حرف الباء الموحدة
باقو الملقبة بالطاهرة زوجة السلطان مراد الثالث
هي امرأة من البندقية كانت ذات فكر ثاقب، وجمال بارع، أسرها لصوص البحر سنة ١٥٨٠م وهي سائرة مع أبيها من البندقية إلى «كورفو»، فسيقت إلى القسطنطينية، وصارت فيها من جواري السلطان مراد الثالث، ثم تزوجها وجعلها سلطانة، وأخذ حبُّها بمجامع قلبه، فنفذت كلمتها، وكانت لها سطوة عجيبة في أيام ابنها السلطان محمد الثالث، فكان يستشيرها في مصالح السلطنة، غير أن حفيدها السلطان أحمد تغيَّر عليها سنة ١٦٠٣ للميلاد، ووضعها في السراية القديمة إلى أن ماتت.
بثينة حبيبة جميل بن معمر العذري
هي بثينة بنت حبا بن ثعلبة بن لهوذ بن عمر بن الأصب بن حر بن ربيعة. كذلك نسبها صاحب الأغاني، وهي من بني عذرة. هام بها وذكرها في شعره جميل بن عبد الله بن معمر، فعُرف بها حتى إنه لا يُعرف إلا بجميل بثينة. تزوجها رجل يقال له: نبيه بن الأسود، وبقي جميل يتردد عليها بلا ريبة، وكانت بثينة من أحسن النساء، وأكملهن أدبًا وظرفًا، وأطيبهن حديثًا، ولها مع جميل نوادر وأشعار ومغازلات كثيرة، كلها مستورة بالعفة والأدب، فمنها أن سبب ما علق بها جميل أنه أقبل يومًا بإبله حتى أوردها واديًا يقال له: بغيض، فاضطجع وأرسل إبله ترعى وأهل بثينة يومئذٍ في جانب الوادي، فأقبلت بثينة وجارة لها واردتين الماء، فمرَّتا على فصالٍ له بروك، فنفَّرتهن بثينة — أي انتهرتهن — فقال: قد نفَّرتهن. وكانت إذ ذاك جويرية صغيرة، فسبَّها جميل، فبادلته السب وشتمته هي أيضًا، فاستحسن سبابها، وهام بها من ذاك الحين، وفي ذلك يقول:
وخرجت بثينة في يوم عيد، وكانت النساء إذ ذاك يتزينَّ ويجتمعن، ويدنو بعضهن لبعض، ويبدون للرجال في كل عيد، فجاء جميل فوقف على بثينة وأختها أم الحسين في نساء من بني الأحب، فرأى منهن منظرًا لطيفًا، فقعد معهن ثم انصرف، وكان معه فتيان من بني الأحب، فعلم أن القوم قد عرفوا في نظره حبَّ بثينة ووجدوا عليه، فراح وهو يقول:
ولما سمعت بثينة أن جميلًا شبَّب بها حلفت بالله أن لا يأتيها على خلوة إلا خرجت إليه ولا تتوارى منه، فكان يأتيها عند غفلات الرجال فيتحدث معها ومع أخواتها، حتى نمى إلى رجالها أنه يتحدث إليها، وكانوا أصلافًا — أي غيارى — فرصدوه بجماعة نحو من بضعة عشر رجلًا، وجاء على الصهباء ناقته حتى وقف ببثينة وأم الحسين وهما تحدثانه، وهو ينشدهما قوله:
فبينما هو على تلك الحال إذ وثب عليه القوم، فأطلق عنان الناقة، فخرجت من بينهم كالسهم. ووعدت جميلًا يومًا أن يلتقيا في بعض المواضع فأتى لوعدها، وجاء أعرابي يستضيف القوم فأنزلوه وقروه، فقال لهم: قد رأيت في بطن هذا الوادي ثلاثة نفر متفرقين متوارين في الشجر، وأنا خائف عليكم أن يسلبوا بعض إبلكم، فعرفوا أنه جميل وصاحباه، فحرسوا بثينة ومنعوها من الوفاء بوعده، فلما أسفر الصبح انصرف كئيبًا سيئ الظن بها، ورجع إلى أهله، فجعل نساء الحي يُقرِّعنه بذلك ويَقُلن له: إنما حصلت منها على الباطل والكذب والغدر، وغيرها أولى بوصلك منها، كما أن غيرك يحظى بوصلها، فقال في ذلك:
وفي وعدها بالتلاقي وتأخرها يقول أيضًا قصيدته الرائية التي أولها:
ومنها:
ومنها:
والتقت بجميل بعد طول تهاجر كان بينهما طالت مدته، فتعاتبا طويلًا، ثم قالت له: ويحك يا جميل! أتزعم أنك تهواني وأنت القائل:
فأطرق طويلًا وهو يبكي وينتحب، ثم رفع رأسه وقال: بل أنا القائل:
فقالت: ويحك، ما حملك على هذا المعنى؟ أوليس في سعة العافية ما كفانا جميعًا؟
وسعت جارية من جواري بثينة بها إلى أبيها وأخيها، وقالت لهما: إن جميلًا عندها الليلة، فأتياها مشتملين سيفيهما، فرأياه جالسًا إليها يحدثها ويشكو إليها وجده بها وشوقه لها، ثم قال لها: يا بثينة، أرأيت ودي لك، وشغفي بك، ألا تجزينه؟ قالت: بماذا؟ قال: بما يكون بين المتحابين، فقالت له: يا جميل، أهذا تبغي؟! والله لقد كنت عندي بعيدًا منه، ولئن عاودت تعريضًا بريبة لا رأيت وجهي بعدها أبدًا. فضحك من كلامها وقال: والله ما قلت لك هذا إلا لأعلم ما عندك فيه، ولو علمتُ أنك تجيبيني إليه لعلمتُ أنك تحبين غيري، ولو رأيت منك مساعدة عليه لضربتك بسيفي هذا ما استمسك في يدي، أو هجرتك إن استطعت إلى الأبد، أوَما سمعت قولي:
فقال أبوها لأخيها: قم بنا؛ فما ينبغي بعد اليوم أن نمنع هذا الرجل من لقائها، فانصرفا وتركاهما، وقال جميل يومًا لأحد أترابه: هل لك في مساعدتي على لقاء بثينة، فمضى معه حتى كمن له في الوادي، وأرسل معه خاتمه إلى راعي بثينة ودفعه إليه، فمضى به إليها، ثم عاد بموعد منها إليه، فلما جنَّ الليل جاءته فتحدَّثا طويلًا حتى أصبحا، ثم ودَّعها وركب ناقته وهي باركة، قالت له بثينة: ادن مني يا جميل، فدنا منها وقال:
وقال كثير: لقيني جميلٌ مرة فقال لي: من أين أقبلتَ؟ قلتُ: من عند أبي الحبيبة — أعني بثينة — فقال: وإلى أين تمضي؟ قلت: إلى الحبيبة — أعني عزة — فقال: لا بد أن ترجع عودك على بدئك فتستجدَّ لي موعدًا من بثينة، فقال: عهدي بها الساعة وأنا أستحي أن أرجع، فقال: لا بد من ذلك، فقلت: فمتى عهدك بها؟ قال: في أول العيد، وقد وقعت سحابة بأسفل وادي الردم فخرجت ومعها جارية لها تغسل ثيابها، فلما أبصرتني أنكرتني وضربت بيدها إلى ثوبٍ في الماء فالتحفت به تسترًا، وعرفتني الجارية فأخبرتها فتركت الثوب في الماء وتحدَّثنا حتى غابت الشمس، وسألتها الموعد فقالت: أهلي سائرون. وما وجدت أحدًا غيرك يا كُثيِّر حتى أرسله إليها، فقال له كُثيِّر: فهل لك في أن آتي الحي فأنزع أبيات من الشعر أذكر فيها هذه العلامة إن لم أقْدِر على الخلوة بها؟
قال: ذلك الصواب، فأرسلها إليها فذهب، وقال: انتظرني حتى أعود، ثم سار حتى أناخ بهم، فقال له أبوها: ما ردَّك يا كُثيِّر؟ قال: ثلاث أبيات عرضت لي فأحببت أن أعرضها عليك، قال: هاتها، قال كُثيِّر: فأنشدته وبثينة تسمع من وراء الخدر:
فضربت بثينة صدرها وقالت: اخسأ اخسأ، فقال أبوها: مهيم يا بثينة؟ قالت: كلب يأتينا إذا نام الناس من وراء هذه الرابية، ثم التفتت إلى الجارية وقالت: أبغينا من الدومات حطبًا لنذبح لكُثيِّر شاة ونسوِّيها له، فقال كثير: أنا أعجل من ذلك، وخرج وراح إلى جميل فأخبره، فقال له جميل: الموعد الدومات بعد أن تنام الناس. وكانت بثينة قد قالت لأختها أم الحسين، وليلى ونجيا بنات خالتها: إني قد رأيت في نحو نشيد كثير أن جميلًا معه — وكانت قد أنست إليهن، واطمأنت بهن، وكاشفتهن بأسرارها — فخرجن معها، وكان جميل وكثير خرجا حتى أتيا الدومات — اسم محل — وجاءت بثينة ومن معها، فما برحوا حتى برق الصبح، فكان كثير يقول: ما رأيت عمري مجلسًا قط أحسن من ذلك المجلس، ولا مثل علم أحدهما بضمير الآخر، ولم أدر أيهما كان أفهم.
ولما نَذَرَ أهل بثينة دم جميل وأهدره لهم السلطان، ضاقت الدنيا بجميل، فكان يصعد بالليل كثيب رمل ويتنسم الريح من نحو حي بثينة ويقول:
فإذا ظهر الصبح انصرف. وكانت بثينة تقول لجوارٍ من الحي عندها: ويحكن! إني لأسمع أنين جميل من بعض الغيران، فيقلن لها: اتقي الله، فهذا شيء يخيله لك الشيطان لا حقيقة له.
واجتمع كثير بجميل يومًا فقال له: يا جميل، أترى بثينة لم تسمع بقولك:
فقال جميل: أترى عزة يا كثير لم تسمع بقولك:
قال: فبكيا ليلتهما إلى أن بزغ الصباح، ثم انصرفا.
وخرج جميل لزيارة بثينة ذات يوم، فنزل قريبًا من الماء يترصد أمَةً لبُثينة أو راعية ليتخذها واسطة لتبليغ رسالته، وإذا بأمة حبشية معها قربة واردة على الغدير لتملأها، وكانت عارفة به، ولما تبينها وتبينته سلَّمت عليه، وجلست معه، وجعل يحدثها ويسألها عن أخبار بثينة، ويخبرها بما يعانيه من ألم الفراق، ويحملها رسائله إلى بثينة، ثم أعطاها خاتمه، وسألها أن تدفعه لها، وأخذ عليها موعدًا ترجع له فيه، ومكث ينتظر رجوعها، وذهبت الجارية إلى أهلها وقد أبطأت عليهم، فلقيها أبو بثينة وزوجها وأخوها، فسألوها عما أبطأ بها، فالتوت عليهم ولم تخبرهم بشيء مما حصل لها مع جميل، وتعللت عليهم فضربوها ضربًا مبرحًا.
