حرف الفاء
(١) فاختة ابنة أبي طالب
فاختة ابنة أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشية الهاشمية، بنت عم النبي ﷺ وأخت علي بن أبي طالب، أمها فاطمة بنت أسد، واختلف في اسمها فقيل: هند، وقيل: فاطمة، وقيل: فاختة.
كانت تحت هبيرة بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم المخزومي. أسلمت عام الفتح، فلما أسلمت وفتح رسول الله ﷺ مكة؛ هرب هبيرة إلى نجران وقال حين فر معتذرًا من فراره:
قال خلف الأحمر: أبيات هبيرة في الاعتذار خير من قول الحارث بن هاشم — يعني قوله:
وقال الأصمعي: أحسن ما قيل في الاعتذار من الفرار قول الحارث بن هشام، وقال ابن إسحاق: إن هبيرة أقام بنجران، فلما بلغه إسلام أم هانئ — وكانت تحته — قال أبياتًا منها:
ومنها يخاطب أم هانئ:
وهي أكثر من هذا. وولدت أم هانئ لهبيرة عمرًا — وبه كان يكنى هبيرة — وهانئًا ويوسف وجعدة.
وقيل: ما أخبر أحد أنه رأى النبي ﷺ يصلي الضحى إلا أم هانئ؛ فإنها حدَّثت أن رسول الله ﷺ دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل، فسبح ثماني ركعات ما رأيته صلى صلاة أخف منها، غير أنه كان يتم الركوع والسجود.
(٢) فارعة ابنة أبي الصلت الثقفية أخت أمية بن أبي الصلت
كانت من أديبات العرب الشاعرات العاقلات الجميلات الهيئة والمنظر، وكانت من الصحابيات المحدثات الصادقات في الرواية. أخذ عنها كثير من التابعين.
لما مات أمية قدمت على رسول الله ﷺ فسألها عن وفاة أخيها، فقالت: إني رأيت بينما هو راقد إذ أتاه رجلان فكشطا سقف البيت ونزلا، فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه! فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: أَوَعى؟ قال الذي عند رأسه للذي عند رجليه: وعَى، قال: أزكا؟ قال: زكا، قالت: فسألته عن ذلك فقال: خير أريد بي، ثم قطرت عينه ثم غشي عليه، فلما أفاق قال:
فقال لها رسول الله ﷺ: «فما أطيبه من شعر! سألتك بالله أعيديه.» فأعادت عليه شعر أخيها، وأنشدت شعرًا جيدًا فقالت:
وهي قصيدة طويلة حتى أتت على آخرها، ثم إنها أنشدته قصيدته التي يقول فيها:
وأنشدته قول أخيها أيضًا بقصيدته المشهورة التي فيها:
ومنها قوله:
وأنشدته قوله عند موته:
وقوله:
فقال ﷺ: «كان مثل أخيك كمثل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين. آمن شعره وكفَر قلبُه.» فأنزل الله تعالى فيه: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا (الأعراف: ١٧٥) الآية.
وبقيت فارعة في عهد النبي ﷺ من النساء المعدودات بالفضائل، المقدمات عند الصحابة إلى أن ماتت.
(٣) فارعة ابنة شداد
كانت من النساء الموصوفات بالأدب وعلو الهمة، وحسن المدركة. لها شعر حسن ومَراثٍ مقبولة، منها ما قالته في أخيها أبي زرارة مسعود يوم قُتل في بعض غزواته:
(٤) فاطمة ابنة أسد
ابن هاشم بن عبد مناف القرشية الهاشمية، أم علي بن أبي طالب وأم إخوته طالب وعقيل وجعفر. قيل: إنها توفيت قبل الهجرة. وليس بشيء؛ والصحيح أنها هاجرت إلى المدينة وتوفيت بها.
قال الشعبي: أم علي فاطمة بنت أسد أسلمتْ وهاجرتْ إلى المدينة وتوفيت بها. وقال علي لأمه فاطمة بنت أسد: أكفي فاطمة بنت رسول الله ﷺ سقاية الماء والذهاب في الحاجة، وتكفيك من الداخل الطحن والعجن. وهذا يدل على هجرتها؛ لأن عليًّا إنما تزوج فاطمة بالمدينة.
قال الزهري: هي أول هاشمية ولدت لهاشمي، وهي أيضًا أول هاشمية ولدتْ خليفة، ثم بعدها فاطمة بنت رسول الله ﷺ ولدت الحسن، ثم زبيدة امرأة الرشيد ولدت الأمين. لا نعلم غيرهنَّ، ثم إن هؤلاء الثلاثة لم تصفُ لهم الخلافة؛ فأما علي فإنه كان من اضطراب الأمور عليه إلى أن قتل كما هو مشهور، وأما الحسن والأمين فخُلعا.
وقيل: إن رسول الله ﷺ كفن فاطمة بنت أسد في قميصه، واضطجع في قبرها، وجزاها خيرًا، فقيل له: ما رأيناك صنعت بأحد ما صنعت بهذه؟! قال: «إنه لم يكن بعد أبي طالب أبر بي منها، إنما ألبستها قميصي لتُكسى من حلل الجنة، واضطجعت في قبرها ليهون عليها عذاب القبر.»
قال الزبير: انقرض ولد أسد بن هاشم إلا من ابنته فاطمة بنت أسد. وفاطمة هذه لها فضائل مشهورة، ومآثر مشكورة مذكورة في كتب التاريخ، ولشهرتها وكثرة تداولها اكتفينا بذكر هذا اليسير منها.
(٥) فاطمة ابنة النبي ﷺ
ولدت فاطمة قبل ما تبني قريشٌ الكعبة بخمس سنين، وهي أصغر بناته ﷺ، وأمها خديجة بنت خويلد، وكان النبي ﷺ إذ ذاك ابن خمس وثلاثين سنة.
وكان النبي يحبها أكثر من كل أولاده الطاهرين وبناته الشريفات. تزوجها علي بن أبي طالب عليهما السلام في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة، وبنى بها في ذي الحجة من السنة المذكورة.
روي عن أنس أنه قال: كنت عند رسول الله ﷺ فغشيه الوحي، فلما أفاق قال: «يا أنس، أتدري ما جاءني به جبريل عليه السلام من صاحب العرش — عز وجل وعلا؟» قلت: بأبي أنت وأمي، ما جاءك به جبريل؟ قال: «قال لي: إن الله — تبارك وتعالى — يأمرك أن تزوج فاطمة من علي؛ فانطلق وادُع لي أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وبعدتهم من الأنصار.» قال: فانطلقتُ فدعوتُهم، فلما أخذوا مجالسهم قال ﷺ: «الحمد لله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، المطاع بسلطانه، المهروب إليه من عذابه، النافذ أمره في أرضه وسمائه، الذي خلق الخلق بقدرته، وميزهم بأحكامه، وأعزهم بدينه، وأكرمهم بنبيه محمد. إن الله — عز وجل — جعل المُصاهرة نسبًا لاحقًا، وأمرًا مفترضًا، وحكمًا عادلًا، وخيرًا جامعًا. أوشج بها الأرحام، وألزمها الأنام؛ فقال الله — عز وجل: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا ۗ وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (الفرقان: ٥٤). وأمر الله تعالى يجري إلى قضائه، وقضاؤه يجري إلى قدره، ولكل قضاء قدر، ولكل قدر أجل، ولكل أجل كتاب، يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب.
ثم إن الله تعالى أمرني أن أزوج فاطمة من علي، وأشهدكم أني زوجت فاطمة من علي على أربعمائة مثقال فضة، إن رضي بذلك على السُّنَّة القائمة، والفريضة الواجبة، فجمع الله شملهما، وبارك لهما، وأطاب نسلهما، وجعل نسلهما مفاتيح الرحمة، ومعادن الحكمة، وأمن الأمة. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.» قال: وكان علي عليه السلام غائبًا في حاجة لرسول الله ﷺ قد بعثه فيها، ثم أمر لنا بطبق فيه تمر فوضع بين أيدينا، فقال: انتهبوا، فبينما نحن كذلك إذ أقبل عليٌّ فتبسم إليه رسول الله ﷺ وقال: «يا علي، إن الله أمرني أن أُزوِّجك فاطمة، وإني زوَّجتكها على أربعمائة مثقال فضة.»
فقال علي: رضيت يا رسول الله، ثم إن عليًّا خرَّ ساجدًا شكرًا لله، فلما رفع رأسه قال الرسول ﷺ: «بارك الله لكما وعليكما، وأسعد جدكما، وأخرج منكما الكثير الطيب.»
قال أنس: والله لقد أخرج منهما الكثير الطيب.
وفي المسند عن عائشة قالت: أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشية النبي ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: «مرحبًا بابنتي.» ثم أجلسها عن يمينه وأسرَّ لها حديثًا فبكَتْ، فقلت: استخلصك رسول الله بحديثه ثم تبكين؟! ثم أسرَّ لها حديثًا أيضًا فضحكتْ، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحًا أقرب من حزن! فسألتها عما قيل لها، فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله ﷺ، حتى قبض ﷺ، فسألتها فقالت: أسر إليَّ «أن جبريل كان يعارضني بالقرآن في كل عام مرة، وإنه عارضني به في هذا العام مرتين؛ ولا أراه إلا قد حضَر أجلي، وأنك أول أهل بيتي لحوقًا بي، ونعم السلف أنا لك.» فبكيت فقال: «ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة.» فضحكت لذلك. ولم تضحك فاطمة عليها السلام بعد وفاة أبيها.
قال في الجمان: روي أن فاطمة بنت رسول الله ﷺ أعطت جارية لها صدقة بعد وفاة رسول الله ﷺ وقالت لها: امضي إلى السوق بها وقولي: من يقبل صدقة بنت رسول الله ﷺ؟ فمَن قبِلَها فأتيني به، فمضت الجارية إلى السوق وقالت: مَن يقبل صدقة بنت رسول الله ﷺ؟
فقال رجل مغربي: أنا موضع صدقة آل بيت رسول الله ﷺ، فأعطته الصدقة وقالت له: أجب بنت رسول الله ﷺ، فقال لها: نعم.
فلما بلغ الباب سألته: من أنت؟ فقال لها: أنا رجل مغربي، فقالت له: مِن أيِّ المغرب؟
فقال: من البربر، فبكت فاطمة وقالت: قال لي والدي رسول الله ﷺ: «لكل نبي حواري، وحواري ذريتي البربر، سيُقتل الحسن والحسين ويفر أولادهما إلى المغرب فلا يأويهما إلا البربر، فيا شؤم من فعل بهم ذلك! وطوبى لمن أكرمهم وأعزهم!»
وعن علي عليه السلام قال: إن فاطمة بنت رسول الله صارت إلى قبر أبيها بعد موته ووقفت عليه وبكت، ثم أخذت من تراب القبر فجعلته على عينها ووجهها، ثم أنشأت تقول:
ولها عليها السلام ترثي أباها ﷺ:
توفيت عليها السلام ليلة الثلاثاء لثلاثٍ خلون من شهر رمضان سنة إحدى عشرة للهجرة وهي بنت ثمانٍ وعشرين سنة، ودفنت بالبقيع ليلًا، وصلَّى عليها علي عليه السلام، وقيل: صلى عليها ونزل في قبرها هو والفضل بن العباس، وقيل: لبثتْ فاطمة بعد وفاة النبي — عليه السلام — ثلاثة أشهر، وقال عروة بن الزبير وعائشة: لبثت ستة أشهر، ومثله عن ابن شهاب الزهري، وهو الصحيح.
روي أن عليًّا عليه السلام لما ماتت فاطمة وفرغ من جهازها ومن دفنها رجع إلى البيت، فاستوحش فيه وجزع عليها جزعًا شديدًا، ثم أنشأ يقول:
وكان يزور قبرها في كل يوم، فأقبل ذات يوم فانكبَّ على القبر وبكى بكاءً مرًّا وأنشأ يقول:
فأجابه هاتف يقول:
وأما أولادها: فالحسن والحسين والمحسن — وهذا مات صغيرًا — وأم كلثوم وزينب، وزاد الليث بن سعد: رقية — وماتت صغيرة لم تبلغ — ولم يتزوج عليٌّ على فاطمة، وكانت أول أزواجه عليهما السلام. نفعنا الله بهما. آمين.
(٦) فاطمة ابنة الحسين
ابن علي بن أبي طالب عليهم السلام، أمها أم إسحاق التميمية بنت طلحة بن عبيد الله. وتزوج فاطمة ابنُ عمها حسن بن الحسن السبط، فولدت عبد الله ويُلقَّب بالمحض — وإنما سُمي بالمحض لمكانه من الحسنين، وكان يشبه رسول الله ﷺ، وقيل له: لِمَ صرتم أفضل الناس؟ فقال: لأن الناس كلهم يتمنون أن يكونوا منا، ولا نتمنى أن نكون من أحد — وولدت صاحبة الترجمة للحسن المثنى: إبراهيم القمر والحسن المثلث، وكل منهما له عقب. ومات المحض هو وإخوته في سجن المنصور العباسي، وكان موتهم سنة ١٤٥ﻫ، ثم مات عنها الحسن المثنى فتزوجها عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان.
خطب الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب إلى عمه الحسين فقال: يا ابن أخي، قد كنت أنتظر هذا منك؛ انطلق معي، فخرج به حتى أدخله منزله فخيَّره في ابنتيه فاطمة وسكينة، فاستحى، فقال له: قد اخترتُ لك فاطمة بنتي؛ فهي أكثر شبهًا بأمي فاطمة بنت رسول الله ﷺ — وكانت تشبه الحور العين لجمالها.
ولما مات الحسن المثنى ضربت زوجته فاطمة بنت الحسين على قبره فسطاطًا، وكانت تقوم الليل وتصوم النهار، فلما كان رأس السنة قالت لمواليها: إذا أظلم الليل قوِّضوا هذا الفسطاط، فلما أظلم الليل وقوَّضوه سمعتْ قائلًا يقول: هل وجدوا ما فقدوا؟! فأجابه آخر: بل يئسوا فانقلبوا!
ولما مات الحسن خرج عبد الله بن عمرو في جنازته، فنظر إلى فاطمة حاسرة تضرب وجهها، فأرسل يقول لها: إن لنا في وجهك حاجة فارفقي به، فاستحيت، وعرف ذلك منها، وخمَّرت وجهها، فلما حلَّت أرسل إليها يخطبها، فقالت: كيف بأيماني؟! وكانت قد حلفت لزوجها أن لا تتزوج بعده، فأرسل إليها يقول لها: لك بكل مملوك مملوكان، وعن كل شيء شيئان، فعوَّضها عن يمينها فنكحته وولدت له محمدًا والقاسم، وكان عبد الله بن الحسن ولدها يقول: ما أبغضت بغض عبد الله بن عمرو أحدًا، ولا أحببت حب ابنه محمد أحدًا!
وكانت فاطمة كريمة الأخلاق، حسنة الأعراق، قيل: إنه لما جهز يزيد أهل البيت إلى المدينة بعد قتل الحسين أرسل معهم رجلًا أمينًا من أهل الشام في خيلٍ سيَّرها وصحبتهم إلى أن دخلوا المدينة، فقالت فاطمة بنت الحسين لأختها سكينة: قد أحسن هذا الرجل إلينا؛ فهل لك أن تصليه بشيء؟ فقالت: والله ما معنا ما نصله به إلا ما كان من هذا الحلي، قالت: فافعلي، فأخرجت له سوارين ودملجين وبعثتا إليه بهما، فردَّهما وقال: لو كان الذي صنعته رغبة في الدنيا لكان في هذا كفاية، ولكني والله ما فعلته إلا لله، ولقرابتكم من رسول الله ﷺ.
وكانت فاطمة أكبر سنًّا من أختها سكينة، قال صاحب «نور الأبصار» عن القطب الشعراني: إن السيدة فاطمة النبوية بنت الإمام الحسين السبط مدفونة بالدرب الأحمر بمصر.
وقال الشيخ عبد الرحمن الأجهوري الكبير: إن السيدة فاطمة النبوية مدفونة خلف الدرب الأحمر في زقاق يُعرف بزقاق فاطمة النبوية في مسجد جليل، ومقامها عظيم وعليه المهابة والجلال.
بسم الله الرحمن الرحيم، لله العزة والبقاء، وله ما ذرأ وبرأ، وعلى خلقه كتب الفناء، وفي رسول الله ﷺ أسوة. هذا قبر أم سلمة فاطمة بنت الحسين عليه السلام.
وفي اللوح الآخر منقوش صنعة محمد بن أبي سهل النقاش بمصر، وتحت ذلك هذه الأبيات:
ومن كلام فاطمة — عليها السلام: والله ما نال أحد من أهل السفه بسفههم شيئًا ولا أدركوا من لذاتهم شيئًا إلا وقد ناله أهل المروءات؛ فاستتروا بجميل ستر الله.
ومن قولها تنعَى أباها:
وقيل: إن هذه الأبيات لفاطمة الصغرى، وإنها تخلفت في المدينة فجاء غراب وتمرَّغ في دم الحسين في كربلاء وطار حتى وقع على جدار فاطمة الصغرى، فرفعت طرفها ونظرت إليه وبكت بكاءً شديدًا، وأنشأت الأبيات المذكورة.
وقال بعضهم: لما زُفَّت فاطمة بنت الحسين عليهما السلام إلى عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان عارضها موسى شهوات فقال:
وتوفيت السيدة فاطمة المشار إليها سنة عشرٍ ومائة للهجرة، ودفنت في المسجد المعروف بها الآن الكائن خلف الدرب الأحمر بمصر المارِّ ذكرُه، ومسجدها مقام الشعائر، وله أوقاف دارَّة من ديوان الأوقاف لغاية الآن، ولها مولد كل سنة، وحضرة في كل أسبوع تجتمع فيها رجال الطريقة، والأذكار والصلوات تقام من المساء إلى الصباح.
(٧) فاطمة بنت مر الخثعمية
كانت من كاهنات العرب المشهود لهن بالفراسة، وقد اشتهر صيتها في علم الكهانة، وكانت تقول الشعر. مر عليها يومًا عبد المطلب بن هاشم ومعه ولده عبد الله، فرأت في وجه عبد الله نورًا ساطعًا، فتفرست فيه أنه سيخرج منه مولود يكون له شأن، فأحبت أن يكون منها ذلك المولود فقالت له: يا عبد الله، هل لك أن تقع علي ولك مائة ناقة من الإبل؟! فقال لها:
ثم قال لها: أنا مع أبي فلا أقدر أن أفارقه، ومضَى فزوَّجه أبوه بآمنة بنت وهب، فأقام عندها ثلاثًا، ثم انصرف فمرَّ بالخثعمية فدَعتْه نفسُه إلى ما دعته إليه، فقال لها: هل لك فيما كنتِ أردتِ؟! فقالت: يا فتى، ما أنا بصاحبة ريبة، ولكني رأيت في وجهك نورًا فأردت أن يكون لي، فأبى الله إلا أن يجعله حيث أراد، فما صنعتَ بعدي؟! قال: زوَّجني أبي آمنة ابنة وهب، فقالت فاطمة بنت مرٍّ حين ذاك:
وقالت أيضًا في ذلك:
فانصرف عبد الله وبقيت هي في حالها حتى ولد النبي ﷺ وتربى وكبر ونزل عليه الوحي، فوفدت عليه وأسلمت على يديه، وماتت في مدته. رحمها الله.
(٨) فاطمة بنت أحجم بن دندنة الخزاعي
كان أبوها أحد سادات العرب، تزوج بخالدة بنت هاشم بن عبد المطلب، وكانت فاطمة من فصحاء العرب وشاعرات النساء، وأشعارها كانت لا تخرج عن الحكم والأمثال، وأكثرها رثاء، وكانت العرب تتمثل بأشعارها، ومن قولها في الجرَّاح زوجها:
وقالت أيضًا:
(٩) فاطمة ابنة الخطاب بن نفيل
فاطمة ابنة الخطاب بن نفيل بن عبد العزى القرشية العدوية أخت عمر بن الخطاب.
كانت إحدى العشرة الذين أسلموا أول الإسلام، وهي أسلمت مع زوجها سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي قبل إسلام أخيها عمر، وهي كانت سبب إسلامه، وقيل: سُئل عمر عن سبب إسلامه فقال: خرجت بعد إسلام حمزة بثلاثة أيام فإذا أحد رجال بني مخزوم — وكان قد أسلم — فقلت: تركت دين آبائك واتبعت دين محمد؟! فقال: إن فعلت فقد فعله من هو أعظم عليك حقًّا مني، قلت: من هو؟! قال: أختك وختنك، قال: فانطلقت فوجدت الباب مغلقًا وسمعت همهمة، ففتح الباب، فدخلت فقلت: ما هذا الذي أسمع؟! قالت: ما سمعت شيئًا! فما زال الكلام بيننا حتى أخذت برأس ختني فضربته فأدميته، فقامتْ إليَّ أُختي فأخذت برأسي فقالت: قد كان ذاك على رغم أنفك، قال: فاستحيتُ حين رأيت الدم وقلتُ: أروني هذا الكتاب فأروه إيَّاه، فلما رآه أسلم. وذلك مشهور في ترجمته.
وبقيت المترجَمة تعضد الإسلام وتحرض نساء قريش على اتباعه حتى دخل دين الإسلام نساء ورجال كثيرون بسببها.
وكانت أديبة فاضلة عاقلة، محبة للخير، كارهة للشر، آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر. توفيت بخلافة أخيها عمر بن الخطاب، ودفنت بمَا لاقَ بها.
(١٠) فاطمة ابنة قيس بن خالد الأكبر
فاطمة ابنة قيس بن خالد الأكبر ابن وهب بن ثعلبة بن واثلة بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر القرشية الفهرية، أخت الضحاك بن قيس، قيل: كانت أكبر منه بعشر سنين.
وكانت أديبة عاقلة فاضلة، ذات رأي صائب، وفكر ثاقب، وكمال باهر، وجمال ظاهر. هاجرت أول الإسلام مع مَن هاجر، وكانت تحت أبي حفص بن المغيرة فطلقها ثلاثًا لأسباب وقعت بينهما، فأمرها النبي ﷺ أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم، فقالت له: أليس لي على أبي حفص نفقة؟ فقال لها: «ليس لك عليه نفقة ولا سكنى.» فامتثلت.
وقيل: إنه لما طلقها أبو حفص خطبها معاوية وأبو جهم بن حذيفة، فاستشارت النبي ﷺ بذلك فقال لها: «أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو حذيفة فلا يضع عصاه عن عاتقه.» وأمرها بأسامة بن زيد فتزوَّجته، وقيل: إنها قدمت الكوفة على أخيها الضحاك بن قيس — وكان أميرًا بها من قبل عمر بن الخطاب — فلما سمع بقدومها أهل الكوفة تقاطروا عليها، ومن جملتهم الشعبي، وقد حدَّثتهم بما سمعته عن النبي ﷺ. روى عنها الشعبي جملة أحاديث.
وقيل: إنه لما قتل عمر بن الخطاب اجتمع أهل الشورى في بيتها، وقضوا مآربهم في الخلافة باطلاعها، وأخذوا رأيها في ذلك. وقد روت جملة أحاديث رواها عنها بعض الصحابة.
(١١) فاطمة بنت الوليد بن عتبة
فاطمة بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشية العبشمية.
كانت تزوجت سالمًا مولى حذيفة — زوَّجها منه عمها أبو حذيفة بن عتبة — وكانت من المهاجرات الأُوَل، ومن أفضل أيامى قريش؛ لها عقل وكمال، وفضل وجمال. ولما قُتل عنها سالم يوم اليمامة تزوجها بعده الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي، وقيل: إنها كانت في الشام تلبس الجباب من ثياب الخز، ثم تأتزر، فقيل لها: أما يُغنيك هذا عن الإزار؟! فقالت: سمعت رسول الله ﷺ يأمر بالإزار. وقد روت جملة أحاديث عن النبي ﷺ رواها عنها بعض الصحابة.
(١٢) فاطمة بنت الوليد بن المغيرة المخزومي أخت خالد بن الوليد
أسلمت يوم الفتح، وبايعت النبي ﷺ، وهي زوج ابن عمها الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي، ويقال: إنَّه تزوجها بعده عمر بن الخطاب. وقد ولدت للحارث بن هشام: عبد الرحمن وأم حكيم، وقد خرجت مع زوجها الحارث إلى الشام. وقد استشارها أخوها خالد في بعض أموره؛ وذلك لوفرة عقلها، وحسن تدبيرها. ولما مات عنها زوجها الحارث عادت إلى المدينة، وقد تزوجها عمر بن الخطاب بعد رجوعها بقليل.
وروي لها عن النبي ﷺ أحاديث رواها عنها بعض الصحابة.
(١٣) فاطمة ابنة الضحاك الكلابية
كانت من النساء العاقلات الفاضلات، وهي ذات حسن وجمال، وبهاء وكمال. تزوجها النبي ﷺ بعد وفاة ابنته زينب، وقيل: إنه خيَّرها حين نزلت آية التخيير، فاختارت الدنيا! ففارقها عند ذلك النبي ﷺ فكانت بعد ذلك تلتقط البعر وتقول: أنا الشقية اخترت الدنيا. والظاهر أن هذه الرواية باطلة؛ لأنه جاء في الحديث الصحيح عن عائشة — رضي الله عنها — أن رسول الله ﷺ حين خير أزواجه بدأ بها فاختارت الله ورسوله، وهكذا تتابع أزواج النبي ﷺ كلهن على ذلك، وقيل: كان عنده تسع نسوة حين خيَّرهن، وهن اللاتي توفي عنهن. وروى جماعة أن التي قالت: أنا الشقية، هي التي استعاذت منه، وقد اختلفوا فيها اختلافًا كثيرًا.
(١٤) فاطمة ابنة عتبة بن ربيعة بن عبد شمس القرشية العبشمية
هي أخت هند بنت عتبة، وهي خالة معاوية بن أبي سفيان الأموي، كانت فصيحة الألفاظ، رقيقة أديبة، حلوة المنطق، ذات عقل وافر، جامعة بين مزيتي الحسن والأدب. أسلمت يوم الفتح، وبايعت النبي ﷺ، وروى عنها أخوها أبو حذيفة بن عتبة، ذهب بها وبأختها هند يبايعان رسول الله ﷺ — وذلك يوم الفتح — فقالت فاطمة: فلما اشترط علينا النبي ﷺ قالت هند: أوَتعلم في نساء قومك هذه الهنات والعاهات؟ فقال: «بايعيه؛ فهكذا يشترط.»
وقيل: إن فاطمة جاءت رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله، قد كنت وما في الأرض قبة أحب إلي أن تهدم من قبتك، وإني اليوم وما في الأرض قبة أحب إلي بقاء من قبتك، فقال: «أما إن أحدكم لن يؤمن حتى أكون أحب إليه من نفسه.»
(١٥) فاطمة ابنة المجلل بن عبد الله
فاطمة ابنة المجلل بن عبد الله بن قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي القرشية العامرية.
وتكنى أم جميل، كانت من النساء الفاضلات الأديبات العاقلات، وقد اشتهرت بالفضيلة والظرف والرقة، وهي من السابقين إلى الإسلام.
تزوجها حاطب بن الحارث بن المغيرة فولدت له: محمد بن حاطب والحارث بن حاطب، وقد هاجرت مع من هاجروا إلى بلاد الحبشة مع زوجها حاطب.
فلما توفي زوجها في بلاد الحبشة قدمت هي وابناها المذكوران إلى المدينة في إحدى السفينتين اللتين قدمتا إليها من الحبشة، وقيل: إنها لما قدمت من أرض الحبشة وفدت إلى النبي ﷺ ومعها ابنها فقالت: يا رسول الله، هذا ابن أخيك حاطب، وقد أصابه هذا الحرق من النار؛ فادع الله له، فدعا له النبي ﷺ بالشفاء فشفي.
(١٦) فاطمة ابنة عبد الملك بن مروان
كانت فصيحة زمانها، وأديبة عصرها وأوانها، ذات جمال رائق، وحسن فائق، ودين وورع لم يسبق إليه أحد من نساء بني أمية. تزوجت بعمر بن عبد العزيز الأموي قبل أن يتولى الخلافة، فغمرها بأمواله، وأقنعها بنواله، وهي لم تكن بأقلَّ منه مالًا، وقد عاشا في مبدئهما عيشة الرفاهية والتنعم، ولما آلت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز رأى أن عبأها ثقيل لا يحمله عاتقه.
ومن جملة ما صنعه قال لفاطمة: إن أردت صحبتي فرُدِّي ما معك من مال وحلي وجواهرَ إلى بيت مال المسلمين؛ فإنه لهم، وإني لا أجتمع أنا وأنت وهو في بيت واحد، فردَّته جميعه ولم تبق لها منه خلال إبرة.
وبقيت معه في عيشة التقشف والضيق مع اتساع الخلافة والملك إلى أن مات، فلما انتقلت الخلافة إلى أخيها يزيد بن عبد الملك قال لها: إن عمر قد ظلمك في مالكِ! وإني رددته إليك فخذيه، قالت: كلا والله لا آخذه؛ فما كنت لأطيعه حيًّا وأعصيه ميتًا، فأخذه يزيد وفرقه على أهله، وبقيت فاطمة في حالة زهد وعبادة وورع حتى لحقت بزوجها عمر — رضي الله عنه.
(١٧) فاطمة ابنة جمال الدين سليمان
فاطمة ابنة الشيخ الإمام المقرئ المحدث جمال الدين سليمان بن عبد الكريم بن عبد الرحمن بن سعد الله بن أبي القاسم الأنصاري الدمشقي.
كانت من النساء العالمات العاقلات المحدثات الصادقات في الرواية. أخذت الحديث عن والدها وعن أجلاء عصرها، وقد أخذ عنها الحديث جملة؛ مثل الصفدي وخلافه، وأجازها معظم علماء القرن السابع للهجرة من الشام والعراق والحجاز وفارس وغيرها، وكانت ولادتها في سنة ٦٢٠ هجرية، وتوفيت في سنة ٧٠٨ﻫ، وكانت ذات ثروة وافرة تمكنت منها بأعمال خيرات ومبرات ومدارس وبيمارستانات وتكايا، وأوقفت لتلك المحلات الخيرية أوقافًا، ورتبت لمستخدمها رواتب حتى باهت بأفعالها الخيرية أعاظم رجال ونساء عصرها. رحمها الله تعالى.
(١٨) فاطمة ابنة الخشاب
كانت شاعرة مجيدة، وفصيحة بليغة، لها قصائد مطولة، وأشعار لطيفة، ونثر جميل، عاصرت الصفدي في القرن السابع. وقد اجتمع عليها جملة من العلماء والأماثل والأدباء الأفاضل، وقد أجازها في الحديث جملة منهم، وروى عنها كثير أيضًا.
وقد راسلها يومًا العلامة قاضي القضاة شهاب الدين بن فضل الله بقصيدة غراء نحو سبعة وعشرين بيتًا ومطلعها:
فأجابته المترجَمة بقصيدة على وزنها وقافيتها تزيد على العشرين بيتًا، لم نعثر منها إلى على هذين البيتين؛ وهما:
فلما وصلت هذه القصيدة إلى قاضي القضاة وجدها كلها ألفاظًا دُريَّة، ومعانيَ عبقرية، أكبر مخاطبتها، وأخذها بعين الكمال، ولم يُخاطبها إلا بما يُوافق مقام العلماء الأعلام. وبقيت معززة مكرمة إلى أن ماتت وحضر مشهدها جملة من العلماء والأعيان والحكام. رحمها الله تعالى.
(١٩) فاطمة الفقيهة ابنة علاء الدين محمد بن أحمد السمرقندي
كانت من الفقيهات العالمات بعلم الفقه والحديث، أخذت العلم عن جملة من الفقهاء، وأخذ عنها كثيرون، وكان لها حلقة للتدريس، وقد أجازها جملة من كبار القوم، وكانت من الزهد والورع على جانب عظيم، تزوجت بفخر الأنام العالم العلامة علاء الدين القاشاني، ومكثت عنده زمنًا طويلًا، وقد ألفت المؤلفات العديدة في الفقه والحديث، وانتشرت مؤلفاتها بين العلماء والأفاضل. وكانت معاصرة للملك العادل نور الدين الشهيد، وطالما استشارها في بعض أموره الداخلية، وأخذ عنها بعض المسائل الفقهية، وكان دائمًا يُنعم عليها ويعضد مسعاها.
وقد توفيت بمدينة حلب، ودفنت في مقبرة من قبور الصالحين، وقبرها هناك مشهور بقبر المرأة وزوجها؛ لأنها دفنت بعد وفاته بجانبه.
(٢٠) فاطمة النيسابورية رضي الله عنها
كانت من ذوي الزهد والورع ولابسات المسوح، حجَّت جملة مرار من بيت المقدس إلى مكة وهي ماشية على قدميها، وكانت معاصرة لذي النون المصري وأبي يزيد البسطامي، وكان ذو النون المصري — رضي الله عنه — يقول: فاطمة أستاذتي.
وكانت تقول: من لم يراقب الله تعالى في كل حال؛ فإنه ينحدر في كل ميدان، ويتكلم بكل لسان، ومن راقب الله في كل حال أخرسه إلا عن الصدق، وألزمه الحياء منه، والإخلاص له.
وكانت تقول: من عمل لله على مشاهدة الله إياه فهو مخلص. وكان أبو يزيد البسطامي يقول عنها: ما رأيت امرأة مثل فاطمة! ما خبرتها عن مقام إلا كان الخبر لها عيانًا.
ماتت في طريق العمرة بمكة سنة ثلاث وعشرين ومائتين.
(٢١) فاطمة بنت الإمام السيد أحمد الرفاعي الكبير
كانت عابدة قانتة صالحة، حافظة لكتاب الله، فقيهة في دين الله، محافظة على الدين، مكرمة للصالحين، خاشعة قانعة باكية، هائمة في الله تعالى، شغلها حب الله تعالى عن غيره.
رأى الشيخ الفاروقي — قُدس سره — رسول الله ﷺ في المنام والسيدة فاطمة هذه وأختها السيدة زينب بين يديه، والنبي ﷺ يقول: فاطمة فاطمتي، وزينب زينبي، بنتاي وبنتا ولدي، أَحِبَّ أهلَ هذا البيت يا عمر، فأفاق الفاروقي مندهشًا وغشي عليه الليل كله، فلما أصبح استأذن على السيدة فاطمة، فلما وقف وراء الحجاب قالت له بصوت حزين وخشية وأنين قبل أن يذكر رؤياه: جدُّنا بنا رحيم ﷺ.
أخذ عنها القراءة ولدها السيد أبو إسحاق إبراهيم الأعزب، وولدها السيد نجم الدين أحمد — رضي الله عنهما — وسمعا منها حديث الرسول، وحدث عنها السيد أحمد الصبان — رضي الله عنه — في كتاب «الوظائف».
ونقل عنها الشيخ محيي الدين إبراهيم بن عمر الفاروقي، أنها أنشدت في مجلس درسها بيتًا حفظته أخته الصالحة خديجة الفارسية، ورواه عنها؛ وهو:
توفيت بأم عبيدة سنة تسع وستمائة، ودفنت بالمشهد الأحمدي — رضي الله عنها.
(٢٢) فاطمة بنت السيد عبد الرحيم الرفاعي
وتلقب ملكة، قال الإمام أحمد الزبرجدي الكبير — قُدس سره — حين ذكرها: السيدة فاطمة أخت القطب الجليل السيد أحمد الصياد بن الرفاعي — قدس الله سره — العزيز يلقبها أهل بيتهم ملكة. كانت صالحة عارفة عالمة عابدة خاشعة، حجَّت مع أخيها السيد عز الدين أحمد الصياد الشهير سنة ثلاث وأربعين وستمائة، وزارت مدينة النبي ﷺ، فلما تمثلت أمام قبر جدها — عليه الصلاة والسلام — قالت:
ثم غشي عليها فرفعوها إلى محلها، فماتت ذلك اليوم، ودفنت بالقرب من حرم النبي ﷺ، ومرقدها المبارك معروف يزار بالمدينة ويتبرك به. رضي الله عنها.
وهي حفيدة الغوث الأكبر سيد الأولياء السيد أحمد الرفاعي — رضي الله عنه — من بنته السيدة العارفة بالله الشريفة زينب، ووالدها القطب الأعظم السيد عبد الرحيم الرفاعي الحسيني — رضي الله عنهم أجمعين.
(٢٣) فاطمة علية
هي ابنة العلامة المفضال المؤرخ الشهير جودت باشا، ناظر العدلية العثمانية سابقًا. ولدت فاطمة علية في الآستانة العلية ليلة الثلاثاء السابع والعشرين من شهر ربيع الثاني سنة ١٢٧٩ هجرية، الموافق ٩ تشرين أول (أكتوبر) سنة ١٨٦٢ ميلادية. ولما تولى والدها ولاية حلب الشهباء سنة ١٢٨٢ﻫ كان عمرها ثلاث سنوات، ولما ظهر عليها من أمارات النجابة أحبها حبًّا شديدًا، فأخذها معه، ومكثت عنده مدة ولايته — وهي سنتان — تحت مناظرته.
ولما رجع إلى الآستانة استحضر لها معلمين ومعلمات، وهو تقلب في جملة وظائف مهمة في الدولة العثمانية إلى أن بلغت من العمر أربع عشرة سنة، فتعين والدها في ولاية ثانية، وكان ذلك في سنة ١٢٩٢ هجرية، فذهبت معه، ولم يمكث بها كثيرًا ورجع إلى الآستانة، ومع ذلك فإنها أينما توجهت فإنها مشتغلة بالعلوم والمعارف.
وفي سنة ١٢٩٥ﻫ، تولى والدها ولاية سورية، فتوجهت معه وأقامت مدة في دمشق الشام، ثم أقامت شتاء في بيروت، ورجعت برجوع والدها إلى الآستانة.
وكان أول ما اشتغلت به من العلوم من سن الطفولية تعلم أصول القراءة والكتابة التركية، وتلقت دروس العربية والفارسية من عدة معلمين خصوصيين مختلفي الطبقات، ثم اشتغلت بتحصيل اللغة الفرنساوية، وأتمت الحصول عليها بواسطة آنسة باريسية، ولما كانت في سورية تقدمت في تحصيل اللغة العربية بكافة فنونها من بديع وعروض ونحو وبيان وخلافه.
وأما العلوم العقلية من توحيد، وكلام، ومنطق، ورياضة، وهندسة، وحساب؛ فإنها أخذتها عن والدها بأحسن مأخذ. وأما علم الموسيقى فإنها أخذته بكامل أنواعه وفروعه عن ماهرين فيه من ترك وعرب وفرس وإفرنج حتى فاقت أهل زمانها فيه.
والذي يرى تفرغها لهذه العلوم يظن أنها أهملت أهم ما يلزم للمخدَّرات من الأشغال المنزلية، حالة كونها لم تهمل دوام التقدم في الأشغال اللازمة للمخدرات، وقد تفردت بذلك بين مثيلاتها وفاقت كثيرات من قريناتها.
وافتتحت لذاتها منهاجًا خصوصيًّا في الإنشاءات الكلامية، ولكنها لم تقتدر على التفرغ لنشر الآثار بالنسبة لاشتغالها في أول الأمر بالشئون التي هي طبيعية الحصول لطائفة النساء؛ كتدبير المنزل وتربية الأولاد. ولما عمت العلوم والمعارف في هذا العصر الحميدي إلى عموم الممالك العثمانية، وخصوصًا في الآستانة العلية، وابتدأت بعض المُخدَّرات العثمانية في نشر الآثار، والاشتراك في خدمة التأليف وغيرها، ابتدرت المترجَمة أن تسابق هاتيك المُخدَّرات، فترجمت رواية «دولانته» — تأليف «جورج أدنا»، أحد مشاهير أدباء الفرنساويين — من اللغة الفرنساوية إلى التركية، وسمَّتها باسم «مرام»، وأبدعت فيها كل الإبداع من جهة الأسلوب والسياق. وهي أول آثار براعتها، ولكنها ضنت باسمها فلم تذكره، بل أخفته صونًا واحتجابًا، وانتظرت أقوال أدباء العصر عنها، ولم يتكامل نشرها حتى ظهرت علائم استحسان الأدباء للطراز الجديد الذي جرت عليه في عباراتها. وقد احتفل بها العلامة أحمد مدحت أفندي، محرر جرنال «ترجمان حقيقت» التركي العبارة، وكتب جملة فصول عنها، وشوَّقها إلى خدمة العلوم والآداب.
وكثر الكلام بين أدباء العثمانيين عن سياق هذه الرواية بالنظر لخفاء اسم مترجمتها، ولكن عضدها فيه مدحت أفندي وأمثاله من فضلاء الأتراك، وأظهروا لهم حقيقة حالها.
وبناء على تعضيد وتنشيط مدحت أفندي لها أظهرت اسمها، وابتدأت المباحثات العلمية والأدبية بينها وبينه، وصارت تكتب المقالات العديدة وترسلها تحت إمضائها فتُنشر في «ترجمان حقيقت»، وبذلك اشتهرت بين الأدباء اشتهارًا عظيمًا.
ولما شاع ذكرها في الآفاق وسمعت بها نساء الإفرنج السائحات؛ صرن أول ما يردن على الآستانة يَقْصدنَ منازل السيدات العثمانيات المتصفات بالفضيلة، ويَزُرنَ المُترجَمة ويُذاكِرنَها في العلوم والمعارف والفنون؛ فيَجِدنَ منها فاضلة أديبة.
وقد جرت بينها وبين ثلاثة من سيدات الإفرنج السائحات محاورات مهمة كتبتها في رسالة وسمتها باسم «نساء الإسلام»، وقد نشرت في جريدة «ترجمان حقيقت» سنة ١٨٩٢ إفرنجية، وترجمتها عنها جريدة ثمرات الفنون التي تطبع في بيروت من التركية إلى العربية، ثم ترجمت هذه الرسالة إلى الفرنساوية والإنكليزية، وبلغت حدها من الاشتهار.
وبما أنها جاءت أحسن مقالة أنشئت من ذوات القناع؛ لما فيها من حسن البلاغة والإبداع؛ رأيت أن أدرجها عقيب هذه الترجمة، وإن كان فيها طول؛ لما فيها من الفائدة، وأثرًا لهذه الفاضلة.
وللمترجمة رواية تركية عثمانية، وسمتها باسم «محاضرات»، نشرتها بأسلوبها التركي البديع في الآستانة العلية.
وبالجملة فإن المترجمة قد تفننت في العلوم الرياضية والفلسفية والطبيعية كلَّ التفننِ، ومزجت العلوم الشرقية بالعلوم الغربية حتى صارت من مفاخر المخدَّرات الإسلامية، ولم يضاهها أحدٌ من النساء الشرقيات والغربيات. وهي الآن مقيمة بالآستانة العلية — كثر الله من أمثالها، ووسَّع الله بها العلوم والمعارف على جنسنا النسائي. وها هي الرسالة الموعود بأدراجها؛ قالت:
لما كان النوع الإنساني مدنيًّا بالطبع، ومحتاجًا إلى التعاون والتعاضد مع بعضه البعض، تمكَّن في كل جهة من عقد روابط الجمعية، وبسط بساط المدنية، واستكمال حاجاته الضرورية، ثم تسنى له بالتدريج استحصال حوائجه الكمالية أيضًا، وعلى هذا الوجه ظهر اختلاف في اللغات في أي الأطراف، ونشأ تباين في العرف والتعامل يخالف بعضه بعضًا، وقد أدى اختلاف اللسان والمكان إلى إيجاد مباينة كلية بين المِلل والأقوام، حتى إنه من القديم أخذ كل فرد من هاته المِلل يعيش في عالمه الصغير في حالة العزلة والانفراد لا يعلم شيئًا من أحواله سواه.
أجل، إن المِلل المذكورة لم تكن خلوًّا من وسائط المواصلات كالقوافل والسفن، إلا أنه بالنظر إلى صعوبة الأسفار البرية والبحرية وقلة الواردات، كان أهالي البلاد البعيدة غير واقفين تمام الوقوف على أحوال غيرهم من أبناء النوع الإنساني، وكان إذا ظهر حادث في جهة من أوروبا لا يمكن العلم به إلا بعد سنة كاملة! ومثل ذلك كانت سائر البلاد الأوروبية أيضًا لا تسمع بحوادث العالم إلا بعد مرور زمن طويل!
ولما أنشئت السفن التجارية كثرت الواردات، وحصلت السرعة والسهولة في النقل والحركة، وقد ازدادت هذه السرعة والسهولة في الأسفار والسياحات زيادة تذكر بواسطة الطرق الحديدية، ثم اخترع التلغراف فكان واسطة للمخابرات بنسبة هذه السرعة في الأسفار، حتى إن الحوادث التي كانت لا تُعلَم في البلاد البعيدة إلا بعد سنة، صار يمكن الوقوف عليها في خلال ساعة واحدة، وبالجملة فإن العالم دخل في طور جديد يختلف عن الطرز الأول.
وعلى ذلك، فإن الأوروبيين المشتغلين بتحقيق وتدقيق جميع الأشياء، وإن كانوا قد ابتدءوا في بذل الجهد رغبة منهم في الاطلاع على خصوصيات أحوالنا، قد تبين لي في خلال المحاورات التي وقعت بيني وبين بعض النساء الأوروبيات من معتبري السواح، أن ظنون الإفرنج المتعلقة بنا هي من حيث الخطأ والوهم في صورة مُوجِبة للتعجب حقيقة، حتى إنني عندما سمعت هذه الأخبار الكاذبة من المرمى إليهن تعجبت تعجبًا يضاهي استغرابهن مما يلقينه من الأخبار الفاسدة المغلوطة، وظننت أنهن إنما يجئن عن غيرنا من المِلل.
