم بها، وهو أن أبا محلم وفد بغداد فنزل بقرب دار صالح المسكين في خان هناك، فاطلعت أم محمد ابنة صالح يومًا فأعجبها جماله ورقته، فولعت به وأحبته حبًّا مفرطًا، وأرادت التوصل إليه، فجعلت لذلك علة بأن وجَّهت إليه تقترض منه مالًا، وتُعلمه أنها في احتياج، وأنها بعد مدة ترده إليه، فبعث إليها بعشرة آلاف درهم، وحلف أنه لو ملك غيرها لبعث بها إليها، فاستحسنت ذلك منه واتصلت المودة بينهما، وكان القرض سببًا للوصلة، فكان يدخل إلى منزلها ليلًا، وكنت أنا أغني لهم، فشربنا ليلة في القمر وجعل أبو محلم ينظر إليه، ثم دعا بدواة وقرطاس وكتب:
والبيت الآخر وقال لي: غنِّي فيه، ففعلتُ، واستحسناه وشربنا عليه، فقالت أم محمد في آخر المجلس: يا أختي، قد تنبَّلت في هذا الشعر، إلا أنه سيبقى علي فضيحة إلى آخر الدهر، فقال أبو محلم: وأنا أُغيِّره، فجعل مكان: أم محمد ابنة صالح «ذاك المستنير اللائح»، وغنيته كما غيَّره، وأخذه الناس عني، ولو كانت أم محمد حيَّة لما أخبرتكم بالخبر!
وكتبت عريب يومًا إلى ابن حامد تستزيره، فأرسل إليها: إني أخاف على نفسي! فكتبت إليه:
فلما قرأ الرقعة صار إليها من وقته.
وأرسل إليها يعاتبها في شيء، فكتبت إليه تعتذر فلم يقبل، فكتبت إليه هذين البيتين:
فلما اطَّلع على البيتين ذرفت عيناه وسعى إليها مستسمحًا ومستجديًا عفوها عما وقع منه. وقد تمت أخبار عريب.
عزة الميلاء
كانت عزة مولاة للأنصار، ومسكنها المدينة، وهي أقدم من غنى الغناء الموقع من النساء بالحجاز، وماتت قبل جميلة، وكانت من أجمل النساء وجهًا، وأحسنهن جسمًا، وسميت الميلاء لتمايلها في مشيها، وكانت ممَّن أحسن ضَرْبًا بعود، وكانت مطبوعة على الغناء لا يعييها أداؤه ولا صنعته ولا تأليفه، وكانت تغني أغاني الصبا من الدائم مثل سيرين وزرنب وخولة والرباب وسلمى ورائقة، وكانت رائقة أستاذتها، فلما قدم نشيط وسائب خاثر المدينة غنيا أغاني بالفارسية، فلقنت عزة عنهما نغمًا، وألفت عليه ألحانًا عجيبة؛ فهي أول من فتن أهل المدينة بالغناء وحرَّض نساءهم ورجالهم عليه. وكان مشايخ أهل المدينة إذا ذكروا عزة قالوا: لله درها! ما كان أحسن غناءها، وأرق صوتها، وأندى حلقها، وأحسن ضربها بالمزاهر والمعازف وسائر الملاهي، وأجمل وجهها، وأظرف لسانها، وأقرب مجلسها، وأكرم خلقها، وأسخى نفسها، وأحسن مساعدتها!
وقال طويس يَصِفُ عزة: هي سيدة من غنَّى من النساء مع جمال بارع، وخلق فاضل، وإسلام لا يشوبه دنس؛ تأمر بالخير وهي من أهله، وتنهى عن السوء وهي مجانبة له، فناهيك ما كان أنبلها وأنبل مجلسها! ثم قال: كانت إذا جلست جلوسًا عامًّا فكأن الطير على رءوس أهل مجلسها من تكلم أو تحرك نقر رأسه.
قال ابن سلام: فما ظنك بمن يقول فيه طويس هذا القول؟! ومَن ذا الذي سلم من لسان طويس؟!