ومن ألم الضرب أعلمتهم حالها مع جميل، ودفعت إليهم خاتمه، وصدف أنه مرَّ بها في تلك الحالة فتيان من بني عذرة، فسمعا القصة جميعها، وعرفا الموضع الذي فيه جميل، فأحبا أن يدرآ عنه هذا الخطر، فقالا للقوم: إنكم إن لقيتم جميلًا وليست بثينة معه ثم قتلتموه لزمكم في ذلك كل مكروه — وكان أهل بثينة أعز بني عذرة — فدعوا الأمَة وأعطوها الخاتم، وأمروها أن توصله إلى بثينة، وحذَّروها من أن تخبرها بأنهم علموا القصة، ففعلت، ولم تعلم بثينة بما جرى، ومضى الفتيان فأنذرا جميلًا، وقالا: تقيم عندنا في بيوتنا حتى يهدأ الطلب، ثم تبعث إليها فتزورك وتقضي من لقائها وطرًا، وتنصرف سليمًا.
فقال: أما الآن فابعثا إليها مَن ينذرها، فأتياه براعية لهما وقالا له: قل بحاجتك، فقال: ادخلي إليها وقولي لها: إني أردت اقتناص ظبي فحذَّره ذلك جماعة اعتوروه من القناص، ففاتني الليلة، فمضت فأعلمتها ما قال لها، فعرفت قصته، وبحثت عنها ففهمتها تمامًا، فلم تخرج لزيارته تلك الليلة ورصدوها فلم تبرح من مكانها، ومضوا يقتفون أثره، فوجدوا ناقته، فعرفوا أنه قد فاتهم، وفي ذلك يقول جميل:
وقال:
ولما ضاقت برهط بثينة الحيل ائتمنوا عليها عجوزًا منهم يثقون بها يقال لها: أم منظور، فجاءها جميل وقال لها: أريني بثينة، فقالت: لا والله لا أفعل وقد ائتمنوني عليها، فقال: أما والله لا أضرنك، فقالت: المضرة والله في أن أريكها. فخرج من عندها وهو يقول:
قال: فما كان إلا قليل حتى انتهى إليهم هذان البيتان، فتعلقوا بأم منظور، فحلفت لهم بكل يمين فلم يقبلوا منها، وعاقبوها على ذلك. هكذا رواه صاحب الأغاني عن الزبير بن بكار.
وفي رواية أخرى أن رجلًا أنشد مصعب بن الزبير البيت الأول من البيتين المذكورين، فقال مصعب: لوددت أني عرفت كيف جلتها، فقيل له: إن أم منظور هذه حيَّة، فكتب في حملها إليه مُكرمة، فحُملت إليه، فقال لها: أخبريني عن قول جميل:
كيف كانت هذه الجلوة؟ قالت: ألبستها قلادة بلح ومخنقة بلح في وسطها تفاحة، وضفرت شعرها، وجعلت في فرقها شيئًا من الجلوة، ومرَّ بنا جميل راكبًا على ناقته، فجعل ينظر إليها بمؤخر عينه ويلتفت إليها حتى غاب عنا، فقال لها مصعب: فإني أقسم عليك إلا جلوت عائشة بنت طلحة مثل ما جلوت بثينة، ففعلت، وركب مصعب ناقته وجعل ينظر إلى عائشة بمؤخر عينه مثل ما فعل جميل ويسير حتى غاب عنهما، ثم رجع.
وجاء جميل إلى بثينة ليلة وقد تزيَّا بزي راعٍ لبعض الحي، فوجد عندها ضيفان لها، فانتبذ ناحية وجلس فيها، فسألته: من أنت؟ فقال: مسكين مكاتب، فعشَّتْ ضيفانها وعشَّته وحده، ثم جلست هي وجارية لها تجاه النار تصطليان، واضطجع القوم منتحين، فقال جميل:
فقالت لجاريتها: صوتُ جميلٍ والله. اذهبي فانظري، فذهبت ثم رجعت وقالت: هو — والله — جميل، فشهقت شهقة سمعها القوم فأقبلوا يجرون وقالوا: ما لك؟ فطرحت بردًا لها من حبرة في النار وقالت: احترق بردي، فرجع القوم، وأرسلت جاريتها إلى جميل فجاءتها به، فحبسته عندها ثلاث ليالٍ، ثم ودَّعها وخرج.
ورصدها ليلة في نجع لبني عذرة حتى إذا صادف منها فرصة وهي مارة مع أترابها في ليلة ظلماء ذات رعود وأمطار فحذفها بحصاة، فأصابت بعض أترابها ففزعت وقالت: والله ما حذفني في مثل هذا الوقت إلا الجن، فقالت لها بثينة — وقد فطنت: انصرفي إلى منزلك حتى نذهب إلى النوم، فانصرفت وبقي مع بثينة أم الحسين وأم منظور، فقامت إلى جميل فأخذته إلى الخباء معها وتحدثا طويلًا، ثم اضطجع واضطجعت إلى جانبه، فذهب بهما النوم حتى أصبحا وجاءها غلام زوجها بصبوح من اللبن بعث به إليها زوجها — يظهر من تواريخ العرب أنهم كانوا على الطريقة التي اتخذها الإفرنج في وقتنا هذا بأن الزوج لا يرقد وزوجته في محل واحد، بل كل منهما في محل.
فلما رآها نائمة مع جميل مضى لوجهه حتى يخبر سيده، فرأته ليلى والصبوح معه — وكانت قد عرفت خبر بثينة وجميل — فاستوقفته كأنها تسأله عن حاله، وبعثت بجاريتها لها وقالت: حذِّري بثينة وجميلًا، فجاءت الجارية فنبهتهما، فلما تبينت بثينة الصبح قد أضاء والناس منتشرين ارتاعت وقالت: يا جميل، نفسك نفسك؛ فقد جاءني غلام زوجي بصبوحي من اللبن فرآنا نائمين، فقال لها وهو غير مكترث لما خوفته منه:
فأقسمت عليه أن يلقي نفسه تحت النضد وقالت: إنما أسألك ذلك خوفًا على نفسي من الفضيحة لا خوفًا عليك، ففعل ما أمرته به، ونامت كما كانت وأضجعت أم الحسين إلى جانبها، وذهبت خادمة ليلى وأخبرتها الخبر، فتركت العبد يمضي إلى سيده، فمضى والصبوح معه وقال: إني رأيت جميلًا مع بثينة في فراش واحد مضطجعًا إلى جانبها، فمضى إلى أخيها وأبيها وأخبرهم الخبر، وأخذهما وأتى بهما إلى خباء بثينة وهي نائمة، فكشفوا عنها الثوب فإذا أم الحسين إلى جانبها نائمة، فخجل زوجها وسبَّ عبده، وقالت ليلى لأخيها وأبيها: قبَّحكما الله؛ أفي كل يوم تفضحان فتاتكما، ويلقاكما هذا الأعور فيها بكل قبيح — قبَّحه الله وقبَّحكما معه؟ وجعلا يسبَّان زوجها ويقولان له كل قول قبيح.
وأقام جميل عند بثينة حتى جنَّ الليل ثم ودعها وانصرف، وخافت بثينة مما جرى فتحامت منه مدة، فقال في ذلك:
وهي قصيدة طويلة منها قوله:
ولما اشتهرت بثينة بحب جميل إياها اعترضه عبيد الله بن قطنة بني الأحب — وهو من رهطها الأقربين — فهجاه، وبلغ ذلك جميلًا فأجابه، وتطاولا فغلبه جميل، وكفَّ عنه ابن قطنة، واعترضه عمير بن رمل — رجل من بني الأحب — أيضًا، وإياه عنى جميل بقوله:
قال: فاستعدوا عليه عامر بن ربعي — وكان الحاكم على بلاد عذرة — وقالوا: يهجونا ويغشى بيوتنا، وينسب بنسائنا، فأباحهم دمه، وطُلب فهرب، وغضبت عليه بثينة لهجائه أهلها جميعًا، فقال جميل:
وبعد ذلك بمُدة وقَع الصلح بينه وبينها، وأخذ منها موعدًا للقائه، فوجدوه عندها، فأعذروا إليه وتوعدوه وكرهوا قتله خوفًا من أن ينشب بينهم وبين قومه حرب بدمه، وكان قومه أشد بأسًا من قوم بثينة، فأعادوا شكواه إلى السلطان، فطلبه طلبًا شديدًا، فهرب إلى اليمن فأقام بها مدة. ومن شعره وهو في اليمن:
ولم يزل في اليمن إلى أن عُزل ذلك الوالي وانتقل أهل بثينة إلى ناحية الشام، فرجع إليهم، فشكا أكابر الحي إلى أبيه — وكان ذا مال وفضل وقدر في أهله — فناشدوه الله والرحم، وسألوه كف ابنه عن فتاتهم وعن تشبُّبه بها وما يفضحهم به بين الناس، فوعدهم كفه ومنعه ما استطاع، ثم انصرفوا فدعا به وقال له: يا بني، حتى متى أنت أعمى في ضلالك، ألا تأنف من أن تتعلق في ذات بعل يخلو بها وأنت عنها بمعزلٍ تغرُّك بأقوالها وخداعها، وتُريك الصفاء والمودة وهي مضمرة لبعلها ما تضمره الحرة لمن ملكها، فيكون قولها لك تعليلًا وغرورًا، فإذا انصرفت عنها عادت إلى بعلها على حالتها المبذولة؟ إن هذا لذل وضيم، وما أعرف أخيب سهمًا، ولا أضيع عمرًا منك؛ فأنشدك الله إلا كففت وتأملت في أمرك؛ فإنك تعلم أن ما قلته حق، ولو كان إليها سبيل لبذلتُ ما أملكه فيها، ولكن هذا أمر قد فات، واستبدَّ به من قُدِّر له، وفي النساء عِوض، فقال له جميل: الرأي ما رأيت، والقول كما قلت، ولكن هل رأيت قبلي أحدًا قدر أن يدفع هواه عن قلبه، أو ملك أن يسلي نفسه، أو استطاع أن يدفع ما قُضي عليه. والله لو قدرت أن أمحو ذكرها من قلبي، أو أزيل شخصها عن عيني لفعلتُ، ولا سبيل إلى ذلك، وإنما هو بلاء بُليتُ به لحين قد أتيح لي، ولكن أنا أمتنع من طروق هذا الحي والإلمام به ولو مِتُّ كمدًا، وهذا جهدي ومبلغ ما أقدر عليه. وقام وهو يبكي، فبكى أبوه ومَن حضر جزعًا لما رأوا منه من حب بثينة، ثم أنشد:
والتقى جميل بعمر بن أبي ربيعة فقال له: يا جميل، قم بنا نذهب إلى زيارة بثينة. قال: قد أهدر لهم السلطان دمي إن وجدوني عندها، وهاتيك أبياتها؛ فاذهب إليها، فأتاها عمر حتى وقف على أبياتها فقال: يا جارية، أنا عمر بن أبي ربيعة، فأعْلِمي بثينة مكاني، فأعلمتها فخرجت إليه في مباذلها وقالت: والله يا عمر لا أكون من نسائك اللاتي يزعمن أن قد قتلهن الوجدُ بك، فانكسر عمر وقال لها قول جميل:
فقالت: إنه استملى منك فما أفلح، وقد قيل: اربط الحمار مع الفرس؛ فإن لم يتعلم من جريه تعلم من خلقه، فخجل من قولها وانصرف.