ومع ذلك، فإن الكلام الذي سمعته من هؤلاء السائحات إنما هو مندرج في الآثار الأوروبية المكتوبة على شكل كتب السياحة، وعلى هاته الحال فإن كتب السياحات المذكورة ليست من كتب المعلومات الباحثة عن حقائق الأحوال، وإنما أكثر مندرجاتها تشبه الحكايات الخيالية التي كتبت على طرز القصص الروماني، فهذه الأوهام والخطيئات كيف نشأت يا ترى؟ وهل هي منبعثة عن أغراض الأوروبيين الخصوصية؟ كلا، إن السواح المعتبرين يبذلون قصارى جهدهم، وينفقون نقودهم في سبيل الوقوف على الحقائق المنتشرة في آفاق وأقطار العالم؛ ليستفيد من علمهم واطلاعهم كل فرد من أفراد مواطنيهم، فيجب — والحالة هذه — أن نفتش عن هذا القصور عندنا؛ إذ إنه من موجبات كمال التحري عن قصور الذات، ومَن يَقِسْ قبائحه بعد توفيقها على قبائح غيره يكن لا شك في جانب الحق والصواب، ويفز برفعة القدر وعلو الجناب.
معلوم أن الوقوف على أفكار الأهالي وعاداتهم كما ينبغي لا يحصل ولا يتم بالتجول في أسواق البلد وطرقه، ومشاهدة مواقفه المشهورة، وإنما لأجل الوقوف على أحوال إحدى الملل الحقيقية يجب الاجتماع بالذكور والإناث، والأخذ معهم بأطراف الحديث. ولما كانت النساء عندنا متحجبات كان الاجتماع بهن مستحيلًا على الرجال، ومع ذلك فإن كثيرًا يوجد بين هؤلاء السواح نساءٌ لا تقل معارفهن عن معارف الرجال؛ فيمكن بواسطتهن أن يطلع سائر السواح أيضًا على أحوال نساء المسلمين الحقيقية بمزيد السهولة، لكن هؤلاء النساء العارفات أيضًا لا يمكن أن يفهمن بمجرد دخولهن على عائلة لا يفهمن لغتها؛ فإنهن يَكُنَّ حينئذ كالخرس، ويكتفين بتبادل النظرات.
أجل، إن لدينا في الوقت الحاضر عددًا من النساء اللاتي يعرفن اللغة الفرنساوية، على أن قسمًا كبيرًا منهن قد تربين تربية إفرنجية صرفة بمعرفة المربيات الأوروبيات المعروفات باسم «الستينوتريس»، فتعلمن اللغة الفرنساوية لا لأجل اكتساب المعارف والعلم، وإنما رغبة منهن في أن يَكُنَّ إفرنجيات محضًا! ولما كن جاهلات للأحكام الشرعية، وكُنَّ قد نبذن عادتهن المليَّة ظهريًّا وعشن عيشة إفرنجية؛ كان الاجتماع بهن والأخذ بأطراف الحديث معهن نظير محادثة العيال الإفرنجية في «بك أوغلي» — قسم من دار السعادة يسكنه الإفرنج — فلا يستفيد مُحادِثُهن فائدةً بالكلية، ولا يفهم منهن شيئًا على الإطلاق.
وهاته العيال السالكة مسلك التقليد إذا رغب إليهن أحد في الحصول على المعلومات المتعلقة بأصول المعيشة الإسلامية، مما يكن قد نَبَذْنَه نَبْذ النواة، سكَتْنَ عن بيان استقامة وطهارة الدين المبين الإسلامي — من حيث إنهن قليلات العلم بذلك — وأخذن في الكلام بحدة وشدة عن مسائل الحجاب، زاعمات أن العادات الملية مقتبسة عن الأحكام الشرعية. وبالجملة فإنهن يبحثن عن أشياء لا علم لهن بها، فيكنَّ سببًا لمفتريات وإسنادات بعض الأجانب على الدين المطهر الذي استنرنا بمشكاته، وتشرفنا بآياته.
والغالب أن النساء اللاتي قدمن إلى مدينتنا من أوروبا بقصد السياحة قد أدركن هذه الدقائق؛ فإنهن كثيرات الرغبة في الاجتماع بالعيال الإسلامية التي ما برحت عائشة على النسق السابق والأصول القديمة.
وإنه يوجد قسم من العيال الإسلامية أيضًا، بحسب أفرادهم، يعتقدون أن في تعليم النساء العلوم والمعارف إثمًا! حتى إنهم لا يتعصبون فقط بأمر تعلُّمهن اللغة الفرنساوية، بل يتعصبون أيضًا في تدريس اللغة التركية ما يزيد عن اللزوم الضروري! والحق يقال: إن هؤلاء ممن لا يعلمون ما بلغ إليه الأزواج المطهرات، والبنات الزاكيات، وكثير من العالمات الأديبات التي كنَّ في صدر الإسلام من رفيع الدرجات في العلم والفضل.
ومع أن كشف وجوه النساء غير محرم شرعًا، وإنما الواجب عليهن أن يسترن شعورهن؛ فإنا نرى بعضًا من نسائنا يحجبن وجوههن على عكس الإيجاب الشرعي، ويكشفن شعورهن! والحاصل أن الحد الوسط مفقود عندنا، تتلاعب بنا أمواج الحيرة في عباب التيه، فلا ندري إلى أية جهة نسير، والحال أن الإفراط والتفريط في كل شيء مُضِر ومذموم، والاعتدال مشكور في جميع الأحوال؛ فإن خير الأمور أوسطها.
فبناء على ذلك، يلزم على السواح كي يتمكنوا من الوقوف على حقائق الأحوال أن يجتمعوا ويتباحثوا مع العيال العارفة اللغة الفرنساوية، العائشة على مقتضى الأصول الإسلامية حالة كونها محافظة على أحكامها الدينية، وأفكارها وعادتها الملية. نعم؛ إن تمييز ذلك مشكل بالنسبة إلى الغرباء؛ إذ إن الأجانب الذين ينزلون في فنادق «بك أوغلي» يطرحون على التراجمة — الذين لا يحيطون علمًا بما خرج عن عالم هذا المحل — أسئلة بقصد الحصول على بعض الأنباء، فيأخذ هؤلاء التراجمة بالنظر إلى اضطرارهم لتأدية الجواب في إلقاء كلمات لا معنى لها! فيهرفون بما لا يعرفون، وتصبح أحوالنا موضوعًا للحكايات الخيالية.
ومن الأمور المعلومة عند سائر الأنام أن الأوروبيين لا يعترضون بشيء على أحكامنا الدينية الموافقة للحكمة والعقل، وإنما يتخيلون ويظنون أن نساء المسلمين مظلومات معذورات؛ فيطلقون ألسنتهم باللوم آخذات التشديد في هذا الباب.
بما أنني في خلال محاوراتي مع بعض السائحات المعتبرات قد اطلعت على أوهام الأوروبيين وفساد ظنونهم المتعلقة بنا، ولم يسعني أن أستر استغرابي من ذلك في خفايا القلب، رأيت نفسي مضطرة إلى بيان ما دار بيننا من الأحاديث في المحاورات المذكورة على الوجه الآتي:
المحاورة الأولى
في يوم من أيام شهر رمضان الشريف في السنة الماضية؛ أي سنة ١٣٠٨ هجرية، أُخبِرْنا أن عقيلة أوروبية تدعى «مدام ف.» وراهبة زاهدة في الدنيا ترغبان في المجيء إلى منزلنا لمشاهدة طعام الإفطار. وبُعيد العصر أقبلتا على المنزل، وأخذتا تتنزهان في الحديقة الخارجية، ثم بعد مرور نصف ساعة أرسلتا تخبرانا أنهما داخلتان إلى المنزل. ولما كانت وظيفة الترجمة في منزلنا مفوضة لعهدة هذه العاجزة؛ ذهبتُ لاستقبالهما في باب الحديقة تصحبني جاريتان؛ لتحملا رداء ومظلة كلٍّ من الزائرتين.
وعند دخولهما رحبت بهما باللغة الفرنسية، وتبادلنا المصافحة بالأيدي، ثم إن «مدام ف.» مدت يدها إلى الجارية التي كانت تصحبني — وهي الجارية القائمة بخدمة رئيسة الخدم في منزلنا — لتصافحها. أما الجارية فإنها تناولت المظلة من يد المومى إليها الثانية، وانسحبت إلى الوراء، وأخذت الجارية الثانية رداءيهما وبرنيطتيهما ودخلت بهما إلى قاعة الضيوف، وبعد ذلك قدَّمت لهما صاحبة البيت وأفراد العائلة، وعرفتهما بهن على مقتضى الأصول الجارية.
أما «مدام ف.» فهي امرأة بين الخامسة والثلاثين إلى الأربعين من العمر، والراهبة بين الأربعين إلى الخامسة والأربعين من سِنِيِّ الحياة. وقد علمت أن «مدام ف.» المومى إليها وزوجها والراهبة أيضًا لم يأتوا إلى دار السعادة قبل هذه المدة. وبعد أن أكرمناهما بالحلوى والقهوة على النسق التركي، طلبت «مدام ف.» أن تتفرج على غرفة مفروشة على الأصول التركية، فأدخلناها إلى القاعة، ولمَّا لم تَرَ فيها غير مقعد بسيط أخذتها الحيرة وطلبت مني أن أطوف بها إذا أمكن في الغرف الأخرى، فتكون في غاية الامتنان، فقلت لها: إن ذلك مما يزيدنا منة، وسارعت حالًا في إنفاذ رغبتها. وفي خلال ذلك أشارت «مدام ف.» إلى رئيسة الخدم الواقفة أمامها وقالت: أثناء دخولنا قدمت يدي لهذه السيدة فلم تتناولها، وإنما أخذت من يدي المظلة. والآن أراها واقفة على الأقدام لا تجلس معنا، فما السبب في ذلك؟!
فقلت لها: لأنها جارية أيتها المدام.
فقالت: وما شأن البنات اللاتي على مقربة منها.
فقلت لها: هن مثلها أيضًا.
فقالت: حسن جدًّا، ولكن أيتها السيدة أرى في أذنيها أقراطًا، وفي يدها خاتمًا، وعلى صدرها ساعة جميلة وسلسالًا، وقد ظننت قبلًا أنها سيدة، والآن علمت أنها جارية، فأخذتني الدهشة من تميزها بالحلي عن غيرها من الجواري، فما السبب في ذلك؟! وأرى أن هاته الفتاة الواقفة في الطرف الآخر لا تنقل غير قرط في أذنيها، ولكن هذا القرط ليس بذي قيمة كذاك القرط، وفضلًا عن ذلك فهي لا تحوي غيره من أنواع الحلي، والجارية الواقفة في تلك الجهة تحمل ساعة بسيطة وسلسالًا لا غير؟! فقلت لها: إن الجارية التي ظننت أنها سيدة إنما هي رئيسة الخدم في هذا المنزل — أعني أنها بمنزلة مديرة لسائر الجواري — فهي التي تعلمهن كيف يجب عليهن أن يخطن ألبستهن، ويسرحن شعورهن، ويقمن بأمورهن الخصوصية؛ لأنهن ساذجات غبيات، ولا تزال رئيسة عليهن حتى يصرن قادرات على إجراء ذلك، وهي التي تكون بمقام الوالدة لهن مهما يكن عددهن، كثيرًا كان أم قليلًا، وسيدة المنزل تلقي التبعة عليها بأمر نظافتهن وطهارتهن؛ فهي المرجع المسئول، ولما كانت أعمالها وخدمتها تربو على خدمة غيرها فقد أعطاها سيدها هذه الهدايا بمقابلة خدمتها.
وأما هاته الجارية الفتاة فقد جلبت إلى هذا المنزل وهي في السنة الرابعة من العمر، وحتى الآن لم يعهد إليها بخدمة وعمل على الإطلاق، وهي الآن في الرابعة عشرة من سنها، ولما كانت غير قادرة على العمل إلى هذا الوقت لم تحمل خدمة وعملًا. ورئيسة الخدم التي تنظرينها الآن قد كانت من الخدم ذوات الدراية والاستعداد في عهد رئيسة الخدم التي كانت قبلها، فنالت بمهارتها هذه المرتبة، وصارت رئيسة للخدم، وكانت قائمة على العناية بهاته الجارية الصغيرة، وعلى ذلك فإنه من الآن فصاعدًا ستنتظر الخدمة من هاته الصغيرة الأعمال التي عهد بها إليها حتى الآن ستقوم بها في المستقبل؛ بمعنى أنها أخذت منذ الآن في مباشرة الخدمة.
وأما القرطان اللذان في أذنيها فقد اشترتهما بالدراهم التي اقتصدتها وادخرتها من راتبها الشهري، والجارية الأخرى التي تفضلت بالسؤال عنها لا تزال حديثة العهد في هذا البيت، فلم تقم إلا بعمل قليل قد مكَّنها من مشترى الساعة والسلسال.
فقالت: أيتها السيدة، إن الكلمات التي أسمعتنيها موجبة للحيرة والاستغراب! وسأتقدم إليك بطلب بعض التفصيلات إذا كان ذلك غير داعٍ لإزعاجك، فقلت لها: اسألي ما شئت.
قالت: ذكرت في عرض كلامك السابق شيئًا عن رئيسة الخدم السابقة؛ فأين مصيرها ومقرها الآن؟
قلت لها: إنها قد هيأت خادمات يمكن لهن القيام مقامها، ولما كانت قد انتهت وظيفتها وأوفَتْ ما يجب عليها زوَّجناها، ولها الآن ثلاثة أولاد.
قالت: وأين هي الآن؟
قلت: حيث إنها ذات بعل هي الآن في بيت زوجها.
قالت: هل تبقى وظيفة رئاسة الخدم في الأقدم؟
قلت لها: كلا، إن سيدةَ المنزلِ تنتخبُ من ضمن الجاريات اللاتي تهذبن على أيدي رئيسة الخدم أكثرهن ذكاء واستعدادًا، وتُعينها رئيسة للخدم، وسائر الجواري ينلن الهدايا مثلها بمقابلة خدمتهن، ولا يمكن أن يكن رئيسات للخدم واكتساب هذا العنوان بمجرد القدمية، على أن رئيسة الخدم لا تعاملهن معاملة الساذجات، ولا تأتيهن بكلام الآمر، وإنما مصدر إخطاراتها وتنبيهاتها بطريق المجاملة واللطف، وتعاملهن معاملة شقيقات لها.
قالت: ذكرت شيئًا يتعلق بالرواتب؛ فهل تدفعون راتبًا للجواري؟ قلت: لا ريب في ذلك، نعم؛ إن سيد الجاريات هو الذي يقوم بتسوية ما يلزمهن من الألبسة وسائر الحاجات، غير أن لهن نفسًا كما لا يخفى، ولكل نفس ميل ورغبة، فربما اشتهين طعامًا لم يكن له وجود ذاك النهار في البيت، وربما ملن إلى الحصول على ألبسة تختلف عن الألبسة التي عملها لهن سيدهن، فهذه الرغائب والمشتهيات يأخذنها بالدراهم التي يدخرنها من رواتبهن؛ ولذلك كان لهن رواتب مخصوصة.
قالت: وهل تعطون إلى الجاريات القديمات علاوة على ذلك هدايا؟
فقلت لها: لا، فقط هدايا أيتها المدام، وإنما متى صارت الجارية خصيصة على أهل المنزل نجهزها الجهاز اللازم، وإذا نالت الجارية حظوة في عين سيدها، وكان سيدها مقتدرًا؛ فإنه هو الذي يقترن بها.
قالت: ألا تشترون الجواري أنتم بالدراهم؟
قلت: أجل غير أن الدراهم التي ندفعها إنما تُدفع للبائع، فالجارية لا تستفيد منها شيئًا، والفائدة عائدة لأقرباء البائع أو سيده، والديانة الإسلامية تأمرنا بأن لا نترك للجواري حقًّا علينا، ولأجل ذلك نعطي لكل جارية هدايا ودراهم وجهاز بمقابلة خدمتها.
فقالت: يستفاد من ذلك أن الجاريات هن نوع من الخادمات؟
قلت: نعم، إنهن يشبهن الخادمات اللاتي يُستخدمن مُشاهَرة أو بالسَّنَة، غير أن الخادمة إنما تُعيَّن لها أجرة ومدة معلومة؛ فإن الجهالة في الأجرة ومقدار الأجل إنما هي إجارة فاسدة.
وأما الجارية فإن الدراهم التي ستنفق عليها كما أنها غير معلومة كذلك مدة خدمتها غير معينة؛ بناء عليه كانت معاملتها مماثلة للإجارة الفاسدة، ولكن جرت العادة والتعامل على هذا الوجه، والدراهم التي ينفقها سيد الجارية عليها إنما تكون بمقتضى صداقتها وثروة سيدها. وهذه القيم يُعينها العُرف وترسمها العادة.
يجب أن تعتقوا الجارية بعد خدمة تسع سنوات، وإذا لم تكن لكم ثروة واقتدار؛ فبيعوها إلى شخص من أهل المروءة يعتقها.
ومع ذلك، فإن العرف والعادة قد تقدمت درجة أخرى بهذا الموضوع، حتى صار يعاب على الذين لا يعتقون جواريهن بعد سبع سنوات. أما ذوو البيوتات من أهل الديانة والمروءة فإنهم لا يقيدونهن بهذا المقدار؛ لأن في الدين أسبابًا كثيرة تقضي بالعتق وإطلاق الحرية لهن، ومن جملة ذلك أن شخصًا متى نال مرامًا يرجوه يعتق عبدًا؛ من قبيل شكر النعمة، وإذا نذر بعضهم قائلًا: إنني إذا حصلت على القصد الفلاني أعتق لأجله عبدًا، وجَب عليه أن يقوم بإيفاء النذر.
وأما الجارية التي تقوم بتربية ابن سيدها؛ فإنها تُعطى حريتها في اليوم الذي يذهب به الصغير للمدرسة، ومن حيث إن أكثر الصغار يرسلون إلى المدرسة وهم في السنة الرابعة من عمرهم، كانت مدة إسارة المربيات أربع سنوات، حتى إنه إذا ارتكب شخص قصدًا إفساد صوم يوم واحد من صيامه، فُرض عليه أن يُكفِّر عن ذلك بإعطاء الحرية لعبد واحد، وإذا لم يستطع هذا الأمر فالكفارة تكون بصيامه ستين يومًا؛ فيستنتج من كل ما تقدم أن إطلاق حرية عبد واحد تقوم مقام صيام ستين يومًا، وعلى ذلك كان هناك أسباب شرعية وآداب ملية تجبر أهل الإسلام على عتق العبد.
قالت: حسن جدًّا، غير أن الخادمة يمكنها أن لا تخدم في المنزل الذي لا ترضاه. أما الجارية فإنها مكرهة على البقاء في الخدمة وإن يكن سيدها ظالمًا؟!
فقلت: لماذا؟ إن الجارية التي تكون غير مسرورة من المنزل، وكانت راغبة في تركه فيكفي في ذلك أن تقول: بيعوني، وحينئذٍ تباع إلى مَن ترضاه ويعجبها. وقد جرت العادة أنها لا يُمكن أن تُباع إلى شخص لا يلائمها، وأما من حيث الوجه الشرعي، فإن الظلم والجفاء لا يجوز إتيانه بحق الأسرى على وجه الإطلاق، وعند مراجعة المحكمة في الأمر فالعدالة تأخذ مجراها لدى الحاكم.
قالت: يستفاد من ذلك أنه لا فرق بينهن وبين الخادمات؟!
قلت: كلا، أيتها المدام، إننا لسنا بمديونين للخَدَمة بهذا القدر؛ فإن الخادمة تتناول راتبها الشهري ليس إلا، وفي الزمن الذي لا نحتاج به إليها نمنحها الإذن فتذهب إلى حيث شاءت، ومتى صارت ذات بعل هي التي تهيئ جهازها لنفسها، ثم إنها إذا لم تتفق مع زوجها ورغبت في الانفصال عنه؛ فهي بذاتها تبحث عن محل لها.
وأما الجارية فليست من هذا القبيل؛ لأنها متى صارت زوجة ولم تستطع أن تعيش مع زوجها، ورغبت في أن تنفصل عنه؛ أتت توًّا إلى منزل سيدها كأنما هي آتية إلى منزل أبيها، وحينئذٍ يترتب على سيدها أن يتحرى لها على زوج ملائم فيزوجها به تكرارًا، والأسياد هم الذين يتولون حماية أولاد جواريهم، ويساعدونهم في تعليمهم وتدريسهم. وكل جارية تشاهد من زوجها ظلمًا تشكو أمرها إلى سيدها الذي يدافع عنها، فإذا توفي زوجها ولم يترك ميراثًا كافيًا لإدارتها تأتي بأولادها إلى منزل سيدها؛ نظير هاته الجارية المعتوقة التي ترينها من هذه النافذة قابضة على يد ولدها الصغير وطائفة به في فناء الدار؛ لأنه متى عجزت الجارية المعتوقة عن القيام بإدارة نفسها؛ وجب شرعًا على معتقها — أيًّا كان — أن ينفق عليها، فإذا امتنع أكرهه القاضي على ذلك.
وبعكس الأمر إذا توفيت جارية بلا عقب عن ثروة طائلة، كان لمانحها الحريةَ — أيًّا كان — نصيبٌ من الإرث، فينتج من ذلك أن الجواري معدودات من أخصاء العائلة تمامًا. وزيادة عما تقدم أننا نأتمن الجواري على مفاتيح خزائننا، ونسلمهن إياها مع أننا لا نأتمن الخدم عليها بالكلية؛ فإن الجواري لا يركبن غارب الخيانة؛ لأن بين الجارية وسيدها صلة ورابطة كبيرة بهذا المقدار، حتى إن الجارية لا يمكن أن تخون مولاها إلا إذا كان الأولاد يخونون والديهم، فإذا مرض سيدها بذلت روحها وقلبها في سبيل خدمته؛ مخافة أن تفقده، وكان مثلها في هذا الأمر مثل الأولاد الذين تأخذهم الرعدة والمخاوف من فقد وضياع أمهم وأبيهم، ثم هي إذا أصابها ألم في الرأس حصلت عناية سيدها على مثل ما عاملته تمامًا، ومع أن للجواري المعتوقات كل الحرية في الذهاب إلى أين شئن، فلم يتفق حتى الآن أن الجارية تركت حماية سيدها، الواجبة عليه حتى الموت، وعادت إلى حيث يقيم أبوها وذوو قرباه.
قالت: لا جرم أن ذلك منبعث عن نفرتها من أبيها وأمها وذوي قرباها الذين باعوها؛ أليس كذلك؟
فقلت: عفوًا، أيتها المدام، ليس الأمر كذلك، فإذا سمحت أتيتك بالإيضاح الوافي.
قالت: يا عجبًا! تطلبين مني الإذن للإيضاح وأنا أرجوه وأسترحمه! إنني رأيت الأرقاء في حالة تختلف عما سمعته عنهم، حتى إن الذي سمعته منك عن الأسرى هو يُباين الذي كنت فهمته على الخط المستقيم، فلو تماهلت في بيان الإيضاحات لرأيت من نفسي ما يحملني كرهًا على تقديم الرجاء إليك بأن توافيني ببيان شافٍ عنها؛ فأرجوك أيتها السيدة أن تواصلي الحديث.
قلت: لا يخفى أنه متى ولد للجراكسة ابنة جميلة يأخذون في الحداء لها لكي تنام، سالكين في ذلك على طريقة الإفرنج الذين يُعوِّدون أولادهم على أن يسمعوهم وهم في دور الطفولية اسم رتبة المارشال والجنرال؛ لترسخ في أذهانهم، فيكون لهم ميل إلى الانخراط في الجندية، والجراكسة أيضًا يسمعون بناتهم الجميلات في دور الطفولية مثل هذه الأقوال؛ حيث يقولون للطفلة: إنك تذهبين إلى الآستانة فتصيرين زوجة أحد الباشوات، فلا تنسين أهلك وذوي قرباك، بل اجتهدي في إعانتهم، حتى إذا أدركت الطفلة معنى الكلام يملئون آذانها بمدائح سعادة وحسن حال خالتها وعمتها الموجودة في الآستانة، فيتجسم الميل في الطفلة تجسمًا كبيرًا، وتبتدئ أن تسأل نفسها عن الزمن الذي تذهب به لتحظى بالسعادة الموعودة.
أما والداها فإنهما يبذلان روحهما ومطلق عنايتهما في الاهتمام بها، والسبب في ذلك أنها جميلة، وأنه سيأتي يوم تصير به ولي نعمتهما، وعندما توصل الفتاة إلى السن الذي تعرف به نفسها تخجل لا محالة من مخاطبة والديها، فتأخذ في مخابرة الفتيات اللاتي ينبئنها عن المستقبل الذي يبسم لها، وتتذمر مشتكية من الإهمال الواقع في إرسالها.
ومن ها هنا يتضح جليًّا أيتها المدام أن هذا الوالد وهاته الوالدة يرسلان ابنتهما إلى البلدة التي ينتظرها بها خاطبها، ولكن هو الخاطب الذي يقبل بنتهما بلا جهاز، لا يكلفهما نفقات، وفضلًا عن ذلك فإنه الخاطب الذي يهيل عليها من سائر أنواع الحلي والمجوهرات.
وأما الابنة فإنها تنفصل عن أبيها وأمها وذوي قرباها؛ لتبحث لهم عن السعادة والمستقبل الذي ينظرونه منها، ولكن كيف تنفصل؟ إنها تنفصل بشجاعة وبسالة تدل على أنها تخاطبهم بلسان حالها قائلة لهم: «إنني لا أحملكم ثقلة في إيجاد زوج لي، وإنما سأجده بنفسي، فانظروا كيف أنني سأفيكم حقوقكم وعنايتكم بي، حتى بلغت هذا الطول، بصورة تظهر بها العظمة وعزة النفس.»
وما ينطقها بهذه الأقوال إلا الأمنية والثقة بأنها بواسطة جمالها المنصوب مثاله في المرآة ستحصل على الزوج الذي تريده، والسعادة التي ترغب فيها. والمفهوم أيتها المدام أنهم إذا لم يرسلوها أصبحت في ذلك الوقت عدوة لعائلتها.
ثم نأتي الآن للبحث بالفتيات غير الجميلات، فهؤلاء لما كنَّ محرومات من آمال أولئك الجميلات، من حيث إنهن لم ينلن الأمنية والثقة في النظر إلى مرآة وجوههن، بينا يكن مأيوسات من حالتهن واضطرارهن إلى صرف العمر والسعي والاهتمام والخدمة في بلادهن؛ إذ تتوارد عليهن الرسائل من بنات أعمامهن وأخوالهن غير الجميلات مثلهن اللاتي ذهبن إلى الآستانة، فيقرأن في سطورها ما يفيد أنهن متمتعات بالراحة، وأنهن قد حصلن على الاستراحة التامة؛ لتملصهن من عذاب الخدمة والاهتمام بحرث وفلاحة الأراضي، ثم يتبين لهن من الرسائل التي يأخذنها بعد ذلك أن الجارية التي قامت بخدمتها قد أخذ لها سيدها منزلًا؛ مكافأة لها على صداقتها، وزوَّجها من رجل ملائم لها، ثم متى وضعت طفلًا ترسل إلى أهلها سلام هذا الطفل، بمعنى أنها تلوِّث أصابع الطفل بالحبر وترسمها في هامش الرسالة، فتنوب هذه العلامة عن إهداء السلام، ويظهر لهن من تلك الرسائل أن الجارية بعد زواجها لم تزل متمتعة بحماية سيدها وعنايته بها، فتقع هذه الأنباء في قلوب البنات موقعًا عجيبًا، إلى حد أنهن ينفرن من البقاء منزلهن الذي شببن به، ويصير في عينهن ظلامًا، وتتولد فيهن الكراهة من الأطعمة التي ألِفْنَها، وكانت لذيذة الطعم في أفواههن!
وبالجملة فإنهن يرين الخدمة التي تعودن عليها ثقيلة جدًّا، وبالنظر إلى هذه الخيالات التي تتجسم في أذهانهن لا يبقى لهن من ميل إلى العمل، فيستولي عليهن الخمول والكسل، ويعرضن حينئذٍ أنفسهن للإهانة والتكدير من أمهاتهن وآبائهن، أو يسمعن منهن كلامًا أمرَّ من الصبر، وأثقل من أتعاب الأعمال، مثل قولهم لهن: «إن الخبز لا يؤكل بدون عمل.» وغير ذلك من الكلمات التي تمس كرامتهن، فتأخذ كل واحدة منهن أن تناجي نفسها قائلة: أليس غريبًا أن أضطر أولًا إلى الزرع، ثم إلى الحصاد، ثم لصنع الخبر لأجل أن آكل لقمة من الطعام؟! فإذا ذهبت إلى الآستانة صرت هناك مصاحبة لأحد الأفندية، فيأتيني الخبز والطعام المطبوخ، وفي مقابلة ذلك لا أُسأل إلا عن خدمة المنزل، فإذا أصبحت سيدة أليس أنني أهتم بإدارة منزلي وتدبيره؟! أما هنا فما هي المكافأة التي من المحتمل أن أراها بإزاء ما أؤديه من الخدمة؟ على أنني إذا خدمت أحد الأفندية حصلت ولا ريب على المكافأة، ثم أصير حرة وأستخدم الخدم، وحينئذٍ أصبح سيدة.
وعلى أثر هذه المناجاة تشتد بها الرغبة في الذهاب إلى الآستانة، واشتغال فكر الفتيات بتصوُّر هذه الخيالات مع محبتها أمها وأباها تنظر إليهما من قبيل شكرها النعمة، وإذا كانت هذه الأحوال لا توجب التحسين الكلي، إلا أنه من حيث إنني لم آتك بهذه الإيضاحات إلا على سبيل الحكاية والمعلومات، وحيث إنني لم أتعرض فيها للحكم على إصابتها والعكس، أطلب منك إذا كنت لا ترين هذه الخيالات التي تتجسم في ذهن الفتاة الجركسية موافقة لحب وطنها وعائلتها، وتحملينها على حب الذات الصرف؛ فصرحي بملاحظتك المقنعة.
قالت: أرى أيتها السيدة أنك عرفت الرقيقة تعريفًا لطيفًا بهذا المقدار حتى يكاد يجعل كل إنسان ميالًا إلى أن يكون رقيقًا؟!
قلت: كلَّا، أيتها المدام، لا يجب أن نكثر سواد الأرقاء إلى هذا الحد؛ فإن ذلك يصيب نقصًا في عدد حماتهم بالنسبة إليهم، وبالنتيجة تقل قوة الحماية أيضًا!
وبينا كنَّا نحن الثنتان نتضاحك من ذلك كانت الراهبة إلى هذا الوقت لم تشترك معنا بالمحاورة، وربما لم تنتبه إليها أيضًا كما ينبغي، حسب ما استفيد ذلك من مرآها. أما أنا فقد انتبهت لكلام المدام انتباهًا يختلف عن صورته الأولى.
فقلت: إن المعلومات التي بينتها لك عن الجواري إنما هي مبنية على القواعد الشرعية الأساسية، وعلى عادات وأفعال الأسر التي تراعي هاته القواعد مع سائر المقتضيات الإنسانية، وإلا فإن العالم منه المليح والقبيح، حتى إن القبيح في بعض الأشياء متغلب على الحسن، والفطرة البشرية منهمكة في تغيير وتحويل الأشياء الحسنة إلى الوجهة الرديئة، ميالة مع سوء الاستعمال، فبناء على ذلك لا ينكر بالكلية أن يتخلل مسألة الإسارة أمور شتى من القبائح؛ إذ إنه لا بد أن يوجد أيضًا آباء يبيعون بناتهم اللاتي يكنَّ غير راغبات في الخروج عن أوكارهن؛ وذلك لمجرد أن يستفيدوا من ثمنهن، كما أن هناك سادات يعاملون الجارية التي يكونون قد اشتروها معاملة تخالف المروءة الشرعية، فبعد أن يستخدموها ثلاث سنين أو خمس سنين يبيعونها أيضًا إلى شخص آخر تكرارًا؛ ميلًا في ذلك إلى المنفعة الشخصية.
أليس أن الناس يسيئون الاستعمال ويخبطون في لجج التأويلات الفاسدة فيما يتعلق حتى بأكثر القوانين نفعًا، وأشد القواعد فائدة وحسنًا تبعًا لأغراضهم الذاتية؟ وأما بحسب الإنسانية، فإن الأمر الذي يوجب التأسي والتسلِّي أن الذين يذهبون هذا المذهب في سوء استعمال الشريعة، وسوء تأويل العرف والعادات الإسلامية إنما هم دون الطفيف، وهؤلاء من حيث الأنظار والأفكار العمومية معدودون من أرباب التجاوز الذين خرجوا عن الحق ودائرة المروءة، وتلطخوا بالعار.
أما المدام فإنها قد تلقت هذه الملاحظات بأهمية مخصوصة، وبعد أن اعترفت أنه كثيرًا ما يطرأ على المروءة أمور من عدم الرعاية بين الآباء والأولاد والأزواج والإخوة في أوروبا أيضًا.
قالت: أيتها السيدة، إنه مهما يمكن أن يقال من المطاعن على الرقيق فجميعه قد قيل في أوروبا، وسطر في الأوراق، وأصبح معلومًا عند كل إنسان، غير أن المسائل التي كانت مجهولة لدينا عن الرقيق إنما هي النقط التي أتيتِ على تعريفها وبيانها؛ فلقد أصبحت من جراء بيانك ممتنة شاكرة، على أن لي شيئًا آخر أسألك إياه؛ وهو أنك قد أحسنت كلَّ الإحسان في بيان الآمال والرغائب التي تتجسم في مخيلات الفتيات الجركسيات عندما يُفارقن آباءهن وأمهاتهن، ولكن ما رأيك وقولك فيمن يبيعون الأطفال الذين يكونون لم يبلغوا بعدُ السن الذي يتسنى لهم فيه أن يميزوا مراكزهم، ولا يكونون عرفوا فيه شيئًا من أحوال العالم؟!
قلت: أيتها المدام، إن هؤلاء لا يكتفون بأن تصبح بناتهم ذات يوم من السيدات، وإنما يتشوقون إلى تزينهن بحلى العلم والتربية التي ترفع شأن المرأة وتُمكِّنها من السيادة، وهم يُحبُّون أولادهم محبة كلية إلى درجة أنهم يأبون إبقاءهم في ذلك الاحتقار لديهم؛ إذ تعلمين من هم الذين يشترون الجواري الصغيرات.
قالت: لا جرم أن مجرد التفكر في بيعهن قد أورث فؤادي دهشة هذا حدها، حتى إنه لم يبق لدي من ميل لأن أفتكر فيمن هم الذين يشترونهن.
قلت: أتمنعك هذه الدهشة من الإصغاء إلى ما سألقيه عليك من الإيضاحات؟ قالت: إن بعضًا ممن يشترون الجواري الصغيرات هم العقيمون من البنين فيجعلونهن بمثابة أولادهم، والبعض الآخر يأخذون الجميلات منهن فيُهيِّئونهن للسيادة؛ بمعنى أنهم يعلمونهن القراءة والكتابة، ويربونهن تربية بنات المدن العظيمة؛ ليُصبحن في المستقبل بمقام السيدات. وعليه؛ فإن سيد الجارية التي يمكن في المستقبل أن تُباع بخمسمائة ليرة إلى ألف ليرة لا يقصر في الاهتمام بها، والإحسان إليها بما تصل إليه يد الإمكان، وأكثر العيال التي تشتري الجواري ليتزوجوا بهن إنما هي من هذا البعض الذي أشرت إليه، والبعض أيضًا يربون هؤلاء البنات الصغيرات في بيوتهم إلى أن يكبرن فيَكنَّ زوجات لأولادهم، ويوجد قسم من هؤلاء الصغيرات تأخذهن العيال الكبيرة ليكن بمنزلة مصاحبات أو رفيقات لأولادها.
ولكل فتاة من ذوي البيوتات الكبيرة جارية صغيرة مماثلة لها بالسن، فهذه الجارية تتعلم القراءة والكتابة مع سيدتها، وتتربى التربية عينها، ومتى تزوجت السيدة يطلق سراح هاته الجارية في اليوم الذي يحتفل فيه بعُرْسها. ومن المعلوم أن تهذيبها كسيدتها يُؤهلها للحصول على زوج ملائم لها، فهذه، أيتها المدام، هي الأسباب التي تبعث على بيع الجواري الصغيرات؛ لأن الجراكسة بالنظر إلى ما يرون من هذه المعاملات الحسنة يبيعون بناتهم اللاتي يتيتمن بعد وفاة أمهن، فينقلنهم بذلك من حضن والدتهن إلى أحضان والداتٍ أُخرَ يعتنين بخبرهن، ويحصلن في جانبهن على منتهى السعادة.
قالت: لا أخفي عنك أن الإيضاحات التي سمعتها منك تُخيل لي بالنظر إلى ما سمعته ووعيته قبلًا أنني لم آتِ إلى تركيا، وإنما أتيت بطريق الغلط إلى بلاد أخرى.
قلت: إن السبب في ذلك منحصر في كون الأوروبيين الذين يأتون إلى دار السعادة يذهبون توًّا إلى الفنادق في «بك أوغلي»، فيصرفون أوقاتهم بين أهالي هذا القسم من دار السعادة ليس إلا، ويتمكنون إلى حد ما من الوقوف على شئونهم. وأما جهات إستانبول وإسكدار وداخل البوغاز فلا يعرفون منها إلا الطرق والأرصفة، ولا أكتمك أن صور المعيشة فيها وطرق أصولها وعاداتها لا تنطبق على ما ماثلها في «بك أوغلي»، بل ليس بينهما قياس على وجه الإطلاق! وزيادة على ذلك أن التَّراجمة الذين يتخذونهم بصفة أدلاء لا يعرفون على الحقيقة شيئًا مما خرج عن عالم «بك أوغلي»، ولما كانوا مضطرين إلى الإجابة عن الأسئلة التي تلقى عليهم؛ كانوا يتكلمون بما يوافق عقلهم ولا يلائم أفكارهم، وبعبارة أوضح: إنهم يهرفون بما لا يعرفون! والسواح أيضًا يظنون كلامهم صوابًا فينزلونه منزلة الحقائق، ويسطرونه في كتب سياحتهم، حتى إننا نكاد عند قراءة بعض هذه الكتب نتوهم وهمًا أنها تبحث في إحدى البلاد التي لا نعرفها!
وفي أثناء ذلك دخلت علينا جارية حبشية، ولما كانت منذ ربيت إلى أن شبت على محبة الزينة والانتظام، كانت زينتها التي دخلت علينا بها حسنة جدًّا، فلما رأتها المدام قالت باستغراب: من تكون هذه؟! أرى حلاها تفوق حسنًا وإتقانًا على حلي رئيسة الخدم عندكم؟!
قلت: إنها جارية قد تربت عندنا منذ الصغر إلى أن كبرت، أما عملها فكثير، فلما حان زمن عتقها عرضنا عليها الحرية فأبت.
قالت: لماذا؟!
قلت: أبت ذلك؛ محتجة أنها لن ترى في الحرية ما تراه هنا من الراحة، ولكن نحن قد تركناها مخيَّرة فيما ترغب؛ أي إننا أعطيناها سندًا يحق لها بمقتضاه أن تعتق نفسها بنفسها متى شاءت.
ثم إن المدام نادت الحبشية المذكورة وأجلستها على مقربة منها وسألتها بواسطتي: لماذا تأبين العتق والحرية؟! فترجمت جواب الحبشية للمدام باللغة الفرنسية كما يأتي: قالت لها: ما فائدتي من الحرية؟! إنني متى رأيت زوجًا ملائمًا لي فحينئذٍ أعتق نفسي بنفسي، فعندئذٍ سألتها المدام عن الزوج الذي ترغب فيه وكيف تحب أن يكون.
فأجابتها الحبشية: إنها إذا لم تحصل على زوج يطعمها نظير الطعام الذي تتناوله في بيت سيدها، ويكسوها بمثل ما تكتسيه من الألبسة، ولا يحملها أكثر من الخدمة التي تقوم بها في منزل مولاها فلا تتزوج.
وفي أثناء ذلك أُطلق مدفع الإفطار، فذهبنا إلى غرفة الطعام وجلسنا على المائدة. أما المدام بعد أن أمعنت النظر في صينية الإفطار فقالت: لقد جرت العادة عندنا أيضًا أن يكون على المائدة بعض أشكال متنوعة مما يسمونه عرفًا واصطلاحًا بمقدمات الطعام أو النقول «هوردور»؛ فينتج من ذلك أن هذه العادة مألوفة عندكم أيضًا!
قلت: أجل، إنها عادة مخصوصة بشهر رمضان، ومماثلة للمائدة التي أنزلت على حضرة عيسى — عليه السلام. أما الراهبة التي كانت ملازمة للصمت المطلق ولم تشترك معنا بالحديث؛ بل ربما كانت لم تهتم بمحاورتنا أصلًا، فإنها عندما سمعت مني هذا الجواب التفتت إليَّ قائلة: ما هي مائدة عيسى التي تُقلِّدونها؟!
قلت: لا يخفى أن الحواريين وإن كانوا قد أبصروا لحضرة عيسى — عليه السلام — أعمالًا كثيرة من خوارق العادات؛ إلا أن جميع ذلك كان من المعجزات الأرضية، فلما رغبوا في أن يبصروا معجزة سماوية وقالوا له: «يا عيسى ابن مريم، أينزل ربك علينا مائدة من السماء؟» أجابهم قائلًا: «إذا كنتم مؤمنين فاتقوا الله.» فقالوا له حينئذٍ: «نريد أن نأكل من هاته المائدة، وتطمئن قلوبنا، ونعلم علم اليقين أنك من الصادقين، ثم نكون على المائدة المذكورة من الشاهدين.» فقال حضرة عيسى: «يا رب، أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا منك، على نبوتي.» فقصة المائدة مذكورة في القرآن الكريم على الوجه المشروح.
قالت الراهبة: فهل نزلت مثل هذه المائدة؟!
قلت: نعم، فقد ذهب المفسرون إلى أنه بناء على دعاء حضرة عيسى أنزلت الملائكة مائدة من السماء، وكانت مائدة مغطاة بمنديل قد نزلت، على حين كانت من طرفيها الأعلى والأسفل ملفوفة بقطعة من نسيج، فرفع عيسى — عليه السلام — غطاءها بعد أن شكر الحق — سبحانه وتعالى. وقد رأى الحواريون ذلك رأي العين؛ فكان عليها مأكولات متنوعة. وقد اختلفت الروايات في أشكال وأنواع هذه المأكولات، والرواية المشهورة تفيد أنه قد كان على المائدة المذكورة خبز وسمك وبعض الخضراوات، وسمن وعسل وجبن ومقددات، فنحن نجمع مثل هذه الأشياء ونرتب مائدة الإفطار على هذا الوجه، وبعد الإفطار منها — تبركًا — نبدأ بمناولة طعام المساء الأصلي.
وعقيب هذه المحاورة تكلمت الزائرتان عن طعام الأتراك، فوقعت لديهما حلوى صدر الدجاج موقع الاستحسان التام، وأثنتا على لذتها، واعترفتا بأن الطعام — إجمالًا — خفيف جدًّا، ثم انتقلنا إلى البحث عن الصيام، فبعدئذ أحاطت المدام علمًا أن الصيام هو عبارة عن عدم الأكل والشرب من قبل الفجر إلى المساء، قالت بلسان رقيق: إن الصيام على هذا الوجه إنما هو عبادة صعبة جدًّا! وكأنها تحاول أن تجعلنا نعترف نحن أنفسنا بقدر هذه الصعوبة!
فقلت لها حينئذٍ: ليس في ذلك من صعوبة على الإطلاق بالنظر إلى ما أوتيناه من الألطاف الإلهية، لا جرم أن القطاعات والرياضات عند المسيحيين ليست بأقل كلفة من الصيام، حتى إنه على حين أن أرباب الزهد والتقوى في النصرانية من رجال ونساء — وهم الذين انقطعوا إليهما، وتحرروا من سائر الأشياء — لم يكونوا بنادرين، نرى أنهم لا يكاد يُمِرُّون على خواطرهم قضية كونهم عرضوا أنفسهم لصعوبة خارجة عن حد الاستطاعة بانقطاعهم عن الانتفاعات واللذات الدنيوية، فما تقولين بذلك يا عزيزتي؟!
قالت الراهبة: أقول إنه مهما حصل من العبادات في سبيل الشكر للطف الله وإحسانه يكون قليلًا.
قلت: لا ريب في ذلك، حتى إنه قد ورد النص في القرآن الكريم بحق الرهبان؛ حيث تفضل الحق — سبحانه وتعالى — بقوله: مِن أشد الناس عداوة للمؤمنين اليهود والمشركون، وأقرب الناس مودة للمؤمنين الذين قالوا: إنا نصارى؛ وذلك لأن منهم قسيسين «علماء» ورهبانًا «زهادًا»، وأنهم لا يستكبرون ولا يأبون قبول الحق.
وبعد أن انتهينا من الأكل نهضنا عن المائدة وسرنا إلى القاعة؛ حيث تناولنا القهوة، وبعد هنيهة أخذت أترجم بين الزائرتين وبين صاحبة المنزل وأفراد العائلة، ثم إن المدام — بناءً على الرغبة التي أظهرتها قبلًا — سارت بصحبة بعض أفراد العائلة للتفرُّج على غرف منزلنا، وكنت وقتئذٍ مرافقة لهم، وكان في إحدى الغرف واحدة تقرأ تفسير المواهب، وحيث إنها كانت تقرؤه وهي مستورة الرأس بكمال الاحترام، التفتت الراهبة إليَّ وقالت سائلة: هل إن هذه السيدة تقرأ القرآن؟
قلت: تقرأ تفسيره في اللغة التركية.