وقال معبد: إنه أتى عزة يومًا وهي عند جميلة وقد أسنَّت وهي تغني على معزفة في شعر ابن الإطنابة:
قال: فما سمع السامعون قط بشيء أحسن من ذلك، قال معبد: هذا غناؤها وقد أسنَّت، فكيف بها وهي شابة؟! وقال صالح بن حسان الأنصاري: كانت عزة مولاة لنا، وكانت عفيفة جميلة، وكان عبد الله بن جعفر وابن أبي عتيق وعمر بن أبي ربيعة يغشونها في منزلها فتُغنِّيهم، وغنَّت يومًا عمر بن أبي ربيعة لحنًا لها في شيء من شعره، فشقَّ ثيابه وصاح صيحة عظيمة صعق معها! فلما أفاق قالت له: لغيرك الجهل يا أبا الخطاب! قال: إني سمعت والله ما لم أملك معه نفسي ولا عقلي! وكان حسان بن ثابت معجبًا بعزة الميلاء، وكان يُقدِّمها على سائر قيان المدينة، وكان زيد بن ثابت ختن ابنته فأولم، فاجتمع إليه المهاجرون والأنصار وعامة أهل المدينة، وحضر حسان بن ثابت وقد كُفَّ يومئذٍ، وأقبلت الميلاء وهي يومئذٍ شابَّة فوُضِع في حجرها مزهر، فضربت به ثم تغنَّت، فكانت أول ما ابتدأت به من شعر حسان قوله:
وحسان يبكي وابنه يومئ إليها أن تزيد، فإذا زادت بكى حسان، وقال خارجة بن زيد: فلما طال جلوس حسان ثقل علينا مجلسه، فأومأ ابنه إلى عزة فغنَّت:
فبكى حسان حتى سدر ثم قال: هذا عمل الفاسق — يعني ابنه — أما لقد كرهتم مجالستي؛ فقبح الله مجلسكم سائر اليوم! وقام فانصرف.
وقال عبد الله بن أبي مليكة: كان رجل من أهل المدينة ناسك من أهل العلم والفقه، وكان يغشى عبد الله بن جعفر، فسمع جارية مغنية لبعض النخاسين تغني:
فشغف بها وهام وترك ما كان عليه، حتى مشى إليه عطاء وطاوس فلاماه، فكان جوابه لهما أن تمثل بقول الشاعر:
وبلغ عبد الله بن جعفر خبره فبعَث إلى النخاس، فاعترض الجارية وسمع غناءها بهذا الصوت وقال لها: ممَّن أخذته؟ قالت: من عزة الميلاء، فابتاعها بأربعين ألف درهم، ثم بعث إلى الرجل فسأله عن خبره، فأعلمه إياه وصدقه عنه، فقال له: أتحب أن تسمع هذا الصوت ممن أخذته عنه تلك الجارية؟ قال: نعم، فدعا بعزة وقال لها: غنِّيه إياه. فغنَّته، فصعق الرجل وخرَّ مغشيًّا عليه.
فقال ابن جعفر: أثمنا فيه! الماء الماء، فنضح على وجهه، فلما أفاق قال له: أكل هذا بلغ بك عشقها؟ قال: وما خفي عليك أكثر، قال: أفتحب أن تسمعه منها؟ قال: قد رأيت ما نالني حين سمعته من غيرها وأنا لا أحبها، فكيف يكون حالي إن سمعته منها وأنا لا أقدر على ملكها؟! قال: أفتعرفها إن رأيتها؟ قال: أوَأعرِف غيرها؟!
فأمر بها فأخرجت وقال: خذها فهي لك، والله ما نظرت إليها قط إلا عن عرَض، فقبَّل الرجل يديه ورجليه وقال له: أنمت عيني، وأحييت نفسي، وتركتني أعيش بين قومي، ورددت إلي عقلي! فقال: ما أرضى أن أعطيكها هكذا. يا غلام، احمل معها مثل ثمنها؛ لكي لا تهتمَّ به ويهتمَّ بها، فأخذها وانصرف شاكرًا.
وكان ابن أبي عتيق معجبًا بعزة الميلاء، فأتى يومًا عند عبد الله بن جعفر فقال له: بأبي أنت وأمي، هل لك في عزة فقد اشتقت إليها؟! قال: لا، أنا اليوم مشغول، فقال: بأبي أنت وأمي، إنها لا تنشط إلا بحضورك، فأقسمت عليك إلا ساعدتني وتركت شغلك، ففعل، فأتياها ورسول الأمير على بابها يقول لها: دعي الغناء؛ فقد ضج أهل المدينة منك وقالوا: فتنتِ رجالَهم ونساءَهم، فقال له ابن جعفر: ارجع إلى صاحبك فقل له عني: أقسم عليك إلا ناديتَ في المدينة أيما رجل أو امرأة فتنت بسبب عزة إلا كشف نفسه بذلك؛ لتعرفه ويظهر لنا ولك أمره، فنادى الرسول بذلك فما أظهر أحد نفسه، ودخل ابن جعفر إليها وابن أبي عتيق معه فقال لها: لا يَهُولنَّك ما سمعتِ فغنِّينا، فغنَّتهما:
فاهتز ابن أبي عتيق طربًا، فقال ابن جعفر: ما أراني أدرك ركابك بعد أن سمعت هذا الصوت من عزة. وبقيت عزة في عزٍّ وإقبال ونعمة وافرة حتى ماتت مأسوفًا عليها من كل من سمع صوتها ورأى جمالها!