ولما ضاقت بجميل الحيل وأراد الخروج إلى الشام، هجم ليلًا على بثينة وقد وجد غفلة في الحي، فقالت له: أهلكتني والله، وأهلكت نفسك، ويحك أما تخاف؟! فقال لها: هذا وجهي إلى الشام، وإنما جئتُك مُودِّعًا، فحادثها طويلًا ثم ودَّعها وقال: يا بثينة، ما أرانا نلتقي بعد هذا، وبكى بكاءًا طويلًا وبكتْ، ثم قال وهو يبكي:
وخرج إلى الشام وطال غيابه فيها، ثم قدم وبلغ بثينة خبره، فراسلته مع بعض نساء الحي تذكر شوقها إليه، ووجدها به، وطلبها للحيلة في لقائه، وواعدته لموضع يلتقيان فيه، فسار إليها وحدَّثها، وبثَّ إليها أشواقه، وأخبرها خبره بعدها. وقد كان أهلها رصدوها، فلما فقدوها تبعها أبوها وأخوها حتى هجما عليهما، فوثب جميل وانتضى سيفه وشدَّ عليهما، فاتقياه بالهرب، وناشدته بثينة بالله إلا انصرف، وقالت له: إن أقمت فضحتني، ولعل الحي أن يلحقوا بك، فأبى وقال: أنا مقيمٌ، وامضِ أنتِ، وليصنعوا بي ما أحبوا، فلم تزل تنشده حتى انصرف. وقد هجرته وانقطع التلاقي بينهما مدة، وفي ذلك يقول:
وأقام مرة لا يلم بها، ثم لقي ابني عمه روقًا ومسعدًا، فشكا إليهما ما به وأنشدهما قوله:
فقال له رَوْق: إنك لعاجز ضعيف في استكانتك لهذه المرأة، وتركك الاستبدال بها مع كثرة النساء ووجود من هو أجمل منها، وإنك منها بين فجور أرفعك عنه، أو ذلٍّ لا أحبه لك، أو كمَدٍ يؤديك إلى التلف، أو مخاطرة بنفسك لقومها إن تعذرت لهم بعد إعذارهم إليك. وإن صرفتَ نفسك عنها، وغلبت هواك فيها، وتجرعت مرارة الحزم، وتصبر نفسك عليها، طائعة أو كارهة؛ ألِفْتَ ذلك وسلَوتَ.
فبكى جميل وقال: يا أخي، لو ملكت اختياري لكان ما قلت صوابًا، ولكني لا أملك لي اختيارًا، ولا أنا إلا كالأسير لا يملك لنفسه نفعًا، وقد جئتك لأمر أسألك أن لا تكدر ما رجوته عندك فيه بلوم، وأن تحمل على نفسك في مساعدتي.
فقال له: فإن كنت لا بد مهلكًا نفسك فاعمل على زيارتها ليلًا؛ فإنها تخرج مع بنات عم لها إلى ملعب لهن، فأجيء معك حينئذٍ سرًّا، ولي أخ من رهط بثينة من بني الأحب نأوي عنده نهارًا، فأسأله مساعدتك على هذا، فتقيم عنده أيامًا نهارك، وتجتمع معها بالليل إلى أن تقضي أربك. فشكره، ومضى روق إلى الرجل الذي من رهط بثينة فأخبره الخبر، واستعهده كتمانه، وسأله مساعدته فيه، فقال له: لقد جئتني بإحدى العظائم، ويحك! إن في هذا معاداتي الحي جميعًا إن فطن به، فقال: أنا أتحرز في أمره من أن يظهر، فواعده في ذلك، ومضى إلى جميل فأخبره بالقصة، فأتيا الرجل ليلًا فأقاما عنده، وأرسل إلى بثينة بوليدة له بخاتم جميل، فدفعتْه إليها، فلما رأته عرفت فتبعتها وجاءته، فتحدثا ليلتهما، وأقام بموضعه ثلاثة أيام ثم ودَّعها وقال لها: عن غير قلًى — والله — ولا ملل يا بثينة كان وداعي لك، ولكني قد تذممت من هذا الرجل الكريم، وتعريضه نفسه لقومه، وقد أقمت عنده ثلاثًا، ولا مزيد على ذلك. ثم انصرف وقال في عذل رَوْق له:
قيل: وقع بين بثينة وجميل هجْرٌ في غيرة — كان غار عليها من فتى كان يتحدث إليها من بني عمها — فكان جميل يتحدث إلى غيرها، فيشق ذلك على بثينة وعلى جميل، وجعل كل واحد منهما يكره أن يبدي لصاحبه شأنه، فدخل جميل يومًا وقد غلب عليه الأمر إلى البيت الذي كان يجتمع فيه مع بثينة، فلما رأته جاءت إلى البيت ولم تبرز له، فجزع لذلك وجعل كل واحد منهما يطالع صاحبه وقد بلغ الأمر من جميل كل مبلغ؛ فأنشأ يقول:
فرقَّت له بثينة وقالت لمولاة لها كانت معها: ما أحسن الصدق بأهله! ثم اصطلحا، فقالت له: أنشدني قولك:
فأنشدها إياها فبكَتْ وقالتْ: كلَّا يا جميل، ومن ترى أنه يروقني غيرك؟
وروى بعضهم عن عجوز من بني عذرة قالت: كنا على ماء لنا بالجناب وقد تجنبنا الجادة لجيوش كانت تأتينا من قِبَل الشام تريد الحجاز، وقد خرج رجالنا لسفر وخلفوا معنا أحداثًا، فانحدروا ذات عشية إلى صرم قريب منا يتحدثون إلى جوارٍ منهم، فلم يبق غيري وغير بثينة، إذ انحدر علينا منحدر من هضبة تلقَّانا فسلَّم ونحن مستوحشون وَجِلون، فتأملته ورددت السلام؛ فإذا جميل، فقلت: أجميل؟ قال: إي والله، وإذا به لا يتماسك جوعًا، فقمت إلى قَعْبٍ لنا فيه أقِطٌ مطحون وإلى عُكَّة فيها سمن ورُبٌّ، فعصرتها على الأقط ثم أدنيتها منه وقلت: أصِبْ من هذا، فأصاب منه، وقمت إلى سقاء فيه لبن فصببت عليه ماء باردًا فشرب منه، وتراجعت نفسه فقلت له: لقد بلغت ولقيت شرًّا، فما أمرك؟ قال: أنا — والله — في هذه الهضبة التي ترين منذ ثلاث ما أريمها أنتظر أن أرى فرجة، فلما رأيت منحدر فتيانكم أتيتُكم لأودِّعَكم، وأنا عامد إلى مصر، فتحدثنا ساعة، ثم ودَّعنا وشخَص، فلم تطل غيبته أن جاء ناعيه.
روي عن رجل كان شاهد جميلًا لما حضرته الوفاة بمصر قال: إنه دعاه فقال: هل لك في أن أعطيك كل ما أخلفه على أن تفعل شيئًا أعهده إليك؟ قال: فقلت: اللهم نعم، قال: إذا أنا متُّ فخذْ حُلَّتي هذه التي في عَيبَتي فاعزلها جانبًا، ثم كل شيء سواها لك، وارحل إلى رهط بني الأحب من عذرة — وهم رهط بثينة — فإذا صرت إليهم فارتحل ناقتي هذه واركبها، ثم البس حُلَّتي هذه واشققها، ثم اعلُ على شرفٍ وصِحْ بهذه الأبيات وخلَاك ذَمٌّ. ثم أنشدني هذه الأبيات:
قال: فلما قضى وواريته أتيت رهط بثينة ففعلت ما أمرني به جميل، فما استتمت الأبيات حتى برزت إليَّ امرأة يتبعها نسوة قد فرعتهن طولًا، وبرزت أمامهن كأنها بدر قد برز في دجنة وهي تتعثر في مرطها، حتى أتتني فقالت: يا هذا، والله لئن كنت صادقًا لقد قتلتني، ولئن كنت كاذبًا لقد فضحتني، قلت: والله ما أنا إلا صادق، وأخرجت حلته، فلما رأتها صاحت بأعلى صوتها، وصكَّت وجهها، واجتمع نساء الحي يبكين معها ويندبنه حتى صعقت، فمكثت مغشيًّا عليها ساعة ثم قامت وهي تقول:
وقيل: إنها كررت هذين البيتين حتى ماتت بعد ثلاثة أيام من سماعها بموت جميل، وله فيها أشعار كثيرة، ولو أنه لم يقل فيها سوى هذين البيتين لكفاها شهرة وفخرًا، وهما قوله من قصيدة طويلة — هي من ضمن أشعاره:
بثينة ابنة المعتمد بن عباد
أمها الرميكية. كانت بثينة هذه نحوًا من أمها في الجمال والنادرة ونظم الشعر، ولما أحيط بأبيها ووقع النهب في قصره كانت من جملة من سُبِي، ولم يزل المعتمد والرميكية عليها في ولَهٍ دائم لا يعلمان ما آل إليه أمرها إلى أن كتبت إليهما، وكان أحد تجار «إشبيلية» اشتراها على أنها جارية ووهبها لابنه، فنظر في شأنها وهيئت له، فأراد الدخول عليها فامتنعت وأظهرت نسبها، وقالت: لا أحلُّ لك إلا بعقد، وإن أذنت بمخاطبة والديَّ بذلك فعلت، وإني أحبُّ أن أكون قرينتك في سُنَّة الله تعالى. فوقع عنده كلامها موقعًا عظيمًا، وداخله سرور زائد لكونه صاهر المعتمد بن عباد وإن كان في نكبته، وأذن لها بما أرادت، فكتبت لأبيها تستأذنه. وكان الذي كتبته بخطها ما صورته:
فلما وصَل شِعْرها لأبيها وهو بأغمات واقعٌ في شِراك الكروب والأزمات سُرَّ هو وأمها بحياتها، ورأيا أن ذلك للنفس من أحسن أمنياتها؛ إذ علما ما آل إليه أمرها، وجبر كسرها، إذ ذاك أخف الضررين، وإن كان الكرب قد ستر القلب منه حجاب، وأشهد على نفسه بعقد إنكاحها من الشاب المذكور، وكتب إليها أثناء كتابه:
وأخبار المعتمد بن عباد تذيب الأكباد، وقد أضربنا عنها خوف الخروج عن الموضوع.