قالت الراهبة: بأي شيء تتعلق الآيات التي تقرؤها يا ترى؟ فسألت القارئةَ: «في أي سورة تقرئين؟» قالت: في سورة «آل عمران».
فما فهِمَت الراهبة جوابها باللغة الفرنساوية.
قالت: مَن تعنين بعمران؟!
قلت: يوجد باسم عمران اثنان؛ الأول: والد حضرة سيدنا موسى — عليه السلام — والثاني: والد حضرة مريم، والاثنان من بيوت بني إسرائيل.
قالت الراهبة: بأي مناسبة ورَد هنا ذكر عمران؟
قلت: إن عمران قد توفي بينما كانت زوجته حنة حاملًا، وقد نذرت الطفل الذي ستضعه لخدمة بيت المقدس؛ لأنه في ذلك الزمن كانتْ عادةٌ جاريةٌ عند ذوي البيوتات أن يُقدِّموا أولادهم الذكور لخدمة بيت المقدس، فحنة أيضًا على أمل أنها ستضع ولدًا ذكرًا كانت نذرته لخدمة بيت المقدس، ولما وضعتها أنثى سمتها مريم، ومعناه بالعبرانية «عابدة زاهدة»، ولكن بما أنها لم تضع ذكرًا أصبحت حزينة متحسرة وقالت: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ (آل عمران: ٣٦).
أما جناب الحق فقد قبلها بقبول حسن وربَّاها تربية حسنة، ولما عرضتها حنة لخدمة بيت المقدس لأجل أن تفي بنذرها تسابَق الجميع لأجل تربيتها؛ لأنها بنت إمامهم، ووقعت بينهم المنافسة، فاقترعوا عليها فيما بينهم، فكانت القرعة لحضرة زكريا، فخصصوا لها حجرة في المسجد، وتعهد حضرة زكرياء بتربيتها، وفي أثناء ذلك أتته البشرى من الله أنه سيأتيه ولد يكون اسمه يحيى، على أن في القرآن الكريم سورة منسوبة لمريم يقال لها سورة «مريم»، فيها تفصيل هذه القصص.
قالت الراهبة: أرجو تلاوة هذه السورة لنسمعها.
وحينئذ فتحت سورة «مريم»، وصار تلاوة الآيات المتعلقة بحضرة زكريا وحضرة مريم وتفاسيرها. أما أنا فبادرت بترجمة ذلك بالفرنساوية؛ فأفهمتها أن حضرة مريم رأت جبرائيل — عليه السلام — بصورة بشر، وأنه نفخ الروح في طوق قميصها، وبيَّنت لها تفصيلًا أن حضرة مريم عندما شعرت من نفسها بعلائم وضع الحمل جاءت إلى جذع النخلة وقالت: بأي وجه أقابل قومي؟! يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (مريم: ٢٣)، ثم كيف جاءها جبرائيل وواسها، وكيف تكلم حضرة عيسى وهو في المهد، وما كدت أنتهي من هذا البيان المأخوذ عن القرآن الكريم والتفاسير حتى ظهرت دلائل التأثير العظيم على وجه الراهبة وقالت: يتضح من ذلك أنكم تعتقدون أن حضرة عيسى ولد بلا أب؟! فقلت لها: كيف وعندنا أن من لا يعتقد هذا الاعتقاد يكون كافرًا؟! فنحن لا نفرق بين أحد من الأنبياء، لكن نعلم أن ستة منهم — يعني محمدًا وعيسى وموسى وإبراهيم ونوحًا وآدم — عليهم الصلاة والسلام — هم أفضل الأنبياء؛ فإن الله الذي خلق آدم من تراب لا يرتاب أحد في كونه قادرًا أن يخلق إنسانًا آخر بلا أب. وهذا لا يمكن استبعاده لا عقلًا ولا حكمة أيضًا.
قالت الراهبة: أتعتقدون أنتم بالأناجيل الشريفة؟
قلت: أجل، نعتقد أن الحق — جل شأنه — قد نزَّل على حضرة عيسى كتابًا اسمه الإنجيل الشريف، وقد ورد ذكر الإنجيل في عدةِ مواضعَ من القرآن الكريم، وذكر في القرآن بعض مندرجات الإنجيل الشريف، وقد صرح القرآن الكريم: أن حضرة عيسى — عليه السلام — بشر بقوله: إنه سيأتي نبي بعدي يقال له: أحمد.
قالت الراهبة: ما المعنى من ذلك؟ إنني لا أعرف مثل هذه الرواية
قلت: فلننظر في الفصل الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر من إنجيل يوحنا. قُلتُ هذا وأخرجت نسخة الأناجيل الفرنساوية من المكتبة، ثم فتحت هذه الفصول الثلاثة وقرأت الآية السادسة عشرة والتاسعة والعشرين من الفصل الرابع عشر، والآية السادسة والعشرين من الفصل الخامس عشر، والآية الأولى والسابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة والثالثة عشرة من الفصل السادس المتعلقة بمجيء نبي بعد حضرة سيدنا عيسى — عليه السلام.
قالت الراهبة: ليس في هذه الآية معنى يشير إلى مجيء نبي بعد حضرة سيدنا عيسى، والكنيسة قد فسرتها تفسيرًا يختلف عما ذهبتِ إليه، ولما كان إنجيل يوحنا دقيقًا كان لا يمكن لكل إنسان أن يفهمه!
قلت: نعم، إن فهم إنجيل يوحنا كما ينبغي لفي غاية الصعوبة، لكن من قراءتنا لهذه الآية يستفاد في أية حالة أنه سيأتي نبي آخر بعد حضرة سيدنا عيسى.
قالت: والذات الذي يشير به أنه سيأتي قد ورد ذكره في الإنجيل باليونانية «بارقليط»، ومعناه في الفرنساوية «المضري».
قلت: نحن نظن أن البارقليط محرف عن «بريقليت».
قالت: إنني لم أسمع قط بكلمة «بريقليت»!
إن لمحمد عند المسلمين عدة أسماء بمعزل عن النعوت وبعض الصفات، وهي تبلغ نحو المائة عدًّا؛ فهو يسمى أحمد والمعظم والمصطفى والمختار ومحمودًا والمبجل إلخ. فكلمة «ماهوميت» المستعملة عندنا مأخوذة عن محمد «المبجل»، وهذه الكلمة آتية من أصل كلمة أحمد ومعناها تمامًا، وهي — أي كلمة أحمد — مماثلة لكلمة باراقليط باليونانية أي المعظم؛ فالمسلمون يدعون أن يسوع المسيح — عليه السلام — وعد بمجيء محمد، أخذ منه معنى بريكيلتوس «إنجيل يوحنا السادس عشر ١١»، وأن البارقليط بارا كلينوس الذي يفسر بنزول الروح القدس ليس إلا تغيرًا عن بريكيلنوس وتصوره ضعف إيمان المسيحيين.
قالت المدام: قد توسعتما بهذا البحث الديني، ونتائج مثل هذه الحقائق إنما هي من الأشياء التي لا تظهر إلا في الآخرة!
قلت: لا شك ولا ريب، غير أننا نحن منذ الآن لا يمسنا خوف واضطراب من هذا الوجه على الإطلاق؛ فإن سيدنا ونبينا ﷺ قد جعل أمته تعرف الأنبياء السالفين — عليهم السلام — وتصدقهم، وكأنَّا بذلك قد استحضرنا توجههم وشفاعتهم لأجلنا.
وعند ذلك أذن المؤذن للعشاء، فنهض أهل المنزل لأداء صلاة التراويح، وحينئذٍ سألتِ الزائرتان عن سبب ذهابهن، فأنبأتهما أنهن ذاهبات لأداء الصلاة التي نؤديها في ليالي رمضان.
قالت المدام: ألا تذهبين أنت لأداء هذه الصلاة؟
قلت: إن وظيفة إكرام الضيوف منوطة بي هذا الوقت، وسأذهب لتأديتها بعدئذٍ.
قالت: أيمكن لنا أن نحضر ونرى هذه العبادة؟
قلت: إذا رغبتما في تحمل المشقة فلا بأس من ذلك. إن مثل هذه العبادات عندنا غير ممنوع على أحد أن ينظرها، ودين المسلمين ظاهر للعيان، وفي ذلك أقوال مشهورة.
قالت: نكون في غاية الامتنان.
فقلت: تفضلا، وسرت بهما إلى محل النساء المفروز عن محل الرجال، وهناك أخذنا في مشاهدة ومعاينة اللاتي يؤدين الصلاة جماعة، وكانتا تسألانني عن معاني سورة الإخلاص التي تكرر بعد كل سلام، فأُترجمها لهما.
قالت المدام: لا جرم أن هذا التكرار لسورة «الإخلاص» له قدر؛ فإن بها ألفاظًا جميلة جدًّا.
وعندما قرئت الآية الكريمة؛ وهي «ربنا آمنا» إلخ، بعد سورة الإخلاص، في آخر سلام التراويح، رفع الجميع أيديهن إلى العلا، فسألتني الزائرتان بقولهما: ما الذي تقرؤه المصليات.
فقلت: إنها آية من القرآن الكريم، وهي حكاية كلام الحواريين، ومعناها: «يا ربنا، قد آمنا بالكتاب الذي أنزلته علينا، واتبعنا الرسول «عيسى»، فاكتبنا مع الشاهدين.» وهذه الآية تُقرأ عادة في نهاية صلاة التراويح التي تقام في شهر رمضان.
فقالت الراهبة: ما قولكم أنتم في الحواريين؟
قلت: هؤلاء نعم من خواص أصحاب حضرة سيدنا عيسى — عليه السلام.
قالت الراهبة: أتقولون إن حضرة سيدنا عيسى ابن الله؟!
قلت: كلَّا، نقول إنه عبد الله، ومن كبار الأنبياء.
قالت الراهبة: أما تعتقدون أنه ولد بلا أب؟!
قلت: نعم، كما تقدم سابقًا؛ إن الحق — سبحانه وتعالى — خلقه بلا أب على وجه خارق للعادة، وخلق آدم من التراب بلا أب ولا أم، وقد عبر عن آدم أنه ابن الله في آخر آية من الفصل الثالث من إنجيل لوقا، وورد التصريح في التوراة بعد وقعة قابيل وهابيل أن أولاد آدم قد انقسموا إلى فرقتين، فكانوا أبناء الله وأبناء الشيطان. ولو اقتضى أن يكون الحقُّ — جل جلاله — له أبٌ؛ حيث إنه ولد بلا أب؛ لزم عن ذلك أن يبحث له عن أم، ولو قيل: إنه ملك لسقط القائل بذلك في عقائد الميتولوجي الباطلة التي نهت عنها الشرائع والشريعة الموسوية أيضًا.
ولو كان يعبر عن الله بلفظة أب لكان العبيد المؤمنون والأعزاء يقال لهم: أبناء الله، لا جرم أن لكل ملة مثل هذه التعبيرات المجازية، وبينما كان التعبير عن الله بالأب من هذا القبيل المجازي إذ نهض للتفتيش عن الأبوة الحقيقية، فحصل الإيهام من تعبير الأب والابن بالأبوة والبنوة المادية، وبسبب ذلك مُنع استعمال هذه التعبيرات في الشريعة الإسلامية، وإلا فإننا نحن أيضًا نسمي الكعبة المكرمة بيت الله — يعني البيت المحترم والمشرف — عند الله. وذلك لا يفيد أن لله بيتًا حقيقيًّا؛ فإن الحق — سبحانه وتعالى — مُنزَّه عن المكان، كذلك يقال عندنا: يد الله، والمراد بها قدرة الله؛ لأن الحق — جل جلاله — منزه عن الجسمانية.
قالت الراهبة: أتعتقدون بانتقال حضرة سيدنا عيسى إلى السماء بعد صلبه؟
قلت: نعتقد بصعوده إلى السماء، ولا نعتقد بصلبه.
قالت: يا عجبًا! ما هذا القول؟! إن اليهود يقولون: نحن صلبناه، ونحن نقول: نعم، إنهم صلبوه، أليس مما يوجب النظر أن دينًا يأتي بعد ستمائة سنة يكذب الطرفين؟!
قلت: ليس في هذه المسألة عند المسيحيين من رواية وصلت إليهم بلا انقطاع من تبع يتعلق بهم توًّا، وإنما أخذوا الشيء الذي سمعوه من اليهود فقبلوه! فالإسلامية — والحالة هذه — لا تجرح رواية النصارى على الإطلاق، وإنما هي تجرح رواية اليهود؛ لأنه من المعلوم أن اليهود أخذوا سيدنا عيسى — عليه السلام — ليلًا إلى أحد البيوت، وإذ ذاك تفرق الحواريون بأجمعهم، على أنه وإن كان أحدهم قد ذهب من خلفه حالة كونه كان بعيدًا عنه، إلا أن هذا أيضًا قد ذهب بحال سبيله حينما أدخلوا حضرة سيدنا عيسى — عليه السلام — إلى ذلك البيت، ولم يطَّلع أحد على ما حصل في الداخل، وقد كان في ذلك اليوم أشخاص آخَرون حكم عليهم بالإعدام، فمن اشتداد الظلمة ظن أنهم أخذوا سيدنا عيسى، والحال أنهم صلبوا شخصًا شُبِّه به، والحق سبحانه رفع سيدنا عيسى — عليه السلام — إلى السماء، فهذا هو الحق الذي بلغناه.
وحينئذٍ تمت الصلاة، فتقدمت المرطبات على جاري العادة، وأخذنا في مداولة أحاديث الوداد وبعض النوادر، ثم إن المدام أوضحت لنا إذ ذاك أنها قد حصلت على المعلومات اللازمة من سياحتها، واطلعت على أشياءَ كثيرةٍ كانت تجهلها من قبل، فشكرت لنا كل الشكر وحمدت ما رأته منا من الإكرام لها، والعناية بها، واشتركت الراهبة بالثناء أيضًا مُصرِّحة بامتنانها وسرورها مما رأته ووقفت عليه، وكلاهما ودَّعتانا أحسنَ وداعٍ، وذهبتا ممتنتين شاكرتين.
المحاورة الثانية
بعد أسبوع واحد من اجتماعنا بتينك الضيفتين — كما فصلنا ذلك في المحاورة الأولى — أخذت كتابًا، ولما فضضت ختامه وجدت ضمنه رقعة زيارة، وكتابًا آخر مظروفًا وقد خط على رقعة الزيارة كلمات معناها أن مرسلتها تود أن تعلم ما إذا كان يمكننا قبولها في منزلنا أم لا، وإذا أمكن ففي أي وقت يتسنى لها أن تزورنا. وبما أنني لم أعرف اسم المرسلة المومى إليها فضضت ختام الكتاب الثاني، فعرفت توقيع صاحبته، وهي مدام من معتبري السواح كانت جاءت منذ السنة الماضية إلى دار السعادة، واجتمعت بها في منزلنا، وقد ذكرت بكتابها اجتماعنا الماضي.
ثم قالت: إن «مدام ر.» — إحدى حبيباتها الأعزاء — متهيئة للذهاب بصحبة زوجها لمشاهدة دار السعادة، وإنها قد طلبت منها الإيضاحات اللازمة عن المحال الحرِيَّة بالنظر والفرجة فيها؛ من حيث إنها كانت ذهبت قبلًا إليها، وإنها كثيرة الشوق والميل للاجتماع مع العائلات التركية، وسألتها عن الواسطة التي تُمكِّنها من الفوز بهذه الأمنية، وإن هذه المدام من العالمات الفاضلات اللاتي يسر الاجتماع بهن، ولأجل ذلك أوصتها أن تذهب إلى منزلنا، وإنها على أمل تامٍّ من أنها ستلاقي فيه مطلق الحرية.
ثم زادت على ذلك بأن «مدام ر.» وإن كانت إنكليزية المحتد والنشأة، إلا أنها عارفة بعدة لغات، وهي تعرف اللغة الفرنساوية كما تعرف لغتها، وأنه لا يمكن أن تجعل لنا ثقلة من التكلم معها، واختتمت كتابها بقولها: إن «مدام ر.» المومى إليها لحَرِيَّة بأن تدعى فيلسوفة، وإنه ليس في هذا الوصف مغالاة على الإطلاق. وحيث إن الشخص الذي أحضر الكتاب كان لا يزال في انتظار الجواب، بلغته أن يخبر المدام المومى إليها أن تتفضل لزيارتنا في اليوم الثاني، وأن تؤانسنا بمناولة طعام الإفطار معنا.
وفي اليوم المذكور وفد على منزلنا عدد من ذوي قُربانا للإفطار؛ وذلك جريًا على العادة المألوفة في شهر رمضان من التزاور الذي يحصل بين الأهل والأقرباء، وبينما كنا جالسين في القاعة، قبيل الساعة الحادية عشرة من النهار، دخلت علينا جارية فقالت: أُنبئتُ من الخارج أن المدام قد أتت، وأنها على أهبة الدخول إلى فناء الدار.
وما كادت تتمم عبارتها حتى نهضتُ مُسرعة لاستقبال الضيفة المومى إليها، وقد كنت أظن، مما اقتبسته من رواية صاحبة الكتاب، أنني سأقابل فيلسوفة طاعنة في السن، فإذا بي أرى غيداء حسناء لا تتجاوز الثلاثين من العمر، وكانت هذه المدام مرتدية بلباس في غاية الحسن، وملقية على كتفها كسوة شتوية موافقة لآخر زي، ولائقة بأعظم الزيارات. وعند مقابلتي إياها رفَعتْ قبعتها عن رأسها، فتجلى للعيان شعرها المعقود بيد أمهر المواشط، وكان مجموعًا في أم رأسها بطريقة تستجلب الأنظار.
لا جرم أن كتابة صاحبة الكتاب، السابق الإيماء إليها، كانت تحملني على الاعتقاد بأن الفيلسوفة التي سأراها في دار السعادة يجب أن تكون من النساء المسنات، اللاتي لا تهمهن الزينة ولا يعتنين بالأزياء، ولكنني بعد أن تمكنت من معرفة «مدام ر.» علمت أنها ليست من الجاهلات اللواتي بيَّضت المطاحن شعورهن، وإنما هي قد تلقت العلوم والفنون منذ سن الصبا عن والدها، الذي يعد من عشاق العلم والمعارف، وأنها ما فتئت إلى الآن صارفة قصارى جهدها وجدِّها إلى اقتباس الآداب، فما وصلت إلى الثلاثين من عمرها حتى كانت قد صرفت معظمه في سبيل التحصيل، وبلغت شأوًا رفيعًا في التهذيب.
وثبت عندي مما رأيته فيها من الميل والاجتهاد إلى الوقوف والاطلاع على جميع الأشياء، أنها تعتقد بنفسها أنها لم تصل إلى الدرجة المطلوبة من العلم والمعرفة، وأن ما تعرفه دون الطفيف، وأن الطواحين لن تبيض شعرها الذي لا يزال غير مبيض، ولا يمكن أن تصل أوقاتها بالبطالة، وأنها ستصرف بقية عمرها في طلب المعارف وتحصيل العلوم والفنون كما صرفته إلى هذا الوقت، فكانت حَرِيَّةً بأن يطلق عليها اسم الفاضلة، وأما إتقانها للزينة، وتغاليها في الكسوة وترتيب شعرها، فلم يكن إلا لأجل المحافظة على شرف اسمها وعنوانها بين قريناتها، ولكي لا يمزق عرضها الناقدون، وينسبوا إليها الخسة والبخل مع ما هي عليه من الثروة العظيمة.
والغريب أن هذه المدام ليست من النساء اللاتي يحملهن جمالهن على الكبر والغرور؛ فإنها كانت كأنها لا تعرف هذا الجمال ولا تنظر إليه؛ بل لا تهتم به، وإنما كانت تنظر إلى جمال طبيعتها وأخلاقها، وأغرب من ذلك أن هاته الحسناء التي هامت بالعلم وتيَّمها عشقه، ولم يكن في قلبها أدنى فراغ يسع غيره، قد اقترنت برجل هو في سن والدها؛ لأنها قد سُلبت بعلمه، وعشِقتْ فضله، وكان هذا الزوجُ العالِمُ واسع الثروة، فتمكنت بواسطة ذلك من تحصيل سائر العلوم، ووقفت على جملةِ أشياءَ. ولما كانت راغبة في أن تشرك حاسة النظر بحاسة الإدراك، وأن تشاهد بأم رأسها ما درسته من الفنون، وما اطلعت عليه من سائر آداب وآثار الدنيا، أخذت تطوف في كل جهة من العالم بصورة لائقة بمركزها؛ قصدَ التسوح والتفرج على آثار الكون.
وكانت هذه المدام ناقلة مروحة جميلة جدًّا قد سلمتها مع ردائها إلى الجارية، وهذه المروحة من المراوح ذات القيمة التي تنقلها أكبر المدامات، لا لأجل رفع الحر وترطيب الهواء، ولكن لأجل إظهارها للناس وبيان قيمتها وغلاء سعرها، حتى ولئن كان الهواء رطبًا وليس من حاجة إليها! ولما كان هواء تلك الليلة غير حار إلى حد أن يكون هناك حاجة إلى استخدام المروحة، لم تشأ هذه المدام أن تبقيها معها عند دخولها إلى القاعة، فتركتها مع الجارية في الخارج. وقد دل هذا العمل دلالة واضحة على أنها لم تنقل هذه المروحة بقصد الفخفخة، وإنما تقصد المحافظة على شأنها وشهرتها ليس إلا.
وبالجملة فإن هذه الرقة المجسمة التي لم تكن تعرف ما هو الغرور، ولم تختبر العظمة والكبر، كانت بادية عليها آثار التواضع ومخايل أنس الجانب، وكانت تتكلم بصوت لطيف يقع في أعماق القلب، ويدخل الآذان بلا استئذان، وكان شعرها الكستنائي النادر في الإنكليز وعيناها الزرقاوان تزيدان سيماها الجميلة جمالًا وعذوبة. أما ألبستُها فإنها وإن كانت — كما فصَّلتُ قبلًا — حسنة، ومن آخر زي، غير أنها كانت في غاية البساطة، ولم تكن مزينة بالأزهار وما ماثل من أنواع البهرجة، وكانت تشير إلى نبالتها وكمالها.
بعد أن نزعت رداءها وقبعتها، وكنت قد سرحت بجملتها نظر الانتقاد، قدَّمتُ لها ساعدي وقلت: أيتها المدام، إن جمعيتنا لما كانت خلوًّا من الرجال أُقدِّم لك ساعدي؛ فعساكِ أن تتفضلي بقبوله.
قالت: أشكر لك أيتها السيدة مكارم أخلاقك، أفلست أنا مُتَشرفةً بالسيدة التي أثنتْ عليها صديقتي «مدام ج.»
قلت: إن العناية بالضيف فرض واجب القضاء علي؛ فلا حاجة لما تفضلت به من عبارات الشكر والشرف الذي أشرت إليه؛ إن هو إلا إحسانٌ أَوْلَتْنِيهِ «مدام ج.» على غير استحقاق.
وبعد أن أخذت المدام بذراعها إلى القاعة عرفتها بصاحبة المنزل وأفراد العائلة، وسائر من كان هناك من الأقرباء والأنسباء، كل منهن على حدة، وترجمت لصاحبة الدار وأفراد العائلة التحيات التي كلَّفتها بها «مدام ج.» المومى إليها، وبلغتُها تشكُّر كل واحدة منهن، وحينئذٍ تقدمت للمدام القهوة، فشربت فنجانًا كاملًا وقالت: إنها لم تكن تألف شُرْب القهوة، ولكنَّها لم تذق إلى الآن مثلها؛ ولذلك شربت الفنجان بتمامه.
أما أنا فقد بيَّنتُ لها أن للترك طريقة مخصوصة لطبيخ القهوة تختلف عن طريقة الإفرنج، وعرفتها كيفية طبخها، ثم أنبأتها أن قهوة البن على عكس التبغ؛ فبمقدار تطوافها في البحر بمقدار ذلك يفسد طعمها، وأن هذه القهوة هي من البن اليمني قد أُتِي بها إلى الشام بواسطة عربان غزة، وجلبت منها إلينا، فلم تمر على البحر إلا من بيروت إلى هنا؛ ولذلك كانت مُرجَّحة على غيرها، ثم سألتني المدام عما إذا كان في عزم السيدات الموجودات عندنا أن يبتن في منزلنا هذه الليلة أم لا، فقلت: إن منازل أكثرهن قائمة على الخليج، فسيذهبن إليها على ضوء القمر، وأن هاته الليلة هي الليلة الرابعة عشرة من الشهر، فقد اخترنها للإفطار على قصد أن يستفدن بل يتمتعن بلطافة نور القمر وقت تمِّه.
قالت: إنني على حين كنت راضية بأن أجتمع بعائلة تركية، فاجتماعي هذه الليلة اتفاقًا بعدة عائلات قد ملأ فؤادي سرورًا؛ فأنا أشكر لهن اختيارهن هاته الليلة للإفطار ومجيئهن إلى هذا المنزل؛ حيث أسعدني الحظ بمرآهن.
فترجمت كلام المدام لهن، ونقلت لها كلامهن الدال على أنهن يشعرن بمثل ما تشعر به من المسرة والامتنان، ثم قلت لها: إن السيدات قد تولتهن الدهشة من جمالها ورقتها، وإنهن لن يقنعن ببيان منتهن لها، ولكن يتأسفن لعدم معرفة اللسان لمسامرتها مباشرة.
وجملة القول: إنني بواسطة الترجمة ونقل كلام الفريقين إلى البعض الآخر مكَّنت الألفة والصحبة بين المدام وبين السيدات، ومع أنه لم يمر على مجيء «مدام ر.» إلى دار السعادة أكثر من أسبوع واحد؛ فقد خصصت من وقتها ساعة واحدة لتعلم التركية، فحفظت منها جملة مفردات، وبينا كنت أترجم لها كلام السيدات المومى إليهن، كانت في بعض الأحيان تجيب بلفظة نعم أو لا؛ إشارة إلى أنها كانت تفهم بعض الكلمات، وكنت أترجم لها ما خفي عنها من سائر العبارات، وكانت المفردات التي حفظتها في خلال الأسبوع مُسطَّرة في محفظتها، وهي كثيرة جدًّا إلى حد يوجب التعجب. وقد أنبأتني أنها عند رجوعها إلى بلادها لا تهمل تعلم التركية، وإنما ستستمر على الدرس والمطالعة. وكانت تلفظ المفردات التي تعلَّمتها لفظًا حسنًا؛ مما يثبت لها الاستعداد الطبيعي، ومع أنها إنكليزية المحتد والمولد فقد كانت تتكلم الفرنساوية كإحدى الباريسيات.
وكانت منذ دخولها إلى القاعة تمعن النظر أيَّما إمعان بجميع من كان هناك من السيدات، متنقلة من الواحدة إلى الأخرى، على أنها لم تكن تنظر إليهن بعين البلهاء الحمقاء، وإنما كانت تلقي عليهن نظرة التدقيق والإمعان. أما أنا فقد حملت ذلك عنها على رغبة التأمل بالنسبة للسيدات التركيات وطريقة زينتهن، وبعد مدة انقطعت عن الكلام توًّا، وضاعفت تدقيقها وإمعانها لكل من الخواتين على حدة، ثم ما عتَّمتْ أن ظهرت على وجهها آثار التفكر كما يحصل في الغالب لكل إنسان يحاول الحصول على شيء يراه ممتنعًا عليه، وقرنت حاجبيها قليلًا، فباحت شفتاها بما في ضميرها والتفتت إليَّ قائلة: لقد بذلت جهدي هذه الفترة على أمل أن أتمكن من كشف شيء، كنت أدَّعي الحصول عليه، فلم أتوفق إليه، وذهب ذلك التفكر أدراجًا، فإني ألجأ إلى مروءتك بإزالة ما حصل لي من اليأس على أثر إخفاق مسعاي، وعساك أن تَمُنِّي بإيضاح يكون لي منه ما أرجوه من السلوى.
فقلت: مري أيتها المدام.
قالت: مَنْ مِنْ هؤلاء السيدات الموجودات في القاعة ضرة للأخرى؟
قلت: عفوًا أيتها المدام، أتسمحين لي قبل أن آتيك بالبيان عما أمرت به أن أسألك سؤالًا واحدًا؟
قالت: تفضلي أيتها السيدة.
قلت: على أية صورة تدعين كشف المسألة؟
قالت: بنظر أن كلًّا منهما ضرة للأخرى؛ فلقد مر علي هنا نصف ساعة تحريت بها عمن تنظر إلى الثانية منهن بعين الخصومة والبغضاء، ولكنني لم أَرَ إلا أن كل واحدة منهن تنظر إلى الأخرى بعين الحب والتودد. لا جرم أن فقدان الضرائر في مثل هاته الجمعية الكبيرة كان يحملني على التفكر بأن ذلك ممتنع الإمكان في تركيا؛ لعلمي أن عدم وجود الضرائر نادر بدرجة يشير بها الزوج إلى زوجته بالبنان. أما الآن فقد تأسفت إذ علمت أن نظري الذي كنت أظنه قد خدعني!
قلت: لم يخطئ نظرك أيتها المدام، وإنما أنت على مثل ما علمت، إلا أن الجهة الثانية معاكسة لما تعلمين على الخط المستقيم؛ لأن وجود الضرائر هو نادر إلى درجة يشار إليها بالأصابع.
قالت: عفوًا أيتها السيدة، فما هذا القول؟!
قلت: لا أقول إلا الحقيقة أيتها المدام.
قالت: فإذن لا يوجد ضرائر بين السيدات الموجودات هنا في الوقت الحاضر.
قلت: كما أنه لا يوجد بينهن ضرائر، كذلك لا ضرة لإحداهن مع الأخرى.
قالت: إنني بحسب الأنوثة، ولئن كنت ممتنة بسبب محبتي وميلي إلى السيدات بنات النوع من ندرة تلك الحال، إلا أنه من حيث وجود الضرائر فلو تمكنت من مشاهدة مثل هؤلاء لأصبحت في غاية الامتنان.
قلت: لقد نطقت بالصواب أيتها المدام؛ إن النساء من أي ملة كُنَّ فهنَّ على اتفاق بهذا الشأن.
قالت: يا عجبًا! يفهم من ذلك أنه على حين إنك تركية فأنت بهذا الخصوص من رأيي؟!
قلت: إنني إلى الآن لم أفهم ماهية فكرك أيتها المدام؛ فإنني لست منفردة بالتأثر على السيدات اللاتي يتزوج رجالهن بغيرهن، وإنما السيدات التركيات بجملتهن متفقة معك على فكرك.
قالت: أما أنا، فقد كنت أسمع أن المرأة التي يقترن زوجها بامرأة غيرها لن تتذمر من فعله، وإنما تحسب ذلك أمرًا إلهيًّا فتمتثله بالطاعة والإذعان.
قلت: لو كان ذلك أمرًا إلهيًّا على الإطلاق لوجب على كل رجل أن يقترن بأكثر من زوجة واحدة. إن الله — سبحانه وتعالى — لم يأمر الرجال أن يقترنوا حالًا بزوجات على زوجاتهم، وإنما سمح وأجاز ذلك عند مسيس الحاجة، فلو كان هناك أمر إلهي — كما تقولين — ففي وقت الموت أيطلب فقط أمر الله؟! لا جرم أنك تعتقدين مثلنا أن أمر الموت بيد الله، ولكن هل أتى عليك زمن طلبت به هذا الأمر؟!
قالت: لا أنكر عليك الحق في مثل هذا الوجه، ولكنني سمعت أن الله في الشريعة الإسلامية أمر الرجال أن يقترنوا بأربع زوجات.
قلت: إن هذا الأمر الذي تقولين عنه إنما هو بمثابة إذن إجازة الله بحسب الإيجاب، ولقد كان تعدد الزوجات جائزًا في الشرائع السالفة؛ بل لم يكن له حد معلوم أيضًا، فالشريعة الإسلامية نهت عن أكثر من أربع، وهذا مقيد بقيود وشروط صعبة جدًّا؛ بحيث إن في إجرائه على صورة موافقة للشرع إشكالًا لا مزيد عليه؛ لأن الرجل الذي يقترن بزوجات متعددات يُجبر أن يفرز لكل منهن منزلًا على حدة، وأن تكون نقوش غرفه مماثلة لبعضها البعض الآخر، فضلًا عن الأثاث والرياش، وأن لا يكون ثمت بون وفرق بين ألبستهن وزينتهن، وفي مثل ذلك — لا أزيدك علمًا بما هناك — من الصعوبة المتعسر تذليلها.
ولما كان من واجبات الرجل عندنا أن يهتم بإدارة زوجته وطعامها وكسوتها وسائر حاجاتها، كان تعدد الزوجات نادرًا بالنظر إلى تعذُّر القيام بضروريات واحدة، فضلًا عن كثيرات في عصرنا الحاضر. وزيادة عن ذلك، أن المرأة التي لا ترى من زوجها عناية بشئونها وإدارتها يحق لها أن تذهب إلى المحكمة، فتشكو ظلامتها، والمحكمة تأمر الرجل أن ينفق على زوجته، كما أن الزوج يصبح حينئذٍ مُجبرًا على امتثال هذه الأوامر.
قالت: إن الرجل المتمول يقتدر على إدارة أربع زوجات، فلا يمنعه ذلك من تعددهن.
قلت: كلا، لا يمنعه من ذلك؛ ولكن مشروط عليه أن يساوي بين كل من زوجاته، وأن لا يميز إحداهن عن الأخرى بالعطايا والهدايا، ولا يظهر لواحدة منهن حبًّا يزيد عن حبه للأخرى، فإذا خاف أن لا يعدل بينهن فيجب عليه شرعًا الاكتفاء بواحدة.
قالت: يا عجبًا! إن المشاكل كثيرة، ألم يكن أولى من التعصب ووضع هذه المشاكل والعقبات منع هذا الأمر؟!
قلت: يا أيتها المدام، فإذا كانت الزوجة عقيمة والزوج راغبًا في البنين، أو كانت المرأة مريضة والزوج يطلب زوجة؛ أفلا يُساعد بزوجة أخرى؟!
قالت: ألا يوجد طلاق؟ فإن يطلقها يأخذ غيرها ويجتمع بزوجة واحدة
قلت: إننا نصرف النظر؛ مراعاة لخاطرك، عما تلاقيه المرأة العقيمة من المحنة والمشقة إذا لم تتمكن من الحصول على زوج آخر، ولكن كيف نسمح بطرح الزوجة المريضة في قارعة الطريق؟!
قالت: إنني أوافق على هذا القول بالنظر إلى كونه صوابًا فقط، ماذا تقولين عن رجل يتزوج على زوجته مع أن له ولدًا، ومع أن زوجته حسناء ومتمتعة بأحسن صحة؟!
قلت: أيتها المدام، إن الحمام يكتفي بأنثى واحدة، على أن الديك يتسلط على عدة دجاجات؛ أليس الإنسان نوعًا من أنواع الحيوان؟!
قالت: أليس التمثل بالحمام أقرب إلى الملاءمة والصواب؟!
قلت: لا جرم أن ذلك منتهى الحكمة والحق، والأكثرية على هذا المذهب، إلا أن الشريعة اللازمة لجمعية مدنية مؤلفة من ملايين من الأنفس يجب أن يكون لها أحكام موافقة لأي الأحوال تدفع بها عن ذويها سائر المحذورات، وتُنيلهم ما يبتغون من المسرات والطيبات. وإنني لأحكم معك أيضًا أنه في سوء استعمال المساعدة الممنوحة في تعدد الزوجات مظلمة للنساء، غير أن النساء اللاتي لا يحتملن هذا الظلم والاعتساف لهن حقوق معلومة على حدة تنقذهن من هذا الجور؛ فالمنع القطعي في تعدد الزوجات قد أورث الجمعيات المدنية أضرارًا وخسارات شوهدت رأي العين.
ومن جملة ذلك أن كثيرًا من الرجال الأوروبيين في الوقت الحاضر أصبحوا بلا زوجات، وعددًا غفيرًا من النساء بتْنَ بلا أزواج؛ فاتَّسع بذلك مجال العادات السيئة؛ ألا وهي كثرة المسيكات والخليلات، فلو شئنا أن ننقذ النساء من تأثر الضرائر؛ أي من أن يكون لرجل واحد ثنتان أو ثلاث لفُتح خرْقٌ أمرُّ وأنكى من الخرق الأول؛ بمعنى أنه يظهر إذ ذاك سفالة كثير من الأطفال المعصومين الذين يأتون إلى هذا العالم بصورة غير مشروعة، ونشأ عن ذلك أكدار لعدد من بني الإنسان، وأورثهم هذا الأمر خجلًا يلازمهم طول العمر. على أنه إذا اتفق عندنا أن رجلًا كان قليل الوفاء واقترن بامرأة ثانية، علاوة على زوجته الحسناء الفتاة الصحيحة البنية، أمكن لها أن تُطلَّق منه وتقترن بزوج آخر كما تريد، وتُجدِّد سعادة حالها!
ولكن هل في وسع الأطفال الذين لا علم لهم بأنفسهم وما يصيرون إليه في مؤتنف الأيام، وما يتقلب عليهم يوميًّا من صنوف الضر الذي تسودُّ به وجوههم، أن يمتنعوا عن المجيء إلى الدنيا؟ إن المرأة المسلمة تحرم شيئًا من الحقوق الإنسانية في أي الأحوال، على أن أولئك المساكين الذين يدعون أولادًا طبيعيين محرومون من جميع الحقوق الإنسانية؛ فإنهم مهما بذلوا من السعي والإقدام، ومهما أجهدوا نفوسهم، ومهما بلغوا من المعرفة والعلم والثروة الواسعة لا يمكن الافتخار بهم، وإنما يكونون حطَّة لوالديهم، ويضعون من قدرهم، ويوجبون لهم الحياء والخجل، وليس من عائلة تقبل في تزويج إحدى بناتهم برجل منهم؛ إذ من حيث إنه لا عائلة له لا يليق به الانتساب إلى عائلة ما.
أما البنات ومصيرهن فلا أرى من حاجة للإفاضة بهذا الموضوع؛ لما أن ذلك معلوم لديك؛ فإنهن محرومات من أن يحببن ويكن محبوبات؛ لأن علامة «النقولة» منقوشة على جباههن بصورة لا تمحى على الإطلاق؛ فما ذنب هؤلاء أيتها المدام؟!
قالت: لا جرم أن هؤلاء المساكين لم يأتوا إلى الدنيا في الحالة التي يرغبون، بل بعد ذلك لا مناص ولا مخرج لهم من هاته الحال وإن كانوا غير راضين عنها.
قلت: أما المرأة المسلمة فتكون ضرة برضاها، وإذا أبَتْ ذلك فتُطلَّق وتذهب إلى زوج آخر. والشريعة الإسلامية لكي تمنع مجيء أولاد الزنا إلى الدنيا منعت الزنا قطعيًّا، وأجازت للرجال الذين لا يكتفون بزوجة واحدة تعدد الزوجات، ومقابلة لذلك وضعت الطلاق بحيث إن النساء اللاتي لا يرغبن أن يكُنَّ ضرائر يمكنهن أن يبحثن عن زوج يرضى بزوجة واحدة!
قالت: لقد أصبت فيما رويت من هذه الجهة، فلا أزيد على لفظة الاستحسان شيئًا، ولكن من حيث إننا من نوع النساء يجب أن نتدرج في مراقي الغيرة قليلًا، ونتكلم كلمات لأجل حماية أهل النوع. إن الزوج والزوجة هما جسم واحد، فبينا يجب أن يعيشا بالحب الكائن بينهما دون أن يتخلله شيء من الشبهات؛ إذ نرى الزوجة المسكينة في كل يوم، بل في كل ساعة تناجي نفسها قائلة: «هل إن زوجي يتزوج علي بامرأة أخرى؟» فبحقك أية لذة من حياة الخوف والقلق والاضطراب؟!
قلت: إذا وُجِد نساء يفتخرن بمحبة أزواجهن، فليس إلا نساء المسلمين أيتها المدام؛ إن تزوج الزوج على زوجته حالة كونها في قبضة يده، أي حالة كونه لم يتركها، فيفيد كأنه لم يتزوج؛ لأن المحافظة على زوجته دليل محبته لها، ولا يمكن أن يقام أعظم من هذا الدليل على إثبات حب الزوج ووفائه، والرجال عندنا لا يكونون تحت منَّة النساء كما يحصل عندكم بسبب المهر المعكوس؛ ليتحاشوا الزواج ثانية، بل بعكس ذلك؛ فإن الرجل حين الزواج هو الذي يدفع الدراهم لتجهيز البنت. وهناك قسم من المال يبقى دينًا بذمته واجب الأداء؛ وهو المهر المؤجل، فإذا وقع بينهما طلاق استوفت المرأة دينها من الرجل، واضطرته أن ينفق عليها ثلاثة أشهر وعشرة أيام، بحيث إنها لا تتحمل شيئًا من الضيق حتى تتمكن من الحصول على زوج آخر!
قالت: في الواقع إننا وإن كنا ندفع الأموال إلا أن الرجال راغبون فينا كل الرغبة.
قلت: إذا انتقلنا إلى البحث بأمر الرغبة نرى الحرمة والرعاية التي تُؤدَّى للنساء عندنا لا تقل عن مثلها عندكم، وربما كانت على نوع ما أعظم. نحن لا نغتر بالظواهر، ننظر إلى الحقائق؛ فإن النساء في الإسلام محترمات بمرتبة القرآن، حتى إنه لا يجوز لفرقة عسكرية سيَّارة صغيرة غير خليقة بالأَمْنِيَّة أن تستصحب معها المصحف الشريف والنساء، وأما الفرق الكبيرة العسكرية التي تكون سلامتها مأمولة في الغالب؛ فتستصحب معها المصحف الشريف والنساء أيضًا.
أما المدام، فإنها بعد أن أعملت الفكرة قليلًا التمست مني أن أترجم كلامها، والتفتت إلى النساء قائلة لهن إجمالًا: من حيث في الإسلام يجوز للرجال متى أرادوا أن يقترنوا بزوجات علاوة على زوجاتهم، أفليس عندكن خوف من ذلك؟!
فأجابت إحدى السيدات قائلة: أواه! إن زوجي يحبني فلا يمكن أن يتزوج.
وأجابت الثانية: فليتزوج ليرى أنني لست ممن يرضين في البقاء عنده!
وقالت الثالثة: إذا كان لا يحبني فبعد أن يتزوج لا أخشى من وقوع القحط في الرجال للحصول على زوج لي!
وأجابت سيدة أخرى: إن لزوجي حقًّا في أن يتزوج؛ لأنني أنا أكبر منه بثمان سنوات أو تسع سنوات، فهو الآن كهل في الخامسة والأربعين من العمر، أما أنا ففي الرابعة والخمسين، وإنني متى كنت معه في محل واحد لأخجل من أن نمر معًا بإزاء المرآة.
وبعد أن ترجمت لها هذه الفقرة التزمت المدام الصمت، وبعد تفكر قليل التفتت إلي قائلة: يقال إن نبيكم ﷺ كان يحب النساء كثيرًا، أليس كذلك؟
قلت: أجل إن نبينا تفضَّل بقوله: «حُبِّبَ إلي من دنياكم ثلاث: الطِّيب — أي الرائحة العطرية — والنساء، وقرة عيني في الصلاة.»
قالت: الظاهر أنه لذلك أخذ كثيرًا من النساء حتى إن أحد عبيده بعد أن طلق زوجته تزوَّجها، وقيل: إن ذلك سبب اعتراض بعض المعترضين!
قلت: إن جواب كلماتك يحتاج إلى التفصيل، فإذا لم يكن مما يوجب تصديع الخاطر أتقدم إلى بيانه.
قالت: إنني أشكر لك شكرًا جزيلًا؛ لأنني أرغب كثيرًا الوقوف على حقائق هذه الأشياء.
قلت: إن نبينا ﷺ تزوج في بادئ الأمر بخديجة الكبرى، وفي مدة حياتها لم يتزوج بامرأة غيرها، فالذرية النبوية إنما هي باقية عنها، وبعد وفاتها زوَّجه حضرةُ أبي بكر صديقُه الحميمُ بابنته عائشة، فلما ترملت حفصة ابنة حضرة عمر رَغَّب بها كلًّا من أبي بكر وعثمان، فلم يتم شيء من ذلك، على أن نبينا رغبةً منه في تلطيف عمر تزوَّج بها، وأنتم تعلمون ما كان عليه حضرة عمر من رفعة الشأن والقدر. وجميع نسائه إنما اقترن بهن لسرٍّ وحكمة — مما تقدم بيانه — وهناك سبب مستقل يتعلق بمسألة التحري والبحث عن الكفء في أمر الزواج؛ فهذه المسألة كان يراعيها العرب مراعاة فوق الحد، وكانت قبيلة قريش التي هي أشرف القبائل تأنف من أن تصل بناتهن ونساؤهن إلى رجال غير أكفاء لهن، ومن حيث إن المشركين في أوائل الإسلام كانوا يسومون المسلمين جورًا وعسفًا وجفاء، هاجر عدد من سراتهم بأهاليهم إلى بلاد الحبشة، ثم بعد ذلك كانت الهجرة إلى المدينة بوجه عام. وهذه المهاجرة أفقرت المسلمين، وفي أثناء هذه الجلية أصبح عدد كبير من الرجال عُزَّابًا وكثيرات من النساء أرامل.