عزة صاحبة كُثَيِّر
هي عزة بنت حُميل بن حفص بن إياس بن عبد العزى. يتَّصل نسبها إلى عبد مناف. علقها كُثَيِّر جاريةً قد كَعَبتْ نُهودُها.
وكان سبب دخول الهوى بينهما أن كثيرًا مرَّ بغنمٍ له ترد الماء على نسوة من ضمرة بوادي الخبت، فأرسلن له عزة بدريهمات تشتري بها كبشًا لهنَّ منه، فنظرها نظرة مُتأمِّل، فداخله منها ما كان، فردَّ الدراهم وأعطاها الكبش وقال: إن رجعتُ أخذتُ حقي، فلما عاد سألنه ذلك فقال: لا أقتضي إلا من عزة، فقلن له: ليس فيها كفاءة؛ فاختر إحدانا، فأبى وأنشد:
فجعلن يبرزنها له كارهة، ثم داخلها ما داخله، ولما اشتدت حالته أنشد:
ودخلت عزة على أم البنين بنت عبد العزيز فقالت لها: ما الحق الذي مطلته كثيرًا إذ قال:
فقالت: وعدتُه قُبلة، فقالت: أنجزيها وعلي إثمُها!
ومن غريب الاتفاق أن كثيرًا كان له غلام يتَّجر على العرب، فأعطى النساء إلى أجل، فلما اقتضى ماله منهن ماطلته عزة، فقال لها يومًا وقد حضرتْ في نساء: أما آن أن تفي بما عندك؟ فقالت: كرامةً، لم يبق إلا الوفاء! فقال: صدق مولاي حيث يقول: «قضى كل ذي دين» البيت، فقلن له: أتدري من هي غريمتك؟ فقال: لا أدري، قلن: هي والله عزة، فقال: أُشْهِدكنَّ عليَّ أنها في حل مما عندها، ومضى فأخبر مولاه بالحكاية فقال: وأنت حر وما عندك لك — وكان الذي عنده ألف دينار — وأنشد:
ودخلت عزة على عبد الملك بن مروان فقال لها: أتروين قول كُثيِّر:
فقالت: لا أدري هذا، ولكن أروي قوله:
فضحك من ذلك.
واتفق أن عزة خرجت إلى مكة مع زوجها، وكان كُثيِّر في ذلك العير، فلما كان في أثناء الطريق مرَّت بجمل له، فسلمت على الجمل، فبلغ كثيرًا ذلك، فجاء إلى الجمل فحلَّه وأطلقه من الحمل وأنشد:
ثم اتفق أن زوجها أمرها أن تستعطي سمنًا، فلقيها كثير فأخبرته بحاجتها، فأخرج إداوة سمن وجعل يسكب في إناء عزة وهما يتحدثان، فلم يشعر حتى غرقت أرجلهما! فلما رجعت أنكر زوجها كثرة السمن، وأقسم عليها فأخبرته، فحلف ليضربنها أو لتخرجن فتشتم كثيرًا بحيث يسمعها، ففعلتْ، فأنشد كثير:
ودخلت عليه وهو يبري سهامًا، فجعل ينظر إليها ويبري ساعدته، فدخلت ومسَحت الدمَ بثوبها.