بدور، وقيل: قدور الساحرة
هي امرأة مصرية ساحرة كانت في زمان دلوكة، وكانت السحرة تعظمها وتقدمها، ولما حل ما حل بفرعون والمصريين من الغرق في البحر الأحمر عند اتباعهم بني إسرائيل، ولم يعد في مصر من الرجال المقدمين والأبطال مَن يقدر على حفظ البلاد؛ بعثت دلوكة إلى بدور تقول لها: إننا قد احتجنا إلى سحرك، وفزعنا إليك، ولا نأمن أن يطمع فينا الملوك؛ فاعملي لنا شيئًا نغلب به من حولنا. وقد كان فرعون يحتاج إليك، فكيف وقد ذهب أكابرنا وبقي أقلنا؟!
فبنت بدور بَرْبي من حجارة في وسط مدينة منف، وجعلت لها أربعة أبواب إلى جهة القبلي والبحري والشرق والغرب، وصوَّرت فيه صور الخيل والبغال والحمير والسفن والرجال، وقالت لهم: قد عملتُ لكم عملًا يهلك به كل من أرادكم من أي جهة تُؤتَون منها برًّا وبحرًا، وهذا يغنيكم عن الحصن، ويقطع عنكم مؤنة من أتاكم من كل جهة، فإنهم إن كانوا في البر على خيل أو بغال أو إبل، أو في سفن أو رجالة، تحرَّكت هذه الصور؛ فيصيبهم في أنفسهم. قيل: ولم تزل تلك العجوز تدبر مصر نحو أربعمائة سنة، وكلما انهدم من تلك البَرْبي شيء لم يقدر على إصلاحه إلا هي أو ولدها أو ولد ولدها، ولما انقرض بيتها تهدمت البربي ولم يقدر أحد على إصلاحها (ذكر ذلك المقريزي).
بديعة ابنة السيد سراج الدين الرفاعي
كانت ذات عرفان ويقين وبكاء وحنين. أخذت عن أبيها، وسمع منها الإمام محمد الوتري وغيره، وحدَّثت ولها شعر عجيب، ومنه قولها في مدح النبي ﷺ:
ولها كرامات ومناقب وأحوال ظاهرة، وكانت من الحياء والدين وعلم الشريعة بمنزلة رفيعة، وتوفيت — رضي الله عنها — سنة ٨٩٠ هجرية.
بذل المغنية
هي من مولدات المدينة. رُبِّيتْ بالبصرة، وهي من المتقدمات الموصوفات بكثرة الرواية للأغاني، قيل: كانت تغني ثلاثين ألف صوت، ولها كتاب في الأغاني يشتمل على ١٢ ألف صوت، وكانت ظريفة الوجه، لطيفة المحاضرة، وأخذت عن أبي سعيد مولى فائد، ورحمانة، وفليح، وابن جامع، وإبراهيم الموصلي وطبقتهم، وقرأت على جحظة البرمكي، واشتراها جعفر بن محمد الهادي، فوصفت لمحمد الأمين بن الرشيد، فبعث إلى جعفر يسأله أن يُريَه إياها فأبَى، فزاره محمد إلى بيته فسمع شيئًا لم يسمع مثله، فقال لجعفر: يا أخي، بعني هذه الجارية.
فقال: يا سيدي، مثلي لا يبيع جارية، قال: فهبها لي، قال: هي مدبرة منزلي، فاحتال عليه محمد حتى أسكره، وأمر ببذل فحُملت معه إلى الحراقة وانصرف بها، فلما انتبه جعفر سأل عنها، فأُخبر بخبرها فسكت، فبعث إليه محمد من الغد فجاءه وبذل جالسة، فلم يقل شيئًا، فلما أراد جعفر أن ينصرف قال محمد: أوقروا حراقة ابن عمي دراهم فأوقرت. قيل: كان مبلغ المال ألف ألف درهم، وبقيت بذل في دار محمد إلى أن قُتل، ثم خرجت، فكان ولد جعفر وولد محمد يدَّعون ولاءها، فلما ماتت ورثها عبد الله بن محمد الأمين.
وقيل: وهب لها محمد من الجواهر شيئًا لم يملك أحد مثله، فكانت تخرج منه الشيء بعد الشيء فتبيعه بالمال العظيم، فكان ذلك معتمدها مع ما يصل إليها من الخلفاء إلى أن ماتت وعندها منه بقية عظيمة، ولم تقبل أن تتزوج.
وقد رغب إليها وجوه القواد والكتاب والهاشميين، وكان يهواها علي بن هشام ويكتم ذلك، وهجرته مدة فاسترضاها، وكان إبراهيم بن المهدي يُعظِّمها ويتوافَى لها، ثم تغير بعد ذلك استغناءً بنفسه عنها، فسارت إليه فدَعَت بعودٍ وغنَّت في طريقة واحدة، وإيقاع واحد، وأصبع واحدة مائة صوت — لم يعرف إبراهيم منها صوتًا واحدًا — ثم وضعت العود وانصرفت، فلم تدخل داره بعد ذلك حتى طال طلبه لها، وتضرعه إليها في الرجوع إليه.
وقيل: إن إسحاق بن إبراهيم الموصلي خالف بذلَ في نسبة صوت غنته بحضرة المأمون، فأمسكت عنه ساعة ثم غنت ثلاثة أصوات وسألت إسحاق عن صانعها، فلم يعرفه، فقالت: والله، يا أمير المؤمنين، هي لأبيه، أخذتُها مِن فيه، فإذا كان هذا لا يعرف غناء أبيه، فكيف يعرف غناء غيره؟ فاشتد ذلك على إسحاق حتى رُؤِي في وجهه.
برقا جارية علاء الدين البصري
قال الرياشي: اشترى علاء الدين البصري جارية على أرفع ما يكون من الجمال والفصاحة، فكلف بها — وكان مُسرفًا — فأنفق ماله عليها ولم يُبقِ شيئًا، فأشارت عليه بأن يبيعها شفقةً عليه، فلما حضر بها إلى السوق أُخذت على ابن معمر، وكان عاملًا على البصرة، فاشتراها بمائة ألف درهم، فلما قبض المال وهم بالانصراف أنشدت:
فاشتد بكاء مولاها وأنشد:
فقال ابن معمر: قد شئتُ؛ خذها ولك المال، فانْصَرِفا راشدينِ، فواللهِ لا كنتُ سببًا لفرقة مُحبَّين — انظر إلى كرم هذا الأمير — وبقيت عند مولاها إلى أن ماتت وهما في نعمة وأمان، وقد أعاد الله لهما سعدهما، وبقيا أحسن مما كانا عليه حين اشتراها.
بربارة القديسة
كانت عذراء ذات شهرة معتبرة في الكنيسة اليونانية والرومانية يقال: إنها نالت إكليل الشهادة في «إليوبوليس» سنة ١٣٠٦ للميلاد، وفي «نيقومديا» من «بشينيا» سنة ١٢٣٥م، وإنها ولدت في «إليوبوليس» من مصر من أبوين وثنيين، وإن أباها حبسها في برج خوفًا من أن تؤخذ منه لجمالها البارع، فبينما كانت في الحبس سمعت بوعظ «أوريجانوس»، فكتبت إليه طالبةً منه أن يُعلِّمها الديانة المسيحية، فأرسل إليها أحد تلاميذه فعلَّمها الديانة المسيحية وعمَّدها.
وقيل: إنه لما بلغ أباها ذلك سلَّمها إلى الوالي، فعذبها عذابًا مبرحًا، فتهيأ لها الهرب إلى أحد الجبال، فجد في طلبها والدُها إلى أن أدركها، فاحتزَّ بالسيف رأسها، ويقال: إنه أصيب وهو راجع بصاعقة مات بها قصاصًا له؛ ومن ثم اتخذت محامية للملاحين في النوء وللطبجية. وتُصوَّر غالبًا وبجانبها برج، ولها عيد يحتفل به في ٤ كانون الأول، ومن عادة أهالي الشرق أن يتخذوا ليلة عيدها حلويات من قطائف وعوَّامات ونحوها، وأن يطوفوا على البيوت مساخر مؤلفة من أولاد ورجال قد غيروا زيهم، وصبغوا وجوههم بالسواد، ولا يعلم بالتحقيق أصل هذه العادة، وربما كانت تذكار سعي أبيها مع جماعة من الشُّرط في طلبها، وربما كان الشُّرط من السودان، فيكون ذلك أصلًا لصبغ الوجوه بالسواد.
برنيقة ابنة لاغوس وأنتيفونة
كانت من أجمل وأعقل نساء زمانها صاحبة رأي صائب، وفكر ثاقب. ولما تزوَّج «بطليموس الأول» ﺑ «أورديفي» بنت ملك سوريا توجَّهت في موكبها «برنيقة»، وكان لها احتفال عظيم، ومن جمالها ومهارتها وإتقانها تزوَّج بها «بطليموس» وصارت زوجة ثالثة له، وأقنعته بأن يجعل ابنها «بطليموس فيلازلفوس» خليفة له دون ابن آخر له أكبر منه من «أورديفي»، وقد شهَر حكمتها وفضلها كلٌّ من «جلوترخوس» و«شيوكرأتوس»، وبعد وفاتها قضى بها بإكرامات إلهية.
برنيقة ابنة بطليموس الثاني
الملقب «فيلازلفوس» وزوجة «أنطيوخس الثاني»، ملك سوريا الملقب ﺑ «توس»؛ فإن «أنطيوخس» عقد معاهدة سنة ٢٩٤ قبل الميلاد قَبِل بموجبها أن يطلق زوجته «لبوديكة» ويتزوج «برنيقة»، لكن عند موت «فيلازلفوس» بعد ذلك بسنتين؛ أرجع «أنطيوخس» «لبوديكة» وطلق «برنيقة» في دورها، ولكن «لبوديكة» لم تركن إلى «أنطيوخس» فدسَّت إليه سمًّا مات به، وهربت «برنيقة» من وجه «لبوديكة» إلى دفنَى، فقتلها هناك مع ابنها وأتباعها قومٌ من حزب «لبوديكة».
برنيقة ابنة ماغاس ملك القيروان
هي زوجة «بطليموس الثالث»، ملك مصر الملقب «أفرجيتس»، وعذبها أبوها «بطليموس» هذا، ومات بعد ذلك بقليل. وأما أمها فكانت راغبة جدًّا عن اتخاذ هذا القرين لابنتها، ولكي تمنع تزويجها به عرضتها على «ديمتريوس بوليورستس»، ولكن عند وصول «ديمتريوس» إلى القيروان ليتَّخذها زوجة علق قلب أمها به، فغاظ «برنيقة» تفضيل «ديمتريوس» لأمها عليها، فسعت في قتله وهو على ذراعي الملكة، وحينئذٍ ذهبت إلى مصر وتزوجت ﺑ «أفرجيتس»، وعند رجوع زوجها من سفره إلى سوريا، وإيفاء لنذرٍ كانت نذرته قدَّمت شعرها إلى الزهرة. ولما علم «بطليموس الرابع»، الملقب ﺑ «فيلوباتر»، هذه التقدمة أمر بقتلها، فقتلت، وذلك عند جلوسه على سرير الملك.