ولما كان الزنا من المحرمات العظيمة في دين الإسلام لم تُراعَ مسألة الكفاءة تمامًا، ومع ذلك فإن هذه المسألة — أي أمل وجود الأكفاء — لم تبرح من أذهان المهاجرين، ولم تكن تطمئن قلوب المسلمين على النساء اللاتي لم يحصلن على الأكفاء، فهذا هو السبب الرئيس في تكثير الزوجات المطهرات بعد الهجرة النبوية. وها أنا ذا أورد لك بعض أمثلة في هذا الشأن: إن أم حبيبة ابنة أبي سفيان، من رؤساء قريش، كانت أول من آمن، فهاجرت مع زوجها إلى البلاد الحبشية، فتوفاه الله هناك، ولبثت هي ثابتة في دين الإسلام، وحيث إن أكثر رؤساء قريش قتلوا في غزوة بدر، صار أبو سفيان رئيسًا لقريش في مكة، وبلغ مكانة قصوى من النفوذ حتى إنه ليقال: إنه بعد عبد المطلب لم يأت رئيس صاحب نفوذ كأبي سفيان؛ فإنه كان يسوق قريشًا بجملتها في السبيل الذي يريده، ولو كانت أم حبيبة راغبة في الدنيا لذهبت توًّا إلى مكة، على أمل أن تستفيد من نفوذ والدها وإقباله ومكانته.
غير أنها لم تكن من أولئك الذين يبيعون دينهم بدنياهم؛ فحالة هاته المرأة المتدينة الصابرة التي انقطعت في ديار الغربة قد استجلبت شفقة أهل الإسلام، فكان من الأمور الطبيعية الافتكار بمعاملتها باللطف لتحصل على السلوى، وحيث لم يكن من أهل الإسلام أكفاء لها إلا بنو عبد المطلب، ولذلك أرسل الرسول الكريم ﷺ سفيرًا إلى النجاشي مظهرًا رغبته في الاقتران بأم حبيبة، والنجاشي أيضًا عقد نكاحها في الحبشة على الرسول الأكرم، وأرسلها بكمال الاحترام إلى المدينة المنورة، فالنساء بالطبع لا يردن أن يكون لهن ضرائر، إلا أن الزوجات المطهرات — وعلى الخصوص حضرة عائشة زوجة النبي المحبوبة لديه، والمزينة بالعلم والفضل — لم يَكُنَّ يقُلنَ شيئًا عن تعدد زوجات النبي ﷺ؛ لأنهن كُنَّ يُقدِّرن هذه المسائل المهمة حقَّ قدرها.
كذلك أبو سلمة بن برة بنت عبد المطلب كان من أول الذين آمنوا، ومن أصحاب رسول الله ﷺ، فهاجر مع زوجته أم سلمة إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، وتوفي من جُرح أصابه في حرب أُحد، فظلت أم سلمة أرملة، ولما كانت من أشراف قريش ومن ربات الحسن والجمال طلَبها كلٌّ من أبي بكر وعمر، فلم تقبل، ثم طلبها حضرة النبي ﷺ فرضيت فتزوجها.
وبعد ذلك تزوج الرسول الأكرم ﷺ أيضًا بزينب بنت جحش مُطلَّقة زيد بن حارثة مَعْتوقه؛ فهذا ما بعث المعترضين على الاعتراض كما قلت. أما نحن فنعتبر أمر هذا الزواج مسألة مهمة، والراغب في الوقوف على الحقيقة يلزم أن يكون على معرفة من ترجمة حال زيد وزينب إجمالًا.
أما زيد بن حارثة فهو من قبيلة قضاعة، أُخذ أسيرًا بينما كان صغيرًا وبيع في مكة، فاشترته حضرة خديجة ووهبته إلى الرسول الأكرم ﷺ فأعتقه وتبناه، وكان الناس يُسمُّونه بزيد بن محمد، وهو أحد الأربعة الذين آمنوا ابتداء — وهم: خديجة، وأبو بكر، وزيد، وعلي — وكان الرسول الأكرم ﷺ يستخدم زيدًا في أهم الأشغال، ويوليه قيادة الجيش إلى أية جهة كان يرسل إليها الجند.
وجملة القول: إن زيد بن حارثة كان مظهرًا لحسن توجه الرسول الأكرم ﷺ، وكان من أعاظم الملة الإسلامية، فزوَّجه الرسول الأكرم ﷺ بابنة خالته؛ أي بزينب بنت أميمة بنت عبد المطلب، غير أن زيد بن حارثة مع أنه كان عربي الأصل لم يكن قرشيًّا.
أما بنات قريش فلم يَكُنَّ يعرفن أكفاء لهن في سائر القبائل، خصوصًا أولاد عبد المطلب؛ فإنه يُبحث لهن عن الأكفاء في أشراف قريش، على أن حضرة زينب لو كانت مسرورة من زيد لوجب أن تكون متكدرة من حيث إنه لم يكن كفئًا لها، كما أن زيدًا أيضًا أخذ يفتكر في تلك المسألة الدقيقة، فحمل أطوار زينب العادية على الكبر والعظمة — وهو أمر طبيعي كما لا يخفى — فذهب ذات يوم إلى الرسول الأكرم ﷺ، وشكا إليه ما يراه من عظمة زينب بالنظر إلى قرابته منها، وأنْبَأه أنه سيُطلِّقها؛ إذ بذلك يكون قد أنقذها من زوج غير كفء لها، وخلص نفسه من عظمتها، على أن الرسول الأكرم ﷺ قال له ما معناه: دع عنك هذا الفكر وخف اللهَ؛ إن المرأة لا تطلق لمثل هذه الأشياء.
ومع هذا، فإن زيدًا لو طلَّقها لما أمكن أن يكون كفئًا لمثل هذه السيدة الشريفة إلا صاحب الرسالة ﷺ، فكان يَمرُّ بخاطره الرفيع وجوب الاقتران بها تطييبًا لخاطرها وإحقاقًا، على أنه لم يكن يُظهر ذلك؛ لأن الشخص الذي كان يتخذ ولدًا في ذلك الزمان كان عند الناس بمثابة الولد الحقيقي تمامًا، فكانوا يزعمون، بل يعتقدون أن من كان في مقام الأب لا يجوز له أن يتزوج بمُطلَّقة مَن تبنَّاه، على أن الأحكام الشرعية لمثل هذه المسائل لم يكن حاصل التفصيل بوضعها إذ ذاك.
أما زيد فإنه بعد إذ أظهر أنه لم يعد يتحمل عظمة زينب ذهب إليها فطلقها، وبعد أن انقضت عدتها نزلت الآيات الكريمة بالوحي الإلهي في بيان الأحكام الشرعية، وبموجب هذا الوحي الرباني تزوج الرسول الأكرم ﷺ، وصدر الأمر بالتفريق بين الأولاد بالتبني وبين الأولاد الحقيقيين، وأن ينتسب أولئك إلى آبائهم، وبعد أن كان يدعى زيد بن محمد صار يدعى بزيد بن حارثة.
قالت: يُفهم من ذلك أن هذه الكيفية متبعة أيضًا عن مسألة الأكفاء؟
قلت: نعم، إن الأصل فيها عبارة عن ذلك، وفروع حكمتها أيضًا إنما هي توثيق الأحكام الشرعية التي ستكون قانونًا للأمة في المستقبل.
ثم إن المدام أخذت بأطراف الحديث مع السيدات، وكانت تسأل عن أسماء بعض مسميات في اللغة التركية وتُقيدها في محفظتها، وبعد انقضاء برهة على مثل هذه الحالة التفتت إليَّ وقالت: ألا تشتكين من إجباركن على التستر والحجاب، ومن حرمانكن من مصاحبة الرجال؟!
قلت: أيتها المدام، إن الجواب الذي سأجيب به عن سؤالك ينقسم إلى قسمين: الأول: يتعلق بالأمر الشرعي، والثاني: بالعرف والعادة بمقتضى إيجاب الحال والزمان، وإليك البيان: إن شعور النساء زينة لهن، وداعية لاستجلاب الأنظار كثيرًا بناء على ذلك، كما أن الملة الموسوية قد منعت من إراءة هذه الزينة المبهجة للرجل، هكذا الشريعة الإسلامية نهت عنها أيضًا.
قالت: إذن كان يجب عليكن أن تسترن شعوركن فقط! حالة كوني رأيت النساء المسلمات في الأزقة يحتجبن تمام الاحتجاب غير مكتفيات بستر الشعور؟!
قلت: أجل، إن ستر الشعر كافٍ أيتها المدام، على أن المرأة يجب أن تحافظ على كل طرف من ألبستها المكتسية بها، وأن تكون في حالة لا تجعل بها سبيلًا لإظهار قوامها وكسمها؛ فالنساء التركيات اللاتي ترينهن الآن يكتسين بمثل ما تكتسي النساء الأوروبيات، والسيدات اللاتي تشاهدينهن في هاته الجمعية هن الآن بألبسة الزيارات، فإذا كان هناك عرس أو وليمة اكتسين بمثل ما تكتسين أنتن به في الليالي الراقصة وفي الولائم، فإذا لُبس شيء عارض الزينة فوق هذه البهرجان وستر الرأس بستار فوق الشعر عُدَّ ذلك تستُّرًا موافقًا للشريعة. أما النقاب «ياشمق» والغطاء المسمى «فرجة وجارشاف»؛ فهي من عادات البلاد التي اتُّخذت مؤخرًا.
وما زال القرويات ونساء العشائر يكتفين بستر الرأس فقط؛ لأن ملابسهن خالية من ضروب الزينة، فهن والحالة هذه يجالسن الرجال، ويجلن معهم، ويشاركنهم في الأشغال. وأذكر لك قبيلة الملثمين الضاربة في صحاري أفريقيا، وهي القبيلة التي تُشكَّل منها دولة في بلاد المغرب، ونساء هذه القبيلة إلى الآن يجلن سافرات الوجوه. أما الرجال فإنهم يسترون وجوههم، وهذه عادة مألوفة عندهم، فإذا كانت شعور النساء المسلمين مستورة، فالوجه شرعًا غير محرم، وعليه فإن النساء لا يمتنعن شرعًا من محادثة الرجال والاجتماع بهم إذا كانت أجسامهن مستورة بالملابس، ومضروب على شعورهن الخمار.
قالت: فإذن لماذا لا تجتمعن بالرجال ولا تُجالِسْنهم؟!
قلت: إن في كل ملة عادات كثيرة وإصلاحات شتى حادثة، وهذا أصبح عندنا عادة مألوفة، والحالة هذه لم يكن ذلك من الضروريات الدينية.
إن النساء في زمن نبينا ﷺ كنَّ يسترن رءوسهن، وكنَّ يجتمعن بالرجال حالة كون شعورهن مغطاة، وكل يعلم أن كثيرًا من السراة كانوا يذهبون إلى حضرة فاطمة الزهراء — رضي الله عنها — كريمة حضرة الرسول الأكرم ﷺ ويتذاكرون معها. وفي التواريخ أن أهالي مكة بينما كانوا من ذوي العصيان على النبي ﷺ وفد أبو سفيان، رئيس رؤساء مكة، على المدينة بعقد الصلح، ولما لم يفز بوعد من حضرة الرسول ﷺ ومن أصحابه ذهب إلى حضرة فاطمة الزهراء — رضي الله عنها — يرجوها التوسط في الصلح، وبعد وفاة النبي ﷺ كان أعظم العلماء وأفاضل الأصحاب الكرام يتواردون على مجلس زوجته المطهرة عائشة — رضي الله عنها — ويطرحون عليها المسائل، وينالون الأجوبة عنها، وكان النساء المباركات في ذلك العصر فاضلات عالمات كالرجال. أما حضرة فاطمة وحضرة عائشة — رضي الله عنهما — فقد اشتهرتا أيما اشتهار بالعلم والفضل، وقرض الشعر، وفصاحة الإنشاء.
وكان الرجال — فضلًا عن النساء — يستفيدون من علمهما وفضلهما، وبعد زمن السعادة كان كثيرون يتعلمون السنة من حضرة عائشة — رضي الله عنها — وكانوا يذهبون إلى مجلسها العالي فيتلقون ذلك عنها، فكما أن تبليغ الشريعة كان على مثل ما وصفتُ في زمن حضرة الرسول الأكرم ﷺ هكذا كان أزواجه وبناته المطهرات يسترن رءوسهن أيضًا.
وكانت أمهات المؤمنين بجملتهن حائزات على شرف لا يضاهى، ومنزلة لا تبارى لدى جميع الناس، وكانت الناس تتبرك بزيارتهن، غير أن حضرة عائشة — رضي الله عنها — كانت ممتازة عنهن بالعلم والفضل، فكان الأصحاب الكرام يرجعون إليها زيادة عن غيرها، ويتعلمون منها الأحكام الدينية، ولذلك كان كلامها مسموعًا ومعتبرًا أكثر من سائرهن، وكانت هي محترمة كل الاحترام.
قالت: أهي عائشة التي افتري عليها؟
قلت: هي عائشة بنت أبي بكر — رضي الله عنه — التي كان افترى عليها بعض المنافقين، أليس أن اليهود قد افتروا هذا الافتراء على حضرة مريم سيدة النساء؟
قالت: أسألك عفوًا على قطع حديثك؛ فداومي ما بدأت به.
قلت: إن قاعدة التستر ظلت وقتًا طويلًا على مثل هاته الحال، إلا أن فساد الزمان قد أفرغها في صور أخرى؛ فالعادة منعت النساء من الاجتماع بالرجال ومجالستهم.
قالت: إذا كانت أحكام الحجاب في دين الإسلام كما وصفتِ؛ فلماذا لا تسمحون للرجال برؤية البنات اللاتي سيكُنَّ لهم زوجات؟!
قلت: إن هناك أماكن تجيز ذلك، وخصوصًا في بوسنة؛ فإن الرجال لا يقترنون بالبنات إلا بعد أن تتمكن من الفريقين روابط المحبة، وهذه أصبحت عادة عندهم، وفي كل محل يجوز شرعًا أن يرى الرجل وجه الفتاة التي سيقترن بها؛ حتى إن نبينا ﷺ قال: «انظروا وخذوا خيرهن.» لكن لكل بلدة عادة مخصوصة بها؛ فأهل تلك البلدة لن يتمكنوا من نبذ هذه العادة، والخروج عن دائرة الحد المرسوم، وجميع ذلك من العادات لا من المسائل الدينية.
قالت: لا جرم أنها عادة غير ملائمة؛ فالواجب تركها، أليس أن اقتران الرجل ببنت لا يعرفها، وانتقال البنت إلى رجل لا تعرفه من أعظم المشاكل؟!
قلت: إن هذا لم يكن من المشاكل العظيمة عندنا، فلو كان في شيء من ذلك لنُبذ ظهريًّا، غير أنه بمقتضى المساغ في ديننا يمكن إذا حصل اتفاق بين عائلتي الفتاة والشاب أن يرى كل منهما الآخر قبل الزواج.
قالت: أتكفي نظرة واحدة؟! لا جرم أنه يجب عليهما أن يجتمعا مليًّا ببعضهما بعضًا، وأن يتسامرا وقتًا طويلًا، وأن يدرس كل منهما طبيعة الآخر وأخلاقه، وأحسن من ذلك أن يتحابَّا وتتمكن بينهما عقودُ الحب؛ ليعيشا في الزواج عيشة راضية.
قلت: في اعتقادنا أن الوسيلة المفيدة في الألفة وحسن الامتزاج ليست في شيء مما ذهبتِ إليه؛ إن ثمانين بل تسعين في المائة من الزواج عندنا على مثل هاته الأصول تأتي بأفضل نتيجة من حسن الامتزاج، مع أن المناكحات التي تحصل في أوروبا جميعها بوجه الحب والعشق لا يترتب عليها امتزاج بين الزوجين، فإن كثيرًا ممن تزوجوا عشقًا وهيامًا قد انطفأت جذوة حبهم بعد ستة أشهر أو سنة من زواجهم، وأصبح عشقهم هباءً منثورًا، كأن لم يكن بالأمس شيئًا مذكورًا، ثم كثيرًا ما أدى بهم ذلك إلى الانفصال عن بعضهما بعضًا، واضطر كل منهما أن يعيش منفردًا.
ولعمري إن العشق الحقيقي إنما هو أندر من النادر، لكنْ كثيرون الذين يسعون إليه، أليس أنه يوجد عدد لا يحصى من الفتيان يتوهمون الوساوس عشقًا، ويظنونه حبًّا؛ فيسقطون في أوحال الخيال؟! أليس أن هذا الظن الخيالي يصل بهم إلى حد أنهم ينفصلون عن آبائهم وأمهاتهم، فيفرون من منازلهم وينعزلون عن أقاربهم، غير أنهم يشعرون بعد ذلك بفساد هذا الوهم والظن فيندمون — ولات ساعة مندم — ويكرهون ظنونهم، وينقلب عشقهم حقدًا وبغضًا؛ فيصيرون إلى أسوأ الأحوال؟!
ومعلوم أنه لا يجب الحكم على الظنون في انتخاب الزوجة والزوج؛ بل يجب أن تهتم العيال في الوقوف على الحقائق، وعندي أن الشاب والفتاة متى كانا متعاشقين متحابين فلا يتأتَّى لهما أن يدرسا أخلاق بعضهما بعضًا، ولا آدابهما وطبيعتهما وصفاتهما ومزاياهما، ولا أن يقدراها حق قدرها، وإنما تقدير ذلك منوط بأكابر العائلتين؛ فينبغي للوالدين أن يعقدا العقد بعد استشارة أولادهما وبناتهما، واستحصال رضاها، وبخلاف ذلك إذا تركت لمثل هؤلاء الفتيان أنتجت أكدارًا كثيرة للوالدين والأقرباء والمحبين، وربما أبلتهم بلاءً مرًّا. وأظن أن في أوروبا أيضًا لا يُطلقون العنان للبنات والشبان، ولا يمنحونهن الحرية التامة في مثل هذا الزواج، أليس كذلك أيتها المدام؟
قالت: هكذا لا يطلق للفتيان عنان الحرية للتفكر في نهاية عواقب الأمور.
قلت: وجملة القول: إنه من الخطأ أيتها المدام حسبان هذه الأمور من مقتضى الدين؛ فليست سوى عادات، وإن لكل بلاد عادات مخصوصة بها، والإنسان أسير العادة. أما تعديل العادة فإنه يتم تدريجًا، والطفرة محال، والمسلمون قد ازدادوا تمسكًا بعادة ستر الوجه بالنظر إلى الفائدة التي رأوها منها، والعادات الحسنة والقبيحة ليست مخصوصة بقوم دون آخرين، وإنما ذلك متساوٍ في جميع الملل.
ثم إذا أمررت النظر على الشرائع السالفة رأيت أن الدين الذي يصدق على دين جاء قبله قد بدل وعدل بعضًا من أحكامه أيضًا، ولحكم الزمان تأثير كلي في هذا الباب؛ إن حضرة حواء — عليها السلام — كانت تضع توءمين: ذكرًا وأنثى، ولم يكن من الجائز في ذلك الزمان أن يقترن الفتى بالفتاة، في حين أنهما نزلا من بطن واحد، بل كان من مقتضى شريعة آدم أن يكون الزواج بمن وضع في بطن آخر، وعليه فإن حضرة آدم — عليه السلام — عندما أمر أن يتأهل قابيل الذي ولد ابتداء بتوءم هابيل، وهذا بتوءم قابيل؛ لم يرض بذلك قابيل فقتل أخاه هابيل، فمما تقدَّم يُعلم أن اقتران التوءمين كان ممنوعًا.
ثم بعد ذلك حرم نكاح الأخت تحريمًا مطلقًا، وكان من الجائز أن يقترن الرجل بأخته ويجمع بينهما إلى أن جاء حضرة موسى — عليه السلام — فأصبح هذا الحكم أيضًا منسوخًا، وإنني أضرب لك مثالًا آخر من إنجيل مَتَّى؛ فقد ورد في الفصل التاسع عشر منه: أن حضرة عيسى — عليه السلام — حالة كونه صدق على التوراة فقد منع الطلاق، وقت ذلك سُئل بما معناه: «إذن لماذا أذِنَ موسى بالطلاق؟!» فأجاب حضرة عيسى: «إن موسى إنما كان أذن بالطلاق بالنظر إلى قسوة قلوبكم.» وبناء عليه؛ فإن حضرة عيسى منع الطلاق لغير علة الزنا.
قالت: أجل.
وفي أثناء ذلك أطلقت مدافع الإفطار فذهبنا إلى المائدة. أما المدام فكانت تتناول من كافة ألوان الطعام بقابلية، ولم تره غريبًا عن ذوقها، وكانت تسألنا عن أسمائها، فلما صار الطعام على وشك الختام أقبل الأرز؛ فقالت سائلةً: إن الأرز عند الأتراك إنما يُقدَّم في آخر الطعام؛ وهو دليل على نفاد الألوان؟
قلت: نعم، إنه لكما أشرت.
قالت: إن إستانبول هي بمثابة فهرست للإنسان، كما إن مائدة الأتراك بمنزلة فهرست للطعام؛ فقد أكلت على هذه المائدة من طعام جميع الأمم.
وفي الواقع إن ما قالته المدام كان صحيحًا، وقد كنا ذكرنا لها أسماء الطعام إجابة لسؤالها، فكان مؤلفًا في ذلك المساء من اللحم والسمك، وكانا مطبوخين على النسق الإفرنجي، وكان ثم دجاج جركسي وكشك الفقراء المعروف في البلاد العربية، وشيخ المحشي، والباذنجان بالزيت، وكنت أترجم للسيدات اللاتي على المائدة كلام المدام، وكانت الغرفة التي تناولنا فيها الطعام قائمة في الطابق العلوي من المنزل وعلى طرف الجنينة، وكان لها باب كبير بمصراعين يفتحان على جنينتنا، فبعد إذ نهضنا عن المائدة لم نعُد إلى القاعة، وإنما أرسلنا كرسيين إلى الجنينة من الباب المُطلِّ عليها؛ قصد أن نُروِّح أنفاسنا بعبير الزهر التي كانت تتضوع كأريج المسك، وتناولنا القهوة هناك وكان القمر بدرًا — أي في اليوم الرابع عشر يرسل أشعته فينير ظلمات الأرض — والهواء كان عليلًا لطيفًا جدًّا.
وبعد إذ انتهينا من شرب القهوة تبادلنا مناولة الأذرع، وتفرقت جمعيتنا التي كانت مؤلفة من طبقات متفاوتة في السن في أطراف الجنينة العريضة الواسعة، وكانت تجتمع أحيانًا لمبادلة بعض الكلمات، ثم تفترق ذهابًا وإيابًا. أما جمعيتنا فكانت مؤلفة من خمس؛ وهن: المدام، وهذه العاجزة، وثلاثة أفراد العائلة، وكان أكثر جمعيتنا يتعاطين التدخين بالسيكارات، يُدخِّن بعد الإفطار بمزيد اللذة، وكانت شرارات السيكارات تضيء وتلمع من خلال الأزهار والأشجار، وكانت تلك الليلة من أحسن الصدف التي تتمناها المدام؛ لأنها كانت جامعة عددًا كبيرة من الأقارب. وهو ما كانت تلك المدام تود مشاهدته.
ولما أعيانا السير على القدمين دخلنا إلى كشك حجم القاعة محاط من أطرافه بالنوافذ والشبابيك، وألقينا فيه عصا التسيار، ثم أقبل سائر الخواتين ودخلن إلى هذا الكشك، وأخذنا معًا بأطراف الحديث، وقد جلست المدام وهذه العاجزة تجاه النافذة القائمة في الوسط، وكانت المياه التي تتدفق من شلالات الحوض الكبير القائم بإزاء الكشك تطرب الآذان بأصوات خريرها وتكسرها، وحبوبها المنتشرة في الحوض كقطع الماس تُمثِّل منظرًا لطيفًا جدًّا، وكان محل جلوسنا وموقعه جميلًا للغاية.
فإننا فضلًا عن مشاهدة الجنينة والحوض كنا نشاهد البحر من وراء الجنينة، ولكن ما أدراك ما هو ذاك البحر، إنما هو البحر الذي كان يتراءى للعين كأنه من صفائح الفضة واللجين، بما انتشر فوقه من أضواء النور المنبعثة من قمر الليل، بل البحر الذي تغزلت به الشعراء فوصفوه بأشعارهم وصفًا لا يحتمله المقام، وكان في تلك الليلة ساكنًا كل السكون، والهواء كان يهب صحيحًا فيعود عليلًا بأرجاء الأزهار، وكانت السماء صافية والأفق خالٍ من الكدورة، فكنا لا نعرف أين نوجه الأنظار في تلك الليلة البديعة:
أنوجهها إلى البحر الذي كان صفيحة من لجين؟ أم نوجهها إلى الأجرام السماوية التي كانت تلمع وتضيء في ذاك الفضاء عيانًا كغادة حسناء ألقت عنها حجابها؟ أم نوجهها إلى البدر المنير الذي كان يفوق عليها ضياءً ونورًا ولألأة؟ أم نوجهها إلى الحصى الصغيرة التي كانت تلمع وتبرق في الجنينة من انعكاس نور البدر، فتمثل دمالج من ألماس تلمع في زنود الحسان؟! لا جرم أن تلك المناظر كانت تحير المرء فلا يهتدي إلى أحسنها سبيلًا.
على أن المدام قد وجهت أنظارها إلى العلاء فأرسلت عينيها في فضاء السماء، وكانت هذه الخاتون العالمة بفن الهيئة والهندسة قد طبقت دروسها على خريطة العالم بما استفادته تلك الليلة من لمعان السماء، فبعد سكوت مستطيل صرفته في النظر إلى هاته المناظر التفتت إلي قائلة: هل لك إلمام بفن الهيئة؟
قلت: قليل جدًّا.
قالت: أيمكن لك أن تري كوكب القطب الشمالي؟
قلت: نعم، إن رأس الدب الأصغر يُرَى مِن ورائنا.
قالت: أيمكن لنا تفريج الأبراج؟
قلت: إن القمر بدر وكثير اللمعان، وفي ظني أن ذلك متعذر علينا، وعلمي في هذا الفن ناقص جدًّا، فهل لك أن تلذي سمعي ببعض التفصيلات؟
قالت: أجل مع المنة.
ثم أخذت المدام تنقل لي أسماء السيَّارات ووضعيتها ودوراتها وأبعادها وتبدلات أشكالها بصورة بالغة حد الإتقان والكمال في بسط النقل، وحسن البيان، حتى دهشت لتلك قوة الحافظة التي وُهِبَتْها؛ لأنه مهما حصَّل المرء من العلم والمعرفة فليس من السهل أن يحفظ في ذهنه أبعاد النجوم عن بعضها، ويذكره بتدقيق تام.
وكانت تروي لي بإيضاح وتفصيل أقوال الفلاسفة والحكماء المتعلقة بفن الهيئة، ومقدار ما تغلب عليهم من تغير الأفكار والآراء، وكيف أن المتأخرين قد جرَّحوا أقوال من تقدمهم، وكيف أن الذين جاءوا على إثر هؤلاء المتأخرين قد عادوا إلى تصويب واستحسان كلام الأولين والتصديق عليه، وتشرح شرحًا مستوفيًا عن أوضاع النجوم والسيارات، ومع أن المدام كانت في المحاورات الأولى تلقي علي كثيرًا من الأسئلة، فصرت الآن أسألها عن عدة أشياء.
أما هي فإنها بعدئذ لم يبق في كنانة علمها منزع، ولم تضن علي بإيضاح وبيان ما، حوَّلتْ نظرها إلى جهة البحر وأخذت تشرح لي بتفصيل عن عكس القمر في البحر، وعن كيفية ضيائه وأسباب لمعانه، ثم وجهت نظرها إلى الجنينة، وصارت تبحث في المعادن والنباتات وتأتي عليها بما يحتاج إليه المقام من الإيضاحات، وكانت تتكلم عن هذه الفنون بلذة تفوق لذة العاشق الذي يتحدث بذكر عشيقته! وتظهر على سيماها آثار الرقة واللطف، بادية فيها دلائل الكياسة والظرف. ولا غرابة في ذلك؛ لأنها إنما كانت تتحدث بذكر العلوم الحكيمة التي كانت تعشقها.
وبعد هنيهة، ألقت نظرها على الأشجار الكبيرة، وكانت تخمن مقادير أعمارها.
فقلت لها: إنني سأريك شجرة معمرة أكثر من أشجار الفستق، ثم أخذتها بيدها حتى وصلت بها إلى شجرة ضخمة، وأريتها إياها، فتقربت إليها، وبعد أن دققت فيها تدقيقًا تامًّا قالت: أيتها السيدة، إن هاته الشجرة هي أقدم من العثمانيين في الآستانة، وهي باقية من زمن الإمبراطورية؛ لأن وصولها إلى هذا الطول يحتاج إلى عدة أعصر، ثم عُدنا بعدئذٍ إلى الكشك، فاستأنفت المدام حديثها العلمي، وأخذت تلقي علي ضروبًا من الحكمة، ثم قالت: أخشى أن أكون أورثت لك مللًا بكلامي في هذا الموضوع، ولكن ما حيلتي وأنا أرى في مثل هذه المحاورات لذة مزيدة.
قلت: ماذا تقولين أيتها المدام؟! إنني كثيرًا ما كنت أود أن أُبيِّن شكري لما استفدته في هذه الليلة من ألفاظك البليغة، وعلومك العالية، إلا أنني خشية من قطع الحديث عليك توقفت عن تأدية الشكر، بل لم أتجرَّأ أن أُبديَه؛ فأنا أهنئك بهذه المنزلة العلية، وأشكر لك عنايتك؛ فقد استفدت بآدابك كثيرًا.
قالت: أنا أطوف الجهات وأذهب إلى المراقص وليالي الفرح والمسرات، ولا أحب الخروج عن دائرة العادات، لكن لا بنية إظهار زينتي وعرض نفسي على الأنظار كما تفعل أكثر النساء، ولا أكتسي بالألبسة الحريرية الرفيعة الأثمان بقصد العظمة والافتخار، وإنما ألبسها لأجل أن يلتذ سمعي بصدى اهتزاز أمواجها وخشيشها في الهواء، متخذة ذلك بمثابة اختبار لدروس الحكمة التي تلقيتها!
ماذا أقول عن أولئك الناس الذين يدخلون إلى قاعات المراقص فتأخذهم نشأة الحظ والسرور من ضياء القناديل والشموع المتلالئة فيها، ومن لمعان الثريات وأنوارها المنعكسة، ولكنهم لا يعلمون شيئًا من أسباب هذا الحظ، ولا يفقهون ماهية تلك الأشياء التي تبعثهم على هاتيك المسرات؟
لعمري إنهم لو أحاطوا علمًا بها لتمثلت لهم فيها حكمة الله بأجلى بيان، ولازدادوا اندهاشًا بقدرته وقوته التي حيرت بني الإنسان، ولانشغلوا بذكره وتسبيحه أكثر من اشتغالهم بالملاهي. نعم، إنني أرى فرقًا بين الحجارة الماسية التي أصفها وبين حجارة الثريات العلوية، وعندي أن هذا الفرق إنما هو ناشئ عن الحجارة الماسية بواسطة انعكاس ضياء القناديل والشموع عليها، تمثل للعيان الألوان السبع الأصلية بمنتهى الرقة واللطف والظرف ما لا يوجد في الحجارة البلورية.
ويشهد الله أنني لا أنظر إلى النساء في تلك الليالي نظرة الحاسدة لجمالهن، الباحثة عن قصورهن، الراغبة في كشف عيوبهن، بل ربما كنت أدقق في أكثرهن جمالًا، وفي أخلاق أطوار الفتيات المعصومات؛ لأنقش هذا الجمال وهاته الأطوار في مخيلتي، وأتخذ الخيال الذي أرسمه قاعدة أتصورها في كل وقت. إنني أدخل إلى قاعات الميس في المراقص وأتفرج على الألعاب، ولكن لا لأحد الذين يربحون ولا لتأخذني الشفقة على من يخسرون؛ لأنهم إنما يخسرون أموالهم بطيب خاطر منهم، بل أدخلها لأنظر — مع التعجب — تلاعب هذا المعدن الأصفر بالألباب، واستهزاءه بأولئك الذين ينفقونه جزافًا على مذابح شهواتهم كأنْ لا قيمة له، مع أنهم لم يجمعوه إلا بشق الأنفس، لم يجمعوه إلا بعرق الجبين، لم يجمعوه إلا بالمتاعب والمشقات التي تقرض العظم قبل اللحم، لم يجمعوه إلا بإهراق الدماء.
فهم يلعبون به لكن بعد أن يلعب بألبابهم وأرواحهم وشرفهم، أليس من موجبات الدهشة والاستغراب أن أولئك الذين يتلفون أنفسهم في سبيل الحصول على واحد من هذا المعدن، يستبدلون تعبهم ويعتاضون عن مشقاتهم بساعة من الحظ؟ ما من شيء حري بالفرجة أكثر من مناظر الجمعية في المراقص وليالي الأفراح، والتدقيق بنظر الأفراد المجتمعين الذي يتبادله كل منهم، بل ما من لذة تضاهي لذة مشاهدة الأنظار التي يتسارقها الفتيان العشاق الذين يرهبون من آبائهم، ويتحببون أمهاتهم، ويتضايقون في الازدحام؛ فإن العيون — وهي منافذ القلوب — تغني عن لسان المقال.
أما إذا اجتمع الجمال في العيون؛ فإن الكلمات التي ترسلها إلى الأفهام لتسمو وتعلو قبولًا على الألفاظ التي تخرج من بين الأسنان الدرية، والشفاه المرجانية؛ إذ إن الكلمات التي تصدر من الفم لا تكون بجملتها صحيحة وجوابًا، وإنما تصدر موزونة مموهة بالكذب، ولكن العيون بعيدة عن التمويه، منزهة عن التصنُّع والتقليد، فبينا يتكلم الفم بالمُحال؛ إذ تظهر الحقيقة من مجرد النظر على العينين.
نعم، إنه لا حاجة للسؤال في مثل هذه الجمعية عن أرباب الدسائس والكذبة والمنافقين؛ فإن العيون تكشف الخفايا، وتشير إلى كلام المحبين والأعداء والوالدين والوالدات والأولاد. إن حماية الآباء، وشفقة الأمهات، وهيام العشاق، ومحبة الأصدقاء، وغرض الأعداء، كل ذلك يُعلَم من العينين، والعيون تطلع تمام الاطلاع على جملة أشياء لا يستطيع الإنسان أن يسأل عنها بلسانه؛ فالعيون ترجمان القلب.
فلما وصلت المدام إلى هذا الحد من البيان التزمت جانب الصمت، ثم وضعت مرفقها على النافذة، وأسندت رأسها بيديها كأنما كانت تناجي الأرواح، ومع أنها قطعت حديثها كنت أصغي إليها كأنها لا تزال تتكلم، وبعبارة أقرب للحقيقة: إن أذنيَّ كانتا راغبتين في الاشتغال بعكس خيال هاتيك الألفاظ الدرية، كأنهما لا تريدان أن تبعدا عن عين تصورهما ذاك الخيال الفتان، وأن تغلقا دون استماع خطبتها المملوءة حكمة وآدابًا.
ليس أن ما تجملت به هاته العالمة العالية الأخلاق من الحسن والظرف إنما هو صحيفة جميلة لكتاب الحكمة الدال على حكمة وقدرة الخالق القادر الحكيم. أما أنا فقد توغَّلت في مطالعة تلك الصحيفة التي فتحت أمامي أن البعض إذا فهموا أن في أرباب الجمال قصورًا لم ينظر بالكلية، فبعد أن يفتكروا مليًّا بهذا القصور الذي لم تُعرَف ماهيته يتمكنون من الوصول إلى إدراكه بما آتاهم الله من المعرفة، التي هي سر من أسرار حكمته المستورة عنا. وهكذا المدام؛ فإن الخالق قد حباها بنعمته ولطفه، ولم يحرمها من هاته الجاذبة التي تسترق الألباب.
أليست تلك الجاذبة هي التي تجعل القبيح محبوبًا كالجميل؟ ولكن ما هو تعريف هذه الجاذبة؟ لعمري إنها لا تظهر للعيان ولا تمثل إلا بالأذهان، ليس لها شكل معروف، ولا جسم موصوف؛ فالبصيرة تدركها ولا تنظرها الأبصار، وتعشقها القلوب قبل الأفكار، وكما أنها بادية في الوجه والهيئات، فهي أبدًا ممثلة في الكلمات، ظاهرة في الأصوات. أما لطافة كلمات هذه المدام وحلاوة صوتها؛ فإنها متناسبة مع ملاحة وجهها، ولأجل ذلك كانت تلفظ كلماتها اللطيفة بصوت رقيق، ولهجة مؤثرة تفوق رقة ولطافة الأصوات الجميلة عند نشيد الأشعار.
وكانت الجهة المُعراة من عنقها ويديها مغطاة بنسيجٍ أسودَ يسترسل فوق فرعها، فكانت تمثل الضياء المنعكس من سماء ذلك الليل؛ أعني أنها تمثل الألوان الصافية الزرقاء التي تبدو من السماء في خلال احتجابها بالغيوم، وكان جسمها الأبيض الشفاف يظهر من تحت النسيج الأسود كأنه صفائح من الثلج الأبيض الناصع، والصدف المضيء اللماع. وبينما كنت سائحة في فضاء التصور بهذا الهيكل العجيب التفتت إليَّ المُومَى إليها وقالت: بأي شيء تفتكرين؟ ولماذا أراك ملتزمة جانب الصمت؟!
فقلت: إنني أفتكر بك كما تنظرين، لا جرم أنك قد وقفت على جميع الأشياء، وأمعنت فيها نظر التدقيق فعرفت حكمتها؛ ففي حين أنك أحطت بها علمًا، يقتضي حتمًا أن تكوني صرفت وقتًا طويلًا في النظر إلى المرآة؛ لأجل التدقيق بجمالك ومحاسنك؛ لأنك لست بمحتاجة إلى مثال آخر في مشاهدة الجمال.
قالت: أجل، إني غير ناكرة، وأعلم قدر إحسان حضرة الخالق — سبحانه — بالحسن والملاحة التي خصني بها، وشاكرة هذا الإحسان، ولست كبعض النساء اللاتي يتظاهرن بأنهن لا يعرفن أنفسهن: أهن جميلات أم لا؟! وهن يقصدن أن يَكُنَّ معروفات بأنهن أكثر النساء جمالًا، ولا أحسد اللاتي هن جميلات أكثر مني، كما أنني أعرف قصوري أيضًا؛ فانظري أيتها السيدة هل ترين تناسبًا بين ما أوتيته من الجمال وبين هاته الأيدي والأقدام؟! إن كبرهما إنما هو نقص محض، ولكني لست بآسفة على ذلك، بل أنا ممتنة؛ إذ لو لم يكن بي هذا القصور لربما كان استولى علي الغرور، ولكنت لا أدرك أن الغرور غير لائق بالعبيد، على أن قصوري قد عرَّفني أن العبد لا يمكن أن يكون بلا قصور، وأنه لا يليق بنا الغرور مع هذا النقص، ولأجل ذلك لا أشكو مما أراه من النقص في يدي ورجلي؛ وذلك لأكون على الدوام مسرورة.
لا جرم أن المدام كانت تتكلم بالصواب؛ لأن يديها ورجليها لم تكن متناسبة مع مجموع حسنها، ولكنني لا أعلم إذا كان يتيسر لكل عبد أن ينظر قصوره ويكسر عظمته وكبرياءه. أما إذا اجتمع العلم مع علو الأخلاق؛ فيتولد من ذلك إنسان كامل كالمدام المومى إليها.
ثم قالت المدام: وفي حين أن الناس تبدو مظاهر عجزهم وضعفهم لأعينهم بكثير من الدلائل، تراهم ينسون أنفسهم، ويجترئون على الغرور كأن لم تكن تلك الأدلة شيئًا مذكورًا، مع أننا إذا خفضنا رءوسنا إلى الأسفل، ورفعناها إلى الأعلى نشاهد عظمة الله جل جلاله، وضعف ذواتنا. نحن لا يلزمنا أن نتوغل في أغوار نفوسنا، ولا أن نصعد في درجات الأوج الأعلى، وإنما علينا أن ننظر إلى البحر والسماء، فما هي المناظر والمظاهر التي تجلوها لنا السماء؟ أليست تقول لنا بلسان حالها: إنكم عاجزون عن مشاهدة أقماري، والوصول إلى معرفة أسراري! لماذا لا نتسوَّح في الأجرام السماوية التي فهمنا أن كلًّا منها إنما هو عالم مستقل؟! ألم نهتم بذلك كثيرًا؟
بلى؛ لقد اخترعنا المنظار؛ زعمًا منا أننا سنوفق إلى الوصول إلى تلك الأجرام، فخاب الظن وكنا إذ ذاك في حالة الغرور، ولكن كان كل اقتدارنا أن بلغنا بعد الجهد الجهيد والسعي المتواصل للصعود إلى عدد معلوم من الكيلومترات. هذا ما فهمناه، وقد هبطنا من ذاك العلو بصورة هائلة أرتنا الموت عيانًا، وسمعنا كلمات التهديد تخاطبنا قائلة بلسان الجلل: إنكم غير مأذونين أن تصعدوا إلى أعلى من هذا الحد، وأنتم لم تخلقوا لتعيشوا في هذا الفضاء، فإما أن تعودوا من حيث أتيتم، وإما أن ترضوا بالموت صاغرين، حتى إذا أخذ الدم يتدفق من مسامنا، ورأينا هاته الحال المدهشة، أجبرنا على الرجوع، أفلم يكن ذلك من الغرور المحض؟!
قلت: لقد نطقت بالصواب، على أن صاحب هذه الأفكار يجب أن يكون نظيرك من ذوي الأخلاق الحسنة والعلم الواسع؛ إذ لا يختلف اثنان أن الإنسان أينما وجه التفاته، وفي أي شيء حصر فكره وتأمُّله تتجلى له عظمة الله ووحدانيته عيانًا، ولكن هل تحسبين أن أي الناس ينظر إلى ذلك بهذا النظر المجرد، أو أنه يسر فقط من لون السماء الصافي، ولمعان الكواكب، وسكون البحر، ونور القمر، وضياء الشمس، فيكتفي بهذا السرور ليس إلا؟!
لا جرم أن الإنسان كيفما التفت وأينما وجه نظره يتمثل لدى عينيه عظمة الله ووحدانيته.
ولكن أنت تعلمين أن أكثر مذاهب النصارى يعتقدون بالتثليث، فلا أدري كيف يمكن توفيق ذلك مع الوحدانية.
قالت: من المعلوم أن المسائل الدينية مستندة إلى الرواية لا إلى أدلة عقلية. أما أنا فقد افتكرت كثيرًا في مسألة التثليث فلم أتمكن من توفيقها على العقل والحكمة، ولأجل ذلك أعتقد بوحدانية الله.
قلت: إذن يقتضي أن تكوني على مذهب الأربانيين.
قالت: كلا، إن هذا المذهب قد انقرض؛ فإن مَجْمَعَ أزنيق قد محاه محوًا؛ فالتثليث عند النصارى إنما هو بمثابة سرٍّ لا يُدركه العقل، فليس لهم إلا التسليم والاعتقاد.
قلت: إن الإنجيل الشريف خالٍ من النص والتصريح المتعلق بمسألة التثليث؛ فليس ثمة إكراه في الاعتقاد بشيء لا ينطبق على المعقول.
أما مسألة التثليث فقد ظهرت بعد حضرة سيدنا عيسى وبعده بأعصرٍ، ولا يوجد في الأناجيل قول يُثبتُ ذلك، وما هناك من بعض التعبيرات لا تتخذ سندًا وحجة؛ لأن التوراة الشريفة والإنجيل الشريف لو ظلا كما نزلا دون أن يطرأ عليهما تغيير أو تحريف لكانا حجة على إثبات هاته الأمور. ومعلوم أن الإنجيل الشريف لا يُعرَف في أية لغة كُتب بادئ بدء؛ إذ لا يزال ذاك مختلفًا فيه، فمن المحتمل أن الوقت لم يُمكِّن من كتابته فبقي محفوظًا في الأذهان، حتى إذا عرج حضرة سيدنا عيسى — عليه السلام — إلى الملأ الأعلى درج ما بقي مستظهرًا في أذهان الحواريين من الآيات الإنجيلية في الأناجيل على طرز الحكاية.
وعلى ذلك، فإن الأناجيل التي كُتبتْ — وهي تزيد عن الخمسين عدًّا — إنما جرى التدقيق بها بعد ثلاثمائة سنة من ميلاد سيدنا عيسى — عليه السلام — فأُبقيَ منها أربعة وترك الباقي. وفي جهات كثيرة من هاته الأناجيل الأربع مباينات كلية يناقض بعضها البعض الآخر. وهذا من الأمور الطبيعية؛ لأن النصرانية ظلت ثلاثمائة سنة تحت طي الخفاء، وفي الوقوف على الحقيقة في إخلال هذا المقدار من السنين إشكال لا يحتاج إلى إيضاح.
قالت: ما قولك في التوراة؟
قلت: لا يخفى أن التوراة قد أُحرِقت وفقدت حينًا من الزمن، ثم كتبت عن الحفظ مجددًا، فمن هذه الجهة لا تفيد علم اليقين بخبر واحد، وبين أيدينا الآن ثلاث نسخ منها يناقض بعضها بعضًا، وفي ذلك دليل كافٍ على أنها مُحرَّفة؛ لأن كلام الله لا يمكن وجود التناقض فيه.
قالت: ما هي المناقضات التي رأيتها في التوراة؟
قلت: مهلًا؛ فإنني سأجد لك فيها تناقضًا مهمًّا، قُلتُ ذلك والتفتُّ إلى جارية كانت على مقربة مني، وأشرت إليها أن تأتيني بالمحفظة الحمراء الموضوعة على الطاولة، فأسرعت الجارية وجاءت بالمحفظة المطلوبة، ودفعتها إليها، فاستأنفْتُ الحديث مع المدام وقلتُ: إليك بيان التناقض: إن المدة التي مرت من خلقة آدم — عليه السلام — إلى طوفان نوح — عليه السلام — إنما هي بمقتضى النسخة العبرانية ١٦٥٦ سنة، وبموجب النسخة اليونانية ٢٢٦٢ سنة، وبموجب النسخة السامرية ١٣٠٧ سنوات!