وتوفيت عزة سنة أربع ومائة، ورثاها كُثيِّرٌ بأبيات؛ ومنها — وقد سأل عبد العزيز أن يرشده إلى قبر عزة، فلما وقف عليه أنشد:
ومما قال فيها أيضًا:
وقال فيها أيضًا:
عفراء بنت الأحمر الخزاعية
نشأت مع ابن عمها الحارث، المشهور بابن الفرند، ممتزجين بالألفة إلى أن بلغا، فتزوج بها، فأقاما مدة ينمو الهوى بينهما إلى أن عزمت يومًا على أن تزور أباها، فجهزها إليه، فأقامت مدة وكلٌّ منهما يأبى أن يجيء بنفسه، وزادت الوحشة بينهما، وحلف أبواهما على أن لا يأتي أحدهما الآخر؛ مخافة أن تزري العرب به! فمرض الحارث فكتب إليها:
فأجابته تقول:
فلما قرأ ما في الرقعة وتنشق ريحها — وكانت أعطر أهل زمانها — غشي عليه فإذا هو ميت، فقيل لها: ما كان عليك لو أجبته زورة؟ قالت: خشيت أن يقال: صَبَتْ إليه! ولكني قاتلة نفسي ولاحقة به قريبًا! فلم يشعروا بها إلا وهي ميتة.
عفراء بنت مهاصر بن مالك بن حزام بن ضبة بن عبد بن عذرة
كانت من أعظم مشاهير عصرها حسنًا وجمالًا، وأدبًا وظرفًا وفصاحة. شغف بها عروة بن حزام أخي مهاصر— وكلاهما ابنا مالك، وهو المشهور بالعشق، قيل: إنه أول عاشق مات بالهَجر! ولشدة مقاساته في العشق ضرب به المثل، وكان سبب عشقه لها أن أباه حزامًا توفي ولعروة من العمر أربع سنين، وكفله مهاصر أبو عفراء، فانتشآ جميعًا، فكان يألفها وتألفه، فلما بلغا الحلم سأل عمه تزويجها، فوعده ذلك ثم أخرجه إلى الشام.
وجاء ابن أخ له يقال له: أثالة بن سعيد بن مالك يريد الحج، فنزل بعمه مهاصر، فبينما هو جالس يومًا تجاه البيت إذ خرجت عفراء حاسرة عن وجهها ومعصميها، وعليها أزارُ خزٍّ، فلما رآها وقعت من قلبه بمكانة عظيمة، فخطبها من عمِّه فزوَّجه بها، وأن عروة أقبل مع العير في اليوم الذي حُمِلتْ عفراء مع زوجها، فعرفها من البعد وأخبر أصحابه، فلما التقيا وعرف الأمر بهت لا يَحيرُ جوابًا حتى افترق القوم، فأنشد:
وحين وصل الحي أخذه الهذيان والقلق، وأقام أيامًا لا يتناول قوتًا حتى شفَّت عظامه ولم يخبر بسره أحدًا، وإنه تمرَّض بين أهله زمانًا، ولما يئس من الشفاء وعلم الضجر من أهله قال لهم: احتملوني إلى البلقاء؛ فإني أرجو الشفاء.
فلما حلَّ بها وجعل يُسارق عفراء النظر في مرورها عاودته الصحة، فأقام كذلك إلى أن لقيه شخص من عذرة فسلَّم عليه، فلما أمسى دخل العذري على زوج عفراء وقال له: متى قدم هذا الكلب عليكم، فقد فضَحكم بكثرة ما يتشبب بكم، فقال: مَن تعني؟! قال: عروة، قال: أنت أحق بما وصفت، والله ما علمتُ بقدومه.
وكان زوج عفراء متصفًا بالسيادة ومحاسن الأخلاق في قومه، فلما أصبح جعل يتصفح الأمكنة حتى لقي عروة فعاتبه، وأقسم أن لا ينزل إلا عنده، فوعَده ذلك، فذهَب مُطْمَئنًّا.
وأما عروة، فإنه عزم أن لا يبيت الليل وقد علموا به، فخرج فعاوده المرض فتوفي بوادي القرى دون منازل قومه، ولما بلغ عفراء وفاته قالت لزوجها: قد تعلم ما بينك وبيني وبين الرجل من الرحم، وما عندي من الوجد، وأن ذلك على الحَسَنِ الجميل؛ فهل تأذن لي أن أخرج إلى قبره فأندبه؛ فقد بلغني أنه قضى! قال: ذلك إليك! فخرجتْ حتى أتت قبره فتمرَّغت عليه وبكَتْ طويلًا، ثم أنشدت:
ولما فرغت من شعرها ألقت نفسها على القبر فحُرِّكت فوُجِدتْ ميتة! فدفنت إلى جانبه، فنَبَت من القبرين شجرتان، حتى إذا صارتا على حد قامة التفتا! فكانت المارة تنظر إليهما ولا يعرفون من أي ضرب من النبات، وكثيرًا ما أنشد فيهما الناس؛ فمن ذلك قول الشهاب محمود:
وكانت وفاتها في عاشر شوال سنة ٢٨ للهجرة. ومن قول عفراء:
ومن محاسن شعر عروة قصيدته النونية التي أولها:
ومنها:
وهي تسعة وسبعون بيتًا قد ضمَّنها حكاية حاله بألفاظ رقيقة، ومعانٍ أنيقةٍ. وقد تركناها لشهرتها، وخوف الخروج عن الموضوع.