برنيقة ابنة بطليموس الثامن
المُلقَّب «لاسيروس» ملك مصر وتسمى أيضًا «كليوباترا»، وهي زوجة إسكندر الثاني، أي «بطليموس العاشر». أجلسها أهل الإسكندرية على تخت الملك بعد وفاة أبيها سنة ٨١ قبل الميلاد، فقَبِل إسكندر الذي جعل ملكًا ﻟ «سلابان» بأن يتخذها زوجة ويشاركها في الملك، إلا أنه بعد أن تزوج بها بتسعة عشر يومًا سعى في قتلها، ويقال: إن ذلك غاظ أهالي الإسكندرية جدًّا، فخرجوا عليه وقتلوه.
برنيقة ابنة بطليموس الحادي عشر
الملقب ﺑ «أفليتس» وهي أكبر أخت ﻟ «كليوباترا» المشهورة. نودي باسمها ملكة عند خلع أبيها سنة ٥٨ قبل الميلاد، وكانت تحب أن تتزوج بأميرٍ من دم ملكي، فأرسلت إلى سوريا في طلب «سلوقس كببوساكتس» الذي كان يدَّعي أنه من سلالة السلوقيين الملكية، ولما وجدت ما كان عليه من الدناءة أمرت بخنقه بعد ذلك بأيامٍ قليلة، ثم تزوجت ﺑ «أرخيلاوس» من «كومونا»، الذي كان يدَّعي أنه ابن «متريداتس أوباتور». وإن «أفلوس غابينوس» الذي كان يحاول رد «أفليتس» إلى تخت الملك حاربها فكسرها هي وزوجها في ثلاث معارك متوالية سنة ٥٥ قبل الميلاد، وقتل «أرخيلاوس». وأول أعمال «أفليتس» بعد جلوسه على تخت الملك أنه أمر بقتل ابنته المذكورة.
برنيقة ابنة كوستوبارس وسالومي
هي أخت «هيرودس» الكبير، ملك اليهودية. تزوجت بابن عمها «أرسطو بولس» فعيَّرها «أرسطو بولس» بدناءة أصلها، فشكته إلى أمها، فزاد بذلك العدوان على زوجها. وبعد أن قتل سنة ٦ قبل المسيح تزوجت ﺑ «ثوربون» خال «أنتيياتر»، وهو أكبر ابن ﻟ «هيرودس»، وبعد وفاة «ثوربون» ذهبت مع أمها إلى رومية، وبقيت هناك إلى أن أدركتها المنية. وهي أم «أغريبال الأول».
برنيقة ابنة أغريبال الأول
تزوجت «هيرودس» ملك «كلخيدة» فرزقت منه ولدين، وعند موته سنة ٤٧ بعد الميلاد بقيت مع أخيها «أغريبا» مدة، ثم تزوجت ﺑ «وليمون» ملك «كليكية»، ثم تركته. وكانت مقيمة في بيت أخيها عندما احتج «بولس» الرسول أمامه في قيسريا. وفي حصار أورشليم، رآها «نيطس» فسبَاه حسنُها، فأخذها معه إلى رومية، فرغب أن يتزوج بها، ولكن اضطره الرأي العام في رومية إلى إرجاعها إلى اليهودية ضد إرادته وإرادتها. وقد بنى «راسين» على فراقهما تراجيدية مشهورة.
بريجيتا القديسة
ولدت في «أسوج» سنة ١٣٠٢ للميلاد، وتوفيت في «رومية» في ٢٣ تموز سنة ١٣٧٣م، ويظن أنها ابنة «برجر» — وهو برنس أسوجي من سلالة ملوك الغطيط — ولما كان عمرها ١٦ سنة تزوجت ﺑ «أولغو»، فكان لها منه ثمانية أولاد، والكبيرة منهم جعلت في درج القديسين الروماني باسم القديسة «كاترينا» الأسوجية، ثم نذر الوالدان العفَّة، وبنيا مستشفى خيرية كانا يخدمان فيه بنفسهما، وسافرا لزيارة «سنتياغوري كومبستلا»، وبينما كانا راجعين عزم «أولغو» على دخول ديري «الفستري»، وتوفي سنة ١٣٤٤م، وحينئذٍ قسمت زوجته الأملاك بين أولادها، وبنت ديرًا كبيرًا في «روستينا» جعلت فيه ٢٥ راهبًا، وستين راهبة، وذلك على قانون مار «أوغسطنيوس»، فصرفت هناك سنتين منفردة لا تقابل أحدًا، ثم ذهبت إلى رومية فبنت هناك منزلًا للمسافرين والطلبة من الأسوجيين.
وذهبت إلى أورشليم لزيارة الأماكن المقدسة، ثم رجعت إلى رومية فثبتها البابا «بونيفاشيوس التاسع» سنة ١٣٩١م، والكنيسة الروماينة تُعيِّد لها في ٨ تشرين الأول. وكانت «بريجيتا» مشهورة في «رومية» — على الأكثر — بواسطة إعلاناتها، وعلى الخصوص المتعلقة بآلام يسوع المسيح، والحوادث التي كانت مزمعة أن تجري في بعض الممالك، وقد كتبت عن لسانها، ولكن طعن «برسون» في تلك الأخبار بعبارات قاسية، إلا أن مجمع باسل ثبَّتها بعد أن فحصها بالتدقيق «جون دوترا كريماتا». ومن جملة كتاباتها: خطاب في مدح مريم العذراء، وصلوات عن أم المسيح ومحبتها.
بريرة مولاة عائشة
بنت أبي بكر الصديق — رضي الله عنهما — وكانت مولاة لبعض بني هلال، وقيل: كانت مولاة لأبي أحمد بن جحش، وقيل: كانت مولاة أناس من الأنصار فكاتبوها ثم باعوها من عائشة، فأعتقتها، ولما أرادت عائشة أن تشتري بريرة اشترطوا عليها الولاء، فقال النبي ﷺ: «الولاء لمن أعطى الثمن.» أو «لمن ولي النعمة.» وكان اسم زوجها مغيثًا وكان مولًى فخيَّرها رسولُ الله فاختارت فراقه، وكان يحبُّها، فكان يمشي في طرق المدينة وهو يبكي، واستشفع إليها برسول الله، فقال لها فيه فقالت: أتأمر؟ قال: «بل أشفع.» قالت: فلا أريده، وكان عبدًا، وقد جعل النبيُّ عدَّة بريرة حين فارقها زوجها عدة المطلقة.
وروي عن عبد الملك بن مروان أنه قال: كنت أجالس بريرة بالمدينة فكانت تقول لي: يا عبد الملك، إني أرى فيك خصالًا، وإنَّك لخليق أن تلي هذا الأمر؛ فإن وليته فاحذر الدماء، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الرجل ليدفع عن باب الجنة بعد أن ينظر إليها بملء محجمة من دم يريقه من مسلم بغير حق.»
بركة خوند والدة السلطان الأشرف
كانت أمة مولدة، فلما أقيم ابنها في مملكة مصر عظُم شأنها، وحجت سنة ٧٧٠م بتجمل كثير، وبرج زائد، وعلى محفتها العصائب السلطانية، والكئوسات تدق معها، ومعها ما يجل وصفه من ذلك قطار جمال محملة مخائر، قد زرع فيه البقل والخضراوات، وعند قدومها خرج السلطان بعساكره إلى لقائها، وسار إلى البويب حتى تقابل معها، وسار بركابها حتى وصلت إلى مصر.
وكانت خيِّرة عفيفة لها برٌّ كثير ومصروف، تحدث الناس بحجتها عدة سنين لما كان لها من الأفعال الجميلة في تلك المشاهد الكريمة. وكان لها اعتقاد في أهل الخير، ومحبة في الصالحين. ومن مآثرها: المدرسة المشهورة بمدرسة أم السلطان خارج باب زويلة بقرب القلعة بمصر — يعرف خطها الآن بخط التبانة — وكان موضعها مقبرة أنشأتها سنة إحدى وسبعين وسبعمائة، وعملت بها درسًا للشافعية، ودرسًا للحنفية، وعلى بابها حوض ماء للسبيل، وهي من المدارس الجليلة، وفيها دفن الملك الأشرف بعد قتله، وبقيت مدة تجتمع فيها الطلبة والمدرسون يدرسون فيها جميع العلوم، حتى صارت أخيرًا جامعًا بمعرفة أحد ولاة مصر، وهو مقام الشعائر لغاية الآن.
وتوفيت الست المشار إليها سنة ٧٧٤ هجرية، ودفنت بمدرستها المذكورة، واتفق حين ماتت أنه أنشد الأديب شهاب الدين أحمد بن يحيى الأعرج هذين البيتين:
فكان كما قال، وغرق الحائل يوسف في شهر محرم سنة ٧٧٥ﻫ.
برة ابنة عبد المطلب الهاشمية
كانت من الشاعرات الأديبات ذوات المعاني الرائقة، والألفاظ الموزونة المتناسقة، رثت أباها عبد المطلب في حال حياته مع أخواتها بناءً على طلبه بقولها:
بصيص جارية ابن نفيس
كانت أعجوبة وقتها في الحسن والغناء، ويتمنى كل من سمع بها رؤيتها ولو بذهاب نفسه، ولشدة رغبة الناس في سماع صوتها قال بعضهم هذه الأبيات:
وتذاكروا بخل مزيد أبي إسحاق في مجلسها يومًا — وكان من جملتهم ابن مصعب — فقالت: أنا آخذ منه درهمًا، فقال مولاها: إن فعلت جعلتك حرة، وكسوتُك ثوب وشي، وأولمت لك يومًا، فقالت: ارفع الغيرة، فقال: إن رفع رجليك لم أقل شيئًا، فخرج ابن مصعب فرآه في مسجد بالمدينة فقال له: يا أبا إسحاق، أما تحب أن ترى «بصيص» جارية ابن نفيس؟ فقال: امرأتي طالق إن لم يكن الله ساخطًا عليَّ فيها، وإن لم أكن أسأله أن يُرينيها منذ سنة فما يفعل.