ولما كان هذا التناقض والاختلاف فاحشًا جدًّا؛ كان يتعذر التوفيق بين هاته النسخ، وبموجب النسخ الثلاث أيضًا يظهر أن نوحًا — عليه السلام — كان حين الطوفان بالغًا ستمائة من العمر، وبحسب النسخة السامرية يلزم أن يكون نوح — عليه السلام — حين وفاة آدم — عليه السلام — بالغًا ٢٢٣ سنة من العمر! وهذا مردود باطل باتفاق المؤرخين، والنسخة العبرانية مع النسخة اليونانية أيضًا تكذب ذلك؛ لأن ولادة حضرة نوح بموجب النسخة اليونانية إنما كانت بعد سبعمائة واثنتين وثلاثين سنة!
ثم إن المدة من الطوفان إلى ولادة إبراهيم — عليه السلام — هي ٢٩٢ سنة بمقتضى النسخة العبرانية، و١٠٧٢ بموجب النسخة اليونانية، و٩٤٢ بحسب النسخة السامرية! وهذا اختلاف فاحش أيضًا، ومما تقدم أعلاه يظهر أنه بحسب النسخة العبرانية كانت ولادة إبراهيم — عليه السلام — بعد الطوفان بمائتين واثنتين وتسعين سنة، حالة كونه قد جاء مصرحًا في الآية الثامنة من الباب التاسع من سفر التكوين: إن نوحًا — عليه السلام — قد عاش ثلاثمائة وخمسين سنة بعد الطوفان، فمن ذلك يلزم أن يكون إبراهيم حين وفاة حضرة نوح في الثامنة والخمسين من عمره! وهذا باطل باتفاق المؤرخين، والنسخة اليونانية والسامرية أيضًا تكذبانه؛ لأن ولادة حضرة إبراهيم — بحسب النسخة الأولى — كانت بعد وفاة نوح بتسعمائة واثنتين وعشرين سنة! وبموجب الثانية بخمسمائة واثنتين وتسعين سنة! ولما كان من المستحيل العقلي وجود التناقض في كلام الله كانت آيات التوراة الشريفة المتعلقة بهذا البحث محرفة لا محالة.
قالت المدام: أجل، إنني أعلم أن القرآن قد وصل إليكم كما سُمع من نبيكم دون أن تطرأ عليه العوارض.
قلت: هو كذلك، وعلاوة على هذا فإن المجتهدين عندنا لم يزيدوا شيئًا على عقائدنا الدينية مخالفًا للعقل والحكم، ونحن يمكننا أن نزن عقائدنا في ميزان الحكمة، أما النصرانية فإن أبواب الحكمة مقفلة عندها.
قالت: في الحقيقة؛ إن دينكم موافق للعقل والحكمة، وهو من الأديان التي يمكن لكثير من العلماء — الذين جردتهم مسألة التثليث من الدين — قبوله والتدين به. ولقد توصلت بواسطة هذه الإيضاحات التي وقفت عليها إلى حل إشكال كنت مترددة في حله؛ وذلك أن المرسلين عندنا في حين أنهم أنفقوا كثيرًا من الأموال، وألقوا بأنفسهم في التهالك والأخطار رغبة في دعوة الخلق إلى النصرانية، فلم ينجحوا تمامَ النجاح، وأما حُجَّاجُكم وتُجَّاركم فقد تمكنوا من دعوة ألوف من الناس إلى الإسلامية بمزيد السهولة في كثير من الأماكن التي مروا فيها.
ولقد طالما افتكرت في سر هذا الأمر وحكمته فلم أهتدِ إليه سبيلًا، أما الآن فقد فهمت أن لطافة دينكم وسهولته وانطباقه على الحكمة قد حمل الخلق على قبوله بهذه السهولة. وفي الحقيقة؛ إن دينكم لا مرية في حقِّيَّتِه ولا مطعن عليه، ولكن هناك مسألة واحدة تجعل الناس نفورًا منه، وتقوم سدًّا في وجه حُسنه؛ ألا وهي مسألة الحجاب عند النساء؛ فإنه من الصعب جدًّا على الرجال والنساء من المسيحيين الذين ألفوا الحرية وعدم التستر أن يرضوا به، ولو لم تكن فيه هاته المسألة لأصبح عدد كثير من الخلق الذين يبحثون عن دينٍ لهم مسلمين.
قلت: لقد بينت لك أن قاعدة الحجاب في الشريعة إنما هي ستر الشعور.
قالت: وهذا لا يرضونه؛ لأنهم متى صاروا مسلمين أجبروا على اتباعه.
ولكن مع ذلك فهم مسلمون؛ إذ ينالون في نهاية الأمر جنة النعيم، والله إن شاء عفا عنهم، وإن شاء عذبهم بقدر إثمهم، ثم يدخلهم جنته، ولا يدخل بين الله والعبد، والمسلمون لا يحتاجون في استحصال العفو عن آثامهم كالنصارى إلى القُسس، وليسوا بمجبرين على الذهاب حالًا إلى الجامع لأداء العبادة نظير المسيحيين الذين يكونون مجبرين في عبادتهم للذهاب إلى الكنيسة، فإذا رغبوا في التوبة والاستغفار انسحبوا إلى زاوية ما فناجوا الحق — سبحانه وتعالى — وليسوا بمجبرين أن يكشفوا ضمائرهم وخفاياهم لغير الله.
أما المدام فإنها بعد صمت قليل عادت إلى التفكر والتأمل بمقتضى لطافتها الطبيعية، وصرت وإياها على اتفاق في الرأي، وأما اللاتي كُنَّ في الرواق فكان بعض منهن يتحادثن مع البعض الآخر، وبعض يجلسن في الرواق مسرورات بضوء القمر؛ حتى إنهن طلبن القهوة مرة ثانية، وأحببن أن يكرمننا بفنجان آخر، على أننا اعتذرنا عن قبوله. وكانت إحدى الزائرات في تلك الأثناء تنشد نشيدًا تركيًّا بصوت خافت، وقد لاحظت على المدام أنها سُرَّت من صوتها ونشيدها؛ فإنها كانت ترعاها السمع، ثم ما عتَّمت أن باحت بسرورها وانشراحها من صوت المنشدة في مثل هذا الوقت الذي كان الهواء ساكنًا به، أما أنا فالتفت إلى المنشدة وقلت: إنه حَسَنٌ فأنشدي شيئًا مُحْزنًا مُؤَثرًا يُناسب هذا الصوت المهموس.
قالت: ما الذي يجب أن أنشده؟
قلت: شيئًا من الحجاز.
فأخذت السيدة تنشد نشيدًا لطيفًا من الحجاز بصوت رخيم مؤثر للغاية، وكانت المدام تصغي إليها تمامَ الإصغاء.
فقلت: أيتها المدام، أليست الأمواج التي تحصل من ارتجاج الهواء على ثوبك الحريري في المراقص تُشابِه هذا الصوت؟!
قالت: أجل، إنني أفتكر بهذا الأمر ويلذني سماع الأنغام على اختلاف خروجها.
وفي الحقيقة إن المدام كانت تستمع الغناء بلذة لا مزيد عليها، وبعد انتهاء الإنشاد حوَّلت المدام ذهنها إلى التفكير في الصدى والموسيقى من حيث العلوم الحكمية، كما أن هاته العاجزة، على كوني لست بواقفة تمامًا على ما يمر في ذهن هاته المرأة العالمة من ضروب الحكمة العالية، إلا أنني قد أخذت أفتكر ببعض أشياء تواردت على ذهني القاصر، فسبحت في فضاء التصور مدة لا أعرف مقدارها، ولكنني أعلم أن يدًا مستني وصوتًا دخل في أذني، فالتفتُّ وإذا بجارية خدمتي الخاصة تنبهني قائلة: يا سيدتي، لقد مسَّك البردُ.
قلت: إن يدك حارة؛ فمن أين أتاك أنني بردت حتى أيقظتني.
قالت: إنني منذ هنيهة قد شعرت بالبرد فارتديتُ بالكساء، ولما رأيتك جالسة هنا ملتزمة جانب الصمت ظننتُك راقدة فخفت أن تصابي بالبرد؛ ولذلك نبهتك لأنني ما تمكنت من مشاهدة وجهك، فلما لمَستُ يدَك شعرتُ أنَّك باردة حقيقة.
قلت: فالحق معك؛ فاذهبي وأتينا بغطاءين؛ لأن ضيفتنا المدام تكون قد بردت أكثر مني من حيث إن يديها وعنقها لا يسترهما إلا ستار شفاف.
أما المدام فقد استيقظت على صوت محاورتنا، فهبت من بحراتها وأخذت تلتفت ذات اليمين وذات الشمال فلم تر غير الجارية؛ إذ إن رفيقاتنا كن خرجن وأبقيننا وحدنا، فقالت: لقد ضاقت صدورهن من سكرتنا فتفرقن وتركننا منفردتين، فما هاته الحال الغريبة؟! لا جرم أنه ليس من أحد يرضى عمن يكونون في حالة الصمت، والراقدون لا يريدون أحدًا عندهم، وقد تذكرنا حال الرقاد بحالتنا أوان الموت. وفي الحقيقة إن حالتنا الحاضرة تمثل حالة الموت.
قلت: هيهات أيتها المدام أن يكون في النوم وفي الموت راحة مثل التي رأيناها في هاته الليلة حينما كانت أفكارنا سائحة في بحور التصورات اللذيذة.
أما هذه الكلمات فقد ذهبت بصفاء وانشراح كل منا؛ فإن ذكر الموت الذي سيكون خاتمة عمرنا قد جعلناه ختامًا لفرحنا وسرورنا في تلك الليلة، على أن الموت الذي مع كوننا نرغب أبدًا في أن نهرب منه نرى أنفسنا متقربين إليه؛ فقد تمثل لنا كثيرًا في تلك الليلة، فتجلى لنا كأنه يقول بلسان الحال: إياكما أن تنسياني. وفي هذا الوقت أيضًا قد بدت لنا عظمة الخالق الباقي، وظهر لدينا عجزنا؛ فرأينا بعين الحقيقة أن كل شيء فانٍ، ولا دائم إلا الله — سبحانه.
فهذا الفكر الرهيب لم يُمكِّنا من البقاء حيث كنا، فخرجنا نفتش على رفيقاتنا لنجتمع بهن، ثم دخلنا جملة إلى القاعة في ضمن المنزل، وقد أثرت فينا تلك الأفكار تأثيرًا شديدًا، فصرنا نرجف من هولها، وننتفض من دهشتها، وفي تلك الأثناء أُتِي بالمبردات فطافت بها الجواري على الزائرات، غير أن المدام ترددت في قبولها، ومذ لحظت منها قلت: إنني راغبة في كأس من الشاي، فهل ترغبين أيتها المدام أن يأتوك بكأس منه؟
قالت: لله أيتها السيدة، إنني أشكر لك وأرغب بالشاي، وأرجو أن يؤتى إليَّ بكأس منه.
وما مر على ذلك بضع دقائق حتى أُتي بالشاي المطلوب، فشربناه فعاودتنا الحرارة، وبعد جلوس هنيهة من الوقت اتصل بالآذان صدى ترتيب مائدة السحور، فهبت المسافرات لاستدعاء القوارب.
أما المدام فأوصت أن يأتوها بعجلتها، ولما كانت القوارب رابضة على الرصيف، وكانت تهيئتها أسهل من تهيئة العجلة؛ تمكن الزائرات من ركوبها قبل مجيء العجلة، فذهبت كل واحدة منهن في وجهتها المقصودة، ثم جاء النبأ إلى المدام بتهيئة العجلة، فنهضت على أقدامها وارتدت ثوبها وأخذت مروحتها بيدها، ثم قالت وهي على قدم الذهاب: إنني أشكر لك شكرًا جزيلًا لما أوليتيني من المعروف في هاته الليلة، ولا يخفى أن المقصد من السياحة إنما هو مشاهدة ما لم تشاهده العين، ومعرفة الأشياء غير المعروفة، وكما أنني ميالة إلى الوقوف على أحوال كل مكان هكذا، كان من أخص آمالي أن أطَّلع على تركيا وعاداتها وأفكارها وعقائدها؛ ولأجل ذلك صرفت في هذا السبيل وقتًا طويلًا، ولم أُقصِّر في النفقات، ولكنني أقول الحق: إن المعلومات التي حصلت عليها إلى الآن لا توازي شيئًا من العلم الصحيح الذي وقفت عليه هذه الليلة؛ فأنا ممتنة جدًّا.
فقلت لها: إن إكرام الضيف ملتزم عندنا، فمهما حصل في سبيل ذلك من المشقة فما نحسبه إلا محض راحة. لا جرم أن رغائبك لا تتعدى حد الكلام، وهذا سهل للغاية، فيا حبذا لو تكرر هذا الاجتماع! ويا حبذا لو أمكن مصادفة كثيرات من أمثالك! لأن محادثة عالمة وفاضلة نظيرك إنما هي من حسن الطالع؛ ولذلك أقدم لك تشكراتي القلبية على ما أنَلْتِنِيه من الحظ في هاته الليلة، وهاته العاجزة قد تحصَّلت بهذه المدة الوجيزة على معلومات كثيرة كان يلزم أن أطالع عدة كتب حتى أتمكن من الحصول عليها؛ فأبثك أيتها المدام شكري، وأعلن امتناني الحقيقي.
قالت المدام: سيبقى أثر هاته الليلة وأثر الاجتماع بك ثانيًا في الذهن إلى ما شاء الله. قالت هذه العبارة الأخيرة ثم ودعتني وذهبت في عجلتها.
على أنني وإن كنت لا أعرف ما إذا كانت تحافظ حقيقة على الذكرى كما قالت قد شعرت بتأثير كلماتها في قلبي؛ فإنني لا أزال أهزُّ بذكرى تلك الليلة وأفتكر بمحادثتنا، غير أنني لم آخذ منها حتى الآن كتابًا، وقد علمت أنها ذهبت للتسوُّح في البلاد العربية، وسمعت أنها ستضع كتابًا في سياحتها، فلا ريب أن هذا الكتاب سيكون مجمعًا للحقائق. وهذا متوقف على إتمام السياحة، ومتعلق بالتوفيق الإلهي.
المحاورة الثالثة
إن شهر مارس «نوار أو أيار» بغاية اللطف والنشاط؛ فهو متوسط بين حر الصيف وبرد الشتاء، بمعنى أن حره أقل من حر الصيف، وبرده أخف من برد الشتاء، ففي مثل هذا الشهر الذي انتشرت به الروائح الزكية، وضاعت أرواح الأزهار المتنوعة كنت جالسة صباح يوم منه في إحدى غرف البستان، وكانت نوافذ الغرفة مفتوحة يدخل منها ألطف الروائح العطرية التي تُشابِه المسك. أستغفر الله أنني لم أحسن الوصف والتمثيل؛ فشتان بين تلك الرائحة وبين رائحة المسك التي قد تُوجب لبعض الناس سرورًا ولبعضهم كدرًا، في حين أن رائحة الورد والقرنفل والياسمين وما ماثل من الأزهار التي كانت منتشرة في أرض الجنينة وفي جدرانها يتضوع منها أريج ينعش الأرواح، وروائح الأشجار التي كانت قريبة من نوافذ الغرفة وأزهارها الناصعة البياض، كل هاته الروائح الزكية كانت تفوق بنشرها على رائحة المسك.
ومع هذا، فإن راحة كل فصيلة منها تختلف عن الأخرى؛ فلم يكن ثَمَّ مشابهة بينها على الإطلاق، حتى إن رائحة الجنس الواحد منها كانت تختلف باختلاف أشكاله بين الأصفر والأحمر والأبيض، وهكذا يقال عن سائر أنواع الأزهار، وفي ذلك حكمة صمدانية تدق على الأفهام. أما البلابل فكانت في صباح اليوم المذكور تطرب الجماد بنغماتها الشجية، وتُغرِّد تغريدًا ترقص له القلوب في الصدور، فتردد بأصواتها المطربة ما يمثل حالة العاشق الذي يطارح معشوقة كلمات الحب، حتى إذا لم ينل منه جوابًا ظهرت في عنقه إشارات الذل والانكسار.
وجملة القول: إن روائح الأزهار المتنوعة، وأصوات البلابل، ومناظر الأشجار المنتشرة في البستان كانت تشترك بلذتها حاستا السمع والنظر.
وعلى مثل ما تقدم وصفه كانت هذه العاجزة جالسة حوالي منضدة يحيط بها اثنتان من صويحباتي لمناولة قهوة البن بالحليب، وكانت إحداهما تدعى ص … خانم. أما هذه السيدة فإنها تحسن اللغة الإنكليزية، وتعرف قليلًا من الفرنسية، بمعنى أنها تفهم هذه اللغة ولكن ببطء، وتتكلم ولكن بصعوبة، وتكتب في اللغة التركية بدرجة تتمكن بها من التعبير عن فكرها وإفهام مرادها، والسبب في تضلُّعها في اللغة الإنكليزية زيادة عن اللغة التركية إنما كان منشؤه مربيتها التي كانت إنكليزية المحتد، ولأجل ذلك تلقت منذ الصغر عنها اللغة الإنكليزية فأتقنتها كل الإتقان.
وكانت أخلاق هاته السيدة قريبة من أخلاق الإنكليز؛ إذ إن للتربية تأثيرًا كليًّا في الأخلاق كما لا يخفى، فكانت منزهة عن شوائب الكُلفة، تحب الصحة، وتألف العزلة، وتميل إلى الأزياء، ولما كنتُ على بينة من صفاء نيتها وحسن طويتها، وكانت من قلبها ظاهرة للعيان ظهور الشمس في رابعة النهار قلتُ لها: إنني سأُعرِّض بذكرها في رسالتي، والتمست منها أن تأذن لي في ذلك فلبَّت طلبي، وأجابت مسئولي، وصرحت بسذاجة تامة أنه لا مانع من ذلك أصلًا، حتى حملني هذا التصريح على أن أسألها عن الطريقة التي تحب بها أن آتي على ذكرها في هاته الرسالة.
فقالت جوابًا عن ذلك: إنها على يقين من محبتي لها؛ فهي واثقة بأنني لا يمكن أن أذمها أو أعرض في ذكرها بالسوء، ثم قالت: وهبي أنَّكِ هجوتني أو طعنتِ عليَّ، فلا يؤثر ذلك شيئًا في قلبي؛ لما أنك ستكتمين اسمي ولا تصرحين به، بل إن الانتقاد علي أحسبه مفيدًا جدًّا لي؛ لما أنني أضطر والحالة هذه إلى إصلاح الفاسد من صفاتي وأخلاقي.
وأما رفيقتي الثانية فكان اسمها «ن. خانم»، وكانت تُحسن لغتها التركية تكلُّمًا وقراءة وكتابة، على أنها كانت تَدِلُّ بعِلْمِها وتَحسَبُ نفسها فوق درجتها. وهذا الوهم قد بعثها على الوقوف عند الحد الذي كانت فيه فلم تتقدم عن تلك الدرجة شيئًا، على أنها لم تكن خالية من الذكاء، وكانت أيضًا ميالة إلى مساعدة غيرها، راغبة في فائدة السوى، وكانت ودودة راسخة في الصداقة لأحبائها، تكره الأزياء إلا أنها كانت تضطر عند الذهاب إلى الولائم وجمعيات الأفراح أن تجاري غيرها في الاكتساء بألبسة على آخر طرز، وأما في سائر أوقاتها فكانت تلبس الألبسة التركية. وهذه الألبسة التركية هي عبارة عن ثوب بسيط مما يقال له: ثوب الغرفة، على أن هذا الثوب إن لم يكن يعرف حقيقة ما إذا كان يصح أن يقال له ثوب تركي، إلا أنه يستعمل على هذه الصورة.
وجملة القول: إن السيدة «ن» كانت تميل إلى الأزياء التركية في حين أن السيدة «ص …» كانت لا تهوى ولا تحب سوى الألبسة الإفرنجية.
وكانت السيدة «ص …» كثيرة الملل والضجر في ذاك الصباح؛ لأنها قد اضطرت إلى عمل ثوب جديد للذهاب به إلى أحد الأفراح كلَّفها ٣٥ ليرة، وحيث إن الزفاف تأخَّر إلى فصل الشتاء مسَّت الحاجة بها إلى عمل ثوب آخر؛ إذ إن الثوب الأول لا يصلح للفصل المذكور! وفضلًا عن ذلك فإنها لو قصدت أن تلبس ثوب السنة الماضية، الذي لم تلبسه أصلًا؛ لامتنع عليها الأمر بسبب ما طرأ على الزي من التغيير. وقد صرحت هذه السيدة بضجرها وكدرها من التغييرات المذكورة، ومن غلاء الأسعار في قيم الأقمشة وغيرها من صاحبات الأثواب، ذاكِرةً أنها ابتاعت ذراع التخريم بثلاث ليرات، ونظرًا لتغيُّر الزي الأول فقد أحوجها الأمر إلى طرحه في زاوية الإهمال!
وكانت السيدة «ص …» تروي أسباب كدرها على الوجه المذكور، غير أن السيدة «ن …» التي كانت تكره الأزياء قد أدت بها تلك الرواية إلى الحدة والانتقاد، فصرَّحت بما أورثها بيانُ تلك السيدةِ من التأثُّر والكدر، ثم عقب ذلك جرت المباحثة الآتي بيانُها بين السيدتين؛ فقالت السيدة «ص …»: إنني منذ السنة الماضية قد ازددت سمنًا بحيث إن مشد الألبسة قد ضاق علي؛ فهل يمكنني أن أجد من جنس القماش لأجل توسيعه، وعلى كلٍّ فإنني لو وضعت له قماشًا بسيط اللون لوجب مزجه لا فقط من جهة الصدر، بل من سائر أطرافه.
قالت السيدة «ن»: كلَّا، لا يجب أن تُحمِّلي نفسك ثقلة لهذا الأمر.
قالت «ص» لها: ولماذا؟!
قالت: ربما هزلت إلى أن يحل الأجل المضروب؛ فحينئذٍ ينطبق عليك المشد كما يلزم!
قالت لها: إنك تُحمِّليني عناء بهذا الفكر!
فقالت: كلَّا، إنني لم أقصد ذلك؛ وإنما أنت التي تُحمِّلين نفسك عناء، فلا أخفي عنك أنني سأُدْعى إلى ذاك الزفاف، ولكنني إذا رأيت أنه سيطول الأجل على الذهاب إليه؛ فإنني أستغني عن ذلك.
فقالت السيدة «ص»: كأنما تعنين بما تقولين أنك لا تحبين أن تكتسي في الأفراح على مقتضى أصول الزي؟!
قالت: لا، لا أقصد ذلك؛ وإنما متى أردت أن أصنع ثوبًا آخذ القماش إلى الخياطة وأطلب منها أن تصنع لي ثوبًا من آخر زي، وعند الحاجة أكتسي بهذا الثوب.
قالت: فإذا بطل زي الثوب الذي تكونين لم تكتسي به؛ فماذا تصنعين؟!
قالت لها: أنادي الخياطة وأطلب منها أن تحوله إلى الزي الجديد.
قالت: لا أعترض على ذلك، وإنما أخبرك أنني أنفقت على هاته الأثواب خمسًا وثلاثين ليرة، وبالنظر إلى التغيير الذي طرأ على كسمه أصبح يحتاج إلى خمسة أو ستة أذرع من قماش آخر، ومعلوم أن القماش العاطل لا يصلح أن يضاف على الجيد، وأقل ثمن ذراع القماش هو من نصف ليرة إلى ثلاث ليرات، ويلزمه خمسة عشر ذراعًا من التخريم، فإذا كان الذراع بخمسين غرشًا بلغ ثمن الأذرع سبعمائة وخمسين غرشًا، وإذا أضيفت إليه أجرة الخياطة، وهي ثلاث ليرات؛ كان المجموع ثلاث عشرة ليرة ونصفًا، ثم إن الخياطة لا بد أن تضيف إلى ذلك لا أقل من ليرتين؛ بحجة أنها أنفقت على بعض اللوازم الطفيفة؛ فتصبح النفقات خمس عشرة ليرة ونصفًا، أليس إن هذه القيمة تكون قد ذهبت جزافًا؟!
قالت السيدة «ن»: إذن ما تقولين عن الخمس والثلاثين ليرة الأولى؛ ألم تذهب جزافًا أيضًا؟!
قالت: لسنا نجول عراة كما لا يخفى!
قالت السيدة «ن»: لا أقول يجب أن نكون عراة الأبدان، ولست أتأسف على الدراهم التي تنفق في مشترى الأقمشة، وإنما أتأسف على الأموال التي تصرف في سبيل التخاريم وما ماثل ذلك من الزوائد والأطراف، وعلى القيم التي تدفع للخياطة؛ لأنها تكاد توازي نصف الخمس والثلاثين ليرة.
قالت السيدة «ص»: ما العمل؟ هل يمكننا أن نلبس القماش كما هو؟ ألست أنت تخيطين أثوابك أيضًا ثم تلبسينها؟!
قالت لها: لقد أتيت بشيء يمنع ضرر الأزياء في الوقت الحاضر؛ فإنني فصلت ثوبًا على الزي التركي من القماش الثقيل لا يضيق ولا يحتاج إلى الإبدال والتغيير، وجعلته بسيطًا لا زخرفة فيه ولا زوائد، وقد اقتصدت من إهمال التكاليف وزوائد عدة الأثواب، واشتريت قطعة من الماس البرلنتي؛ بحيث إنني متى رغبت في بيعها لا أخسر من ثمنها شيئًا بمثلها وبما ماثلها.
قالت السيدة «ص»: ستكونين بمعزل عن العالم!
قالت لها: أنا لا أقول إنه يجب على الجميع أن يكتسوا بمثل كسوتي، ولكن لو اكتسيت بالثوب الذي تغير زيُّه الأول لعرَّضت نفسي للهزء والسخرية.
فقلت للسيدة «ص»: إن ذلك ليدهش كثيرًا، ولست بمنفردة فيه، بل إن الأوروبيات أنفسهن يرينه غريبًا؛ أتحسبين متانة أقمشتنا الوطنية ورخص أثمانها قبيحًا ونبتاع ذراع القماش الإفرنجي المزركش بالنحاس بليرتين؟! لا تعجبنا أقمشة حلب والشام وبغداد وديار بكر — وكلها من الفضة الخالصة — لأن ذراعها لا يتجاوز ثمنه الخمسين غرشًا. إن كون القماش من متاعنا لا يمنع من أن نخيطه على الطرز الإفرنجي، أفلا يعجبك هذا القماش الذي ترينه علي؛ فإنه عبارة عن ثوبين طولهما عشرون ذراعًا، دفعت ثمنها ثمانية مجيديات؛ فيكون ثمن الذراع ثمانية غروش. ولو كان هذا القماش من أقمشة أوروبا الحريرية ما أمكن مشترى الذراع منه بأقل من عشرين غرشًا. ولقماشنا مزية أخرى؛ وهي أنه إذا تلوث بشيء فيمكن غسله وكيُّه، وحينئذٍ يعود إلى حالته الأولى!
فقالت السيدة «ص»: لا جرم، غير أن أقمشتنا كلها على نسق واحد؛ فلا يمكن تغيير أزيائها!
قلت لها: الإنصاف أيتها السيدة، لو كان عندنا للأقمشة الوطنية نصف الرغبة في الأقمشة الإفرنجية لترقت أقمشتنا أيما ترقٍّ؛ فعلينا في بادئ الأمر أن نسعى في أن تُباع أقمشتنا الحاضرة؛ ليمكن إيجاد ألوان أخرى، وأن نهتم بها اهتمامنا بالأقمشة الأوروبية؛ إذ لا يحق لنا أن نقول: إننا طلبنا اللون الفلاني من الأقمشة الوطنية فلم نحصل عليه، ومعلوم أن في الوقت الحاضر أخذت تنسج في البلاد المحروسة الشاهانية جميع الأقمشة؛ كالأطلس والخز وغير ذلك، وهي أكثر مما يلزمنا. وهذه الأقمشة لها محل من القبول في أوروبا؛ فلا أدري لماذا نحن ننفر منها. أتظنين أن الإفرنج يرضون ويسرون بما نفعله وما نسلكه من طُرق التقليد لهم؟! كلا، إنهم يعيبون علينا هذا الأمر، ولقد يخجلني ما تقول كثيرات من النساء الإفرنجيات عن ميل الأوروبيين إلى أقمشتنا، ونفرتنا منها؛ إذ إن هاته الأقمشة ترسل إلى أوروبا على سبيل الهدايا، ونحن لا نكتسي بها على الإطلاق! نعم؛ إننا مضطرون إلى الاكتساء ببعض الألبسة الإفرنجية، ولكن هاته الألبسة هي كناية عن الفانيلات والجوارب والشيت والباتستة؛ فإن بلادنا خالية منها.
قالت السيدة «ن»: أليس عندنا من القماش الكتاني ما يعادل الشيت «بصمة»؟
فقلت لها: كلا، إن الأقمشة الكتانية لا تغني عن الشيت شيئًا؛ فإن الفقير يمكنه أن يشتري ذراع الشيت بستين بارة، ثم يخيطه ثوبًا فيلبسه ويغسله، وهلم جرًّا. أما الأقمشة الكتانية فإنها قاسية بحيث إذا غسلت ازدادت خشونة عن الأول. انظري إلى هذا الجمع الحاضر؛ فإنك ترين أن الألبسة الليلية التي نكتسي بها في هذا الوقت كلها من الباتستة، ولا يمكن أن نظفر لهذه الغاية بأحسنَ منها، أما أنت فتُرجحين الأقمشة الكتانية عليها.
قالت السيدة «ن»: كلا، إن ألبستي الليلة كلها من الباتستة ولا أكتسي بقماش آخر على الإطلاق.
قلت لها: إذن يجب على الإنسان في بادئ الأمر أن يهتم بنفسه ثم بغيره، وأنا لا أقول إنه يجب أن نحرم أنفسنا من المتاع الإفرنجي تمامًا، ولكن أريد أنه يلزمنا أن نروج بضائعنا ولا ننبذها ظهريًّا.
قالت السيدة «ن»: صدقت، فإن الشيت أفادنا كثيرًا واستنفد أموالنا أيضًا.
قلت لها: أجل إن الشيت والباتستة تتوارد إلى بلادنا من أوروبا بكثرة؛ لأن الحاجة إليها عمومية، ولا شك أنه إذا أردنا أن نحسب الأموال التي تخرج من بلادنا بمقابلة هذه الأقمشة نراها كثيرة جدًّا وموجبة للحيرة والدهشة.
قالت السيدة «ص»: إذن عزمت أن أشتري بالخمس عشرة ليرة التي سأنفقها على إصلاح ثوبي للسنة الماضية قماشًا وطنيًّا وأخيطه على الزي.
قالت السيدة «ن»: ما المانع من أن تخيطيه على الطرز التركي.
قالت لها: أي طرز تعنين؟ أمثل ثوبك الذي تلبسينه الآن — يعني ثوب الغرفة وثوب الصباح — فإن هذا لما أنه يسمى العلوي أيقال عنه: إنه طرز تركي؟
قالت السيدة «ن»: إن ثوب الغرفة «روب دي شامبر» إنما يُكتسَى به في الغرف؛ بمعنى أنه لا يمكن الظهور به أمام الناس، والقصد منه أن يحصل المرء على راحته، وثوب الصباح يكتسى به لكي يكون الإنسان مرتاحًا في وقت الصباح؛ أي إنه بعكس ثوب الغرفة. أما نحن فإنه يمكننا أن نلبس أيًّا شئنا منهما قصد الحصول على الراحة في جميع الأوقات.
فقلت لها: إن السيدة «ص» يميل قلبها إلى الأزياء الإفرنجية فتخيطها كما تريد، وأنت أيتها السيدة تميلين إلى الزي التركي وهكذا تفعلين. أما أنا فلأنني لا أكره الطرزين ترينني أخيطها أحيانًا على الزي الإفرنجي، وأوقاتًا على الطرز التركي حسب ما تميل إليه نفسي، ولقد قلت: إنه بما أننا لم نخرج عن عاداتنا؛ لذلك لا نعرض أنفسنا للهزء، على أنه متى أردنا أن نكتسي على الطرز الإفرنجي يجب أن يكون الثوب من آخر زي؛ حتى لا يضحك علينا الإفرنجيات، ولا شك أن حريتنا في مسائل الكسوة إنما هي نعمة مخصوصة، والخلاصة أقول — وأرجو أن لا يصعب عليكما مقالي: إنني لا أذهب مذهب إحداكما من جهة التمسك بالتقاليد الإفرنجية؛ ما أقيد نفسي فيها تقييدًا، ولا أرد بعض الفوائد التي تُشاهد في الألبسة الإفرنجية؛ تعصبًا للعادات التركية؛ إذ إنه لا يُنكر أن الأزياء قد أتت بفائدة أخصُّها منْعُ جرِّ الأذيال.
قالت السيدة «ن»: إن الأزياء تختلف كثيرًا فلا تستقر على حال؛ فبينا تكون على النسق الفلاني إذ انتقلت إلى طرز آخر، وبينا تكون ضيقة على الحقوين إذ تنفرج عنهما، وبينا يجب أن تكون بسيطة للغاية إذ تتغير تغيرًا مطلقًا، ثم ترين أيضًا أن زي الأذيال قد عاد تكرارًا.
فقلت لها: نحن، يجب علينا أن نتبع الأزياء التي تعجبنا ونرضاها؛ فالتي نراها غير ملائمة في ذاك الوقت يلزمنا أن ننبذها ظهريًّا.
وفي تلك الأثناء دخلت علينا سيدة مسنة فقالت: آه من فتيات هذا الزمان! أرى أنهن لا يزلن مكتسيات بألبسة النوم حتى إنهن لم يُسرِّحن شعورهن أيضًا. وا أسفاه عليهن من مسكينات! إنني لما كنت مثلكن لم أكن أعرف المحل الذي أطؤه.
فقلت لها: ألم تكوني تفتكرين بأي إنسان؟
قالت العجوز: كلا، يا روحي، لا أقصد ذلك مما قلت، وإنما قصدت فيما ذكرت مجرد المزاح لا غير. ولعمري إنني إلى مثل هذه الساعة لم أكن أقف في محل معلوم، بل كنت ألبس ثيابي وأطير ركضًا.
قالت السيدة «ص»: هل لك أن تُنبئينا كيف كانت كسوتك في أيام صباك.
قالت: عند النهوض من الرقاد كنت أقف أمام المرآة فأربط عصابتي المسماة «حوطوز»، وألبس ثيابي التي كانت مفتوحة تمامًا على الصدر!
قالت السيدة «ص»: هل كان الثوب المفتوح من الصدر موجودًا في ذلك الزمان؟! إذن يفهم مما قلت أن هذا الزي كان هو الزي الدارج في العصر السابق.
قالت العجوز: لا جرم؛ فإنه كان من جهة مفتوحًا على الصدر، ومن جهة ضيقًا كثيرًا. وا أسفاه عليكن أيتها الفتيات، إنكن لم ترين شيئًا! فأين هذا العصر من عصرنا الماضي؟!
قلت لها: ألم يكن في عصر صباك عجائز لم يَكُنَّ يستحسن ذوقك؟!
قالت: كيف لا؟ فإن عجائز ذلك العصر لم يَكُنْ يرضيهن ذوقنا وزيُّنا.
قلت: ماذا كن يقلن عنه؟ وكيف كانت كسوتهن؟
قالت العجوز: إن العصابة المسماة «حوطوز» لم تكن عامة، وإنما كان للعجائز عصائب مخصوصة بهن يُسمينها «قايق حوطوز»، وكانت مؤلفة من سبعة أو ثمانية مناديل يعلوها ثلاثمائة إبرة!
قالت السيدة «ص» خطابًا إلى السيدة «ن»: أيتها السيدة الميالة إلى الأزياء التركية، إنك ما دمت شديدة الميل إلى هذه الأزياء؛ فعليك بعمل هاته العصابة؛ لأنها تمثل الأكسام التركية كل التمثيل، وإلا فأقصري عن التضجر من الألبسة الغربية كأثواب الصباح والغرفة والجاكتة إلخ!
قالت السيدة «ن»: إنني أرى راحة في استعمال الأثواب التركية، ولأجل ذلك أكتسي بها، وما الفائدة من وضع مثل هذه الأحمال على رأسي؟
قالت السيدة «ص»: إذن أرجوك أن لا تعترضي على كل الناس؛ لأنه قد تبين لك أن الأزياء تتغير من وقت إلى آخر، وأن هاته الحال موجودة عندنا أيضًا، على أن الفرق بين الزمانين أن الألبسة في الماضي كانت تتغير مرة في كل أربعين أو خمسين سنة، أما الآن فإنها تتغير في كل ستة شهور!
فقلت: أجل، إن ذلك تأثير السرعة في أزمنتنا، فإن سكان الدنيا الذين يتقلبون أبدًا من حال إلى حال لا يمكن أن تبقى ألبستهم على حال واحدة.
قالت: فإذن صار يجب أن نلبس ثيابنا.
قلت: فليأتوا بألبستك إلى هنا.
وبعد أن قلت ذلك جاءوا إليها بالألبسة، فأخذت الجارية تُلبسها، وبينما كانت تربط رباطات المشد قالت: آه، إنني حتى الآن لم أتعوَّد تحمُّل هذا المشد؛ فإنه يضايقني ويسلب راحتي، فكيف أعمل؟ لا أدري!
فقلت لها: لا تلبسيه.
قالت: إذا لم يلبس لا يبقى من كسم للأثواب.
فقلت لها: البسيه إذن!
قالت: أنا لم أقل لك إنه يؤثر في معدتي!
فقلت لها: ماذا أقول يا سيدتي؟! فإما أن تلبسيه أو لا!
قالت: الأمران ممتنعان!
قلت لها: إذا وجدت لهما ثالثًا فافعليه!
قالت السيدة «ن»: آه يا عزيزتي، إن ثوبي الواسع لا يحملني شيئًا من هاته الأثقال.
فقالت السيدة «ص»: إنه لا يعرف لك كسم؛ لأنه لا ينظر؛ بل يبقى محجوبًا.
فقالت لها: أيحسب ذلك عيبًا؛ فإنه إذا كان به قصور فلا يشاهد؟!
قلت للسيدة «ص»: ألم تقرئي ما كتبه مدحت أفندي بشأن المشد في كتابه المسمى بالمصاحبات الليلية؟
قالت: أمان يا عزيزتي، ماذا قال بهذا الشأن؟
فقلت لها: ها هو على مقربة منك؛ فخذيه واقرئيه.
قالت: أريني المحل المقصود منه.
فأخذت الكتاب، ولما عثرت على الفقرة المتعلقة بالمشد دفعته إلى السيدة «ص»، فما اعتمَّت بعد قراءته أن قالت: يا عزيزتي، إنه لم يضع له قرارًا قطعيًّا؛ فقد استصوب الأمرين؛ أي أن يلبس وأن لا يلبس!
فقلت لها: إذن تريدين أن يقول أكثر من ذلك، فإنه وافق على قول الحكماء وعلى قول الخياطين؛ فقد قال مدحت أفندي: إذا شاءت المرأة عمرًا عزيزًا فلتلبسه، وإذا أرادت عمرًا لذيذًا؛ فعليها أن لا تلبسه. وأنت مخيرة بين الأمرين! وبعد أن انتهت الجارية من تلبيس السيدة وتبكيل الأزرار؛ أخذت ملاقط الشعر لتحميها على النار، ثم تعود بها لتصلح شعر سيدتها، فقالت السيدة «ص»: ما هذا الكسل أيتها السيدات؟ أليس في نيتكن أن تلبسن أثوابكن؟!
فقلت لها: لا يجب أن تهتمي بهذا الأمر؛ إنني أستطيع أن ألبس ثيابي قبل أن تنتهي من تزيين شعرك!
فقالت مخاطبة إلى جاريتي: اذهبي أنت وألبسي سيدتك ثيابها؛ فإنني أراها لا تحب أن تفعل ذلك من نفسها!
فقالت لها الجارية: إن سيدتي تكتسي بيدها ولا تحب أن ألبسها ثيابها.
قالت: أصحيح أنها متعودة على ذلك؟! لعمري إنها لا تعرف راحتها!
فقلت لها: لا يمكن أن أتصور تعبًا يزيد عن الاحتياج إلى شخص آخر في أمر اللبس! وكثيرًا ما كنت ألاقي من العذاب ألوانًا عندما كانت تأتي البنات أحيانًا إلي ويطلبن مني أن أسمح لهن في مساعدتي بلبس الثياب، وقد قلت لهن مرارًا: إنكن إذا كنتن راغبات في راحتي فدعنني وشأني ولا تتعرضن لمساعدتي، ومذ حينئذٍ أصبحن لا يتعرضن لي بشيء من ذلك.
قالت: كيف تستطيعين أن تعقدي ربط المشد؟
فقلت لها: عندما ألبسه لأول مرة أضيقه من الوراء إلى الدرجة اللازمة، وأتركه معقودًا هكذا، فلا يبقى إلا ربطه من جهة الصدر وتزريره، فأفعل ذلك بنفسي، خصوصًا وأنت تعلمين أنني لا أستعمل المشد يوميًّا؛ إذ لست بميالة إليه كل الميل، ومتى استعملته لأشد كثيرًا.
قالت: أنت تسرِّحين شعرك بنفسك أيضًا. أما أنا فإنني منذ صغري كانت مربيتي هي التي تُسرِّحه، والآن قد تعلمت هذه الفتاة طريقتها؛ فصارت تُرتِّب شعري أحسنَ ترتيبٍ.
قلت لها: فإذا لم تكن هذه الفتاة؛ ماذا تفعلين؟
قالت: لا جرم أنني حينئذٍ ألاقي كثيرًا من المشقة؛ لأنني ميالة إلى الترتيب التام، وأولئك البنات لا قدرة لهن على هذا العمل.
فقالت جاريتي: إن سيدتي تحسن تنظيف وصفَّ الشعر كل الإحسان، حتى إننا عندما نكون متهيئات للذهاب إلى فرحٍ ما تأخذ هي في تسريحنا؛ إذ ترى أننا لم نحسن صنعته.
فقالت: لعمري إن ذلك حسن جدًّا، فإن أمكن رتِّبي لي شعري إلى أن تكون الفتاة قد انتهت من إحماء الملاقط.
فقلت لها: أتحبين أن أرتبه كما كان مُرتَّبًا بالأمس؟
قالت: نعم. فبادرتُ في الحال إلى جمع الشعر وتسريحه، ثم قلت: قد تمَّ المقصودُ يا سيدتي.
قالت: يا عجبًا! ما هذه العجلة؟ فقلت: ماذا يهمك الاستعجال؟ ما عليك إلا أن تنظري إذا كان أتى حسب المرغوب أم لا، فأخذت السيدة «ص» شعرها بيدها ونظرت إليه مليًّا ثم قالت: لا جرم أنه في غاية الإتقان. غير أن زينتها لم تكن قد تمت؛ لأنها كانت تنتظر الكي بالملاقط، وفي تلك الأثناء دخلت جاريتها بالملاقط المحماة، فخرجتُ إلى غرفة ثانية لألبس ثيابي، وبعد أن لبستها عدت إلى حيث السيدة «ص»، فوجدت أن عملية الكي لم تنتهِ.
فقالت: يا عجبًا! أراك قد لبست ثيابك وزيَّنت شعرك في هذه الفترة.
قالت السيدة «ن»: لقد رأيت هناك رسمًا؛ فما هذا الزي؟
فقلت لها: وجدته في غرفة صناديق والدتي، فهو رسم إحدى المدامات في الزمن القديم.
قالت: ما هذا الفستان؟ أرى أنه لا فرق بينه وبين المضرب «الخيمة». انظري إلى هذه العصبة، وأنت أيتها السيدة «ص» تعالي وشاهدي زي ذاك العصر.
فقالت لها: أتقصدين أن أستعجل ليحترق جبيني؟
قالت السيدة «ن»: إذا كنت لا أصنع مثل هذا الفستان، فإنني أقدر أن أصنع نظير عصبتها. أنت تزييت بالزي الجديد، وأنا أتزيَّا بالقديم، أليس كله يحسب زيًّا فلا فرق بين أن يكون جديدًا أو قديمًا، ثم قالت لي: يا عزيزتي وصديقتي، أيوجد عندك قليل من البطانة السوداء وشيء من القصب؟
فقلت لها: بلا كسل، أتشغلين نفسك بهذا الآن؟
قالت: لا جرم أن الزهور الموجودة في البستان هي مرجحة على الزهور المنتشرة في هذا الرسم لكونها طبيعية، فإذا لم يكن ثمة مانع أن أجمع شيئًا منها. قالت ذلك وخرجت إلى الجنينة ثم عادت بالزهور التي رغبت فيها، فصنعت شيئًا مماثلًا تمامًا لشكل العصبة المرسومة في الرسم تعصبت بها، وقد اشتهينا أن أحدًا يسمع قهقهتنا إذ ذاك.
فقالت السيدة «ص»: عجبًا! هل كانت هاته العصبة في زمن عصبة القايق الذي أشارت إليه المربية، فإن من تأمل شكلها الغريب أدرك أنهما كانتا متعاصرتين.
قلت: يحتمل ذلك.
وفي تلك الأثناء أطلت إحدى الجواري رأسها من الباب قائلة: لقد جاءت السيدة الكبيرة. أما السيدة «ن» فإنها لم تجد فرصة لرفع العصبة عن رأسها؛ ولذلك دخلت الخزانة الموجودة في الداخل لتعلق الثياب محتجبة عن أعين والدتي التي دخلت علينا وخاطبتنا بما يأتي: لقد ذهب عني أن أخبركن أيتها الفتيات أنه جاءنا أمس خبر يفيد أنه سيأتينا اليوم زائرات أجنبيات، وأنهن يرجوننا أن نستقبلهن بالأزياء التركية.