عقيلة ابنة أبي النجاد بن النعمان
عقيلة ابنة أبي النجاد بن النعمان بن المنذر بن ماء السماء، ملك العرب المشهور، وجدُّها النعمان صاحب الخورنق.
وهي من أجمل نساء العرب، وأعلمهن بالأدب وأحوال العرب أيامًا ووقائعَ. تعلقها عمرو بن كعب بن النعمان المذكور، وكان ربَّاه عمُّه أبو النجاد بعد وفاة والد كعب، فشغف بها عمرو واشتد ولوعه وزاد غرامه، فخطبها إلى عمه فطلب منه مهرًا يعجز عنه، فأشار عليه بعض أصحابه بالخروج إلى أبرويز بن كسرى؛ لما كان بين جدودهما من الوصلة، فلما ذهب في الطريق مرَّ بعراف فبات عنده، فاستعلم منه الأمر فأخبره أنه ساعٍ فيما لا يدرك، فعاد فوجد عمَّه قد زوج العقيلة لفزاريٍّ، فهام على وجهه إلى اليمامة.
فلما بنى بها الفزاري، وكان عندها من الشوق لعمرو أضعاف ما عنده لها، فكانت تشد الفزاري إذا جن الليل إلى كسر البيت وتبيت في الخدر، فإذا أصبح الصبح تُطلقه فيستحي أن يخبر العرب بذلك، فأقام على هذا الحال سبعين ليلة، فلما كثر توبيخ العرب له واختلاف ظنونهم فيه؛ خرج فلا يُدرَى أين ذهب، وأقامت العقيلة ببيت أبيها لا تتناول إلا الأقل من الطعام بقدر ما يمسك الرمق، ودأبها البكاء على عمرو، وهو كذلك؛ فإنه كان لا يُرى إلا شاخصًا إلى السماء مُتمسِّكًا بحبل علق فوق رأسه من العشاء إلى الصباح وهو ينشد:
فلما كان بعد أيام دخل عليه صديقه فوجده غاصًّا بالضحك مستبشرًا، فسأله فقال:
ثم شهق شهقة فاضت نفسه! قال الفرزدق: خرجت في طلب غلام لي أبق، فلما صرت على ماء لبني حنيفة جاءت السماء بالأمطار، فلجأت إلى بيت هناك، فخرجت لي جارية كأنها القمر فحيَّت ثم قالت: ممَّن الرجل؟ قلت: تميمي، قالت: من أيها قبيلة؟ قلت: من نهشل بن غالب، فقالت: إذن أنتم الذين يقول فيكم الفرزدق:
فقلت: نعم، فقالت: قد هدَمه لكم جرير بقوله:
قال: فأعجبتني، فلما رأت ذلك مني قالت: أين تؤمُّ؟ قلت: اليمامة، فتنفست الصعداء ثم قالت:
قال: فأنستُ بها فقلتُ: أذات خدر أم ذات بعل؟ فقالت:
فقلت لها: من هو؟ فأنشدت تقول:
ثم شهقت شهقت فماتت! فسألت عنها فإذا هي العقيلة، وضبط اليوم الذي ماتت فيه فوجد موت عمرو في ذلك اليوم أيضًا!
عكرشة ابنة الأطروش بن رواحة
أيها الناس، عليكم أنفسكم، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم، إن الجنة لا يرحل من أوطنها، ولا يهرم من سكنها، ولا يموت من دخلها، فابتاعوها بدار لا يدوم نعيمها، ولا تنصرم همومها، وكونوا قومًا مستبصرين في دينكم، مستظهرين بالصبر على طلب حقكم. إن معاوية دلف إليكم بعجم العرب، غلف القلوب لا يفقهون الإيمان، ولا يدرون ما الحكمة. دعاهم بالدنيا فأجابوه، واستدعاهم إلى الباطل فلبُّوه، فالله الله عباد الله في دين الله. إياكم والتواكل؛ فإن ذلك ينقض عز الإسلام، ويطفئ نور الحق. هذه بدر الصغرى والعقبة الأخرى، يا معشر المهاجرين والأنصار، امضوا على بصيرتكم، واصبروا على عزيمتكم، فكأني بكم غدًا وقد لقيتم أهل الشام كالحمر الناهقة تصقع صقع البعير.