فقال له: اليوم إذا صليت العصر فوافني ها هنا، قال: امرأتي طالق إن برحت من هنا حتى تجيء صلاة العصر، قال: فانصرفت في حوائجي حتى العصر، فدخلتُ المسجد فوجدتُه فيه، فأخذتُه بيده وأتيتُهم به، فأكلوا وشربوا وتساكر القوم وتناوموا، فأقبلت «بصيص» على مزيد فقالت له: يا أبا إسحاق، كأن نفسك تشتهي أن أغنيك الساعة:
فقال: امرأتي طالق إن لم تكوني تعلمين ما في اللوح المحفوظ، قال: فغنَّته، ثم سكتت ساعة وقالت: يا أبا إسحاق، كأن نفسك تشتهي أن تقوم فتجلس إلى جانبي وتقرصني قرصات وأغنيك:
فقال: امرأتي طالق إن لم تكوني تعلمين ما في الأرحام، وما تكسب الأنفس غدًا، وبأي أرض تموت، فغنَّته ثم قالت: برح الخفاء، أنا أعلم أنك تشتهي أن تُقبِّلني وأغنيك هزجًا:
فقال: أنت نبية مرسلة. فقبَّلها وغنَّته ثم قالت: يا أبا إسحاق، أرأيت أسقطَ من هؤلاء يدعونك ويُخرجونني إليك ولا يشترون ريحانًا بدرهم؟ يا أبا إسحاق، هلم درهمًا أشتري به ريحانًا، فوثب وصاح: وا حرباه! أي زانية، أخطأت استك الحفرة. انقطع — والله — عنك الوحي الذي كان يوحى إليك. وغطغط القوم وعلموا أن حيلتها لم تنفذ فيه، ثم خرج ولم يعد إليهم، وأعاد القوم مجلسهم، فكان أكثر شغلهم في حديث مزيد والضحك منه، وبقيت «بصيص» في عز وإقبال مدة حياتها وهي تتفنن في ضروب الألحان حتى فاقت أهل زمانها.
بلقيس ملكة سبأ
المشهورة قصتها مع النبي سليمان بن داود، ورد ذكرها في الكتب المنزلة، واشتهرت في كتب التواريخ، وضرب بها المثل في المجد والسلطان والجمال. وقد شرح العلماء تفاصيل سيرتها وسبب ورودها إلى سليمان بأقوالٍ متباينة مرجعها إلى ما يأتي: قال المؤرخون في نسب بلقيس: إنها يلقمة بنت يشرع بن الحارث بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وقيل: أبوها يشرح بن تبع ذي الأذعار بن تبع ذي المنار بن تبع الرائش، ويلقب «هاددأ» و«هداد»، وقيل: اسمه الحارث بن سبأ، وقيل: الشيصبان، وقيل: شراحيل.
وقال كثير من الرواة: إن أمها كانت جنية ابنة ملك الجن، واسمها رواحة أو ريحانة بنت السكن، وقيل: يلقمة بنت عمرو بن عمير الجني، وسبب اتصال أبيها بالجن أنه كان ملكًا عظيم الشأن آخر أربعين ملكًا من ملوك اليمن، وملك كل تلك الأقاليم، ولم يكن في ملوك الأرض مَن هو كُفُؤ له، فكان يقول لهم: ليس أحد منكم يدانيني، وأبى أن يتزوج من الإنس لرفعة شأنه، فكان يخرج إلى الصيد ويصطاد الجان بصورة الظباء فيخلي عنها، فظهر له ملك الجن وشكره على صنيعه، فاغتنمها فرصة وخطب ابنته فأجابه.
وقيل: بل خرج مرة فوجد حيتين سوداء وبيضاء تقتتلان، وقد ظفرت السوداء على البيضاء، فأمر بقتل السوداء، وحمل البيضاء وصب عليها ماء حتى أفاقت، فأطلقها وعاد إلى داره فجلس منفردًا، وإذا بجانبه شاب جميل فذعر منه، فقال له: لا تخف، أنا الحية التي أنجيتها، وإني مُكافِئُك بالمال أو علم الطب.
فقال: أما المال فلا حاجة لي به، وأما الطب فقبيح بالملوك، ولكني أختار إن كان لك ابنة أن أخطبها إليك، فأجابه بشرط أن لا يغير عليها شيئًا تعمله، فإذا غير عليها فارقته، وشرط أيضًا أن يعطيه ساحل البحر ما بين يبرين إلى عدن فأذعن لذلك، ثم تزوج بالجنية فولدت له غلامًا وألقته في النار، فجزع لذلك، ولكنه سكت للشرط، ثم ولدت جارية فألقتها إلى كلبه، فعظم عليه الأمر ولكنه صبر، ثم عصى عليه بعض أصحابه فجمع عسكره فسار ليقاتله وهي معه، فلما صاروا في مفازة رأى جميع ما معهم من الزاد يخلط بالتراب، والماء ينصب من أفواه القرب، فأيقن بالهلاك، وعلم أنه فعل الجن بأمر زوجه، فضاق ذرعًا عن حمل ذلك الجور، فأتى وجلس أمامها وأومأ إلى الأرض وقال: يا أرض، صبرت لك على إحراق ابني وإطعام ابنتي للكلب، ثم الآن فجعتنا بالزاد والماء حتى أشرفنا على الهلاك، فقالت له: لو صبرت لكان خيرًا لك؛ فإن عدوك خدع وزيرك فجعل السم في الزاد والماء، وتحقيق ذلك أنه يمتنع من شرب شيء من الماء الفاضل، فأمر وزيره بالشرب، فامتنع، فقتله، ثم دلَّته على نبع وميرة يمتارها ثم قالت: وأما ابنك فقد سلمته إلى حاضنة تربيه وقد مات، وأما ابنتك فهي باقية، وإذا بجويرية قد خرجت من الأرض وهي بلقيس، وفارقته زوجته، وسار إلى عدوه فظفر به، وفوَّض إليها أبوها الملك فملكت بعده.
وقيل: بل مات بلا وصية، فاختلف الناس بعد موته، وافترقوا فرقتين: فرقة بايعتها، وفرقة بايعت ابن أخ أبيها، فساء السيرة في الرعية، وكان فاحشًا خبيثًا فاسقًا لا يبلغه عن بنت جميلة إلا أحضرها وهتكها، فأراد قومه خلعه فلم يقدروا، فلما رأت بلقيس ذلك أخذتها الغيرة وقد طلب منها الحضور إليه، فقالت له: بل احضر أنت عندي، وأعدت له رجلين يقتلانه إذا دخل قصرها، فلما حضر قتلاه، فأحضرت وزراءه ووبختهم وقالت: أما كان فيكم من يأنف لكريمته وكرائم عشيرته، ثم أرتهم إياه قتيلًا وقالت: اختاروا رجلًا تُملِّكونه، فقالوا: لا نرضى بغيرك.
وقيل: بل هي عرضت نفسها عليه فقال: ما منعني إلا اليأس منك، فقالت: لا أرغب عنك فإنك كفؤ كريم، فاجمع رجال قومي واخطبني إليهم، ففعل، فسألوها فقالت: قد أجبتْ، فلما زفت إليه سقَتْه الخمر حتى سكر فحزَّت رأسه وانصرفت إلى منزلها، وأمرت أن تُعلِّق رأسه على باب دارها، فلما رأى الناس ذلك علموا الحيلة فملكوها عليهم، وقال قوم: إن أباها لم يكن ملكًا بل وزير ملك، وكان الملك قبيحًا — يفعل ما تقدم ذكره — فقتلته بلقيس فملكوها عليهم، فعظم شأنها، وكثر جندها، واتسع نطاق ملكها، حتى قال بعضهم: إنه كان تحت يدها أربعمائة ملك، كل ملك منهم على كورة، وله ٤٠٠٠٠ مقاتل، وكان لها ٣٠٠ وزير يُدبِّرون مُلْكها، وكان لها ١٢ قائدًا يقود كل واحد ١٢ ألف مقاتل، وبالغ بعضهم في ذلك.
وأما عرشها الوارد ذكره في القرآن الكريم الحكيم فقيل: كان سريرًا ضخمًا من ذهب وفضة مرصعة بالجواهر النفيسة، وكان في جوف سبعة بيوت عليها سبعة أغلاق، كل بيت داخل الآخر، وهو في آخرها.
وقيل: كان مقدمه من الذهب منضدًا بالياقوت الأحمر والزمرد الأخضر، ومؤخره من فضة مكللًا بأنواع الجواهر واللآلئ، وله أربع قوائم قائمة من ياقوت أحمر، وقائمة من ياقوت أصفر، وقائمة من زبرجد أخضر، وقائمة من در أبيض، وصفائح السرير من ذهب، وقيل: أنفقت بلقيس على الكوة التي تدخل منها الشمس فتسجد لها ثلاثمائة ألف أوقية من الذهب.
قال ابن الأثير: قد تواطئوا على الكذب والتلاعب بعقول الجهال حتى يصدقوا المحال؛ لأن أوصاف عرشها وعدد جيوشها من الأمور التي لا يمكن تصديقها.
وأما سبب مجيئها إلى سليمان وإسلامها على يده، فروي أن سليمان رأى يومًا رهجًا قريبًا منه، ولم يكن يبدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه، فسأل عن ذلك الرهج فقالوا: هو عرش بلقيس، فقال: قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ۖ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (النمل: ٣٨-٣٩) قال: أريد أسرع من ذلك، فقال آصف بن برخيا: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ (النمل: ٤٠)، وقيل: إن أحد بني إسرائيل قال لسليمان: أنت أقرب الناس إلى الله، فلو طلبت إليه لأحضره بأسرع ما يكون، فصلى سليمان وإذا بالأرض انشقت وظهر العرش يتلألأ، وقيل: إن سليمان في بعض مغازيه احتاج إلى الماء من تحت الأرض فطلب الهدهد فلم يره.
وقيل: بل أصابت الشمس سليمان فنظر ليرى من أين نفذت إليه؛ لأن الطير كانت تظله فرأى موضع الهدهد فارغًا فقال: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (النمل: ٢١).
وكان الهدهد قد مرَّ على قصر بلقيس فرأى بستانًا لها خلف القصر، فمال إلى الخضرة فرأى هدهدًا فقال له: أين أنت من سليمان؟ وما تصنع هنا؟ فقال له: ومَن سليمان؟ فذكر له حاله، فقال: وأين أنت من هذه الدنيا الواسعة، والحدائق الأنيقة، والقصور الشاهقة، والرياض البهجة؟ فقال: ولمن هذا كله؟ فقال: هو لبلقيس صاحبة العرش العظيم، ووصف له عرشها، فأتى الهدهد إلى سليمان وأخبره بخبره، فكتب لها سليمان كتابًا وقال له: اذْهَب بِّكِتَابِي هَٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ (النمل: ٢٨) فوافاها بذلك، وإذا بالكتاب بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (النمل: ٣٠-٣١)، فقال قومها: نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (النمل: ٣٣).
قالت: إني مرسلة إليهم بهدية؛ فإن قبلها فهو من ملوك الدنيا، فنحن أعز منه وأقوى، وإن لم يقبلها؛ فهو نبي من الله، وإني أمتحنه بها، ثم وجهت إليه الهدية، وكانت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري وحليهن، وخمسمائة جارية على زي الغلمان، كلهم على سروج الذهب والخيل الموسومة، وألف لبنة من ذهب وفضة، وتاجًا مكللًا بالياقوت والمسك والعنبر، وحُقًّا فيه درة يتيمة، وخرزة مثقوبة معوجة الثقب، وأرسلتها مع أشراف رجالها: المنذر بن عمرو، وآخر ذي رأي وعقل، وقالت: إن كان نبيًّا ميز بين الغلمان والجواري، وثقب الدرة ثقبًا مستويًا، وسلك في الخرزة خيطًا.
ثم قالت للمنذر: إن نظر إليك غضبًا فهو ملك، فلا يهولنك أمره، وإن رأيت شيئًا لطيفًا فهو نبي، فأعلَم اللهُ سليمان بذلك، فأمر الجن فضربوا لبن الذهب والفضة، وفرشت في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ، وجعلوا حول الميدان حائطًا مشرفًا: شرفة من ذهب، وشرفة من فضة، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر أن يربطوها عن يمين الميدان ويساره على اللبن، وأمر بأولاد الجن فأقيموا على اليمين واليسار، ثم قعد على كرسيه والكراسي عن يمينه ويساره، واصطفت الشياطين والجن والإنس صفوفًا فراسخ، والوحش والسباع والطيور والهوام كذلك.
فلما دنا القوم منهم نظروا فرأوا الدوابَّ تروث على الذهب، فرموا بما معهم منها، فلما وقفوا بين أيديهم نظر إليهم بوجهٍ طليق، ثم قال: أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم (النمل: ٣٦)، ثم قال: أين الحُقُّ الذي فيه كذا وكذا؟ فقدموه بين يديه، فأمر الأرضة فأخذت شعرة ونفذت في الدرة، وأمر دودة بيضاء وقد جعل خيطًا بفيها فمرَّت في ثقب الخرزة، ثم دعا بالماء وأمر الغلمان والجواري أن يغسلوا أيديهم ووجوههم، فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى وتضرب به وجهها، والغلام كان يأخذه يضرب به وجهه، ثم رد الهدية، فرجع القوم وأخبروها بما شاهدوا، فعلمت أنه نبي وأرادت الشخوص إليه في اثني عشر ألف فيل.
فلما قربت من مكانه قال حينئذٍ: مَن يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين؟ فأُتِيَ به — كما تقدم. وكان بين سليمان والعرش مسيرة شهرين للمُجِدِّ، فلما علم الجن أنها آتية، وأن سليمان ربما تزوجها فتفشي له أخبار الجن؛ لأنها تربت عندهم، وأنها إذا ولدت ولدًا انتقل الملك إليه فلا ينفكون من تسخير سليمان وولده، أساءوا فيها القول وقبَّحوها له وقالوا: إنها غير عاقلة ولا تميز، وإن رجليها كحافر الفرس، وهي شعراء الساقين، فأراد سليمان أن يمتحن ذلك، فنكَّر عرشها بأن جعل تبديلًا في الجواهر حتى ينظر هل تعرفه، وأمر أن يُبنى له صرح من زجاج، وأجرى تحته الماء، وجعل فيه من دواب البحر، حتى إذا رأته حسبته ماء فتكشف عن ساقيها؛ فيتحقق الأمر.
وقيل: بل بنى الصرح من قوارير زجاج أخضر، وجعل له طوابق من قوارير زجاج أبيض، وتحت الطوابق صور دواب، فصار كأنه البحر، وجلس سليمان على سرير في صدر المكان، فلما وصلت بلقيس قيل لها: أَهَٰكَذَا عَرْشُكِ ۖ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ (النمل: ٤٢)، ولقد تركته في حصون وعنده جنود تحفظه، فكيف جاء ها هنا، وقيل: إنها عرفته، ولكن شبَّهت عليهم كما شبهوا عليها، فلم تقل: نعم خوفًا من الكذب، ولم تقل: لا خوفًا من التنكيت، فعلم سليمان كمال عقلها، ثم قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ۖ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا (النمل: ٤٤) لتخوضها، وقد قالت في نفسها: إن سليمان يريد أن يغرقني، وكان القتل أهونَ عليَّ من هذا. فلما رآها سليمان صرَف نظره عنها قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ ۗ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي (النمل: ٤٤)، ثم دعاها سليمان إلى الإسلام فأجابت، فأراد أن يتزوجها وكَرِه كثرة شعر ساقيها، فسأل عن شيء يزيله ولا يضر الجسد، فعملت له الشياطين النورة، وأشاروا بالحمام.
قيل: فكان أول ظهور النورة، فتزوجها وأحبها حبًّا شديدًا، وردَّها إلى مُلْكها باليمن، وكان يزورها في كل شهر مرة، فيقيم عندها ثلاثة أيام، فولدت له غلامًا سماه داود، ومات في حياة سليمان.
وقيل: أمرها سليمان أن تتزوج برجل من قومها فأنفت من ذلك، فقال: لا يكون في الإسلام إلا ذلك، فقالت: إن لم يكن بُدٌّ فزوجني ذا تبع، ملك همذان، فزوَّجه بها، ثم ردها إلى اليمن، وسلط زوجها على الملك، وأمر الجن من أهل اليمن بطاعته، فاستعملهم ذو تبع في بناء عدة قصور حصينة؛ منها: «صلخين»، وقيل: «سلجين»، و«مراوح» و«قليون» و«هنيدة» و«بنون»، وقصر «غمدان» أشهرها، فلما مات سليمان لم يُطِع الجن ذا تبع، فانقضى ملكه وملك بلقيس بموت سليمان، وقيل: إن بلقيس ماتت قبل سليمان بالشام، وإنه دفنها بتدمر وأخفى قبرها عن الناس.
بكارة الهلالية
كانت من نساء العرب الموصوفات بالشجاعة والإقدام والفصاحة، والشعر والنثر والخطابة. حضرت مع علي بن أبي طالب حرب صفين، ولها هناك مقالات حماسية جعلت كلَّ مَن سمعها يُقدم على الهلاك بدون مبالاة بالعواقب. وقد دخلت على معاوية يومًا وهو يومئذٍ بالمدينة، وكانت قد أسنَّت وغشي بصرها وضعفت قوتها ترتعش بين خادمين لها، فسلمت وجلست، فرد عليها معاوية السلام وقال: كيف أنت يا خالة؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين، قال: غيرك الدهر؟ قالت: كذلك هو ذو غِيَر؛ من عاش كبر، ومن مات فقد، فقال عمرو بن العاص: هي والله القائلة يا أمير المؤمنين:
وقال مروان: وهي والله القائلة يا أمير المؤمنين:
وقال سعيد بن العاص: وهي والله القائلة:
ثم سكتوا فقالت: يا معاوية، كلامك أغشى بصري، وقصر حجتي، أنا والله قائلة ما قالوا، وما خفي عليك مني أكثر، فضحك وقال: ليس يمنعنا ذلك من برِّك؛ اذكري حاجتك، قالت: أما الآن فلا، وانصرفت، فوجَّه إليها معاوية بجائزة سنية.
بلنش ملكة فرنسا
ولدت سنة ١١٨٧م، وتوفيت سنة ١٢٥٢م، وهي ابنة «ألفونس التاسع»، ملك «قسطيلة»، من زوجته «ألينورا» الإنكليزية ابنة «هنري الثاني»، وكانت مقتدرة في الأمور السياسية. ولما دعا الأمراءُ المتحالفون زوجَها سنة ١٢١٦م للجلوس على تخت إنكلترا ألحت عليه بإجابة طلبهم، وأرسلت إليه مالًا ونجدات، ولكن نشأ عن موت الملك «يوحنا» وجلوس ابنه على تخت الملك خضوع الأمراء للحكومة، وعند وفاة «فيليب أوغسطوس» وجلوس زوجها على التخت باسم «لويس الثامن» كانت تقوده بحكمتها وحسن إدارتها، وقد رافقته في الحرب الصليبية التي أقيمت على «الألبيجوا»، وعند وفاته جعلت نائبة للملك في مدة قصر ابنها «لويس التاسع».
وسنة ١٢٣٤م، زوَّجت ابنها وهو في سنة ١٩ ﺑ «مرغريتا» البروفنسية، وكان عمرها ١٢ سنة.
وسنة ١٢٣٦م، تنازلت عن نيابتها لابنها المذكور، وكانت المملكة في أيامها زاهرة زاهية، وقد أُلحِق بها أرضٌ كبيرة مهمة، وكان ابنها يعتمد رأيها ولا يدعها تفارقه، إلا أنه دخل ضد إرادتها في الحرب الصليبية لإنقاذ الأرض المقدسة، وفي مدة غيابه تسلمت نيابة الأحكام، وقابلت بحكمتها واقتدارها المعتادين الصعوبات الجديدة التي حدثت في تلك الأيام. وكانت على الدوام ترسل المال والنجدات إلى ابنها لتساعده في تلك الحركة المشئومة، ولما انكسر هو وإخوته وأسروا في مصر التزمت أن تقوم بدفع فدية بليغة لإنقاذهم؛ فنشأ عن ذلك ضرائب جسيمة خسرت بها البلاد ثروتها، ومع ارتباكاتها وتقواها كانت تقاوم تعديات خدَمة الدين بنشاطٍ عظيم، وقد حمَتْ منهم بنجاح حقوق التاج الملكي. وقد ناحت البلاد عمومًا ولبست الحداد عند موتها. وهي تُحسب من أشهر من حكم فرنسا.
بمبادور خليلة لويس الخامس عشر
ولدت سنة ١٧٢١م في باريس، وتوفيت في «فرساليا» سنة ١٧٩٤م، وهي ابنة جزار قد ربتها أمها تربية حسنة وزوجتها سنة ١٧٤١م بملتزم أعشار، وبعد ذلك بقليل رآها الملك وهو يتصيد في غابة «سنبرت»، فعلِق قلبُه بها، ولكن لم يظهر ذلك إلا بعد وفاة مدام «ده شانور».
وسنة ١٧٤٤م، وقد رافقت «لويس» في حرب «فونتنوا» في أيار سنة ١٧٤٥م، وعند رجوعها عرفت بمركيزة «بمبادور»، وكانت تعضد العلوم والصنائع، وبمساعدة «فولتر» و«بربي» رتبت أعيادًا زاهرة، حتى إنها بعد أن ضعف حب الملك لها حافظت على سطوتها بجعلها نفسها ضرورية لراحته، ثم بعد قليل أخذت تريحه من أتعاب الأحكام، وكانت تتداخل في المالية، وتعزل وتولي الوزراء، وتقرب إليها الجنسينين والكوبتبين والكفار والمجلس كلًّا في دوره؛ لكي يكون لها عضدٌ من جميع الأحزاب، وقد تملقتها «ماريا تريزا» بإرسالها لها كتابًا بخط يدها. وغضبت من «فردريك الثاني» لطعنه في حكومتها، فعقدت محالفة بين فرنسا والنمسا ضد بروسيا نشأ عنها حرب السبع سنين المهلكة.