وفي ذاك الوقت، ظهر وجه السيدة «ن» وكشفت العصبة؛ لأن المومى إليها لم تتمكن من إخفاء نفسها ضمن الخزانة فتمسك بالتعاليق، ولكن لم يُجدها ذلك نفعًا؛ حيث فتح باب الخزانة وظهرت العصبة التي كانت تحاول إخفاءها، فأخذنا جميعنا بالقهقهة بحيث اضطرت السيدة «ن» أن تهرب إلى خارج الغرفة، ولما سكنت ضوضاة القهقهة سألتنا الوالدة عن أسباب الضحك فأفهمناها حقيقة الواقعة.
فقالت الوالدة: أسرعن بارتداء ملابسكن؛ فإن الساعة قريبة من الرابعة.
فقلت: يا عجبًا! ترى في أية ساعة عزمن على المجيء؟
قالت: لقد أنبأن أنهن يحضرن بعد الظهر على أنهنَّ لم يُعيِّن ساعة معلومة. ثم خرجت، ولما كانت السيدة «ن» تحب الاكتساء بألبسة تركية لم تكن معرضة للنقلة، وقد قضت الضرورة أن أحضر رداء للسيدة «ص»، فأحضرت ثوبين من الأثواب التركية؛ أحدهما للسيدة «ص»، والآخر لي.
وبعد أن ارتدينا بهما وضعت كل منا على رأسها عصبة مزينة بالأزهار المماثلة للون الأثواب مما كنت صنعتها بيدي، ولما مررنا من أمام المرآة رأيت أن زينة السيدة «ص» تفوق زينتنا حسنًا وجمالًا، وقد اعترفتُ لها بذلك؛ لأن المشد الذي كانت تلبسه قد زاد بحسن كسمها، فظهرت بمظهر لا يكون إلا بمن يستعملن المشدات، وقد تبين لي أن المشد يجعل انتظامًا كليًّا للألبسة التركية أكثر منه للألبسة الإفرنجية، كما أن وضع الأزهار في مفرق الشعر مما يزيد الوجه رونقًا ولطافة.
فقالت السيدة «ص»: إذا كان أعجبك هذا المظهر؛ فعليك أن تفرقي شعرك كشعري، وأن تلبسي المشد.
فقلت لها: نعم، إنني سألبس المشد، ولكن فرق الشعر يستغرق وقتًا طويلًا، ولقد آن وقت مناولة الطعام، وكما كنا لا نعلم الساعة التي يأتي بها القادمات إلينا؛ أرى من المناسب أن نكون على استعداد لاستقبالهن.
وبعد عشر دقائق كنا جميعًا على قدم الاستعداد، فدعونا إلى المائدة، وبعد الطعام عدنا إلى غرفتنا.
فقالت السيدة «ص»: لله أنتن، إنه لو وجدت معنا السيدة «ق» لكان بذلك حسنًا للغاية.
فقلت لها: لقد مر وقت طويل ولم نرها.
قالت السيدة «ص»: إن الظلم الذي تلاقيه من زوجها قد سلب راحتها ومنعها من الخروج.
قالت السيدة «ن»: من العبث أن يعيشا معًا، على أنهما إذا افترقا زالت تلك الصعوبة في الحياة، وكثيرًا ما قالت السيدة «ق»: إنني لا أريدك؛ فلنفترق! أما هو فقد كان له عن قولها أذن صماء.
قلت: ما هي أسباب عدم راحتهما؟!
قالت السيدة «ص»: إن الرجل سيئ الأخلاق، وهو لأقل سبب يضربها! وهي كثيرًا ما قالت له أن يتركها؛ لأنها لم تعد تتحمل معاملته، وهو كان يقول لها: إنه يموت ولا يتركها!
قلت: فإذن هو يحبها؟!
قالت السيدة «ص»: ليتها لم تكن هذه المحبة.
قالت السيدة «ن»: إن الرجل لا خلاق له؛ فإنه لا فقط يعامل امرأته هذه المعاملة، بل هو كذلك مع الخادم والخادمة، ولا قبل له على نبذ هذه الأخلاق السيئة ولا على ترك امرأته!
قالت السيدة «ص»: إن زوجته لا تقبله؛ فهل تجبر على البقاء معه؟
قالت السيدة «ن»: أجل؛ إنها في اليوم الماضي كانت تقول: إنه من نفسه لا يريد أن يتركها، وإنها ستضطر في آخر الأمر إلى مراجعة المحكمة.
قالت لها: إن الطلاق إنما هو راجع لإرادة الرجال لا غير، فإذا قصدوا أن يطلقوا نساءهم أمكن لهم ذلك بكلمة واحدة. أما المرأة فإذا كانت راغبة في الطلاق تضطر إلى مراجعة المحكمة، ثم قالت لي: وأنت كنت تقولين منذ مدة أن الأمر مشكل عند المسيحيين؛ فإنهم لا يستطيعون أن ينفصلوا عن بعضهم بعد الزواج، وإنما يجبر الرجل أو المرأة — أي منها كان سيئ الأخلاق — أن يصرف عمره بالنكد والكرب بعد جواز الطلاق، وإننا نحن أحسن حالًا لوجود الطلاق عندنا؛ فانظري لنا وسيلة للطلاق!
فقلت لها: كيف ترغبين أن يكون؟
قالت: أرغب أن يكون في الأمر مساواة بين الرجل والمرأة؛ بمعنى أن النساء يكن كالرجال قادرات أن يطلقن رجالهن بنفس السهولة الموجودة عند الرجال.
فقلت لها: من يرغب في ذلك فيذهب إلى أنطاكية ويعقد فيها عقد نكاحه.
قالت: ماذا تقصدين بذلك؟
قلت: إن المرأة متى لبست ثوبًا أزرقَ تطلق من زوجها، والسلام.
قالت السيدة «ن»: أتقولين حقيقة أم أنت راغبة في المزاح؟!
قلت لها: إذا كنت ترتابين في قولي فاذهبي إلى أنطاكية تتأكدي ما قلت.
قالت السيدة «ص»: وضِّحي أكثر من ذلك وزيديني معرفة!
قلت: إن المرأة في أنطاكية عند زفافها تأخذ معها ثوبًا أزرق، ففي أي وقت أرادت ترك زوجها تلبس الثوب الأزرق؛ وحينئذٍ يعتقد بأنها صارت مطلقة. وهذه الحال معتبرة في عرف البلدة أيضًا!
وأما المرأة الفقيرة التي لا تملك ثوبًا أزرق؛ فإنها تستعيره من امرأة أخرى وتلبسه، ومتى انتهت من غرضها تعيده إلى صاحبته!
قالت السيدة «ن»: كيف يمكنهم توفيق هذا الأمر على الأحكام الشرعية؟!
فقلت: ألم تكن مسألة الشرط موجودة شرعًا؟ فالظاهر أنهم حين الزواج يتزوجون بهذا الشرط فيعقدون مقاولة من مقتضاها أن المرأة تطلق متى لبست ثوبًا أزرق.
قالت: الذي أعلمه أن النساء يشترطن على رجالهن الأمر الذي يرغبنه، فإذا فعلوه أصبحن طالقات منهم، على أنني ما كنت سمعت بما تقولين الآن؟
فقلت: يفهم من ذلك أن نساء أنطاكية أعقل منا كثيرًا؛ فإنهن متى تزوجن يضعن شروطًا ويتزوجن بموجبها، وليس ذلك منحصرًا بنساء أنطاكية فقط، وإنما في عشيرة «عنزة» عادة مألوفة؛ وهي أن يربط سجف في المضارب ويبقى مربوطًا على الاستمرار، فإذا كانت المرأة راغبة في ترك زوجها حلَّت رباط السجف — وفي ذلك إشارة إلى أنها أصبحت طالقة منه — ولعشيرة التركمان المُسمَّاة «تحيرلي» عادة أخرى من هذا القبيل؛ وذلك أن المرأة متى أرسلت سفيرًا إلى زوجها تخبره بواسطته أنها نفرت منه؛ فحينئذ تصير طالقة، وكل ذلك موقوف على الشرط.
قالت السيدة «ص»: لعمري إنهم عند النكاح عندنا لو وضعوا شرطًا بثوب وردي أو أفلاطوني لكان ذلك حسنًا جدًّا.
فقلت: لو وضعوا عندنا مثل ذلك مَن يعلم عدد الرجال الذين كنا نطلقهم في كل شهر؟
قلت: لأي سبب، أليس عندنا عقل يوازي عقل نساء أنطاكية ونساء العشيرة؟
قلت: إن الأشياء التي تولد عندنا الأسباب كثيرة؛ إذ من المعلوم أن نساء الخارج متى شبعت بطونهن ولبسن ثوبًا ما لم تبقَ لهن حاجة من الحاجات، وليس عندهن ما عندنا من ضروب النزهة والترف حتى تأخذهن الحدة من أزواجهن إذا منعوهن عن الذهاب إلى الحدائق والمنتديات.
قالت: ما معنى هذا الكلام؟ إن أكثر رجال الخارج والعشائر يتزوجون عدة نساء، فهل من سبب يبعث على الحدة والكدر أكثر من هذا السبب؟
فقلت: إنهن يَكُنَّ مسرورات من الضرائر، وهن اللاتي يرغبن في تزويج رجالهن حتى تبلغ أزواجهم أربعًا؛ لأنه كلما كثرت الضرائر قلت عنهن الخدمة، فإذا أخذ الرجل على زوجته امرأة ثانية خفَّتْ عنها نصف الخدمة، فإذا اقترن بثالثة كانت مطالبة بالثُّلُث، وإذا أخذ الرابعة هبطت خدمتها إلى الربع. وهؤلاء النساء المسكينات يرغبن في تخفيض خدمتهن إلى الخُمس لو كان ذلك بالإمكان، ولكن الشريعة لا تأذن بأكثر من أربع.
قالت: إن ذلك للعجب! لأجل الخدمة يقبلن الضرائر؟!
قلت: أيتها السيدة، أعندك نظيرهن حيوانات وبهائم وجمال ومعاول لنقب الأرض؟ وهل تضطرين إلى تحميلها الأخشاب والأعشاب؟ أذهب عنك كيف نستثقل عقص الشعر وتسريحه، وأنَّا مفتقرات إلى أن نستمد المعونة والمساعدة من الجواري؟
قالت: أنا لا أريد هذه الخدمة التي يتحملنها، ولا الضرائر أيضًا، وإنما يعجبني من عاداتهن مسألة الثوب الأزرق.
قالت السيدة «ن»: لننظر فيما إذا كان ذلك حسنًا هنا، وإلا فإنه كما قالت رفيقتنا: إذا لبس النساء ثوبهن أبصرن إلى حالة الرجل غير المتأهل.
قلت: إنني أنقل لكُنَّ فقرة تكون مثالًا لما نحن بصدده؛ فقد اتفق أن امرأة كانت في أثناء بحثها مع زوجها عن محبتها له تقول دائمًا: «آه يا سيدي! إنني أسأل الله أن يقبض روحي بين يديك؛ فإنني أفضل الموت على الانفصال عنك. وكان الرجل نبيهًا واقفا على أسرار العالم، وأما المرأة فقد كانت جاهلة بالقراءة والكتابة لا تعلم شيئًا من أحوال الدنيا.
ففي ذات يوم جاء الرجل إلى بيته وكان مغمومًا جدًّا بحيث إنه كان لا يقوى على فتح فيه والتلفظ بكلمة من الكلمات، فزوجته حمَلت ذلك على انحراف في صحته، وأخذت تسأله عن سبب كدره. أما هو فأجابها: إنه لم يكن منحرف الصحة وإنما طرأ عليه حادث عظيم كدَّره جدًّا، وإن هذا الحادث مهم إلى حد أنه لا يقوى على بيانه، وبعد إلحاح كلي من المرأة عقبه سكوت طويل من الرجل قال لها أخيرًا: آه يا زوجتي المحبوبة! أنت تعلمين أنه لحدِّ الآن كان الرجال يُطلِّقون نساءهم، ولكن وُضِعت الآن أصول جديدة من مقتضاها أنه يجوز — من الآن فصاعدًا — للنساء أن يطلقن رجالهن؛ فأنت لا تنكرين علي محبتي لك، وتعلمين أنه لما كان عدم الانفصال عنك متعلقًا بي دون غيري؛ لم يكن لي أقل هم وكدر من هذا القبيل.
أما الآن، فإنني أفتكر ماذا يحل بي من القهر والنكد لو قصدتِ أن تطلقيني، فأجابته هي قائلة: أقلع عن هذا الفكر ولا تهتم به؛ فأنا لا أتركك ولا أطلقك بالكلية.
وبعد أن مر على ذلك نصف ساعة طلب الرجل منها شربة ماء، فالتفتتْ إليه قائلة: عفوًا! أنا لستُ بقائمة؛ فقم أنت واشرب، فأجابها الرجل بقوله: يا عزيزتي، هل من العدل أن أقوم أنا وأنت لا تقومين؟ إنني أشتغل من الصبح إلى المساء لأجل القيام بحاجتك ورغائبك، والله يعلم ما ألاقي من المتاعب، حتى إذا أتيت إلى البيت بعد تلك المشقات ألا يلزم أن أرتاح فيه قليلًا؟!
أما هي فأجابته قائلة: إن رجليك غير مكسورتين؛ فقم واشرب.
وفي خلال هذه المحاورة بينهما غلبت الحدة على المرأة فقالت له: لا تزدني فوق طاقتي؛ فإنني أُسمِعك من فمي ما لا تحب.»
قالت السيدة «ص»: إن هاته الأمثلة قد وُضعَتْ بقصد المزاح بين الرجال والنساء؛ وإنني أتأسف على كلامك الذي قلته.
فقلت لها: أنا لم أروِ ما رويتك حقيقة، وإنما نقلته من الفكاهة، ولكنه مَثَل ما جرى بالنقل، ومع ذلك فإنه لا يسعنا أن ننكر أن النساء هن أقل صبرًا وجلدًا من الرجال.
قالت: لماذا؟ إنه ليوجد بين النساء مَن هن أكثر عقلًا وأشد صبرًا من الرجال، كما أن كثيرًا من الرجال هم أدنى معرفة وأقل جلدًا، وأعظم جهلًا من النساء.
قلت: نعم، لا أنكر صواب القول، ولكن ذلك من قبيل الاستثناء أيتها الصديقة، والاعتبار في كل شيء للأكثرية، وهكذا تصدر الأحكام، حتى إن الأوروبيين الذين يطلقون عنان الحرية لنسائهم — لما أنهم يعلمون أن النساء أدنى معرفة من الرجال — يسلمون المهر الذي يخصصونه كثمن جهاز لبناتهم إلى الرجال ولا يبقونه بأيدي النساء.
قالت: وهذا لا أريده بأن أرى أموالي بيد زوجي.
قلت: حيث إن الرجال يستطيعون أن يحسنوا إدارتها جرت العادة عندهم أن يسلموها لهم.
قالت: فإذا خطر للرجل ابتلاع أموال زوجته ميلًا مع أهوائه، واسترسالا إلى إهانتها، واحتقارًا لها؟
قلت: هذا محول على طالعها.
قالت: كلا، أنا لا أُمكِّنه أن يخونني بواسطة دراهمي.
قلت: ماذا تعملين؟
قالت: إنني أطلقه من تلك الساعة.
قلت: إن الطلاق عندهم لفي غاية الأشكال، والطلاق لأجل بلع أموال المرأة إنما هو في عداد المستحيلات، وأما عندنا فلا حاجة أن نتحمل مشقة الطلاق لأجل ذلك؛ لأن أموال المرأة لا تدخل تحت حكم الرجل حتى يتمكن من هضمها.
وحينئذ سمعنا صوتا يشير أن إحدى السفن تتقرب من الشاطئ، فانصرف ذهننا إلى أن الضيوف قادمون عليها، فنهضنا ووقفنا على النافذة المطلة على الساحل، فرأينا في جملة الخارجين منها ثلاث نساء مرتديات بألبسة جميلة.
قالت السيدة «ص»: انظري إلى هاته المدام البيضاء وتأملي في حسن ألبستها البسيطة.
قلت: لعلهن من ضيفاتنا.
قالت: ولكن أراهن قد تجاوزن الباب.
قالت السيدة «ن»: ربما أنهن يأتين إلينا من باب المنزل؛ انظري الرجل الذي يصحبهن. وهذا طبيعي؛ لأنهن لا يحضرن منفردات.
قالت السيدة «ص»: أنعم، ها قد دخلن من باب المنزل، ولعمري إنهن جميلات، وألبستهن من آخر زي، فكيف تحبين أن تدخليني عليهن بألبستي الحاضرة؟ لا جرم أنهن يحسبننا لا ندرك شيئًا، فلا أحب أن أظهر أمامهن بألبسة بسيطة في حين أنهن مكتسيات بألطف كسوة، ولو عرفت أن الأمر سيكون كذلك للبست أحسن الأثواب وأكملها؛ فتفضلي يا عزيزتي بإعطائي ثوبًا من الأثواب الإفرنجية الجميلة لأرتديه وأظهر به أمامهن.
قلت لها: يا عزيزتي، هل من الممكن أن تحضر خياطة لتخيط لنا أثوابًا موافقة؟ نعم إن ثوبي التركي قد جاء ملائمًا لك من حيث إنه مفتوح الصدر، ولكن مشدي لا يمكن أن يُلائم كسمك، وأنت تعلمين أنه لو وجد قماش من لونه وأحضرنا خياطة مخصوصة لتخيطه على طريقته موافقًا لك من آخر زي؛ للزم لأجل ذلك نهار كامل، فهل نُؤجِّل مقابلة ضيفاتنا إلى غد؟
قالت: لعمري إنني أخجل من الظهور أمامهن في حالتي الحاضرة.
قالت السيدة «ن»: يا عزيزتي، يمكن أن تحتجبي فلا تظهري أمامهن.
قالت: ما شاء الله، كيف يمكن ذلك وأنا راغبة في التفرُّج عليهن وعلى ألبستهن الجميلة؟
قلت: أيتها السيدات، إن المدامات القادمات إلينا لو لم يَكُنَّ عارفات بأن لنا ألبسة إفرنجية ما كُنَّ طلبن منا أن نكتسي بألبسة تركية، ومن المعلوم أنه يجب علينا أن نخدم ذوق ورغبة الضيف أكثر من ذوقنا ورغائبنا.
وبينما كنا نهزل ونهذر على هذا الوجه، كانت المدامات دخلن إلى القاعة فنهضنا لاستقبالهن، وبعد أن حييناهن جلسنا إلى مقربة منهن، وقد تبين لنا من منظرهن أن إحداهن ذات بعل، وتبلغ السابعة والعشرين أو الثامنة والعشرين من سِنِيِّ العمر، ممشوقة القوام طويلته، حسنة الكسم، زرقاء العينين، شقراء الشعر، بيضاء البشرة، جميلة الجملة، والثانية ذات خدر في التاسعة عشر أو العشرين من العمر. وكانت هاتان الصبيتان شقيقتين، والشقيقة الثانية معادلة للأولى بحسنها ولطفها. ومع أن الجمال واحد لا أكثر، غير أن أنواعه متعددة جدًّا إلى حد أن ما يراه هذا جميلًا يراه ذلك بالعكس؛ بمعنى أن الأميال مختلفة في الناس لا يمكن أن تتفق على وجه واحد؛ وذلك مما يمنعنا من البحث في أسرار الطبيعة. ألا ترى أن فلانًا يستحسن الحاجب الأسود والعين السوداء، وفلانًا يميل إلى الشعر الأشقر والعين الزرقاء، وفلانًا يقف بين الذوقين فيعجبه الحد الأوسط من النوعين، والبعض لا يرى جميلًا في غير السمينات، والآخر يحسب الجمال كل الجمال في الرفيعات الهزيلات، وكثيرًا ما نسمع قول فلان عندما يرى ذات سمن: آه لو كانت أقل سمنًا مما هي عليه الآن! وقول الآخر عن الهزيلة: لو كانت أكثر سمنًا لبلغت أقصى درجات الجمال؟!
لا جرم أن القول بجمال هذه وعدم جمال تلك بالنظر إلى الأمزجة والأذواق ليس من الإنصاف في شيء. نعم، إن كلًّا من الناس مُخيَّر في ميله ورغبته، له أن يستحسن ما يستقبحه الآخر وبالعكس، غير أنه لا يناسب أن يقال: هذا جميل، وذلك غير جميل بالنسبة إلى الأميال والأذواق؛ لأن الحق — سبحانه وتعالى — قد بَرَأَ أهل الجمال على ألوان وأشكال شتى؛ فإغماض العين عن قدرته وحكمته غير موافق للحقانية.
وقد كانت الصغيرة جميلة الصورة إلا أن جمالها يختلف عن جمال الكبرى، ومع أنها أقصر من شقيقتها بأصبعين، غير أن هيف قامتها ووجود الأولى أكثر سمنًا منها يُظهر للعين أنهما متساويتان قدًّا. وهي — أي الصغيرة — ذات عينين زرقاوين مائلتين إلى الاخضرار، وأهدابهما طويلة سوداء، وحاجباها معتدلان في الوضع والرسم، متوسطان بين القصر والطول، وشعرهما أسود، وشعر رأسها أكلف «كستنائي»، وهي بيضاء اللون كشقيقتها غير أن الفرق بين بياض الاثنتين: أن بياض الكبرى مُشرب بلون أحمر، على حين أن بياض الصغرى كان ناصعًا شفافًا، وكان جمال الكبرى لأول نظرة بالعين الناظرة، وأما الثانية فكانت على حد قول الشاعر:
والمباينة الموجودة بينهما في الهيئة من حيث إن الأولى كانت شقراء الجملة، والثانية: سوداء شعر الحاجبين والهدبين، زرقاء العينين، كستنائية الشعر، على كونهما شقيقتين، لا تعد غريبة في بابها؛ لأن الأولاد الذين يأتون من آباء شقر وأمهات شقر تكون هيئاتهم كهيئات آبائهم وأمهاتهم، وهكذا الذين يكونون من أب أشقر ووالدة سوداء العينين والحاجبين والشعر، وبالعكس؛ فإن بعضهم يشبه الأب، والبعض الآخر يشبه الأم، كما حصل في هيئة ذات الخدر المختلفة عن هيئة شقيقتها.
ولما زايلتا ظهر السفينة رفعتا عنهما ثوب الزيارة الذي كنا نظرناه عليهما؛ فتبدت للعين ألبستهما التي كانت مستورة بالثوب المذكور، وكانت جميلة جدًّا، وكانت ذات الخدر تلبس ثيابًا حريرية بيضاء، وقماشها بسيط للغاية، والثانية لابسة ثوبًا يضرب إلى لون الفضة ظريفًا وبسيطًا أيضًا.
فلنأتِ الآن على وصف الضيفة الثالثة، التي عرفنا أنها ذات خدر أيضًا، وهي كانت حسنة في وقتها. أما الآن فإنها تبلغ نحو الخمسين من سني الحياة، ومع أن محياها وجسمها قد أقالهما العمر من عذاب الزي والزينة، إلا أنها كانت تُحمِّلهما هذه المشقة؛ فقد كانت ألبستها وشعرها الممزوج بياضًا في غاية الترتيب ومنتهى الانتظام.
وقد كنا في القاعة مع الضِّيفان والوالدة وسائر أفراد العائلة، فعرفتهن بالوالدة، وتبادلن معها رسم السلام بالإشارة. وقد فهمنا أن ذات الخدر المُسنَّة تكون خالة الصبيتين الشقيقتين.
وكانت السيدة «ص» تشارك هذه العاجزة في الترجمة باللغة الفرنسية، فأخبرتنا الضيفات أنه لم يمر على مجيئهن إلى الآستانة إلا ثلاثة أيام؛ صرفن اليوم الأول في الراحة من عناء السفر، واليوم الثاني في قبول زيارة أقربائهن وأحبابهن الساكنين في دار السعادة، واليوم في التفرج على أسواق «بك أوغلي» ومخازنها، بحيث اتضح لنا من إفادتهن أنهن كنَّ ينظرن إلينا كأنهن من عالم الترك ونسائهم.
وفي خلال ذلك أخذت الشقيقتان تتكلمان معًا باللغة الإنكليزية، فقلت خطابًا للسيدة «ص»: إليك؛ لقد تم الأمر، فإنهما سيتكلمان باللسان الإنكليزي بمعزلٍ عنا؛ ولذلك يلزم أن لا تجعلي لهما سبيلًا يدركان أنك تفهمين اللسان المذكور.
قالت: كلا، لا أتركهما يفهمان، ولكن أرى أنهما بينما هما يتكلمان بالإنكليزية فخالتهما ملتزمة جانب الصمت؛ فالظاهر أنها لا تعرف اللسان المذكور.
فقلت لها: ماذا تقولان؟
قالت السيدة «ص»: إنهما قالتا: إننا نعرف المعاملة الحسنة. آه يا عزيزتي! ألم أقل لك إنه يجب أن نلبس من آخر زي ثم نظهر أمامهن، فلا نشك أنهن سيحسبننا جاهلات لا ندرك شيئًا؟!
وفي خلال ذلك التفتت إلينا ذات البعل قائلة: إننا كنا رجوناكن أن تكتسين ألبسة تركية؛ فهل كان ثمة مانع لو أنكن قبلتُنَّ رجاءنا؟!
فحينئذ التفتت إليَّ «ص» قائلة بحيرة واستغراب: «يا عجبًا! أيوجد أكثر من هذه الألبسة ألبسة تركية؟» وكادت تُصرِّح عن فكرها وتلفظ هذه الكلمات بالإنكليزية، إلا أنها لما كانت على مقربة مني، وكان كلامها همسًا، وقد فطنت إلى الزائرات؛ اجتهدت في تحويل الكلام إلى الفرنسية، ثم مزجته بالتركية، فصار كلامها مركبًا من ثلاث لغات، بحيث لا يمكن لأحد أن يفهمه! وعلى ذلك لم يشعر الزائرات بأن أحدًا منا يعرف اللسان الإنكليزي. وكان هو المطلوب.
فقلت: إن ألبستنا وأكسامنا هي تركية محضة.
قالت ذات البعل: لا يا عزيزتي، ليست هي الأكسام التركية؛ فإننا نرغب في مشاهدة الأكسام المذكورة.
قالت السيدة «ص»: كيف تكون الألبسة التركية تشيرين إليها؟
قالت: ألا يوجد أثواب مذهبة؟
قلت إلى «ن. خانم»: اذهبي يا صديقتي والبسي ثوبي المُقصَّب الذي أعجبك منذ برهة وتعالي به، ثم التفت إلى ذات البعل وقلت: إن السيدة ستلبس الثوب المذهب وتأتي به على الفور.
قالت ذات البعل: أشكركن كل الشكر، ولعمري إنكن عنوان الرقة.
وما مر على ذلك غير برهة قصيرة حتى دخلت «ن. خانم» مكتسية بثوبي المذهب، غير أن زائراتنا لم يَكُنَّ مطمئنات تمامَ الاطمئنان.
قالت ذات البعل: لا، ليس مقصدنا هذا، وإننا نحن راغبات في الأكسام التركية الصرفة.
قالت ذات الخدر: نعم، الزي التركي، ما أجمله!
فقلت: أيمكنكما أن تفهمانا ما هي الأكسام التركية التي ترغبانها وقد أعجبتكما؟ وكيف يكون شكلها؟
قالت ذات البعل: إنها جاكيتة — نوع ملبوس يصل للحزام فقط — قصيرة مطرزة بالذهب، وقميص رفيع، وسروال مقصب.
فقلت لها: الآن ترين هذا الزي.
قالت السيدة «ص»: ماذا تقولين؟! من أين يمكنك إيجاد هذا الزي والظهور به؟!
قلت: الآن تنظرين.
وحينئذٍ نهضت فأحضرت مجموعة الرسوم — وقد كنتُ شاهدتُ في الطريق امرأة مكتسية بصدرة مطرزة بالذهب، وسروال مقصب، فأخذت رسمها — وقد فتحت المجموعة وعرضت على الزائرات الرسم المذكور وقلت: أهذا هو الزي الذي تطلبينه؟
فأجابت الزائرات الثلاث بصوت واحد: نعم، نعم، هذا هو بعينه، وكنا نود أن نراكن وأنتن مكتسيات بمثل هذا الزي.
قلت: أين رأيتن النساء اللائي يلبسن هذه الأزياء؟
قالت ذات البعل: لم نشاهد المكتسيات به عيانًا، وإنما رأين رسمهن في باريز.
قلت لها: ففي مثل هذه الحال لا يمكنك هنا أيضًا أن تشاهدي أكثر من ذلك.
قالت ذات البعل: لماذا؟ لَمْ يبقَ بين النساء التركيات من يكتسين بهذا الزي؟!
فقلت لها: كلا.
قالت ذات الخدر: وا أسفاه! إنه لزي جميل للغاية، فإذن لا يتسنى لنا أن نشاهد في دار السعادة من ربات هذا الزي.
فقلت لها: لا يمكن أن تشاهدن إلا مثل هذا الرسم.
قالت الخالة: من هي صاحبة هذا الرسم؟
فقلت: لا أدري، لقد رأيتها في الطريق فأخذت رسمها.
فقالت ذات البعل: كأنما هي من ممثلات الروايات.
قالت الخالة: لا جرم أنها كما أشرت.
فقلت: إن ممثلات الروايات عندنا جميعهن مسيحيات؛ ففي مثل هذه الحال لا تكون هذه المرأة تركية، وإنما هي امرأة مسيحية.
قالت ذات البعل: إننا في باريز ننظر إلى مثل هذه الرسوم كأنما هي من رسوم السيدات التركيات، وندقق كثيرًا في زينتهن ووجوههن، فإذن يفهم من ذلك أن الزينة ليست بزينة تركية، وذوات هاته الأزياء لسن من السيدات التركيات.
قلت: أجل، فكما أنه يمكن لأي الناس أن يرتسم بالزي الذي يرغب فيه، هكذا أيضًا بعض النساء المسيحيات يرتسمن بمثل هذه الأزياء، غير أنني لا أدري ما هو الزي الذي يلبسنه؛ لأنه على نحو ما تشاهدن في هذا الرسم ترين على رأس صاحبته كوفية من صنع البلاد العربية، وعلى عاتقها صدرة من صدرات نساء الأرناءوط، وفي رجليها سروال، والكرسي المنزل بالصدف الذي على قرب منها إنما هو من صنع الشام، والفنجان الموضوع عليه من متاع الهند، والنارجيلة التي في يدها لا أعرف حقيقة مِن استعمال نساء أية ملة من الملل. أما شعرها فإنه مقصوص على الزي الإفرنجي، وقد قُصَّ من أسفل على النسق الأوروبي، فإذا أمعنت النظر به حققت ذلك.
قالت ذات البعل: لا جرم أنه على الزي الإفرنجي تمامًا، فإذا كان هذا الزي لم يكن من الأزياء التركية، كذلك لم يكن هو زيًّا منه آخر، فليس إلا زيًّا قد رُكِّب من عدة أزياء.
ثم جاءوا إلينا بصينية القهوة على العادة التركية وقد وضع الإبريق في السلسلة — أو السنبل — أو العازقي باللغة المصرية، وهي مغطاة بمنديل، فأعجب المسافرات بها كل الإعجاب واستأذننا في معاينة كل قطعة منها على حدة، وقد استحسنَّ غطاء الصينية؛ لأنه كان مزركشًا بالذهب، وسألننا عن المحل الذي يباع به أباريق القهوة الفضية، فهديتهن إلى سوق الصاغة، ثم بَيَّنَّ لنا رغبتهن في مشترى الأقمشة التركية، وطلبن إلينا أن نعرفهن عن الموضع الذي يباع به أحسنها، فعرفتهن أن أقمشتنا متنوَّعة جدًّا، وأوصيتهن أن يشترين من أقمشة بورسة أو الأقمشة العربية.
وقد صرفنا في هذا الحديث قسمًا من الوقت، وبعد ذلك فهمنا أن الشقيقتين هما بنتا تاجر كثير الثروة، وأن أمهما وأباهما في باريز، وأن الأخت الكبيرة متأهلة من خمس سنوات، وأن زوجها أيضًا من مسلك والدها، وأن خالتهما تسكن مع والديهما، وأن ذات البعل تقيم في بيت زوجها.
قالت السيدة «ص» إلى الخالة: لماذا أنت لم تتأهلي؟
قالت: هكذا كان نصيبي!
فقالت لها: أأنت لم ترغبي في الزواج؟!
قالت: إن الزواج عندنا لا يخلو من الصعوبة.
فقالت لها: لأي سبب؟!
قالت: لمسألة المهر «الدوتة»؟
فقالت: ولكن أليس أن عدم الحصول على زوج بلا مهر إنما هو مخصوص بغير الجميلات؛ فإننا نسمع أن الجميلات يتزوجن بلا مهر؟
قالت: نعم، يتفق مثل ذلك، ولكن غير الجميلات ذوات المهر كثيرًا ما كُنَّ سببًا في حرمان الجميلات اللاتي لا مهر لهن من الأزواج؛ لأنه لا تبقى واحدة منهن بلا زوج، على حين أنه يندر وجود من يقترن بالجميلات الخاليات من المهر!
فقالت لها: ألم تقترن شقيقتك؟
قالت ذات البعل: إن والدي أخذ والدتي عن حب، ولقد كان يهوى أن يقترن بها ولو لم يكن لها مهر، غير أن جدي دفع المهر بإرادته، وبعد تأهل والدتي بست أو سبع سنوات أفلس جدي، وكانت خالتي فتاة في ذاك الوقت.
قالت السيدة «ص»: وبعد ذلك، ألم يتفق لها راغب على الإطلاق؟
قالت الخالة: نعم، تيسر ذلك، وليس فقط أنه رغب في الاقتران بي، وإنما حصل بيننا حب!
فقالت السيدة «ص»: ففي هذه الحالة لم يبق حكم لمسألة المهر، ولماذا لم تقترني به؟!
قالت لها: إنني أنقل إليك المسألة من أولها فأقول: بعد إفلاس والدي كنت قطعت أملي من الزواج على الإطلاق، ثم اتفق لي أن صادفت شابًّا غنيًّا بالمال والتهذيب والمعرفة، محبًّا للعمل، موافقًا من سائر وجوهه، قد اكتسب ثروة بكده واجتهاده، فوقع في قلب كل منا حب الآخر، وهو الحب الظاهر الذي يتم به الزواج.
ولما كنت خالية من المهر اجتهدت كثيرًا أن أتغلب على حبي وأنبذه ظهريًّا، إلا أن ما رأيته فيه من الميل القلبي إلى الزواج قد ولَّد في الجراءة على توطيد الآمال، وتقررت المسألة بيننا قطعيًّا، كما أن والدي قد قبل بكمال الامتنان حسن نية هذا الشاب الذي سيقبلني على علاتي خالية الوفاض من المال، وثروته كافية لأن أعيش فيها بكمال الراحة والهناء، وكنا إلى ذاك الوقت نعرف هذا الرجل أنه ينتسب إلى إحدى العائلات من الإيالات، فلما حان الزمن الذي سيتقرر به زواجنا نهائيًّا اجتمع به والدي اجتماعًا طويلًا، وتحادثا مليًّا، وطلب منه إيضاحات عن أحواله وعن عائلته، ففهم حينئذٍ أنه لا ينتسب إلى عائلة معلومة، وإنما هو من الأولاد الطبيعيين «المنبوذين»!
قالت السيدة «ص»: وا أسفاه! ما أصعب ذلك إذا وجد الحب!
قالت لها: نعم، إنني كنت أحبه، ولكن أيبقى موجب بعد ذلك لهذه المحبة؟ إن معرفتي كونه ولدًا منبوذًا كافية لأن تبعثني على النفرة منه، ولا يلزم الحب أكثر من هذا النفور!
قلت لها: وهل أمكن له أن يتناسى ذاك بمثل هذه السهولة؟!
قالت: كلا، إنه تأسف أسفًا لا مزيد عليه، وأصر كثيرًا على الفرار بي إلى بلد آخر حيث يقترن بي قائلًا لي: إنه لا يتركني أن أفتقر إلى أي كان ما دامت عائلتي لا تقبله. أما أنا، فكيف يمكنني أن أرضاه؟! فإنني إذا لم أفتكر بنفسي يجب أن أفتكر بأولادي؛ لأنني من حيث وضعتهم في هذا العالم من أب منبوذ «نفل» سأبقى مخجولة أمامهم طول العمر، وعندما افتكرت بأنني سأترك اسم عائلتي للانضمام إلى رجل لا تعرف له عائلة ولا اسم؛ لكي أفتخر بالانتساب إليه؛ رددته خائبًا، وأخبرته أنني لن أقترن به، وأنني صممت على أن لا أكلم رجلًا، فلست بمُكلِّمته على الإطلاق!
قالت السيدة «ص»: هل تزوج هذا المنكود الحظ بعد ذلك بسواك؟!
قالت: لم أعد أراه بعد هاته الحادثة؛ لأنه زايل باريز قاصدًا وجهة أخرى، ولا أدري ما الذي جرى به. أما أنا فحيث لم يكن عندي مهر «دوتة» لم يتقدم لي طالب آخر. وبعدُ، فأنبئيني أنت: ألا يوجد عندكم بنات متقدمات في السن بلا زواج؟!
قالت لها: لو دفع مليون من الدراهم لما وجد واحدة على الإطلاق؛ فإن القبيحات والفقيرات لا يكن قواعد في البيوت.
قالت ذات البعل: إنه يوجد عندكن مسألة لا تخلو من الإشكال؛ ألا وهي أن الرجال يستخدمون النساء كالجواري!
قلت: إن إدارة البيت والإنفاق على الزوجات عندنا إنما هو من وظائف الرجال، والنساء مهما كن مثريات فلسن مطالبات بالإنفاق على البيت. أما الرجل المقتدر فإنه يستخدم في بيته خادمة وطباخة، وإذا لم تتجاوز مقدرته حد خدمة نفسه؛ فزوجته مروءةً تقومُ بخدمة البيت، وإلا فإن الرجل لا يستطيع أن يجبرها شرعًا بذلك؛ فقد اتفق في أيام خلافة عمر أن رجلًا من الأصحاب الكرام جاء إلى دار الخلافة متظلمًا مشتكيًا من زوجته، فنظر عمر خارجًا من حرمه وهو يتكلم بحدة، فقال له: «أي شيء حدث يا أمير المؤمنين؟!» فأجابه عمر بقوله: «إن حال النساء معلوم لا يحتاج إلى إيضاح؛ فزوجتي قد سببت لي هذه الحدة! وأنت؛ ما الذي جاء بك إلى هنا؟» فأجابه: «إنني أتيتك لأشكو إليك زوجتي. أما وقد رأيتك على مثل هذه الحال فلا أرى محلًّا للشكوى!» فقال له عمر: «صه، لا يجب أن نرفع صوتنا؛ فإن نساءنا يقمن بإدارة بيوتنا مع أن ذلك خارج عن وظيفتهن، ويرضعن أولادنا ولسن مكلفات به، فإذا أظهرنا هذه المسائل ينتج عنها ضرر لنا.» فمن هذه القصة يتضح لك جليًّا أن النساء غير مطالبات ولا مكلفات شرعًا بالخدمة.
قالت ذات البعل: أحسنت، وإنني سائلة منك سؤالًا: من عاداتكم أن الأزواج عندما يدخلون على زوجاتهم في غرفتهن ينظرون من داخل باب الغرفة، فإذا رأى الزوج أن زوجته وضعت خفها أمام الباب يدخل إلى الداخل؛ حسبان أن ذلك إشارة على السماح له بالدخول، وإن لم ينظر الخف فيعود من حيث أتى؟!
قالت السيدة «ص» باللغة التركية: أحسنت، أن يكون ذلك من الغلط المأخوذ عن الفرجية الزرقاء. قالت ذلك ولم نستطع نحن الاثنتان من ضبط قهقهتنا.
أما السيدة «ن» فلما كانت لم تعلم شيئًا عن مسألة الفرجية، ولم تكن أحاطت علمًا بعبارة الخف التي أشارت إليها الزائرة التفتت إلي قائلة: ما الذي طرأ عليكما؟! فأفهمتها القضية، وحينئذٍ اشتركت معنا بالضحك، وكان دوي قهقهتنا يملأ فضاء القاعة.
أما الزائرات فقد استغربن منا ذلك، وقد لاحظت استغرابهن فقلت: عفوًا أيتها الزائرات، إننا لم نضحك من كلامكن، وإنما قد اتفق أن سبقت بيننا عبارة قبل مجيئكن مشابهة لعبارة صدرت منكن؛ فكان ما كان من داعي الضحك، ثم نقلت لهن مسألة الفرجية الزرقاء وقلت: إنه كما يوجد بعض منا لا يكون لهن علم بأشياء واقعة في بلادنا هذه، ألا يستبعد أن تتصل بكُنَّ معلومات مغلوطة عن كثير من الأشياء؟! ولا جرم أنه كلما بعدت المسافة كثر الوهم وزاد الغلط.
قالت ذات الخدر: المسموع عندنا أن النساء التركيات كلهن سمينات يندر بينهن وجود الهزيلات؛ فهل ذلك صحيح؟!
قلت لها: عجبًا! فما الموجب لذلك يا ترى؟!
قالت: يقال: إن ذلك ناشئ عن احتجابهن وعدم خروجهن إلى الأسواق إلا نادرًا، على أنني مذ وصلت إلى هذه العاصمة دققت كثيرًا بنسائها، فرأيت عكس ما سمعت؛ أي إن السمينات بينكن قليلات جدًّا، كما أنني قد رأيت في الطريق من «بك أوغلي» حتى وصلت إلى الوابور كثيرًا من النساء المستترات، وفي الوابور أيضًا يوجد نساء مستترات متحجبات.
فقلت: إن النساء عندنا لا ينحبسن في البيوت، وإنما يكن لهن أن يخرجن إلى الأسواق في أي وقت شئن، وأن تشتري ما ترغب.
فقالت ذات البعل: إن النساء التركيات هن أسيرات بأيدي أزواجهن؛ فإننا نسمع أنهن لا يستطعن أن يعملن شيئًا بدون إذن رجالهن.
قلت: لا جرم أنه من وظيفة النساء في أية ملة كانتْ أن يُطِعنَ أزواجهن، على أن مثل هذه الوظائف هي عند المسيحيين أشد منها عند المسلمين؛ لأن صك النكاح عندكن إنما يحرر مشروطًا فيه أن تكون الزوجة في كل حال تابعة لزوجها ومرتبطة به؛ ففي مثل هاته الحال يحق للرجل أن يذهب بزوجته جبرًا إلى أي محل شاء.
قالت: لا شك ولا ريب في وجوب ذلك؛ فإنه من الأمور الحسنة أن يكونا دائمًا مجتمعين!
قلت: فما قولك إذن فيما لو كان الزوج من عشاق السياحة وأراد الصعود توًّا إلى القطب للاكتشاف؟! أو كان ممن يميلون إلى السياحة البحرية وأحب التوغل في أعماق البحر على ظهر جارية تميل مع الأرياح؟! أو كان من المنطاديين «البالونجيين» ورغب في الصعود على طبقات الهواء؟
قالت: ألا يحق للرجال عندكم إجبار النساء على الذهاب معهم؟!
قلت: يمكن لهم أخذهن إلى الأماكن القريبة، غير أنهم إذا كانوا قاصدين الأسفار الطويلة الشاسعة، فالمرأة ذات الشهامة إنما تذهب مع زوجها طوعًا ومروءة لا غير، وإذا لم تذهب فلا تُجبر، وعندكم لا يجوز للمرأة أن تبيع شيئًا من مالها إلا بإذن من الرجل، أما نحن فإن المرأة عندنا حرة مستقلة في بيع واستهلاك ما تملكه.
قالت الخالة: كنا سمعنا أن السيدات التركيات يلبسن الألبسة الإفرنجية أكثر من الألبسة التركية، وذلك ما حدانا إلى الرجاء بأن تقبلننا وأنتن بالأكسام التركية؛ أحقيق ذلك؟
قلت: أجل، إن أكثرهن على مثل ما وصفت.
ثم التفتت ذات البعل إلى البيانو قائلة: أتعزفين بالبيانو (آلة موسيقية)؟!
فأجبت مشيرة إلى السيدة «ص»: إن هذه السيدة تحسن العزف أكثر مني بها؛ لأنها درسته نحو عشر سنوات.
قالت: لا جرم أن الضرب على هذه الآلة لا يمكن بأقل من عشر سنوات.
فقلت لها: يمكن الضرب على البيانو بعشر سنوات على شريطة الاستمرار والتعود بلا انقطاع، ولكن في كم سنة يمكن حفظه تمامًا.
قالت: أما أنا فقد ابتدأت به منذ السنة السادسة من عمري، وها أنا ذا في الثامنة والعشرين، وقد مر على زواجي ست سنوات، كنتُ إلى ذلك العهد — أي مدة ست عشرة سنة — أعزف يوميًّا بهذه الآلة أربع ساعات، وعندما تأهلت صرت أعزف به يومين في الأسبوع، وحتى الآن لم أتعلم البيانو! أتعلمين ما المراد وما المعنى بعلم البيانو؟
قلت: نعم، إن علمي به قد حداني إلى صرف النظر عن تعلُّمه، فما أكثر العازفين عدًّا وأقلهم معرفة تامة به! لأن علم البيانو إنما هو علم يراد به معرفة الأنغام من أول مرة بحسب أية نوطة كانت، وسرعة عزفها، والوصول إلى هذا الحد من المعرفة لا يحصل بمدى عشر سنوات، وإن كانت متمادية، وها نحن الآن نكلف هذه السيدة أن تضرب على الآلة فتنظرين أنها تحسن الضرب جيدًا، ولكن ليكن معلومك أن الأنغام التي ستُطربُنا بها قد كررتها على النوطة عدة مرات حتى أمكن لها الإجادة بها، على أن المقصد من البيانو هو غير ذلك، وما دام أنه يوجد من يعزف البيانو في هذا المجلس؛ فالبيانو موجود والنوطة موجودة أيضًا، وفي هذا الحال يجب ضرب النغم على البيانو عند النظر إلى النوطة؛ لأن مراجعة الأنغام على النوطة عدة مرات وتكرير العزف بها لا يسمى عزفًا، ولا يترك في المرء ميلًا لسماعها.