ووفدت على معاوية فسألته رد الصدقات فقالت: إن صدقاتنا كانت تؤخذ من أغنيائنا فترد على فقرائنا، وإنا قد فقدنا ذلك، قال: وما يصنع الوالي؟ قالت: فما يُجبر لنا كسير، ولا يُنعش لنا فقير، فإن كان ذلك عن رأيك فمثلك ينبه عن الغفلة، ويراجع التوبة، وإن كان عن غير رأيك فما مثلك استعان بالخونة، ولا استعمل الظلمة.
قال معاوية: يا هذه، إنه ينوبنا من أمور رعيتنا أمور تنبثق، وبحور تندفق، قالت: يا سبحان الله! والله ما فرض الله لنا حقًّا فجعل فيه ضررًا على غيرنا، وهو علام الغيوب.
قال معاوية: يا أهل العراق، نبهكم علي بن أبي طالب فلم تطاقوا، ثم أمر برد صدقاتهم فيهم وأنصفها، وذهبت وهي مكرمة، وبقيت عزيزة في قومها إلى أن توفَّاها الله تعالى.
علية ابنة المهدي العباسية
أخت هارون الرشيد، أمير المؤمنين الخامس العباسي، كانت من أحسن نساء زمانها وجهًا، وأظرفهن خلقًا، وأوفرهن عقلًا، ذات صيانة وأدب بارع. تزوجها موسى بن عيسى العباسي، وكان الرشيد يبالغ في إكرامها واحترامها، ولها ديوان شعر. عاشت خمسين سنة، وتوفيت سنة ٢١٠ﻫ، وكان سبب موتها أن المأمون سلَّم عليها وضمَّها إلى صدره، وجعل يُقبِّل رأسها ووجهها مغطى، فشرقت من ذلك وحمت وماتت لأيام يسيرة! وكانت تتغزل في خادمين؛ أحدهما طل، والآخر رشأ، فمن قولها في طل — وصحَّفت اسمه:
وقالت فيه أيضًا:
فبلغ الرشيد ذلك فحلف أنها لا تذكره، ثم تسمَّع عليها يومًا فوجدها وهي تقرأ القرآن في آخر سورة البقرة حتى بلغت قوله تعالى: فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ (البقرة: ٢٦٥) فما نهى عنه أمير المؤمنين، فدخل الرشيد وقبَّل رأسها وقال لها: قد وهبتك طلًّا ولا منعتك بعدها عما تريدين.
وكانت من أعف الناس؛ كانت إذا طهرت لازمت المحراب، وإذا لم تكن طاهرًا غنَّت، ولما خرج الرشيد إلى الري أخذها معه، فلما وصلت إلى المرج نظمت قولها:
وغنت بهما، فلما بلغ الرشيد الصوت علم أنها قد اشتاقت إلى العراق وأهلها فأمر بردها. ومن شعرها:
وقالت أيضًا:
وقالت أيضًا:
وهذا يشبه قول أبي نواس:
وقالت أيضًا:
وقالت عريب المغنية: أحسن يوم مرَّ بي في الدنيا وأطيبه يوم اجتمعت فيه مع إبراهيم بن المهدي وأخته علية وعندهم يعقوب، وكان أحذق الناس بالمزمار، فبدأت علية فغنتهم من صنعتها في شعرها وأخوها يعقوب يزمر عليها:
وقالت أيضًا:
فما سمعت مثل ما سمعت منها قط، وأعلم أني لا أسمع مثله أبدًا.
عمارة جارية ابن جعفر
كانت من مشاهير نساء عصرها حسنًا وجمالًا، ولها اليد الطولى في صنعة الغناء، وكان سيدها وجد بها وجدًا شديدًا؛ فكان لا يستطيع فراقها سفرًا أو حضرًا، فقدم على معاوية سنة من السنين لأخذ حقه، فزاره يزيد، فغنَّت الجارية بحضرته، فأخذت بمجامع قلبه، وتمكَّن حبُّها من نفسه، وكان ذا دهاء فكتم أمرها.