وسنة ١٧٥٧م، حاولت «داميان» قتل الملك، فاضطرها الأمر أن تخرج من البلاط، ولم يمض إلا قليل حتى دُعيت إليه ثانية، فسعت في معاقبة الوزراء الذين أشاروا بطردها، وكانت سطوتها في تعيين المأمورين العسكريين من أعظم أسباب قتل العساكر في الحرب، فتوفيت مصحوبة ببغض الشعب وعدم أسف الملك، وكان لها زيادة على مرتبها السنوي الباهظ مداخيل جسيمة في العقارات، وكانت تعطي الفقراء بسخاء، وتساعد المخترعين والصُّناع وأصحاب المعارف، وجمعت كمية عظيمة من أعمال الصناعة والتحف. وكانت ماهرة في التصوير والنقش، وقد كتب كثيرون سيرة حياتها، وينسب إليها ترجمات ورسائل ليست لها.
بنلوبا زوجة عولس اليوناني
هي أم «تلبماك» ابنة «أبكاريوس»، وقد خطبها كثيرون، ولكنَّ أباها وعد بها مَن يغلب في سباق العدو، فغلب «عولس». ولما ألح عليها أبوها أن تبقى معه ولا ترافق زوجها إلى «أنباكي»، سمح لها زوجها بأن تفعل كما تشاء، فأظهرت عزمها على مرافقته بسترها وجهها بمنديل خجلًا، ولما كان «عولس» في حصار تروادة أحاط بها عشاق كثيرون ألحوا عليها بإجابة طلبهم، فخدعتهم بقولها: إنه يجب أن تكمل كفنًا كانت تنسجه لعمها الشيخ قبل أن يقر رأيها، إلا أنها كانت تحل ليلًا كل ما كانت تنسجه نهارًا، فلما عرف عشاقها بمكيدتها كان «عولس» قد رجع بعد أن غاب ٢٠ سنة، فقتلهم جميعًا.
وقد أشاع بعض المضادين لها أنها ولدت بنتًا من عشاقها، فطلقها زوجها عند رجوعه من تروادة، فذهبت عند ذاك إلى «إسبرطة»، ومنها إلى «منتينا». وقد استدل قوم على قبرها هناك بعد ذلك بزمنٍ طويل.
بهية ابنة عبد الله البكري
من بكر بن وائل وفدت مع أبيها إلى النبي ﷺ، فبايع الرجال وصافحهم، وبايع النساء ولم يصافحهن، قالت: فنظر إليَّ ودعاني، ومسح رأسي ودعا لي ولولدي، ولما رجعتُ وتزوجتُ كثرت عليَّ الأولاد وامتلأ المنزل، وخشيت الفقر من كثرة العيال، وكان عدد أولادي ستين ولدًا: أربعون رجلًا، وعشرون امرأة، فاستشهد منهم عشرون في الجهاد بين يدي النبي ﷺ والصحابة. ولم يُعلَم بامرأة ولدت ستين ولدًا غير هذه، فسبحان الخالق الرازق.
بوديسيا ملكة ألايسينه
هي أم قبيلة بريطانيا. كان موطنها ما يدعى الآن ببلاد «كمبردج» و«سقولك» و«نورفولك» و«هردفرد». توفيت نحو سنة ٦٢ بعد المسيح، ولما توفي زوجها «براسوتغوس»، ملك «ألايسينه»، جعل ابنتيه مع الإمبراطور «نيرون» ورثةً لثروته العظيمة؛ لأنه كان يأمل أنه بذلك يحفظ عائلته ومملكته من تعديات الغزاة، ولكن حالما مات أخذ قائد المائة الروماني مملكته، وجُلدت الملكة البريطانية جهارًا لذنب حقيقي أو وهمي، وتركت بناتها لشهوة العبيد، فاستغنمت «بوديسيا» فرصة غياب «سويتونيوس باولينوس»، الحاكم الروماني، من تلك الجهة من إنكلترا، وجمعت كل القوة العسكرية من شيعتها البرابرة وثارت في مقدمتهم على مستعمرة لندن الرومانية، وقتلت بالسيف في تلك المستعمرة والأماكن المجاورة لها سبعين ألفًا — على الأقل — من الرومان والتجار والإيطاليان، وغيرهم من رعايا الملكة.
فبادر «سويتونيوس» إلى محل تلك القطائع، وكان تحت قيادة ملكة «ألايسينه» ١٢٠ ألف جندي، وكان عددهم يتزايد شيئًا فشيئًا حتى بلغوا ٢٣٠ ألفًا، حال كون «سويتونيوس» لم يكن قادرًا أن يأتي إلى ميدان القتال بعشرة آلاف جندي، فانتشبت نيران القتال، وأظهرت «بوديسيا» شجاعة عظيمة، ولما قهرت العساكر الرومانية المنتظمة عساكرها أخذت سمًّا وابتلعته فماتت به. وأما الغالبون فلم يعفوا عن شيء، فإنهم قعطوا الأولاد والدواب والكلاب جميعًا إربًا، ويقال: إنه ذُبح في ذلك اليوم ثمانون ألف بريتوني، وأما العساكر الرومانية فلم يُقتل منهم إلا ٤٠٠ شخص، وجرح بقَدْرهم.
بوران ابنة أبرويز بن هرمز
كانت من أحسن نساء بني الترك والفرس، وملكت الناس بعد «شهريار بن أبرويز»، وأصلحت القناطر والجسور، وردَّت خشبة الصليب إلى ملك الروم، ولما جلست على السرير قالت: ليس ببطش الرجل تدوخ البلاد، ولا بمكايدهم ينال الظفر، وإنما ذلك بعون الله وقدرته، وأقامت سبعة أشهر، ويقال: إن «فيروز بن رستم» صاحب خراسان خطبها فقالت: لا ينبغي للملكة أن تتزوج علانية، وواعدته أن يقدم عليها سرًّا في ليلة عيَّنتها له، فجاءها في تلك الليلة فقتلته، فسار إليها رستم فقتلها. وذلك بخبر طويل في تاريخ الفرس.
بوران ابنة الحسن بن سهل
كانت أحسن نساء زمانها وأجملهن وأكرمهن أخلاقًا، وأفضلهن أدبًا، وأوفرهن عقلًا. لها إلمام بصناعة الطرب. تربت في بيت أبيها أحسن تربية، وخالطت نساء الرشيد واكتسبت من آدابهن.
ولما ولي المأمون الخلافة افتتن بها وخطبها من أبيها الحسن، وكان وزيره بعد أخيه الفضل بن سهل. وقد زُفت إليه بناحية فم الصلح — بلدة من العراق — في شهر رمضان سنة ٢١٠ هجرية.
فلما دخل عليها كان عندها حمدونة بنت الرشيد، وزبيدة بنت جعفر، وأم الفضل والحسن جدة «بوران»، فنثرت عليه أم الفضل ألف لؤلؤة من أنفس ما يكون، فأمر بجمعها فجُمِعت فأعطاها ﻟ «بوران» وقال: هذه نحلتك، وسلي حوائجك، فأمسكتْ، فقالت لها جدَّتُها: سلي سيدك؛ فقد أمرك أن تسأليه، فسألته الرضا عن إبراهيم بن المهدي، فقال: قد فعلتْ، وسألته الإذن لزبيدة في الحج، فأذِن لها، وبنى بها في ليلته، وأوقدوا في تلك الليلة شمعة عنبر وزنها أربعين منًّا. وأنفق الحسن على المأمون مالًا جزيلًا قيل: إنه أقام عند الحسن تسعة عشر يومًا يعد له في كل يوم ولجميع من كان معه ما يحتاجون إليه، فكان مبلغ النفقة عليه خمسين ألف ألف درهم، وأمر له المأمون عند منصرفه بعشرة آلاف ألف درهم، وأقطعه فم الصلح — المذكورة — فجلس الحسن وفرَّق المال على قواده وحشمه وعسكره.
وقيل: احتفل أبوها بأمرها، وعمل من الولائم والأفراح ما لم يعهد مثله في عصر من الأعصر؛ فإنه نثر على الهاشميين والقواد والوجوه بنادق مسك فيها رقاع بأسماء ضياعٍ وجوار ودوابَّ وغير ذلك، فكانت البُندقة إذا وقعت بيد رجل فتحها فيقرأ ما في الرقعة، فإذا علم ما فيها ذهب إلى الوكيل المرصد لذلك فيدفعها إليه ويستلم ما فيها، ثم نثر على سائر الناس الدنانير والدراهم، ونوافج المسك وبيض العنبر على المأمون وقواده وجميع أصحابه وأجناده وأتباعه — وكانوا خلقًا لا يُحصون — وعلى الحمَّالين والمكارية والملاحين وكل من ضمَّه عسكره، فلم يكن في العسكر من يشتري شيئًا لنفسه أو لدابته، وقد قالت الشعراء والخطباء في ذلك الزفاف أشياء كثيرة. ومما يستظرف في ذلك قول محمد بن حازم الباهلي:
وبقيت «بوران» عند المأمون إلى أن توفي سنة ٢١٨ﻫ، وتوفيت هي سنة ٢٧١ﻫ، وعمرها ٨٠ سنة.
بيلمون زوجة السلطان أوزبك
اسمها «بيلون» — وهي ابنة ملك القسطنطينية العظمى السلطان «تكفور» — قال: لما مررنا ببلاد السلطان «أوزبك» ودخلنا عليه التزمنا بعد خروجنا من عنده أن ندخل على الملكة «بيلون» زوجته، حسب عادة تلك الديار أنه متى زار أحدٌ الملكَ يلزم أن يزور أزواجه وعائلته وأكابر مملكته، فدخلنا على هذه الخاتون وهي قاعدة على سرير مرصع، قوائمه فضة، وبين يديها نحو مائة جارية: روميات، وتركيات، ونوبيات، منهن قائمات وقاعدات، والفتيات على رأسها، والحُجَّاب بين يديها من رجال الروم. فسألتْ عن حالنا ومَقدَمنا وعن بُعد أوطاننا، وبكت ومسحت وجهها بمنديلٍ كان في يدها رقة منها وشفقة، وأمرت بالطعام فأحضر وأكلنا بين يديها. ولما أردنا الانصراف قالت: لا تنقطعوا عنا، وترددوا علينا، وطالبونا بحوائجكم، وأظهرت مكارم الأخلاق، وبعثت في أثرنا بطعامٍ وخبزٍ كثير وسمن وغنم ودراهم، وكسوة جيدة، وثلاث من جياد الخيل، وعشرة من سواها — قال: وبقيت هذه الخاتون عند السلطان «أوزبك» مدة طويلة وهي تتفقدنا بخيراتها ومبراتها، حتى قصدت الذهاب إلى القسطنطينية فذهبت معها، وكان ذهابها لأجل زيارة أهلها، ومكثت هناك ولم ترجع لزوجها إلى أن ماتت.