أما أنا فإنني عندما بدأت في درس البيانو اشتغلت به أربع سنوات متوالية بمزيد الرغبة والاجتهاد، وتعلمت النوطة بسرعة لا مزيد عليها، وقد أخبرني العارفون بالبيانو أن عزفي به كان حسنًا وملذًّا، غير أن وصولي إلى الدرجة المقصودة حقق عندي ما يجب من المدة لبلوغ المطلوب؛ فإن تجربتي أرتني أن أستاذي لم يتوفق إلى هذا الأمر، فحملت ذلك على عدم كفاءته، واستبدلته بأستاذ طائر الشهرة في هذا الفن، وأول عمل بدأت به أنني فتحت أمامه نوطة لم يكن له بها عهد سابق فلم يُحسِن نغمها إلا بعد أن كررها ثلاث مرات، فعدلت عن التحري على أستاذ آخر، ولكن أخذوا يستغربون عملي ويقولون: إنه لا يمكن الحصول على أستاذ أعرف منه! فأخبرتهم بمطلوبي، فأنبئوني أنه قد يمكن أن يوجد في دار السعادة شخص أو شخصان من الطرز المطلوب، وعلمت من نتيجة تحقيقاتي أن مع الاستعداد التام، والاستمرار على العزف يوميًّا أربع أو خمس ساعات، يمكن تعلم البيانو في خلال خمس عشرة سنة من حياتي على تعلم هذه الآلة، تأسفت على التعب الذي نالني في مدة أربع سنوات، وضربت صَفْحًا عن درس البيانو، فالآن صرت إذا رأيت نغمًا أعجبني أفتح النوطة، ولا أتمكن من إتقانه إلا بعد أن أكرره لا أقل من خمس عشرة مرة، فهل ذات الخدر تحسن العزف بالبيانو؟
قالت ذات البعل: نعم، تعرف أن تعزف به، ولكنها لم تصل بعد إلى درجتي، بل يلزمها وقت أيضًا.
قلت: تلطفي وأسمعينا قليلًا من أنغامك اللطيفة.
فنهضت ذات البعل وجلست إلى البيانو ورفعت غطاءه، وبعد أن نظرت إلى العلامة التي في داخله قالت: إنه بيانو باريزي، لا جرم أن أحسن أجناسه إنما تصنع في باريز، غير أن في بعض الجهات في أوروبا يصنعون منه جنسًا حسنًا ما أمكن. ولقد نظرت في حوانيت «بك أوغلي» كثيرًا من هذه الآلات التي تنتسب إلى عدةِ أماكنَ، فسألت عما إذا كان يوجد مِن صُنع هذه البلاد، فأخبروني أنه لا يوجد، فتعجبت، ولأجل ذلك أسألك: ألا يصنعون عندكم من هذه الآلات؟!
فقلت لها: كلا؛ فإن المعامل عندنا لم تترقَّ الترقي المطلوب إلى هذا الحد، ولقد كانت هذه الأشياء في الأزمنة السالفة تُرسل من الشرق إلى أوروبا، فانعكس الموضوع وأصبحت ترد إلى الشرق من أوروبا!
قالت: هل إن البيانو أرسل إلى أوروبا من الشرق؟!
قلت: معلوم أن «شارلمان» كان أرسل بعض الهدايا إلى هارون الرشيد، وبالمقابلة أهداه هارون الرشيد ساعة وأرغونًا وبعض الأقمشة النفيسة، بحيث لما وصلت إلى أوروبا كان لها عند الأهالي وقع أشبه بالأمور السحرية، فكما أن الشرقيين يقلدون الأوروبيين في هذه الأيام، هكذا كان «شارلمان» في عصره يقلد الدولة العباسية بعلومها ومعارفها، إلا أنه لم يتوفق إلى ذلك، ولا يخفى أن الأرغون الذي يعزف به في كنائس أوروبا في الوقت الحاضر إنما ورد إليها من بغداد في الأزمنة السالفة. أما البيانو فليس إلا فرعًا منه.
قالت: يا عجبًا! أيُصنع إلى الآن «أرغون» في بغداد؟!
فقلت: كلَّا؛ فإنه ليس في بغداد حتى ولا مَن يعرف ما هو الأرغون!
قالت: إن ثروة البلاد إنما تحصل بترقي مثل هذه الصنائع والمعارف.
قلت: إن العلوم والمعارف والصنائع إنما هي مع المدنية نظير اللازم والملزوم تترقى بنسبة ترقي المدنية.
أما المدنية فهي نظير سائح يطوف العالم مصحوبًا بالعلوم والمعارف وسائر أنواع التجملات واللطائف؛ ففي الأزمنة المتوغلة في القدم جالت في مصر وبابل، ومرت في طريقها على البلاد اليونانية، حتى إذا سقطت هذه البلاد وصارت خرابًا؛ سارت إلى الإسكندرية وأشرقت أنوارها في حكومة الملوك البطالسة، وزادت أيامها رونقًا وبهاءً.
ثم ذهبت في أيام الدولة العباسية إلى العراق، وألقت عصا التسيار في بغداد مستعيضة بها عن بابل، ثم سرت أشعة عمرانها إلى إيران وتركستان، وفي خلال ذلك امتدت من جهة إلى العرب؛ فحلت في الأندلس.
ثم وردت على أوروبا فأشرقت فيها إشراقًا، وكما أن الحكماء المسلمين أخذوا العلوم الحكمية عن اليونانية، وأضافوا محصول أفكار الحكماء اليونانيين على اختراعاتهم، فوصلوا بالعلوم إلى درجة هي من الرفعة والتقدم بمكان عالٍ، هكذا فعل الأوروبيون؛ فإنهم رأوا محصول مساعي العرب حاضرًا مهيئًا؛ فصرفوا إليه أفكارهم وغاياتهم، ورفعوا بجدهم شأن العلوم والمعارف إلى درجة تحير العقول وتسحر الألباب. وفي الوقت الحاضر يوجد سهولة كلية للاستفادة من محصول مساعي الأوروبيين المشاهدة عيانًا لأجل انتشار العلوم والصنائع عندنا.
قالت: إذا كان الواقع هكذا؛ يلزم الاعتصام بأصدقائكم القدماء.
قلت: لا شك أننا راغبون فيهم في حضرة سلطاننا الحالي؛ فإنه منذ جلوسه الهمايوني قد تقدمت المعارف والصنائع في بلدنا تقدمًا خارقًا للعادة، ولا نرتاب أنه في وقت قريب نرى المعارف والصنائع إجمالًا بحالتي الكمال والإتقان، ولا جرم أن مجيء السواح من أصحاب المعارف نظيركن إنما هو علامة بينة على ما تقدم.
قالت ذات الخدر: إذا حسن لديك أعطنا نوطة يروق لديك نغمها، وشقيقتي تعزف فيها البيانو.
فلبيت الطلب وأتيتها بنوطة مخصوصة بالأوبرا، فأخذتها ذات البعل ولحنتها على البيانو بأحسن تلحين أطربنا وأدهشنا. ولعمر الحق، إنني إلى هذا العهد ما كنتُ سمعتُ بمثل عزفها، وقد كانت كلما جئناها بنوطة تبادر إلى تلحينها في الحال، فتحققت من ذلك أنها بلغت في هذا الفن الدرجة المطلوبة، ثم أطربتنا بإيقاع بعض الألحان المحفوظة في ذاكرتها، فجعلتنا حيارى من مهارتها، ثم أخذت الشقيقتان تعزفان على البيانو بوقت واحد؛ أي بأربع أيدٍ، مما يقال له بالفرنسية: «كاترمن»، فأطربتنا أيما إطراب، وشهدنا لذات الخدر أنها من البارعات جدًّا في هذا الفن.
فقلت لهما: ناشدتكما الله أن تُعفيانا من الإيقاع على البيانو بعد هذا الذي سمعناه.
قالت ذات البعل: إذا حسن أطربينا ببعض الأنغام التركية.
فقلت لها: لا بأس، إننا نلحن بعض الألحان التركية، وإذا شئت بآلة تركية.
قالت: أكون ممتنة للغاية.
وبعد أن وقَّعت والسيدتين «ص» و«ن» كل منا يفصل على البيانو من الأنغام التركية نهضت إحدانا إلى العود، والثانية: للكمنجة، والثالثة: للقانون، فوقع على هاته الآلات، فحينئذٍ سألتنا ذات البعل وشقيقتها عما إذا كان يمكن إيقاع الألحان الإفرنجية على العود والقانون مثل الكمنجة التي تلحن في هذه الألحان، فأجبتهما: إن ذلك ممكن على أن عند الوصول إلى نغمة سريعة تنفرد الكمنجة في الإيقاع، وبناء على ذلك أخذنا نلحن بعض القطع الإفرنجية الممكن تلحينها، ثم نهضت إلى البيانو ووقعت عليه بالاشتراك مع السيدة «ن»، التي كانت تُوقِّع على الكمنجة قطعًا إفرنجية، فقطعنا على هذه الصورة مرحلة من الوقت، وبعد مناولة الطعام أحضرنا للضيفات أثمارًا محلية، وجبنا محليًّا وزيتونًا ومقددات، وغيرها من الأشياء المسماة عندنا قهوة ألتي، فاستَحْسَنَّ جبننا كل الاستحسان، وأنبأننا أن مربياتنا مصنوعة على النسق الأوروبي تمامًا.
وجملة القول أنهن تناولن منها بكمال الشكر والتقدير، فجعلننا ممتناتٍ منهن امتنانًا لا مزيد عليه، ثم طفنا بهن في الحديقة، وخضنا عباب الحديث المعقود بأهداب الولاء، فلما أزفت الساعة الحادية عشرة موعد مجيء الوابور؛ تناولت كل منهن قبعتها وسترتها — وكانت الشقيقتان في خلال الحديث تتكلمان في اللغة الإنكليزية أحيانًا، وكان كلامهما يتعلق بالثناء علينا، وبيان امتنانهما منا، فالحمد لله أن كلامهما لم يكن علينا؛ لأن سماع المذمة مواجهة مما لا تصبر عليه النفوس الأبية!
ولما كان احترام الضيف دينًا واجبًا كان عدم مقابلة احترامها بالمثل مما يؤثر في قلوبنا كل التأثير، وقد تصورت السيدة «ص» أن تبدي امتنانها للضيفات بلهجة إنكليزية فصحى، غير أن تسترها في أثناء الاجتماع منعها عن إيفاء هذا الواجب؛ لعلمها أن التظاهر بمعرفة الإنكليزي بعد التجاهل به لا يكون مشكورًا.
وقد صرفنا ذاك النهار بالسرور والانشراح؛ فإننا قطعنا قسمًا منه؛ أي من الصباح إلى الظهر، بمنتهى ما يكون من الحبور، حتى إذا جاءت السائحات الإفرنجيات صرفنا القسم الباقي على نغمات الألحان؛ فكان ذلك من ألطف الصدف.
أما السيدتان «ص» و«ن» فإنهما بقيتا تلك الليلة عندنا؛ لأنهما من جهة لم يريدا ترك تلك الجمعية، ومن جهة أخرى لم يتيسر لهما وابور بعد ذهاب الضيفات، فصرفنا تلك الليلة كما صرفنا ذاك النهار بغاية ما يمكن من إمرار الوقت بالسرور، وقد كنا في أثناء حديثنا مع الضيفات المومى إليهن بيَّنَّا لهنَّ أن سنصرف ليلة لطيفة مع رفيقاتنا المذكورات.
ثم قالت السيدة «ن»: إن طالعنا اليوم فتح بالزهو والمسرات، فهل من ساعة أشرف منها؟!
فقلت لها: لا جرم أننا لو قصصنا حوادث هذا النهار على أحد المنجمين لأنبأنا أن طالعنا اليوم في برج الدلو من البروج الهوائية، ولكان أفاض في بيان أن السعد يتناظر في بيت شرفه مع عطارد، وأن السعد الأكبر ناظر إليه بعين المودة والولاء، وإلى غير ذلك من الاصطلاحات الفلكية. لا جرم أن هاته الأشياء إنما هي اتفاق حسن؛ فنسأل الله أن يحفظنا من الصدف المعكوسة والمنكوسة.
وحقيقة ما يقال أخيرًا: إننا صرفنا هذا النهار — والحمد لله — على أحسن حال من الزهو والسرور. انتهى.
(٢٤) فاطمة بنت الأمير أسعد الخليل
هي بنت الأمير أسعد الخليل، أحد أمراء الشيعة القاطنين في جبل عامل من أعمال سورية، وهو من كبراء عائلة علي صغير. ولدت سنة ١٢٥٦ من الهجرة، وتوفي والدها وهي صغيرة جدًّا؛ فتولى تربيتها شقيقها الأمير محمد بك الأسعد.
فلما بلغت سن التعليم سلَّمها للمعلمين لتدرس العلوم، فتلقت جملة علوم في أقرب وقت، وكانت ذات عقل وفطنة، ونباهة وكياسة، فحفظت القرآن الشريف، ودرست التفاسير الجمة، وأخذت الدروس الفقهية على أشهر العلماء الشيعية، ودرست النحو والصرف والبيان حتى فاقت نساء عصرها وأهل جلدتها، فذاع صيتها في الآفاق، ولما بلغت الثامنة عشرة من سنيها؛ تقدم إليها الأمير علي بك الأسعد بالخطوبة، فأنعم له شقيقها بها.
وكان الأمير المذكور حاكمًا على بلاد بشارة، ومحل إقامته «تبنين» التي هي قاعدة بلاد بشارة. وتلك القلعة بناها «هيوسنت أومر» صاحب طبرية سنة ١١٠٧م، وجعلها معقلًا لغزو صور وما يليها، وهي على مرتفع صعب المرتقى في وسط بقعة خصبة وعامرة بين الجبال، تكثر فيها الكروم والثمار والغابات، ويسميها الإفرنج «طورون»، وكانت حصنًا منيعًا مهمًّا، وسمى بها عائلة أصحابها.
وسنة ١٥٥١م، أقيم «هونفردي» صاحب «تبنين» عاملًا للملك «بلدوين الثالث»، وقد فتح هذه البلاد صلاح الدين الأيوبي سنة ١١٨٧م، الموافقة لسنة ٥٨٣ هجرية، وذلك أنه قد سيَّر إليها ابن أخيه تقي الدين ففتحها وأخرج الإفرنج منها.
وسنة ٥٩٤ﻫ، كانت «تبنين» بيد الملك العادل ابن صلاح الدين، فرحل إليها الإفرنج وحاصروها وقاتلوا من بها، وجدُّوا في القتال ونقبوا الحصن من جهاتهم، فلما رأى من بالقلعة ذلك خافوا على أنفسهم وأموالهم، فنزل بعضهم يطلب الأمان على أنفسهم وأموالهم؛ ليستلموا القلعة، فقال لهم بعض الإفرنج: إن سلَّمتهم استأسركم صاحب الجيش وقتلكم، فعادوا وأصروا على الامتناع، وقاتلوا قتال مَن يحمي نفسه، وكان الملك العادل قد كاتب أخاه الملك العزيز بمصر فسار مجدًّا حتى وصل إلى عسقلان.
فلما علم الإفرنج ذلك، وأن ليس لهم ملك أرسلوا إلى ملك قبرص وزوَّجوه ملكتهم، وكان هذا محبًّا للسلم، فكف عن حصار «تبنين»، ثم اصطلحوا مع الملك العادل وتعاقبت الملوك والأمراء على تملك تلك القلعة مدة مديدة، حتى تملكها أمراء بيت علي صغير المذكورين، الذين منهم الأمير علي بك الأسعد، وكانت السيدة فاطمة من تلك العائلة. وإنهم كانوا في ذاك الوقت يحافظون على نسبهم الشريف من أن يخلطوا به نسبًا آخر من عامة الناس، ولا يزوجون إلا لبعضهم البعض.
وكان الأمير علي بك الأسعد إذ ذاك كبير تلك العائلة مقامًا ورفعة، وهو الحاكم الوحيد على بلاد بشارة من قبل الدولة العلية، وكان مشهورًا بالكرم وحسن السياسة، ومتصفًا بالعدل في أحكامها، ولما زفت إليه السيدة فاطمة نقلها من «الطيبة» — التي هي بلد والدها، ومسقط رأسها، ومنبت صباها، ومهد طفولتها — إلى «تبنين»، فشق ذلك على شقيقها محمد بك الأسعد وعلى أهلها وأهل بلدتها؛ لأنها كانت محسنة إلى الفقير من أهل البلد، ومعينة للمسكين، وعائدة للمريض، وكان يحبها كلُّ مَن في تلك البلدة، وكان شقيقها يعتمد عليها في بعض الآراء الإدارية وغيرها على صغر سنها.
ولما نقلت إلى «تبنين» نالت بحسن آدابها، وكمال عقلها، ورقة لطفها، ونضارة جمالها، حظوة عظيمة عند زوجها حتى ملكت زمام الأمور، فضلًا عن تملُّكها فؤاد زوجها، وتقلدت إدارة الأشغال المنزلية، وفازت على كل نسائه وأهل ذاك النادي، فلما رأى منها علي بك ذلك الحزم والعزم، الذي يفوق حزم أعاظم الرجال، أحبَّ مشاركتها في الأحكام، واعتمد على آرائها السديدة، فتعاطت الأحكام مع زوجها، وشاركته بالرأي، وحكمت وعدلت في حكمها بين الناس، حتى أحبها الكبير والصغير، والغني والفقير، ولم يغيرها في مركزها الحقيقي ما صارت إليه من الدولة والسلطة عن حبها لفعل الخير والإحسان إلى الفقراء، كما كانت تفعل في بيت أبيها، بل جعلت في دارها محلًّا مخصوصًا لتربية الأولاد اليتامى وأولاد السبيل، وشهرت بفعل الخير، وقصدها المضطرون، ولجأ إليها الخائفون.
وكل ذلك لم يبذل لها حجاب، بل كانت تتعاطى الأحكام من وراء الحجاب، وتنظر في الدعاوى داخل الحجاب، وكان كلُّ مَن في ديوان الأمير علي بك يعجبون بآرائها، وسمو أفكارها لدقائق من الأمور الغامضة من الأحكام الشرعية، ولم تزل كذلك إلى سنة ١٢٨١ هجرية، وكان البك المومى إليه قد تأخَّر عليه شيء من الأموال الأميرية؛ لأن كرمه الحاتمي كان يضطره إلى ذلك؛ حيث إنه كان في دولة عظيمة، وكان إذا ركب يركب معه فوق المائتي فارس من حشمه، وذلك خلاف الخدم والسُّيَّاس والعمال والطباخين والفراشين، وما يتبع دائرة الحريم من وكلاء وخدم وطباخين وغير ذلك.
وكان في قلعة «تبنين» محلٌّ للضيوف يسع ألفي شخص، وفيه من المفروشات والأثاث ما يليق بذلك القصر الفاخر، كل غرفة بما يلزم لها لراحة الضيوف، وله فراشون مختصون لخدمة الضيوف فقط، والطباخون كذلك، غير الذين يخدمون المقيمين من العائلة، وكل هؤلاء الأتباع لهم الرواتب من دائرة الأمير المومى إليه، وكانت تأتي الشعراء والطالبون من كل صوب، وهو لا يرد أحدًا بدون جائزة، ويفد إليه الزائرون من كل المدن الشهيرة من كبار المتوظفين وغيرهم يمضون عنده فصل الصيف في القلعة؛ لحسن هوائها، وطيب مركزها، وخصب تربة تلك الأراضي والجبال النضرة.
وقد كان له حساد وأعداء من أقرب الناس إليه قد أضمروا له الضغينة، وألقوا الدسائس؛ حسدًا منهم لما ناله من المجد والرفعة، وعملوا على إلقاء القبض عليه ومحاسبته على الأموال الأميرية، فحوسب في مدة ثمانية شهور وهو تحت الحجز، وظهر طرفه مبالغ جسيمة.
فقامت السيدة فاطمة في أثناء ذلك بأعباء هذا الحمل الثقيل، وتدبرت الأموال المطلوبة من بعلها، وقد جمعتها من مالها وأموال عائلتها، وباعت حُليها وحُلي كل امرأة في دائرتها؛ حتى تمكنت من سداد تلك الأموال المطلوبة، وكانت تفعل ذلك بكل حزم يفوق شهامة الرجال، وصدر الأمر بخلاصه في أواخر سنة ١٢٨١ هجرية.
وبعد ذلك أراد الرجوع إلى وطنه من محل ما كان محجورًا عليه، وهي قلعة دمشق الشام، فدخلت سنة ١٢٨٢ هجرية التي جاء فيها الوباء العام المشهور بالكوليرا، وهنالك قبل انتقاله إلى وطنه أصيب بالكوليرا بدمشق الشام، ومكث ثلاثة أيام، وتوفَّاه الله تعالى.
وكان برفقته أخوها الأمير محمد بك الأسعد، فأصيب الأمير أيضًا بهذا الداء ولحق بابن عمه، وكانت وفاتهما في أسبوع واحد، تاركين لآلهما الحزن الطويل، فكانت نكبة عظيمة على السيدة فاطمة المذكورة، ونكبت تلك العائلة أيضًا بوفاة أميرها، فلازمت المُترجَمة الأحزان والأكدار بسبب فقد بطليها: الزوج والأخ في آن واحد، وانقطعت إلى «الزريرية» — وهي مزرعة من مزارع زوجها — فاقتسمت ما يخصها ويخص بناتها الثلاثة؛ لأنها كانت ولدت له جملة أولاد من ذكور وإناث فلم يعش لها إلا هؤلاء الثلاث بنات.
وكان للأمير علي بك أولاد من غيرها — ذكور وإناث أيضًا — فضمتهم جميعًا بحسن إدارتها إلى بعضهم، وقسمت عليهم الأرض بحسب الفريضة الشرعية، بدون أن تجعل للحكومة مدخلًا في ذلك، وشرعت في بناء دار لكل من أولادها وأولاد زوجها للسكنى، وأرضت الكلَّ بحسن تدبيرها وسداد رأيها، وأتمت ذلك البناء على ما أحب الأولاد.
وخصصت من مالها شيئًا مخصوصًا لتربية اليتامى، وفك كرب المكروب، وقسَّمت وقتها بين سكناها بالزريرية والطيبة عند شقيقها الأصغر الأمير خليل بك الأسعد، ولم تزل — حفظها الله — على هذه السجايا الحسنة إلى الآن يضرب بها المثل في تلك الأصقاع.
ولها في الشعر شيء قليل، وأما في النثر فيشهد لها اليراع، وتنطق لها الطروس.
(٢٥) فكيهة جارية أحيحة بن الجلاح
كانت أحسن الناس صوتًا في زمانها، وأعلمهم في ضروب الغناء وأنواعه، وكانت قينات المدينة يأخذن عنها فنون هذا العلم، ومن حسن صوتها قد افتتن بها كثير من النساء والشبان، ولها حكاية مع تُبَّع لطيفة نذكرها لحسن موقعها، وثبات جأش تلك الجارية، وهي: أن تبعًا أبا كرب بن حسان بن سعد الحميري كان سائرًا من اليمن يريد المشرق كما كانت التبابعة تفعل قبله، فمرَّ بالمدينة، فخلف بها ابنًا له ومضى حتى قدم الشام، ثم سار من الشام حتى قدم العراق، فنزل بالمشقر، فقتل ابنه غيلة بالمدينة، فبلغه وهو بالمشقر فكرَّ راجعًا إلى المدينة وهو يقول:
ثم أقبل حتى دخل المدينة وهو مجمع على خرابها، وقطع نخلها، واستئصال أهلها، وسبي الذرية، فنزل بسفح أُحد فاحتفر بها بئرًا — وهي البئر التي يقال لها إلى اليوم: بئر الملك — ثم أرسل إلى أشراف أهل المدينة ليأتوا، فكان فيمن أرسل إليه زيد بن أمية بن زيد، وابن عمه زيد بن ضبيعة بن زيد بن عمرو بن عوف، وابن عمه زيد بن أمية بن زيد، وابن عمه زيد بن عبيد بن زيد — وكانوا يسمون الأزياد — وأحيحة بن الجلاح، فلما جاء رسوله قال الأزياد: إنما أرسل إلينا ليملكنا على أهل يثرب.
فقال أحيحة: والله ما دعاكم لخير، وقال: ليت حظي من أبي كرب أن يرد خبره جبله. فذهبت مثلًا، فخرجوا إليه، وخرج أحيحة ومعه فكيهة جاريته وخباء وخمر، فضرب الخباء وجعل فيه الجارية والخمر.
ثم خرج حتى استأذن على تُبَّع فأذن له وأجلسه معه على زُرْبيَّة تحته، وتحدث معه وسأله عن أمواله بالمدينة، فجعل يخبره عنها، وجعل تُبَّع كلما أخبره عن شيء منها يقول: كل ذلك على هذه الزُّرْبيَّة. يريد بذلك تُبَّع قَتلَ أحيحة، ففطن أحيحة أنه يريد قتله فخرج من عنده، فدخل خباءه فشرب الخمر وقرض أبياتًا وأمر فكيهة أن تغنيه بها، وجعل تبع عليه حرسًا. والأبيات هي:
فلم تزل فكيهة تغنيه بذلك يومه وعامة ليلته، فلما نام الحرس قال لها: إني ذاهب إلى أهلي فسدِّي عليك الخباء، فإذا جاء رسول الملك فقولي: هو نائم، فإذا أبوا إلا أن يوقظوني فقولي: قد رجع إلى أهله وأرسلني إلى الملك برسالة، فإن ذهبوا بك إليه فقولي له: يقول لك أحيحة: اغدر بقينة أو دع! ثم انطلق فتحصن في أطمة الضحيان، وأرسل تبع من جوف الليل إلى الأزياد فقتلهم على قفارة من قفار تلك الحرة، وأرسل إلى أحيحة ليقتله، فخرجت إليهم فكيهة فقالت: هو راقد. فانصرفوا وترددوا عليها مرارًا، كل ذلك تقول: هو راقد، ثم عادوا فقالوا: لتوقظنه أو لندخلن عليك.
قالت: فإنه قد رجع إلى أهله وأرسلني إلى الملك برسالة، فذهبوا بها إلى الملك، فلما دخلت عليه سألها عنه فأخبرته خبره وقالت: يقول لك: اغدر بقينة أو دع. فذهبت كلمة أحيحة هذه مثلًا، فجرد له كتيبة من خيله، ثم أرسلهم في طلبه، فوجدوه قد تحصن في أطمة، فحاصروه ثلاثًا يقاتلهم بالنهار، ويرميهم بالنبل والحجارة، ويرمي إليهم بالليل بالتمر! فلما مضت الثلاث رجعوا إلى تبع فقالوا: تبعثنا إلى رجل يقاتلنا بالنهار، ويضيفنا بالليل؟! فتركه وانصرف.
(٢٦) فريدة مولاة آل الربيع
هي مولدة نشأت بالحجاز ثم وقعت إلى آل ربيع، فعلمت الغناء في دورهم، ثم صارت إلى البرامكة، فلما قتل جعفر بن يحيى ونكبوا هربت، وطلبها الرشيد فلم يجدها، ثم صارت إلى الأمين.
فلما قتل خرجت فتزوجها الهيثم بن مسلم، فولدت له ابنه عبد الله، ثم مات عنها فتزوجها السندي بن الجرشي وماتت عنده، ولها صنعة جيدة في شعر الوليد بن يزيد:
ومن صنعتها أيضًا:
(٢٧) فريدة جارية الواثق
كانت لعمرو بن بانة، وهو أهداها إلى الواثق، وكانت من الموصوفات المحسنات، وكانت حسنة الوجه، حسنة الغناء، حادة الفطنة والفهم، وتزوجها المتوكل بعد الواثق.
وقال صاحب «الأغاني» عن محمد بن الحارث إنه قال: كانت لي نوبة في خدمة الواثق في كل جمعة إذا حضرت ركبت إلى الدار؛ فإن نشط إلى الطرب أقمت عنده، وإن لم ينشط انصرفت.
وكان رسمنا أن لا يحضر أحدنا إلا بنوبته، فإني لفي منزلي في غير يوم نوبتي إذ أرسل الخليفةُ مَن هجموا عليَّ وقالوا لي: أجب أمير المؤمنين! فقلت: هذا اليوم لم يحضرني أمير المؤمنين قط؛ لعلكم غلطتم!
فقالوا: الله المستعان، لا تُطوِّل وبادرْ؛ فقد أمرنا أن لا ندعك تستقر على الأرض! فداخلني فزع شديد وخِفْتُ أن يكون ساعٍ قد سعى بي، أو بلية حدثت في رأي الخليفة عليَّ! فتقدمت بما أردت وركبت حتى وافيت الدار، فذهبت لأدخل على رسمي من حيث كنت أدخل فمُنعت، وأخذ بيدي الخدم فأدخلوني وعدلوا بي إلى طرق لا أعرفها، فزاد ذلك في جزعي وغمي!
ثم لم يزل الخدم يسلمونني من خدم إلى خدم حتى أفضيت إلى دار مفروشة الصحن، ملبسة الحيطان بالوشي المنسوج بالذهب، ثم أفضيت إلى رواقٍ أرضه وحيطانه ملبسة بمثل ذلك، وإذا بالواثق في صدره على سرير مرصع بالجواهر، وعليه ثياب منسوجة بالذهب، وإلى جانبه فريدة جاريته عليها مثل ثيابه، وفي حجرها عودٌ، فلما رآني قال: جودت والله يا محمد، إلينا إلينا. فقبَّلتُ الأرض ثم قلت: خيرًا يا أمير المؤمنين؟! قال: خيرًا أرى؛ أما تنظر ما نحن فيه؟! أنا طلبتُ والله ثالثًا يؤانسنا فلم أرَ أحقَّ منك، فبحياتي بادِرْ فكُلْ شيئًا من الطعام، وبادرْ إلينا، فقلت: قد والله يا سيدي، أكلتَ وشربتَ أيضًا.
قال: فاجلس، فجلست، وقال: هاتوا لمحمد رطلًا في قدح، فأُحضر ذلك، ثم قال لفريدة: غنِّي، فغنَّت:
فجاءت والله بالسحر، وجعل الواثق يجاذبها، وفي خلال ذلك تغني الصوت بعد الصوت، وأغني أنا في خلال غنائها، فمر لنَّا أحسن ما مرَّ لأحد، فإنَّا لكذلك إذ رفع رجله فضرب صدر فريدة بها ضربة تدحرجت من أعلى السرير إلى الأرض، وتفتت عودها! ومرت تعدو وتصيح، وبقيت أنا كالمنزوع الروح، ولم أشك أن عينه وقعت إليَّ وقد نظرتُ إليها ونظرتْ إليَّ، فأطرق ساعة إلى الأرض متحيرًا، وأطرقت أتوقع ضرب العنق؛ فإني لكذلك إذ قال: يا محمد، فوثبت.
فقال: ويحك! أرأيت أغرب مما تهيَّأ علينا! فقلت: يا سيدي، الساعة والله تخرج روحي، فعلى من أصابنا بالعين لعنة الله، فما كان سبب الذنب؟!
قال: لا والله، ولكن فكرت أن جعفرًا يقعد هذا المقعد، ويقعد معها كما هي قاعدة معي، فلم أُطق الصبر، وخامرني ما أخرجني إلى ما رأيت! فسُرِّي عني وقلت: بل يقتل الله جعفرًا ويحيا أمير المؤمنين أبدًا! وقبَّلت الأرض وقلت: يا سيدي، الله الله، ارحمها ومُرْ بردِّها، فقال لبعض الخدم الوقوف: مَن يجيء بها؟ فلم يكن بأسرع من أن خرجت وفي يدها عودها، وعليها غير الثياب التي كانت عليها قبلُ، فلما رآها جذبها وعانقها، فبكَتْ وجعَل هو يبكي، واندفعت أنا بالبكاء!
فقالت: ما ذنبي يا مولاي؟! وبأي شيء استوجبت هذا؟! فأعاد عليها ما قاله لي وهو يبكي وهي تبكي أيضًا!
فقالت: سألتك بالله، يا أمير المؤمنين، إلا ضربتْ عنقي الساعة، وأرحتني من هذا الفكر، وأرحت نفسك من الهمِّ بي، وجعلتْ تبكي وهو يبكي!
ثم مسحا أعينهما، ورجعت إلى مكانها، وأومأ إلى الخدم الوقوف بشيء لا أعرفه، فمضوا وأحضروا أكياسًا فيها دراهم ودنانير ورزمًا فيها ثياب كثيرة، وجاء خادم بدرج ففتحه وأخرج منه عقدًا ما رأيت قط مثل جوهره، فألبسها إياه، وأُحضرت بدرة فيها عشرة آلاف درهم فجُعلتْ بين يدي، وخمسة تخوت فيها ثياب، وعدنا إلى أمرنا وإلى أحسن مما كنا، فلم نزل كذلك إلى الليلة.
ثم تفرقنا وضرَب الدهر ضرْبه وتقلَّد المتوكل، فوالله إنني لفي منزلي بعد توبتي إذ هجم علي رسول الخليفة، فما أمهلوني حتى ركبتُ! وصرتُ إلى الدار فأُدخلتُ والله الحجرة بعينها، وإذا المتوكل في الموضع الذي كان فيه الواثق على السرير بعينه، وإلى جانبه فريدة، فلما رآني قال: ويحك! أما ترى ما أنا فيه مِن هذه؟! أنا منذ غدوة أطالبها بأن تغنيني فتأبى ذلك؟! فقلت لها: يا سبحان الله! أتخالفين سيدك وسيدنا وسيد البشر؟! بحياتي غني! فعرفت والله أنه تم التفاؤل، ثم اندفعت تغني:
ثم ضربت بالعود الأرض ورمت بنفسها عن السرير، ومرت تعدو وهي تصيح: وا سيداه!
فقال لي: ويحك! ما هذا؟! فقلت: لا أدري والله يا سيدي، فقال: فما ترى؟ فقلت: أرى أن أنصرف أنا وتحضر هي ومعها غيرها؛ فإن الأمر يئول إلى ما يريد أمير المؤمنين، قال: فانصرف في حفظ الله، فانصرفت ولم أدر ما كانت القصة.
وقال محمد بن عبد الملك: سمعت فريدة تغني:
قال: فما سمعت قبله ولا بعده غناء أحسن منه. وقال عمرو بن بانة: غنيت أمام الواثق يومًا:
فقال لي: تقدم إلى الستارة فألقه على فريدة، فألقيته عليها، قالت: هو خلي أو خلٍّ؛ كيف هو؟ فعلمت أنها سألتني عن صاحبة لها اسمها خل، وكانت ربية معها، وأخفت ذلك عن الواثق.
وبقيت مدة في دار خلافة الواثق حتى ماتت عنده.
(٢٨) فضل المدنية
كانت حاذقة بالغناء، كاملة الخصال، وأصلها لإحدى بنات هارون الرشيد، ونشأت وتعلمت ببغداد، ودرجت من هناك إلى المدينة المنورة، فازدادت طبقتها في الغناء، وأخذ عنها جملة من المغنين، ولها أصوات حسنة مذكورة بالأغاني، وبقيت بالمدينة إلى أن ماتت بها.
(٢٩) فضل الشاعرة
كانت فضل جارية مولدة من مولدات البصرة، وكانت أمها من مولدات اليمامة، بها ولدت ونشأت في دار رجل من عبد القيس، وباعها بعد أن أدبها، وخرجت واشتُريت وأُهديت إلى المتوكل، وكانت هي تزعم أن الذي باعها أخوها، وأن أباه وطئ أمها فولدتها منه، فأدَّبها وخرَّجها معترفًا بها، وأن بنيه من غير أمها تواطئوا على بيعها وجحدها، ولم تكن تُعرف بعد أن أعتقت إلا بفضل العبيدية، وكانت حسنة الوجه والجسم والقوام، أديبة، فصيحة، سريعة البديهة، مطبوعة في قول الشعر، ولم يكن في نساء زمانها أشعر منها.
قال أحمد بن أبي طاهر: كانت فضل الشاعرة مع رجل من النخاسين بالكرخ يقال له: حسنويه، فاشتراها محمد بن الفرج أخو عمر بن الفرج الراجحي وأهداها إلى المتوكل، فكانت تجلس للرجال، ويأتيها الشعراء، فألقى عليها يومًا أبو دلف القاسم بن عيسى:
فقالت فضل مجيبة له:
ولما دخلت على المتوكل يوم أهديت إليه قال لها: أشاعرة أنت؟ قالت: كذا زعم مَن باعني واشتراني، فضحك وقال: أنشدينا شيئًا من شعرك، فأنشدته:
فاستحسن الأبيات وأمر لها بخمسة آلاف درهم، وأمر عريب فغنَّت فيها.
وكان المعتمد بن المتوكل عرضت عليه جاريته وهو صغير في خلافة أبيه، فاشتط مولاها في السوم فلم يشترها، وخرج بها مولاها إلى ابن الأغلب، فبيعت هناك.
ولما ولي المعتمد الخلافة سأل عن خبرها فقيل له: إنها بيعت وأولدها مولاها الذي اشتراها، فقال لفضل: قولي فيها شيئًا، فقالت:
وكتب محمد بن العباس الزيدي يومًا لها هذه الأبيات:
فأجابته:
وكانت تهوى أحد جلسائها في مجلس الخليفة، والخليفة لا يعلم ذلك، فكتب لها خليلها يومًا رقعة وسلَّمها لها بحيث لا أحد يراهما، فلما فضَّتها وجَدت فيها:
فكتبت إليه:
ومرة اتكأ المتوكل على يدها ويد بنان الشاعر وجعل يمشي في داره وقال لهما: أجيزا إلي قول الشاعر:
فقالت فضل:
فقال بنان:
وألقى أحد أصحاب أحمد بن أبي طاهر عليها يومًا:
فقالت بديهة:
وكان علي بن الجهم يومًا عند فضل الشاعرة فلحظها لحظة استرابت بها فقالت:
فقال مجيبًا لها:
فضحكت وقالت: خذ في غير هذا الحديث.
وكان بينها وبين سعيد بن حميد الشاعر مراسلات ومواصلات أدبية، فحضر مجلسها يومًا ومعه بنان، فأقبلت على بنان وتركته، وذهب مغاضبًا لها، وظهر لها في وجهه ذلك فكتبت إليه:
فكتب إليها سعيد:
وجاءها أبو يوسف بن الدقاق الضرير وأبو منصور الباخرزي زائرين، فحجبا عن الدخول إليها، ولما رجعا وعلمت بمجيئهما وانصرافهما قبل مقابلتها غمها ذلك، فكتبت إليهما تعتذر:
فكتب إليها أبو منصور الباخرزي:
وقال المتوكل يومًا لعلي بن المنجم: كان بيني وبين فضل موعد، وقبل مجيئها قد شربت وسكرت فنمت، وجاءت فضل للموعد فحركتني بكل ما ينتبه به النائم فلم أنتبه، فلما علمت أن لا صلة لها فيَّ كتبتْ رقعة ووضعتها على مخدتي وانصرفت، فلما انتبهت وجدتها، فإذا مكتوب فيها:
وكانت فضل تهاجي خنساء جارية هشام المكفوف — وكانت شاعرة — فكان أبو شبل عاصم بن وهب يعاون فضلًا عليها ويهجوها مع فضل، وكان القصيدي والحفصي يعينان خنساء على فضل وأبي شبل، فقال أبو شبل على لسان فضل:
فقالت خنساء تجيبها:
وقالت فضل في خنساء:
وقالت خنساء في فضل وأبي شبل:
وقالت خنساء تهجو أبا شبل لمساعدته فضل عليها:
ولما وصلت هذه الأبيات إلى أبي شبل غضب منها ولم يجب عليها، وقال يهجو مولاها هشامًا:
وزارت فضل سعيد بن حميد ليلة على موعد بينهما، فلما حصلت عنده جاءتها جاريتها مبادرة تعلمها أن رسول الخليفة قد جاء يطلبها، فقامت مبادرة فمضت، فلما كان من غد كتب إليها ابن حميد:
وقال لها عبيد بن محمد صبيحة قتل المنتصر والمعتز: ماذا نزل بكم البارحة؟ فقالت:
وخرجت فيحة جارية المتوكل إلى سيدها يوم نيروز وبيدها كأس بلور بشراب صافٍ، فقال لها: ما هذا فديتُكِ؟ قالت: هديتي لك في هذا اليوم — عرَّفك الله بركته — فأخذها من يدها ونظر إليها، فإذا مكتوب على خدها نقطة جعفر بالمسك، فشرب الكأس وقبَّل خدها، وكانت فضل الشاعرة واقفة على رأسه فقالت:
ثم قالت أيضًا:
فلما سمع المتوكل هذه الأبيات طرب طربًا شديدًا، وأمر فغني بها، وأنعم على فضل إنعامًا زائدًا.
وكتبت فضل إلى سعيد بن حميد يومًا:
فأجابها سعيد في وقتها:
قال ابن أبي المدور الوراق: كنت يومًا عند سعيد بن حميد، وكان قد ابتدأ ما بينه وبين فضل يتشعب، وقد بلغه ميلها إلى بنان المغني وهو بين المصدق والمكذب بذلك، فأقبل على صديق له فقال: قد أصبحت والله من أمر فضل في غرور؛ أخادع نفسي بتكذيب العيان، وأُمنِّيها ما قد حيل دونه، والله إن إرسالي بعدما قد لاح من تغيرها لذُلٌّ، وإن عدولي في أمرها مُشبهٌ بالعجز، وإن تصبري لمن دواعي التلف، ولله در محمد بن أمية حيث يقول:
قال ابن المنجم: غضب بنان المغنى على فضل الشاعرة في أمر أنكره عليها، فاعتذرت إليه فلم يقبل معذرتها، فأنشدت في ذلك مصبرة نفسها:
وقال المتوكل لعلي بن الجهم: قل بيتًا وطالِبْ فضل الشاعرة بأن تجيزه، فقال علي: أجيزي يا فضل:
فأطرقت هنيهة ثم قالت:
فطرب المتوكل وقال: أحسنت وحياتي! وأمر لها بمائتي دينار، وأمر عريب فغنت بها.
وكتب سعيد بن حميد إلى فضل رقعة قال في آخرها:
قال إسحاق بن مسافر: كنت يومًا عند سعيد بن حميد إذ دخلت عليه فضل على غفلة، فوثب إليها وسلَّم عليها وسألها أن تقيم عنده، فقالت: قد جاءني — وحياتك — رسول من القصر، فليس يمكنني الجلوس، وكرهت أن أقيم ببابك ولا أراك، فقال سعيد من وقته على البديهة:
وتغاضب سعيد بن حميد وفضل أيامًا ثم كتب إليها:
فسارت إليه وصالحته.
وكان سعيد بن حميد صديقًا لأبي العباس بن ثوابة، فدعاه يومًا وجاءه رسول فضل يسأله المصير إليها، فمضى معه وتأخر عن أبي العباس، فكتب إليه رقعة يعاتبه معاتبة فيها بعض الغلظة، فكتب إليه سعيد:
وحضر سعيد يومًا في منزل بعض إخوانه فوجد عندهم فضل، فأقام معهم عامة يومهم، وآخر النهار غضبت منهم على النبيذ، ثم انصرفوا وهم على ذلك، وبعد أيام اجتمع سعيد مع إخوانه المذكورين وتصادف مجيء فضل على غير موعد، فدخلت عليهم وسلَّمت عليهم سواه، فقالوا لها: أتهجرين أبا عثمان؟ فقالت: أحب أن تسألوه أن لا يكلمني! فقال سعيد:
فوثبت إليه وقبَّلت رأسه وقالت: لا أهجرك والله أبدًا ما حييت! وبعد ذلك بمدة غضبت عليه فكتب إليها:
فراجعت وصله وسارت إليه جوابًا لرقعته.
وكان سعيد يومًا في مجلس الحسن بن مخلد إذ جاءه غلام برقعة فضل، فقرأها وضحك، فقال الحسن بن مخلد: بحياتي عليك أقرِئنيها، فدفعها إليه فقرأها، وإذا هي تشكو فيها شدة شوقها إلى سعيد، فضحك وقال: قد وحياتي ملحت؛ فأجبْ، فكتب إليها:
فلما وصل إليها الجواب طاب قلبها وسارت إليه، وأقامت عنده عامة النهار وكرَّت راجعة، ولما تعشقت بنان بن عمر المغني وعدلت عن سعيد أسف عليها وأظهر تجلدًا، ثم قال فيها:
قال محمد بن السري: إنه توجه إلى سعيد بن حميد في حاجة له، فوجده في منزل الحسن بن مخلد فقصده، وإذا برسول فضل ناوله رقعة منها، وفيها الأبيات التي أرسلتها إلى محمد بن العباس اليزيدي وأولها:
وفي آخرها: أنا يا أبا عثمان في حال التلف ولم تَعُدني ولا سألت عن خبري، فأخذ بيد ابن السري ومضيا إليها، فسألها عن خبرها فقالت: هو ذا أموت وتستريح مني! فأنشأ يقول:
وبلغها حينما كانت مائلة إلى بنان أن سعيدًا عشق جارية من جواري القيان فكتبت إليه:
وافتصد سعيد بن حميد يومًا فقالت فضل لعريب: وهل لك أن نذهب فنزور سعيدًا؟ قالت لها: فلا مانع من ذلك، وأرسلت إليه قبل زيارتها هدايا منها ألف جدي وجمل وألف دجاجة فائقة، وألف طبق ريحان وفاكهة، ومع ذلك طيب كثير وشراب وتحف حسان! فكتب إليها سعيد: وإن سروري لا يتم إلا بحضورك! فجاءته في آخر النهار وجلست معه على الشراب وغنَّتهم عريب بما لزم.