فلما أفضت إليه الخلافة استشار أهل سرِّه في أمرها، وأنه لا يهنأ له قرار دونها، فقالوا له: إن ابن جعفر عند الناس بمنزلة، وتعرف ما كان عليه من أبيك، ولا نأمن عليك في ذلك؛ فالزم المهلة، واجتهد في الحيلة، فأخذ في تدبير ذلك حتى ظهر له، فأحضر رجلًا عراقيًّا معروفًا بالدهاء والحيل، وأطلعه على أمره، فقال له: مكِّني مما أريد ولك عليَّ أن آتيك بها، فقال: لك ذلك، وسترى مني ما يسرُّك، ثم أعطاه مالًا وثيابًا وجواهرَ.
وخرج العراقي كبعض التجار حتى نزل بساحة عبد الله بن جعفر وبلغه، فأحسن ملتقاه، وأخذ العراقي في التودد إليه، فأرسل إليه بقماش وهدايا تزيد على ألف دينار، وسأله قبولها، ونقله إلى خواصه، فزاد في الهدايا إلى أن صار من ندمائه، فأحضر الجارية.
فلمَّا غنَّت أعجب بها العراقي حتى قال: ما ظننت أن في الدنيا مثل هذه! فقال له: كم تساوي عندك؟ قال: الخلافة! فقال عبد الله: تقول ذلك لتُزيِّنَ لي شأنها وتطلب بذلك سروري؟! قال: يا سيدي، أنا تاجر أجمع الدرهم، ولو بعتنيها بعشرة آلاف دينار لأخذتها، قال: قد بعتك، قال: اشتريتُ، وقام العراقي بالمال، فقال ابن جعفر: أنا كنت مازحًا، فقال له: يا سيدي، أنت تعلم أن المزاح في البيع جدٌّ، وهذا لا يليق بمثلك وأنت معروف بالكرم والصلات، فكيف ترضى أن يشيع عنك مثل هذا؟! وطال بينهما الكلام إلى أن خدَعه فأخرجها له وهو كالمجنون لا يملك نفسه، فرحل بها من يومه، وأقام ابن جعفر حزينًا باكيًا لا يقر له قرار.
فلما دخل العراقيُّ الشامَ وجد يزيد قد مات، فاجتمع بمعاوية ولده، فقصَّ الخبر، وكان صالحًا فقال له: اخرج عني بها فلا تريني وجهك، فخرج العراقي وكان قد قال للجارية: أنا لست من رجالك وإنما أخذتك للخليفة، فاستَتَرتْ فلم ير لها وجهًا.
فلما قال له معاوية ما قال جاء إليها وقال لها: قد صرتِ لي، ولكن فاستتري؛ فإني مُعيدُك إلى مولاك، ثم رحل بها حتى دخل على ابن جعفر، فلما تلاقيا أخبره بالقضية، وأنه لم يكن تاجرًا، ولكن كان مطلوبه الجارية ليزيد، وإنه حين رآه قد هلك لم يرَ نفسه أهلًا لها، فأعادها إليه ولم يرَ لها وجهًا، ثم أخذها فسلمها إليه، فلما تلاقيا وتعانقا خرَّا مغشيين ساعة، ثم أدخلها ورفع منزلة العراقي حتى صار أعظم الناس عنده، ووهب له المال وانصرف، وأقاما على ما كانا عليه في عزٍّ وإقبال.
عمرة ابنة دريد بن الصمة
سيد بني جشم الذي قتل يوم حنين في حرب الإسلام. قتله عبد ربيعة بن رفيع سنة ثمان للهجرة و٦٣٠م.
كانت من نساء العرب المُتقدمات بالمنزلة، النابغات بالفصاحة والأدب، العالمات بأشعار وروايات العرب، لها اليد الطولى في الكرم والشعر المحكم، ومن أشعارها ما قالته رثاء في أبيها دريد المذكور، وتنعى إلى بني سليم إحسان دريد إليهم في الجاهلية:
وقالت فيه أيضًا:
عمرة ابنة الخنساء
كانت شاعرة مثل أمها الخنساء، وأبوها هو مرداس بن أبي عامر، وكان العباس ويزيد ابنا مرداس أخويها، وتزوجت بنشبة فولدت له ولدًا سمته: الأقيصر مات صغيرًا. ومن مراثيها قولها في أخيها يزيد لما قُتل؛ وذلك أن يزيد كان قتل قيس بن الأسلت في بعض حروبهم، فطلبه بثأره هارون بن النعمان بن الأسلت حتى تمكن من يزيد فقتله بقيس بن أبي قيس، وهو ابن عمرو، فقالت عمرة:
وقالت عمرة أيضًا ترثي أباها مرداسًا — وكان يقال له: الفيض من سخائه كأنه فيض البحر:
وقالت عمرة ترثي أخاها يزيد — وهذا الشعر في الحماسة:
وقالت في أخيها عباس — وقد مات في الشام سنة ١٦ للهجرة و٦٣٨ للميلاد:
وقالت من جملة قصيد في يزيد:
وتوفيت عمرة بنت الخنساء نحو سنة ٤٨ هجرية.