فبينما هم كذلك وإذا بالغلام يستأذن لبنان، فأذن له فدخل إليهم، وإذا هو شاب طرير حسن الوجه، حسن الغناء، نظيف الثياب، شكل، فذهب بفضل كل مذهب، فأقبلت عليه بحديثها ونظرها، فتنمر سعيد واستطير غضبًا، وتبين بنان القصة فانصرف، وأقبل عليها سعيد يعذلها ويؤنبها ساعة، ثم أمسك، فقالت منشدة:
فقام سعيد وقبل رأسها وقال: لا عقوبة عليه، بل نحتمل هفوته، ونتجافى عن إساءته. وغنت عريب في هذا الشعر، وشربوا عليه بقية يومهم، ثم افترقوا وأثر بنان في قلبها، وعلقت به، ثم لم تزل حتى واصلته وقطعت سعيدًا!
وكان إبراهيم بن المهدي يقول: إن فضل كانت من أحسن خلق الله خطًّا، وأفصحهم كلامًا، وأبلغهم في مخاطبة، وأثبتهم في محاورة، فقال يومًا لسعيد بن حميد: أظنك يا أبا عثمان تكتب لفضل رقاعها وتجيدها وتخرجها، فقد أخذت نحوك في الكلام، وسلكت سبيلك، فقال له وهو يضحك: ما أخيب ظنك! ليتها تسلم مني لآخذ كلامها ورسائلها، والله يا أخي لو أخذ أفاضل الكتاب وما ماثلهم عنها لما استغنوا عن ذلك. انتهى.
(٣٠) فضة النوبية
هي جارية السيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله ﷺ، كانت من النساء العاقلات الصادقات، وقد اشتهرت بالفضيلة، وقيل: «عن أبي العباس في قوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (الإنسان: ٧-٨)، قال: مرض الحسن والحسين، فعادهما جدهما ﷺ، وعادهما عامة العرب فقالوا: يا أبا الحسن، لو نذرت على ولدك نذرًا.
فقال علي: إن بَرِءا مما بهما صُمت لله — عز وجل — ثلاثة أيام شكرًا، وقالت فاطمة كذلك، وقالت جاريتهما فضة النوبية: إن برئ سيداي صُمت لله — عز وجل — شكرًا، فلبس الغلامان العافية، وليس عند آل محمد قليل ولا كثير، فانطلق علي إلى شمعون الخيبري فاستقرض منه ثلاثة آصع من شعير فجاء بها فوضعها، فقامت فاطمة إلى صاع فطحنته واختبزته، وصلى مع رسول الله ﷺ ثم أتى المنزل، فوُضع الطعام بين يديه إذ أتاهم مسكين فوقف على الباب فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من أولاد المسلمين، أطعموني أطعمكم الله — عز وجل — على موائد الجنة. فسمعه عليٌّ، فأمرهم بإعطائه الطعام، ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا إلا الماء.
فلما كان اليوم الثاني قامت فاطمة إلى الصاع وخبزته، وصلى عليٌّ مع النبي ﷺ ووضع الطعام بين يديه إذ أتاهم يتيم، فوقف بالباب وقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، يتيم بالباب من أولاد المهاجرين استشهد والدي؛ أطعموني. فأعطوه الطعام، فمكثوا يومين ولم يذوقوا إلا الماء.
فلما كان اليوم الثالث قامت فاطمة إلى الصاع الباقي فطحنته واختبزته، وصلى علي مع النبي ﷺ، ووضع الطعام بين يديه، إذ أتاهم أسير فوقف بالباب وقال: السلام عليكم أهل بيت النبوة، تأسروننا وتشدوننا ولا تطعموننا؛ أطعموني فإني أسير. فأعطوه الطعام ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا إلا الماء، فأتاهم رسول الله ﷺ فرأى ما بهم من الجوع، فأنزل الله تعالى: هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا إلى قوله: لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (الإنسان: ١–٩).
ومن ذلك يعلم أن المُترجَمة ساوت نفسها بسيدتها فاطمة الزهراء، فنالت بذلك فخرًا لم ينله غيرها من نساء العرب، وبقيت بخدمة هذا البيت حتى توفَّاها الله — رضي الله عنها.
(٣١) فطنت بنت أحمد باشا والي طرابزون
ولدت في طرابزونة سنة ١٢٥٨ هجرية، وتربت في بيت أبيها أحسن تربية إلى أن ترعرعت وصارت قابلة للتعليم، فقدمها والدها إلى مكتب حافظ أفندي، أحد معلمي القراءة بتلك المدينة، فصار يعلمها مبادئ القراءة التركية والفارسية والقرآن الشريف.
فلما تعلمت تلك المبادئ انتقل والدها إلى الروملي الشرقية، فأحضر لها المعلمين للخط، وتدريس باقي العلوم، حتى تعلمت كافة ما تحتاج إليه من التهذيب والتأديب، ومالت نفسها إلى العروض وبحوره، وبرعت فيه أيضًا حتى صارت نادرة زمانها، ولها ديوان شعر باللغة التركية ومثله بالفارسية، ولما أتمَّت علومها، وبرعت في كل ما أُلقي إليها، وآن أوان زواجها؛ زوَّجها والدها من أحد الأدباء الأفاضل، فعاشت معه عيشة حسنة، وولدت له أولادًا وبناتٍ، وتوفي عنها وهي في زهرة شبابها، وبعد وفاته بمدة خطبها محمد علي بك أفندي، كاتب أول نظارة البحرية في الآستانة، وهي معه لغاية الآن في عيشة راضية. ولها مؤلفات عقلية وحكمية باللغة التركية، وأشعار غزلية وغيرها؛ منها:
ومنها:
ومنها:
ومنها:
(٣٢) فكتوريا ملكة الإنكليز وإمبراطورة الهند
كانت ولادة «فكتوريا» في الرابع والعشرين من شهر أيار (مايو)، أحد شهور سنة ١٨١٩م، وأبوها «دوق كنت» ابن الملك جورج الثالث، ملك الإنكليز، وأمها الأميرة «فكتوريا ماري لويز» — أخت «ليوبولد» ملك بلجيكا — توفي أبوها «دوق كنت» في أوائل سنة ١٨٢٠م، وعمرها ثمانية أشهر فقط، وكان من الرجال العظام المشهورين بالفضائل والفواضل، الساعين في ترقية شأن الأمة، السابقين إلى عمل الخير والإحسان؛ فإنه كان مشتركًا في أكثر من ستين جمعية خيرية، فقامت أمها على تربيتها، واهتمت بأمرها فوق ما ينظر من الوالدات، ولا سيما إذا كن أميرات؛ فإن أولاد الملوك والأشراف قلما ينالهم من الاعتناء الوالدي ما ينال غيرهم من أولاد العامة، ولكن «فكتوريا» نالت من ذلك الحظ الأوفر، لا سيما لأنها كانت وحيدة لأمها، فانقطعت إلى تربيتها منتظرة أن يسلم لها زمام الملك يومًا ما، وتناط بها مهام السلطنة.
ولما صار ﻟ «فكتوريا» خمس سنوات من العمر عيَّن لها البارلمنت — أي مجلس الشورى الإنكليزي — ستة آلاف ليرة في السنة؛ لتُنفق على تعليمها وتهذيبها، فأكبت على الدرس حتى إذا صار لها من العمر إحدى عشرة سنة فقط كانت تتكلم بالفرنساوية والجرمانية جيدًا، وتقرأ اللاتينية والطليانية.
وبرعت في الموسيقى والتصوير، وظهر منها ميل شديد إلى العلوم الرياضية، ولم يقتصر في تربيتها على تهذيب عقلها وتوسيع معارفها، بل صرفت إلى ترويض جسمها؛ لأن العقل السليم لا يكون في الجسم السقيم، فمرنت على ركوب الخيل، وقطع البحار، ونحو ذلك من الأعمال التي تقوي البنية، وتجيد الصحة، وتزيد الشجاعة، وتنزع الخوف، وبغير ذلك لم يكن ممكنًا لامرأة أن تحكم على مئات الملايين، وتتولى أمورهم أكثر من خمسين سنة متوالية على اختلاف أجناسهم وبلدانهم وأغراضهم، وحياتها عرضة للخطر من الخارجين عليها من أهل البغي والمجانين.
وسنة ١٨٣٠م، رقي عمها الملك وليم الرابع إلى سُدَّة الملك، ولم يكن له أولاد أحياء من زوجته الشرعية، فعُينت «فكتوريا» وارثة له قبل أن تبلغ أشدها، وجعل راتبها السنوي ستة عشر ألف جنيه، ولكن لم تزل مُكبَّة على الدرس والتجول في البلاد لتقرن معارفها التاريخية والجغرافية بالمشاهدة، وتطلع على أحوال البلاد من حيث الزراعة والصناعة، ولما بلغت سن الرشد عند الإنكليز، وهو السنة الثامنة عشرة؛ وذلك سنة ١٨٣٧م، جرى لها احتفال عظيم في البلاد، وفي تلك السنة توفي عمها الملك، وكانت وفاته في العشرين من شهر حزيران (يونيو)، فجاءها رؤساء المملكة وكانت نائمة فأيقظوها من نومها، وأخبروها بوفاة عمها، وبأن الملك صار إليها، فأبدت من الحزم والنباهة ما أدهشهم.
وفي اليوم التالي، نودي بها ملكة بريطانيا العظمى وأيرلندا في قصر سنت جمس، وللحال شرعت تحمل مهام مملكتها الواسعة، وتهتم في شئونها، حتى خيف على صحتها من الاعتلال، وأشار عليها الأطباء أن تنقطع مدة عن الأشغال.
وفي العشرين من تشرين الثاني (نوفمبر)، فتحت البرلمنت أول مرة، وعين راتبها السنوي فيه ٣٨٥ ألف ليرة، وكان وزيرها الأعظم اللورد «ملبرن»، وكان رجلًا جليلًا محنكًا في السياسة، إلا أنها علمت أنه لا يدوم لها، وأنه لا بد لها من أن تهتم بسياسة مملكتها بنفسها، فكانت تطلب منه أن يشرح لها كل قضية من القضايا السياسية، ولم تكن تمضي ورقة ما لم تفهم مؤداها جيدًا.
وفي الثامن والعشرين من حزيران (يونيو) سنة ١٨٣٨م، توجت في دير وستمنستر، ووزعت أوراقًا على المدعوين بقدر ما يسع المكان، ولكن أتى جم غفير من كل أنحاء البلاد لمشاهدة تتويجها، فصارت ورقة الدخول تباع بخمسين جنيه؛ لشدة ما في نفوس رعاياها من التشوق إلى مشاهدتها، وكان التاج الذي توجت به مرصعًا بالحجارة الكريمة، وثمنه ١١٢٧٦٠ ليرة إنكليزية، وبلغت نفقات تتويجها ٦٩٤٢١ ليرة. وهذا المبلغ قليل في جانب المبلغ الذي أُنفق على تتويج عمها؛ فإنه بلغ ٢٣٨ ألف ليرة، وأما تاجها فإنه صاغه لها أبرع الصناع الموجودين في تلك السنة.
وهو معجزة هذا الزمان، وفيه يقال: ليس في الإمكان أبدع مما كان. قد صيغ من الذهب على شكل بديع، ورُصِّع بألفين وسبعمائة وثلاثة وثمانين حجرًا من الماس بألطف ترصيع، وفي مقدمه ياقوته كبيرة حمراء تضيء كالمشكاة في الليلة الليلاء، قيل: إنها أهديت من الملك قشتيلة بالأندلس إلى الأمير الأسود، أحد ملوك الإنكليز سنة ١٣٦٧ ميلادية، وفي ذلك التاج ياقوتة زرقاء على غاية من الرونق والبهاء.
وكانت قد رأت أميرًا جرمانيًّا في صغرها اسمه البرنس «ألبرت» ابن دوق «كويرج»، والظاهر أنها أحبته من ذلك الحين، فلما استوت على عرش المملكة أرادات أن تتبع سنة الله في خلقه، فكاشفت مجلس الشورى بأنها عازمة أن تتزوج بهذا الأمير، فصوَّب المجلس رأيها، وعيَّن له ثلاثين ألف ليرة راتبًا سنويًّا، ولكنه اختلف في نسبته إليها، وفيمن منهما يكون له التقدُّم؛ ففضَّت الملكة هذا المشكل بقولها: إن مقامه يكون بعد مقامها بالنسبة إلى المملكة، فاقترنت به في العاشر من شباط (فبراير) سنة ١٨٤٠م، وكان لاقترانهما احتفال عظيم في البلاد كلها.
وفي الحادي والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) سنة ١٨٤٠م، ولدت ابنته، وهي التي صارت زوجة ولي عهد جرمانيا، وفي السنة التالية ولدت ولي عهدها برنس «أوف ويلس»، فعم الفرح والحبور في البلاد كلها، وقدروا النفقات التي أنفقت احتفالًا بعماده بمائتي ألف ليرة، وفي السنة التالية؛ أي سنة ١٨٤٢م، زارت إسكتلندا، فاحتفل الشعب الإسكتلندي بها وبزوجها احتفالًا عظيمًا، ثم زارتها مرارًا كثيرة، وكانت أحوال المملكة في اضطراب بسبب مرض البطاطا، وما رتَّب عليه من الضيق في أيرلندا، فصرفت عنايتها وعناية مجلسها إلى تخليص رعاياها من هذا الضيق، والاقتصاص من المجرمين الذين يكثر عددهم في كل بلاد اشتد الضيق فيها، فوقعت في مخاطر كثيرة بسبب ذلك كما سيجيء.
وسنة ١٨٥٢م، توفي القائد العظيم دوق «ولنتنون»، الذي قهر بونابرت في واقعة «وطرلو»، فحزنت عليه الملكة حزنًا شديدًا وكتبتْ تقول: إنها فقدت فخر إنكلترا ومجدها ورأسها وأعظم من قام فيها. وهذا شأن كل ملك عظيم يُقدِّر رجاله قدرهم، ولا يبخس الناس أشياءهم.
ثم انتشبت حرب القرم، وكان الشعب الإنكليزي يرى من واجباته مساعدة الدولة العلية ضد هجمات الروس، فظن أن رأي البرنس «ألبرت» — زوج الملكة — مخالف لرأيه في ذلك، فاتهمه بالخيانة والتشيع للروس، وكثرت القلاقل والإشاعات، فأشاع بعضهم أنه ألقي القبض عليه وأُودع السجن، وألقي القبض على الملكة أيضًا؛ لتشيعها له، ولكن البرنس أعرب عن آرائه السياسية في البرلمنت؛ فهدأت أفكار الناس وزال اضطرابهم.
وفي الشهر التالي، استعرضت الملكة الجيوش الذاهبة إلى القرم، وزارت العمارة البحرية قبل سفرها إلى البلطيك، واهتمت بحوادث هذه الحرب أشد اهتمام، وفي نيسان (أبريل) سنة ١٨٥٥م، زارهما الإمبراطور نابليون وزوجته، فردت لهما الزيارة في شهر آب (أغسطس) مع زوجها.
ثم جاءتها سنة ١٨٦١م بأشد المصائب، فتوفيت أمها في السادس عشر من آذار (مارس)، وتوفي زوجها في الرابع عشر من (ديسمبر)، وله من العمر اثنتان وأربعون سنة، فحزنت عليهما حزنًا مفرطًا، ولم تعد تُرى في المحافل العمومية إلا نادرًا، حتى لما احتفل بزواج ابنها ولي العهد لم تمضِ إلا إلى الكنيسة.
وسنة ١٨٦٧م، زارها جلالة السلطان عبد العزيز خان، وملكة بروسيا، وإمبراطورة فرنسا، وداهمتها مصيبتان أُخريان؛ الأولى: وفاة ابنتها الأميرة «ليس» سنة ١٨٦٨م، والثانية وفاة ابنها دوق «الني» سنة ١٨٨٤م. وما الملوك بمعزل عن المصائب والنوائب، ولا يُنجيهم منها حصن ولا معقل.
وقد مرَّ الآن على هذه الملكة السعيدة زيادة عن خمسين سنة وهي مستولية على سدة الملك، ولم يملك أحد غيرها من ملوك الإنكليز خمسين سنة فأكثر إلا ثلاثة؛ وهم: الملك هنري الثالث، الذي ملك من سنة ١٢١٦م إلى سنة ١٢٧٢م، والملك إدوارد الثالث، الذي ملك من سنة ١٣٢٧م إلى سنة ١٣٧٧م، والملك جورج الثالث، الذي ملك من سنة ١٧٦٠م إلى سنة ١٨٢٠م.
وقد ارتقى الشعب الإنكليزي مدة ملكها ارتقاء لا مثيل له، وامتدت السلطنة الإنكليزية في الأقطار المسكونة حتى يقال: إن الشمس لا تغرب عنها كلها في الأربع والعشرين ساعة.
وحدث في السلطنة الإنكليزية حوادث كثيرة تستحق الذكر غير ما ذكر؛ منها: تخفيض أجرة البوسطة، وتعديل شريعة المساكن واسكتلندا وأيرلندا، حتى صاروا ينتفعون نفعًا حقيقيًّا من مساعدة الحكومة، وصارت المساعدة تصل إلى الذين يحتاجونها حقيقة.
ومنها: إلغاء شرائع الحبوب، وكانت هذه الشرائع تمنع إدخال الحبوب إلى إنكلترا إلا عند الغلاء الشديد، بما تفرضه عليها من المكس الفاحش في أوقات الرخص، فإذا كان ثمن الكوارتر — نحو ٢٠٠ أقة — من القمح ٦٢ شلنًا، أخذت الحكومة مكسًا عليه ٢٤ شلنًا، وثلثي الشلن، وكلما قل الثمن شلنًا زاد المكس شلنًا، وإذا زاد الثمن عن ذلك قلَّ المكس كثيرًا، فإذا بلغ الثمن ٦٩ شلنًا؛ صار المكس ١٥ شلنًا وثلثين، وإذا بلغ الثمن ٧٣ شلنًا صار المكس شلنًا، فإذا اشترى أحدٌ قمحًا حينما كان ثمن الكوارتر ١٨ شلنًا، ثم رخص القمح، فصار ثمن الكوارتر ٦٩ شلنًا بلغت خسارته في كل كوارتر ١٨ شلنًا وثلثي الشلن؛ لأنه يلتزم حينئذٍ أن يدفع عليه مكسًا ١٥ شلنًا وثلثين بدلًا من دفع شلن واحد.
ومنها: انتقال أملاك تركية الهند الشرقية إلى الحكومة الإنكليزية، وبالتالي استيلاء الحكومة على كل بلاد الهند، وجعلها قسمًا من السلطنة الإنكليزية، مع أن أهاليها يبلغون مائتي مليون، وأهالي بريطانيا وأيرلندا لا يبلغون الآن ٣٥ مليونًا!
ومنها: إباحة دخول البرلمنت لليهود، ووضع نظام التعليم الجديد، ولم يكن في بلاد الإنكليز نظام عام للتعليم حتى سنة ١٨٧٠م وما بعدها، فأقرت الحكومة ترتيب المدارس على نظام ثابت، وساعدتها بالأموال الوفيرة، ففتحت أبواب المعرفة لكل ولد من أولاد الأمة.
ومنها: اكتشاف الذهب في أستراليا وكولمبيا، ومدُّ التلغراف بين إنكلترا وأمريكا، وبينها وبين كل ولايتها، واتساع نطاق الزراعة والصناعة والتجارة باتساع نطاق المعارف والاكتشافات العلمية، وتكاثر السكك الحديدية، والسفن التجارية.
وفي الجملة نقول: إن الشعب الإنكليزي بلغ أوج مجده في مدة هذه الملكة، وتمتع بما يتبعه الناس من الحرية الشخصية، حتى إن الحقوق التي طلَبها الفيلسوف «جون ستورت» في كتابه المعنون بالحرية لم يبقَ لها داعٍ؛ لأن الجميع تمتعوا بها وبأكثرَ منها.
ونودي بالملكة «فكتوريا» إمبراطورة الهند سنة ١٨٧٦م، وقد ولد لها تسعة أولاد: أربعة بنين، وخمس بنات. وهذه أسماؤهم مع ذكر رواتبهم السنوية:
ليرة | عدد | الأسماء |
---|---|---|
٨٠٠٠ | ١ | البرنسيس «فكتوريا أرليد» زوجة ولي عهد بروسيا |
٤٠٠٠٠ | ٢ | البرنس «ألبرت» برنس أوف ويلس |
٦٥٠٠٠ | دخل دوقية كورنول | |
١٠٠٠٠ | لزوجة البرنس المذكور | |
٣ | البرنسيس «ألسن» وقد توفيت | |
٢٥٠٠٠ | ٤ | «ألغرد» دوق أدبنرج |
٦٠٠٠ | ٥ | البرنسيس «هيلانة» |
٦٠٠٠ | ٦ | البرنسيس «لويزا» |
٢٥٠٠٠ | ٧ | البرنس «أرتر» دوق «كونوت» |
٦٠٠٠ | ٨ | البرنس «لبوبلد» دوق «اليني» فقد توفي وجُعل لزوجته في السنة |
٦٠٠٠ | ٩ | الأميرة «بياثرس» |
٣٨٥٠٠٠ | راتب الملكة السنوي | |
٤٥٠٠٠ | دخل دوقية لنكستر |
والملكة «فكتوريا» مشهورة في حسن تدينها وشدة اهتمامها بتربية أولادها على مبادئ الديانة والتقوى، وفي اهتمامها بالفقراء والمساكين والمحتاجين من رعاياها، فتنفق عليهم من مالها، وتشتغل بيدها أحزمة وأكيسة وترسلها لهم، وتهتم أيضًا في شأن العلوم والمعارف شديد الاهتمام، وتثيب المشتغلين فيها، وتقطع لهم الرواتب السنوية؛ جزاء لخدمتهم، فالأستاذ «هكسلي» مثلًا له راتب سنوي قدره ٣٠٠ ليرة، والدكتور «مري» له ٢٧٠ ليرة في السنة، «ومتبو أرتلد» له ٢٥٠ ليرة، و«ألفرد ولس» ٢٠٠ ليرة.
ومع فضل هذه الملكة العظيمة، وشدة تعلق شعبها بها، وحبهم لها، لم يصفُ لها كأس الحياة من المعتدين الطالبين قتلها، فقد صدق من قال: إن المناصب محفوفة بالمتاعب، فبعد زواجها بأربعة أشهر كانت ذاهبة في مركبة مفتوحة مع زوجها، فدنا منها شاب اسمه «أكسفرد» وأطلق عليها طبنجة مرتين، ولكنه لم يُصِبْها بمكروه، فحُكم عليه بالموت، ثم وجد فيه اختلال في عقله؛ فأبدل الحكم بوضعه في بيمارستان المجانين مدى الحياة.
وسنة ١٨٤٢م، حاول واحد آخر قتلها، وأطلق عليها طبنجة، فحكم عليه بالموت، ولكنها خففت الحكم وحكمت عليه بالنفي المؤبد، وبعد أسابيع قليلة حاول واحد آخر أن يطلق عليها طبنجة، فحكم عليه بالسجن.
وسنة ١٨٤٩م، حاول رجل أيرلندي قتلها، ورماها بالرصاص، فلم يُلحق بها ضررًا، فحُكم عليه بالنفي سبع سنوات.
وفي السنة التالية، هجم عليها أحد الجنود وضربها بالعصا على وجهها، فحكم عليه بالنفي سبع سنوات.
وسنة ١٨٧٢م، أطلق عليها شاب طبنجة محاولًا قتلها فلم يُصبها، ولدى النظر في أمره وجد مجنونًا، فأودع البيمارستان. وفي تلك السنة، أرسل بعضهم رسالة إلى السير «هنري بولسونبي» يتهدد به الملكة بالقتل. فهذه حياة الملوك، وهذا هو خلها وخمرها.
وللملكة فكتوريا مؤلفان شهيران؛ الأول: في تاريخ حياة زوجها، ألفه الجنرال «غراي» بإرشادها، والثاني: تاريخ حياتها معه من سنة ١٨٤١م إلى سنة ١٨٦١م، وأتبعته بكتاب آخر من نوعه نشرته في أواخر سنة ١٨٨٣م، وهو يمتد من سنة ١٨٦٢م إلى سنة ١٨٨٢م.
أما زوجها البرنس «ألبرت»، فهو ابن دوق «سكس كويرج كوثا»، وهي ولاية في سكسونيا. ولد في السادس والعشرين من شهر آب (أغسطس) سنة ١٨١٩م، ودرس العلوم العالية في مدرسة بون الجامعة، وبعد أن تخرج في العلوم السياسية تعلق بالكيمياء والتاريخ الطبيعي والتصوير والموسيقى، ويقال: إنه نظَم رواية من نوع الأوبرا مُثِّلت في لندن بعدئذٍ، وكان بديع المنظر ماهرًا بالفروسية.
ولما اقترنت به الملكة «فكتوريا» على ما تقدَّم، كان في الحادية والعشرين من عمره، فمنح الإعانة الإنكليزية، وأعطيت له قيادة ألاي من الفرسان، ورقي إلى رتبة فيلد مرشال، ثم وجهت إليه ألقاب ورتب كثيرة؛ لأن الشعب الإنكليزي رأي منه رجلًا حازمًا ساعيًا في خير الأمة، من غير أن يُعرِّض نفسه للمسائل السياسية التي تعرض لمقاومة حزب من حزبي المملكة، والملكة وجدته زوجًا أمينًا محبًّا.
أما السبيل الذي اختاره للسعي في خير الأمة من غير أن يعرض نفسه لمقاومة أهل السياسة، فهو تنشيط العلوم والفنون، فجعل رئيسًا لمدرسة كمبرج الجامعة لكثير من المجامع العلمية، ولما كان رئيسًا للمجمع العلمي البريطاني سنة ١٨٥٩م؛ أعرب عن رأيه من جهة وجوب اهتمام الدولة بشأن العلم فقال: سيزيد التفات الدولة إلى العلم كما نرجو، حتى لا يبقى العلم معتمدًا على إحسان المحسنين، بل يخاطب الدولة كما يخاطب الابن أمه واثقًا بحنوها ورغبتها في نجاحه، وستجد الدولة في العلم عنصرًا من عناصر قوتها ونجاحها، وبسعيه فتح المعرض العام ببلاد الإنكليز سنة ١٨٥١م، ولكن لم يفسح الله له في الأجل، فوافته المنية وله من العمر اثنتان وأربعون سنة.
(٣٣) فكتوريا ودهول
إن هذه السيدة من بنات أمريكا الجديرين بالذكر والمدح، وممن يفتخر بهن في الاجتهاد والتقدم؛ لأنها ربيت مع أختها «تنيس كلفن» في بلاد أمريكا تربية حسنة، ومن عهد نشأتهما ربيت معهما مَلَكَة التقدم، وحب التظاهر ومناظرة الرجال بالأعمال اليدوية والمضاريب التجارية، ومن شدة رغبتهما في التقدم، قام بفكرهما أن يُسوِّيا بين الرجال والنساء في الحقوق والمعاملات، فأخذتا على عهدتهما من بدء نشأتهما نشر هذه الأفكار، والبرهنة على كفاءة النساء في إدارة الأعمال المالية وغيرها، مما لم يقم بأدائه إلى الآن سوى الرجال، وبالفعل فإنهما قد أسستا بيتًا ماليًّا كتبتا عليه عنوانهما، فتعجب من ذلك أصحاب المضاربات «البنوكة»، وتضاعف اندهاشهم لما سمعوا بعد تأسيس المحل المذكور بعدة أسابيع أن صاحبتيه اكتسبتا عدة ملايين من الريالات. وقد أعقب ذلك وقوع أرباب البنوكة ذوي اللحى والشوارب في وهدة الإفلاس.
وقد رسم بعض المصورين هاتين البنتين وعلى رأس كل منهما تاج رمزًا على القوة والتسلط، وأطلقت الجرائد ألسنتها بالثناء الجميل والشكر الجزيل على مهارتهما، وتغالت في ذلك حتى إن جريدة تلغراف نيويورك نشرت في صدر أحد أعدادها صورة تمثل البنتين راكبتين على عجلة يجرها رؤساء أكبر البيوت المالية، فقامت جريدة نيويورك «هرالد» تصوِّب نحوهما سهام الانتقاد والتعزير، وقالت: إن الشرائع الأمريكية وعاداتها الأهلية تمنع النساء من السير في المناهج السياسية، والدخول في ميادين الأعمال الاجتماعية مهما بلغت بهن درجة العلم والمعرفة. ولما اتصل بهما هذا الكلام لم تعبآ به، بل أخذتا في اتباع طريقهما الأول، وحثَّتا السير فيه، وانتهى الأمر بهما إلى أن أسستا جريدة أسبوعية بلغ عدد مشتركيها في زمن يسير ٥٠٠٠٠ نفس.
ولما كانت القوانين الأمريكية تخول لجميع أبناء الوطن الذين بلغوا رشدهم الحق في إعطاء أصواتهم، بشرط أن يدفعوا ما عليهم من العوائد والرسوم التي اقتضتها نظامات الحكومة، وكانت السيدة «ودهول» من بنات الوطن اللاتي توفر فيهن شروط بلوغ الرشد، ولكنها لم تدفع ما استحق عليها من العوائد والرسوم، فقد عرضت على هيئة الحكومة أن تعطي لها الإذن بالدخول في مصافِّ الهيئة الاجتماعية، وشفَّت عن استعدادها لدفع الرسوم المطلوبة، ثم أخذت تُبرهن بعبارات فصيحة، وقياسات صحيحة على وجوب مساواة النساء بالرجال في الحقوق الوطنية، وتحزَّب لمذهبها جمٌّ غفير من الناس، وخمسمائة عضو من مجلس النواب نائبين عن ست وعشرين مقاطعة.
وقد أخذ نجاح الأختين يتدرج في مدارك الزيادة والنمو، حتى إنهما عوَّلتا على نشر مبدئهما الحميد، ألا وهو تحسين أحوال المرأة في العائلة، وكانتا في كل أقوالهما وكتاباتهما توجهان سهام الانتقاد والتبكيت على كيفية تعليم الفتيات، وقالتا: إنها مشحونة بقواعد طويلة مملة، ومبادئ تميل بهن إلى اتخاذ التملق والخلق الذميم آلة لنوال مآربهن، وذكرتا غير مرة أن البنت تتعلم لتكون في المستقبل امرأة صالحة، ووالدة مربية، لا لتزويقها وتهيئتها لأن تكون داعية لاستلفات أنظار الشبان، وأن أهلها وذوي قرابتها ومعلماتها يخفون عنها أنها لتكون في يوم من الأيام ربة بيتها، ومديرة شئون عائلة، ستكون هي قوام نظامها، وركن سعادتها، ودعامة عزها وشوكتها، ثم إنهم فوق ذلك لا يُذكِّرونها بواجبها إذا صار بينها وبين الزواج زمن يسير.
كانت إذا احتاجت «فكتوريا ودهول» أن تستأجر حجرة لتبيت فيها، وكانت أجرة هذه الحجرة ٢٠٠٠ ريال، لا يسمح لها بسكناها بأقل من ٣٠٠٠ ريال، وإذا نزلت بأحد الفنادق كانت تدفع عشرة أمثال ما يدفعه غيرها، وكثيرًا ما قضت الليالي خارج المنازل لعدم قبول أحد أن يضيفها في منزله.
ولما وصلت إلى هذا الحد حالتهما، ورأتا عدم طيب المقام بارحتا أمريكا قاصدتين مدينة «لوندره»؛ حيث كرمت مثواهما إحدى النساء الإنكليزيات، ولم يذهب سعيهما في بلاد أمريكا هباء منثورًا؛ فإنه لا يرى الإنسان في الولايات المتحدة بالقارة المذكورة محلًّا من المحلات إلا وجدت المرأة فيه بجانب الرجل تؤدي الأعمال كما يؤديها هو، وتحقق من أن حقوقها صارت مرعية؛ فهي لا تُمنع من اكتساب ما يقوم بمعاشها ومعاش آويها من أي عمل رضيت به، فهذه هي النساء، وهذا هو الفخر؛ إذ إن امرأة تعجز عن أعمالها الرجال في بلاد مثل أمريكا.
(٣٤) فيدر ابنة مينوس الكريني
هي حليلة «ثيزي»، ملك أثينا، هامت أثناء تغيب زوجها بابنه «أبيوليت» المولود من زوجته الأولى «أثيوبا»، ملكة الأمازون، وكان جميلًا فتَّانًا، ولما تمادى بها الوجد والألم، وابتلاها الكتمان بالسقم، باحت بما تجده من حر الجوى وبرحاء الهوى إلى أمينة سرها «أوتون». أما «أبيوليت» فكان مفتونًا بحب «أديسيا» سجينة أبيه ذات النسب الملكي، التي كانت أيضًا كلفت به دون أن يعلم كلٌّ بما له في قلب الآخر، فكانوا يمثلون سلسلة عشاق ومعاشيق، ولكن تحت طي الستر والخفاء؛ مخافة الافتضاح إذا قدر الجفاء.
فلما أُرجِف بموت «ثيزي» زيَّنت «أوتون» ﻟ «فيدر» مطارحة «أبيوليت» أحاديث الوجد، وإطماعه في إرث العرش بالنيابة عن ابنها الطفل الذي كانت الأمة تتردد في الاختيار بينه وبين «أديسيا»، تلك التي استبشرت بالفكاك من الأسر حال إيقافها «أبيوليت» على دخيلة الأمر، بعد إذ كانت يئست من الخلاص وتلا عليها لسان الحال: ذوقي عذاب ربك لات حين مناص! فعالنتاه كلتاهما بحديث وجد مقيم معقد بلسان أغن ينشد:
قال «أديسيا» عقدي وداد وولاء، ورمى «فيدر» بسهمي نفرة وجفاء، ولم يمض إلا مثل حسوة طائر، أو لهنة مسافر حتى قيل: عاد «ثيزي» حيًّا؛ فسقط في يدي «فيدر» وقالت: ويلاه! لقد جئتُ شيئًا فريًّا، ثم عضَّت بنانها الخضيب بثنايا الندامة، وفوقت إلى قيِّمتها «أوتون» نبال التقريع والملامة، ولكن كان قد سبق السيف العذَل، فلجأت إلى الغدر والختل، حتى إذا حلَّ زوجها الصرح قابلته بوجه باسر، ودمع ماطر، وخرطوم كمخلب كاسر، وقالت بصوت يقصف كالهزيم: ما جزاء من أراد بأهلك سوءًا إلا أن يسجن أو عذاب أليم؟! إن «أبيوليت» رماني لاقتناص عن قوس احتياله بحربات نافذات كادت تفري عرضًا وفر، وتثلم سد المأرب.
وفي رواية أن ذلك كان بلسان «أوتون»؛ ليتم الدست على «ثيزى» المغبون، فانطلت عليه زخارفها، وجهر في مجاهل مخارفها، فنشبت برجله الحبالة، ولم يدر أن عرسه أروغ من ثعالة، ففار على ابنه غيظًا كما يفور المرجل، ولعنه وهو يحرق عليه الأرم قائلًا: امض إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، ثم توسل إلى مبعود البحر نيتون أن يهلك ابنه الخئون، فمضى «أبيوليت» في رهط من حاشيته أسيفًا حزينًا قاصدًا مدينة «مسينة».
وكان أوعز إلى «أديسيا» أن تلحق به ليُشهد المعبودات على اقترانهما، وليقطعا غابر العمر في حجر بعضهما، فبينما هو سائر على شاطئ البحر إذا بالأمواج علت كالشواهق، ثم هوت متكسرة كأنما رميت بجلاهق، فبان من تحتها تنين أقشر هائل المنظر، أجش الصوت، تنوب أنيابه عن ملك الموت، ففر القوم هلعًا متوارين عن الأبصار إلا «أبيوليت»؛ فإنه قابَله بقلب من فولاذ، وصدر كأنه تيار، ورمى فؤاده بحربة هي للأرواح أحرق أخبار، وللأعمار أقطع بتار، فانهار عند أرجل الخيل كالنخلة السحوق متشحطًا بدمه، كادمًا الصخر بفمه، فنفرت الخيل وأي نفار، وشردت المركبة متسلقة بين الصخور في القفار، حتى تكسرت العواجل، وسقط «أبيوليت» على الصحصحان، وكانت قد علقت رجله بالعنان، فجعلت تجره الخيل مذعورة، تتلاطم مدهوشة، حتى تمزَّقت لحمانه بفعل الأشواك والصخور، وتفجرت ينابيع دمه منسابة في تلك الشعاب والوعور، ولم يدركه أصحابه إلا والجريض في ثغره، والحشرجة في صدره.
فأوصاهم أن يبلغوا أباه ما كان، وأنه بريء من افتراء دليلة المكر والبهتان، وأن يتوسلوا إليه عنه بأن يتخذ حبيبته «أديسيا» بدلًا منه عزاءً لمصابه، وشهدًا يحلى جام صابه، وبعد موته بدقائق أقبلت «أديسيا» بخطو دونه إهماج السوابق، وانقضاض الصواعق، فلما رأت محبوبها في تلك الحالة صعقت بصوت دوى له الجو، وانطرحت إلى جانبه لا تفرق ولا تعي، ولما ثاب إليها حلمها عاد الجميع أدراجًا، واتخذوا توًّا إلى المليك منهاجًا، فقصوا عليه ذلك النبأ الفاجع.
وكان قبل ذلك أن «أوتون» — أم البدائع — ألقت بنفسها إلى البحر كمدًا؛ لما جرى عن يدها من الفظائع. ولمَّا كاد صبح الحقيقة أن يلوح شربت «فيدر» سمًّا ناقعًا، وقابلت «ثيزي» كاسرة طرفًا دامعًا، وأنبأته ثمت بوصمتها، بما صيرته على هامه من الويل بداعية تلبيتها نداء شهوتها، وكان السم قد استحكم في دورة دمائها، فتحرقت مفردات أحشائها، وسقطت أمامه جثة بلا روح، فقامت عليه القيامة، وعاد على نفسه بالتوبيخ والملامة، وقطع مع «أديسيا» التي اصطفاها ابنة وخليلة عيشًا تُنغِّصه ذكرى مَن يزرع العجلة يحصد الندامة.
(٣٥) فيروز خوندة
بنت السلطان علاء الدين، ملك دهلي في بلاد الهند، كانت فريدة الزمان حسنًا وبهاء، وعقلًا وذكاء، ذات أدب وفصاحة، وكياسة وملاحة، محبة للمكرمات، تفعل الخير مع كل من تراه مستحقًّا.
شاركت أخاها السلطان شهاب الدين في صعاب الأمور، وسلَّم لها زمام الأحكام حتى إنها بأصالة رأيها ضبطت المملكة أحسن مما كانت عليه في مدة أبيها، وكان أخوها لا يقطع أمرًا إلا برأيها، ومن شدة محبته لها لم يرض أن يزوجها خارجًا عن مملكته، وزوجها لشخص غريب اسمه الأمير «غدا»، ابن الأمير هبة الله بن مهني، أمير عرب الشام؛ بقصد أن يقيم عنده، كما قال ابن بطوطة في «رحلته»:
إنه لما جاء الأمير «غدا» ابن الأمير هبة الله سائحًا في بلاد الهند مرَّ على «دهلي»، فأكرمه السلطان شهاب الدين إكرامًا زائدًا، وأحب أن يأخذه ضيفه من محبته للعرب، فزوَّجه أخته المذكورة، وعمل له فرحًا عظيمًا، وكيفيته أن عين للقيام بشأن الوليمة ونفقاتها الملك فتح الله المعروف «بشونويس»، وعين ابن بطوطة لملازمة الأمير «غدا» والكون معه في تلك الأيام، فأتى الملك فتح الله بالصيوانات فظلل بها فسحات القصر الأحمر، وضرب في كل واحد منهما قبة ضخمة جدًّا، وفرش ذلك بالفرش الحسان، وأتى شمس الدين التبريزي، أمير المطربين، ومعه الرجال المغنون والنساء المغنيات والرواقص، وكلهن مماليك السلطان، وأحضر الطباخين والخبازين والشوايين والحلوانيين والثريدارية والتبول، وذبحت الأنعام والطيور، وأقاموا يطعمون الناس خمسة عشر يومًا، ويحضر الأمراء الكبار والأعزاء ليلًا ونهارًا.
فلما كان قبل ليلة الزفاف بليلتين، جاء الخواتين من دار السلطان ليلًا إلى هذا القصر، فزيَّنَّه وفرشنَه بأحسن الفرش، واستحضر الأمير سيف الدين لكونه عربيًّا غريبًا لا أقران له، وحففن به وأجلسنه على مرتبة معينة له، وكان السلطان قد أمر أن تكون ربيبة أم أخيه مبارك خان مقام أم الأمير «غدا»، وأن تكون امرأة أخرى من الخواتين مقام أخته، وأخرى مقام عمته، وأخرى مقام خالته؛ حتى يكون كأنه بين أهله.
ولما أجلسنه على المرتبة جعلن له الحناء في يديه ورجليه، وأقام باقيهن على رأسه يغنين ويرقصن، وانصرفن إلى قصر الزفاف، وأقام هو مع خواص أصحابه، وعين السلطان جماعة من الأمراء يكونون من جهته، وجماعة يكونون من جهة الزوجة، وعادتهم أن تقف التي من جهة الزوجة على باب الموضع الذي تكون به جلوتها على زوجها، ويأتي الزوج بجماعته فلا يدخلون إلا إن غلبوا أصحاب الزوجة، أو يعطونهم الآلاف من الدنانير إن لم يقدروا عليهم.
ولما كان بعد المغرب أتي إليه بخلعة حرير زرقاء مزركشة مرصعة قد غلبت الجواهر عليها، فلا يظهر لونها مما عليها من الجوهر، وبشاشية مثل ذلك، ثم ركب الأمير سيف الدين في أصحابه وعبيده، وفي يد كل واحد منهم عصًا قد أعدها، وصنعوا شبيه إكليل من الياسمين والنسرين والزيتون، وله زخرف يغطي وجه المتكلل به وصدره وأثوابه، وأعطوه إلى الأمير ليجعله على رأسه، فأبى من ذلك، وكان من عرب البادية لا عهد له بأمور الملك والحضر، فحاوله ابن بطوطة وحلف عليه حتى جعله على رأسه، وأتى باب الحرم وعليه جماعة الزوجة، فحمل عليهم بأصحابه حملة غريبة، وصرعوا كل من عارضهم، فغلبوا عليهم، ولم يكن لجماعة الزوجة من ثبات، وبلغ ذلك السلطان فأعجبه فعله ودخل إلى القصر.
وقد جعلت العروس فوق منبر عالٍ مزيَّن بالديباج، مرصع بالجوهر، ملآن بالنساء والمطربات، قد أحضرن أنواع الآلات المطربة، وكلهن وقوف على قدم؛ إجلالًا له وتعظيمًا، فدخل بفرسه حتى قرب من المنبر، فنزل وخدم عند أول درجة منه، وقامت العروس قائمة حتى صعد؛ فأعطته التنبول بيدها، فأخذه وجلس تحت الدرجة التي وقفت بها، ونثرت دنانير الذهب على رءوس الحاضرين من أصحابه، ونقطها النساء، والمغنيات تغنين حينئذٍ والأطبال والأبواق، والأنفار تضرب خارج الباب.
ثم قام الأمير وأخذ بيد زوجته ونزل — وهي تتبعه — فركب فرسه يطأ بها الفرش والبسط، ونثرت الدنانير عليه وعلى أصحابه، وجُعلت العروس في محفة، وحملها العبيد على أعناقهم إلى قصره، والخواتين بين يديها راكبات، وغيرهن من النساء ماشيات، وإذا مروا بدار أمير أو كبير خرج إليهم، ونثر عليهم الدنانير والدراهم على قدر همَّته حتى أوصلوها إلى قصره. ولما كان بالغد بعثت العروس إلى جميع أصحاب زوجها الثياب والدنانير والدراهم، وأعطى السلطان لكل واحد منهم فرسًا مسرجًا ملجمًا، وبدرة دراهم من ألف دينار إلى مائتي دينار، وأعطى الملك فتح الله للخواتين ثياب الحرير المنوعة والبدر، وكذلك لأهل الطرب، وعادتهم ببلاد الهند أن لا يعطي أحد شيئًا لأهل الطرب إنما يعطيهم صاحب العروس، وأطعم الناس جميعًا ذلك اليوم، وانقضى العرس، وأمر السلطان أن يُعطى الأمير «غدا» بلاد المالوة والجزأت وكيناية وسهر والة.
وجعل فتح الله المذكور نائبًا عنه عليها، وعظَّمه تعظيمًا شديدًا، وكان الأمير جافيًا فلم يقدر ذلك حق قدره، وغلب عليه جفاء البادية فأدَّاه ذلك إلى النكبة به بعد عشرين ليلة من زفافه، وذلك من تعديه على زوجته واحتقاره لها ولأهلها ورجال مملكتها، فحقدوا عليه وأخرجوه من بينهم طريدًا فريدًا بدون زاد ولا راحلة، وبقيت المُترجَمة في منزل أخيها معززة مكرمة لا ينقصها شيء سوى ما فاتها من محبة زوجها، وهكذا الزمان لا يصفو لأحد.