عمرة الخثعمية
هي من نساء بني خثعم الشاعرات الأديبات المتحمسات، وشعرها مقبول، ولها رثاء في أخوين لها قُتلا في بعض الغزوات:
عمرة ابنة النعمان بن بشير
كانت حسنة الإشارة، جميلة المنظر، لطيفة المخبر، عفيفة، دينة، متمسكة بالصدق والصداقة، وعُرفت بين أخواتها بالأمانة وحفظ العهد، وعندما شبَّت تزوجت بالمختار بن أبي عبيد الثقفي، ومكثت معه لحين قتله فقُتلت معه، وكان لها علم بمعاني الشعر والأدب، ولها فيه بعض مقاطيع، ومن ذلك ما قالته تخاطب به أخاها أبان بن النعمان، وتلومه فيها على زواج أختها حميدة بروح بن زنباع — وكان من بني جذام:
وقد سمع ذلك ابنُ عم لروح بن زنباع — زوج أختها حميدة — فقال:
وقُتلتْ عمرة بعد قتل زوجها المختار بن أبي عبيد الثقفي، والسبب في ذلك كما جاء في التاريخ الكامل لابن الأثير: أن مصعبًا بعد أن قتل المختار دعا أم ثابت بنت سمرة بن جندب امرأته وعمرة هذه، فأحضرهما وسألهما عن المختار، فقالت أم ثابت: نقول فيه بقولك أنت، فأطلقها، وقالت عمرة: رحمه الله كان عبدًا لله صالحًا، فحبسها وكتب إلى أخيه عبد الله بن الزبير أنها تزعم أنه نبي، فأمره بقتلها ليلًا بين الكوفة والحيرة. قتلها بعض الشرط: ضربها ثلاث ضربات بالسيف وهي تقول: يا أبتاه، يا عترتاه، فرفع رجل يده فلطَم القاتل وقال: يا ابن الزانية، عذَّبتها. ثم تشحطت فماتت، فتعلق الشرطي بالرجل وحمله إلى مصعب، فقال: خلُّوه فقد رأى أمرًا فظيعًا. فقال عمر بن أبي ربيعة المخزومي في ذلك:
وقال سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري في ذلك أيضًا:
إن أبَتْ أن تبرأ منه فاقتلها! فأبَتْ فحفَر لها حفيرة وأقيمت فيها فقُتلتْ.
عوان جارية سليمان بن عبد الملك
كان يحبها مولاها حبًّا شديدًا — وهي مشهورة بالجمال والفصاحة — وكان شديد الغيرة عليها، وإنه خرج لغرض ومعه سنان — وكان فارسًا معروفًا بالشجاعة، وكان حسن الغناء، وكان يتركه كثيرًا؛ لمعرفته بغيرة سليمان — ولكن زاره ضيوف في تلك الليلة فأكرمهم فقالوا: يا سنان، لم تكرمنا ما لم تسمعنا الغناء! وكان قد أخذت منه الخمرة فأنشد:
فلما سمع سليمان الصوت خرج فزعًا يتفهمه، فجاء إلى عوان فرآها على صفة الأبيات! وكانت يقظانة، فلما فطنت به قالت:
فسكن ما به وقال: قد راعك صوته؟ قالت: صادف مني يا أمير المؤمنين، فحلف ليقتلنه، فأرسلت عبدًا يحذره وقالت: إن لحقته فلك ديتُه وأنت حرٌّ، فسبَق رسولُ سليمان فجاءوا به فنظر إليه، ثم قال: وإنك لمجترئ؟! فقال: أنا فارسك فاستبقني، فقال: لا أقتلك، ثم أمر به فخُصي!
وبقيت عوان عند سليمان معززة مكرمة إلى أن مات عنها وآلَتْ إلى خلفه.
عوراء بنت سبيع
كانت فصيحة اللسان، ثبتة الجنان، لها علم بفنون الأدب، ورواية في شعر العرب. لها شعر قليل، وأغلبه رثاء في أخيها عبد الله بن سبيع حين قُتل في يوم من أيام العرب، منه قولها: