حرف الميم
ماء السماء
هي ماوية بنت عوف بن جشم، وقيل: بنت ربيعة التغلبي. ملكة العراق التي من سلالتها النعمان وباقي الملوك المناذرة. لُقبت بماء السماء لأنها كانت في عصرها آية الجمال، وعنوان المجد والجلال، وكانت المناذرة تفتخر بها، وجميع عرب العراق تحلف بحياتها، وكانت مآثرها ومفاخرها على العرب لا يوصف لها حد، ولا يُدرك لها عدٌّ، وكانت مكرمة عند الأكاسرة ونسائهم، وطالما قدمت لها نساء الأكاسرة الهدايا النفيسة، والأكاليل والجواهر اللطيفة. وحقَّ لمثلها أن تفتخر على نساء العرب والعجم بما جاء لها من الأولاد النجباء، الذين دانت لهم البلاد، وخدمتهم العباد مدة من الزمان، حتى أذلوا جبابرة العرب والعجم، فسبحان الحي الذي لا يموت.
ماريا أدجورت بنت إدوارد الثالث ملك إنكلترا
ولدت في برك شير سنة ١٧٦٧م، وتوفيت في أدجورت تون من أيرلندا سنة ١٨٤٩م، أخذت العلم عن أبيها، وكانت من البشاشة على جانبٍ عظيم، ومحبوبة عند الجميع، وكان لها من الأمل والرغبة — اللذين لا بد منهما لنمو القوى العقلية نموًّا تامًّا — ما حملها على مداومة اجتهادها في سبيل المطالعة والدرس. وكانت مولعة بالروايات، فأتحفت قومها بروايات كثيرة النفع مفيدة، وكانت كل رواياتها أدبية مؤثرة، فاكتسبت رضا العموم ومديحهم. وقد طبعت كتابًا في ١٤ مجلدًا في لندن سنة ١٨٢٥م، ثم طبعته ثانية في ١٨ مجلدًا سنة ١٨٣٢م، وفي ٩ مجلدات سنة ١٨٤٨م، وفي ١٠ مجلدات سنة ١٨٥٦م، وكرر طبعه في الولايات المتحدة الأمريكانية.
ماجدة القرشية
ذكر في طبقات الشعراني أنها كانت من المتعبدات الصالحات الزاهدات، القائمات الليل الصائمات النهار. وكانت رضي الله عنها تقول: ما حركة تسمع، ولا قدم توضع إلا ظننت أني أموت في أثرها، وكانت تقول: يا لها من عقول! ما أنقصها! سكان دار أوذنوا بالنقلة وهم حيارى يركضون في المهلة، كأن المراد غيرهم! والتأذين ليس لهم! ولا عني بالأمر سواهم! وكانت تقول: لم ينل المطيعون ما نالوا من حلول الجنة ورضا الرحمن إلا بتعب الأبدان.
ماريا تريزيا ابنة كارلوس الرابع إمبراطور النمسا
ولدت سنة ١٧١٧م، وتزوجت بدوق توسكا سنة ١٧٢٦م، ولما توفي والدها سنة ١٧٤٠م ورثت الملك عنه، واشترك زوجها فيه، وقد قامت بعبء هذا المنصب الخطير والبلاد تئن تحت وطأة الدين المتثاقل، والخسائر الفاحشة التي لحقتها بسبب الحروب مع روسيا وسكرينا وغيرها من دول أوروبا، وزادت مهاجمات هذه الدول مع وفاة والدها، واستولى كل منها على مقاطعة من النمسا، بدعوى انقطاع المذكورة من عائلة أبيها، فاستولى «فريدريك الكبير»، ملك «بروسيا»، على «سيسيليا» — وهي أخصب مقاطعات المملكة النمساوية وأغناها — واستولت إسبانيا ونابولي على أملاكها في إيطاليا، فقطعت أوصال مملكتها وتركتها اسمًا بلا مسمى، غير أن ذلك لم يوهن عزم الملكة «ماريا تريزا»، التي فاقت الرجال حكمة ودراية، فجمعت الأموال، وحشدت الجنود، ودافعت عن بلادها دفاع اليأس، فانكسرت، والتجأت إلى رعاياها المجريين فأنجدوها عن طيبة خاطر.
قيل: إنها جمعتهم في قصرها، ودخلت عليهم حاملة ابنها ولي العهد، وكان طفلًا، وأخذت تخاطبهم باللاتينية، وتحثهم على الدفاع والذود عن الوطن، وكان جمالُها مفرطًا، وكلامها عذبًا، وفصاحتها تأخذ بمجامع القلوب، فسُحر المجريون بها، ورقُّوا لدموعها، وجردوا سيوفهم، وعاهدوها على الدفاع إلى الموت، وبمساعدة المجريين تمكنت من عقد هدنة «أكس لاشاپل» سنة ١٧٤٨م، بعد حرب سبع سنوات، وخسارة كثير من أملاكها، غير أنها تمكنت بذلك من أن سمَّت زوجها إمبراطورًا، واضطرت بقية الدول إلى الاعتراف به، ثم صرفت همتها إلى ترقية العلوم والصناعة والزراعة والتجارة، فزادت المكاسب وتحسنت الأحوال، وانتشلت البلاد من ضيقتها المالية، وكانت تسوس البلاد بمساعدة زوجها ووزيرها «كونتز» المشهور، ثم تجددت الحرب بينها وبين «فريدريك الكبير»، ملك «بروسيا»، ودامت سبع سنوات، فضعفت البلاد وخسرت ما كانت قد كسبته في زمن السلم، ثم عقب هذه الحرب سلم طويل، فعادت إلى ترقية العلوم والصنائع، وأدخلت إلى بلادها إصلاحات شتى.
وسنة ١٧٦٣م، توفي زوجها، فأشركت ابنها يوسف معها في الملك، واشترك مع روسيا وبروسيا في اقتسام بولاندا، فنالها من ذلك الثلث، وأضافت إلى ذلك «غالينسيا» و«لودوميريا»، وأخذت من الدولة العالية بوكونيا، وتوفيت سنة ١٧٨٠م، بعد أن ملكت أربعين سنة أظهرت في خلالها من الشجاعة والحزم والعزم والحكمة في السياسة، وتدبير الرعية، وترقية المعارف والصنائع ما فاقت به على الرجال، ووصلت به النمسا في أيامها إلى أوج مجدها، وتوفيت عن ثلاثة بنين وست بنات، وخلفها في الملك ابنها المذكور آنفًا باسم يوسف الثاني.
ماريا متشل الفلكية الأمريكية
ماريا متشل ابنة رجل أمريكي من طائفة الكواكر. ولدت سنة ١٨١٨م، وكان أبوها مولعًا بعلم الهيئة والحسابات الفلكية، فتعلمت منه الحساب، وكان لها ميل شديد إلى العلوم الرياضية، فبرعت فيها، مع أنها كانت تقوم بخدمة البيت من غسل الصحاف وما أشبه ذلك، ولم يحاول أبوها صرفها عن ميلها الطبيعي، بل قواه فيها بتعليمه إياها العلوم الرياضية كلها، حتى سلك الأبحر كما علم بنيه الذكور.
وكانت تقول: إن المرأة تستطيع أن تتعلم سبع لغات وهي تعمل بيديها في الخياطة والتطريز، وكان أبوها مستخدمًا في اللجنة التي تمسح الشواطئ البحرية، فاستعان بها على أعماله الحسابية، ومن ثم تعرفت بكثيرين من مشاهير علماء العصر، وكان هؤلاء العلماء يزورونها ويحاورونها في المباحث العملية، ولم يكن أبوها في بسطة من العيش، فعزمت على أن تساعده على السعي لعائلته، فجعلت مديرة لأحد المكاتب العمومية، وبقيت في هذا المنصب عشرين سنة منقطعة إلى الدرس في منتخبات الكتب، وكثيرًا ما كانت تصنع الجوارب بيديها والكتاب مفتوح أمامها وهي تطالع فيه. هذا في النهار، وأما في الليل فكانت ترصد الكواكب في أفلاكها.
وسنة ١٨٤٧م، اكتشفت نجمًا جديدًا من ذوات الأذناب، اكتشفته بالتلسكوب، وحسبت ميله وصعوده المستقيم بالتدقيق، فكتب أبوها إلى مدير مرصد «كمبردج» يعلمه بذلك، فلم يمضِ على هذا الاكتشاف إلا أسابيع قليلة حتى اشتهر اسمها في محافل العلماء، وأذاعته الجرائد العلمية، ومنحها ملك الدانمارك نيشانًا ذهبيًّا.
ولما اكتشفت هذا الاكتشاف الفلكي كان لها في المكتبة عشر سنوات، فأقامت فيها عشر سنوات أخرى عاكفة على الدرس ورصد الأفلاك، والمساعدة في تأليف الزيج «النتيجة أو التقويم» الأمريكي السنوي، ومكاتبة الجرائد العلمية.
وسنة ١٨٥٧م أتت أوروبا قصد مشاهدة مراصدها الفلكية، والتعرُّف بعلمائها المشهورين، فرحَّب بها العلماء وأكرموا مثواها؛ لأن شهرتها كانت تتقدمها حيثما ذهبت، ولم تلبث في أوروبا إلا سنة واحدة، ثم عادت إلى أمريكا، واستمرت على تأليف الزيج للحكومة إلى أن أنشأ مسيو «قاسار» مدرسة جامعة للبنات، ومرصدًا فلكيًّا فيها، فجعلت مديرة لهذا المرصد، وأستاذة لعلم الهيئة في المدرسة المذكورة، وهي الآن عضو في مجمع العلوم الأمريكي، وفي جمعية الفنون والعلوم، ولها تأليفان؛ الواحد: في أقمار زحل، والثاني: في أقمار المشتري، ورصود معتبرة في النيازك وعبور الزهرة.
وقد بلغت فوق السبعين من عمرها، وكلل الشيب رأسها، ولكنها لم تزل تراقب الأفلاك، وتعلم بنات نوعها مراقبتها، ومشاركة الرجال في أسمى المطالب العلمية.
ماريا مورغان الأمريكية
ولدت في جنوب أيرلندا سنة ١٨٢٨م من أبوين من ذوي المقامات الرفيعة، وربيت على ظهور الصافنات الجياد منذ نعومة أظافرها، فلم تناهز العاشرة حتى صارت تسابق الفرسان وتكسب الرهان، ثم توفي أبوها فانتقلت أملاكه كلها إلى بكره، بحسب شريعة البلاد، فاضطرت أن تسعى لنفسها في طلب رزقها، وكان لها أخت أصغر منها تعلمت فن التصوير وأرادت أن تتقنه في مدينة رومية — أم المصورين ومرضعتهم — فذهبتا إليها سوية، وتعرفت هناك ﺑ «هربت هوسمر» النَّحات الأمريكي — وكان نزيلًا في رومية، وعنده كثير من جياد الخيل — فجعلت تركبها وتروضها حتى ذاع صيتها في بلاد إيطاليا.
ولما مضى عليها سنتان في رومية قصدت مدينة فلورنسا — وكانت كرسي ملوك إيطاليا — فدعاها الملك «فكتور عمانوئيل» إليه، ورحب بها وأجلسها بجانبه، وجعل يحدثها بأمر الخيل، فرآها من أعرف الناس بها، فأقامها مديرة على الإصطبلات الملكية، وبقيت في هذا المنصب العالي سنين كثيرة، وكانت تذهب إلى إنكلترا وأيرلندا من وقت إلى آخر لتبتاع له الجياد، وأهداها نجمًا من الماس وساعة من الذهب عليها اسمه بحجارة الماس؛ لما رآه فيها من الهمة والاجتهاد.
وسنة ١٨٦٩م، قصدت الولايات المتحدة الأمريكية ومعها مكاتيب التوصية من سفير الولايات المتحدة في إيطاليا إلى رجل من أخصائه، فوجدت أن الرجل مات فجأة قبل وصولها، فسقط في يدها ولم تعلم ماذا تعمل! وعرض عليها مدير جريدة التيمس — التي تطبع في مدينة نيويورك — أن تنشئ له ما يكتب في جريدته عن الخيول وأخبارها، فترددت في قبول ذلك، ولما لم تجد عملًا آخر يقوم بمعيشتها قبلته، وجعلت تتردد على أسواق الخيل وميادينها، وتكتب فيها الفصول الضافية، وتصدت لها بقية الجرائد في أول الأمر وسلقتها بألسنة حداد، ولكنها عادت فأثنت عليها بما هي أهله؛ لما رأت من بلاغة إنشائها، وسمو مداركها، ولين عريكتها، وواسع خبرتها.
وأقامت في هذا المنصب أكثر من عشرين سنة، وكانت تكاتب كثيرًا من الجرائد العلمية والأدبية، واشتهرت ببلاغة الإنشاء، وقوة الحجة، وكانت ثقة قومها في معرفة الخيول، وزارت أوروبا مرارًا عديدة وأختها المصورة برفقتها. ومنذ عهد غير بعيد أخذت تبني دارًا كبيرة، وكانت تدفع نفقات البناء من المال الذي أحرزته بقلمها، وأختها تعتني بنقش الدار وتزويقها، ولكن عاجلتها المنية قبل أن تسكنها، وهي في الرابعة والستين من عمرها، وقد كتبت على جبين الدهر: «ليس دون الرجال النساءُ.»
ماري جان غومرد دوفويريني
«كونتس باري» خليلة «لويس الخامس عشر». ولدت في فوكولور من «شميانيا» سنة ١٧٤٦م، وقُتلت في باريس سنة ١٧٩٣م. كانت بنتَ خياطةٍ، واستخدمت في مخزن بباريس تباع فيه ملابس الرأس، وكانت ذات جمال بارع سلبت فيه قلوب كثيرين من باريس، ومن ضمن مَن تعلقوا بها الكونت جان دوباري، فأوعز إلى بعض خدمه أن يصفها للملك، ويذكر له محاسنها ودلالها، محاولًا بذلك بلوغ المناصب العالية وجمْع ثروة وافرة.
فلما نمى خبرها إلى لويس الخامس عشر زوَّجها بأخي الكونت المذكور، ثم فتح لها أبواب البلاط الملكي، فكانت تدخله كالخواتين الكريمات، وسرى حبها في عروق الملك، فتمكَّن فيها، ولم يعتره فتور مدة حياته بطولها. أما ما أنفق عليها من خزينة فرنسا، فبلغ أكثر من خمسة وثلاثين مليون فرنك! أمدت بجانب منها أقرباءها وأصدقاءها، وتصدقت بجانبٍ آخر على الفقراء؛ كفارة عن إثمها، وكانت تتداخل في مصالح الدولة، فحصل لها أهمية كبرى، وهي التي حملت الملك على نفي دوق «سوازول» كبير وزرائه؛ لأنه كان أشد أعدائها، وبعثته أيضًا على فض المجلس العالي الذي التأم سنة ١٧٧١م، وإبعاد أعضائه، غير أن للزمان نكبات فلم يسلم منها من سلك مسلك الغرور.
فلما توفي الملك نفاها «لويس السادس عشر» من بلاطه، غير أنه سمح لها بالرجوع إلى جناح القصر الملكي الذي بني لها في «لوسيانة» قرب «فرساليا»، فأقامت فيه مع دوق برتياله عشيقها، وكانت عيشتهما عيشة تَنَعُّم.
وسنة ١٧٩٢م، سافرت إلى إنكلترا، ولما رجعت منه ألقي عليها القبض سنة ١٧٩٣م، بدعوى اختلاسها الأموال ومؤامرتها على الجمهورية، ولبسها ثوب الحداد في «لوندرا» على العائلة الملكية، فحكم عليها بالقتل، وكانت قد تشددت مدة المحاكمة، غير أن عزيمتها خارت في طريقها إلى دكة الدم، واستمرت إلى آخر دقيقة من حياتها تسأل العفو بكلام يدعو إلى الشفقة، فلم يغنِ عنها ذلك شيئًا. وكانت ساعدت بعض الشعراء وقربتهم، واقتبست منهم بعض معارف، واستعانت بها على مقاصدها، وبالجملة كانت بارَّة بالفقراء والمساكين.
ماري أنتوانِت ابنة دوق توسكا من ماريا تريزيا
ولدت سنة ١٧٥٥م، وتزوجت وهي في السادسة عشرة من عمرها بولي عهد فرنسا «لويس السادس عشر»، وكانت حينئذ على غاية البساطة وصفاء النية، محبة للمزح، أنيسة العشرة، بعيدة عن التأنف والرسوم المرعية في قصور الملوك، وسُمِّي زوجها ملكًا على فرنسا سنة ١٧٧٤م، وكان ذلك بدأة أتعابها، فكَرِهها الشعب الفرنساوي واتَّهمها بدسائس عديدة لم يقدر أن يُثبتَ واحدة منها، وكانت هفواتها العظيمة حب الفخفخة والولائم والمسرات، وقصورها عن إدراك ويلات البلاد ومصائبها.
قيل: إنها رأت الفقراء يتضورون جوعًا فقالت: إني أحزن لفقرهم، فإذا لم يكن لهم خبزٌ يأكلونه فليأكلوا كعكًا! وكان الفرنساويون يزدادون بغضًا لها وعداوة، واتهموها بسرقة أموال البلاد وإنفاقها على ما لا فائدة منه، وهجَم جمهورٌ من رِعاعهم على قصر فرساليا بقصد قتلها، وطلبوا أن تخرج إليهم، فخرجت بشجاعة وثبات يندر وجودهما في مثل تلك الأحوال، وأمسكت بيدها ولي العهد ابنها الطفل، فلم يجسر أحد أن يرميها بشيء؛ مخافة أن يُصيبه.
وكان ذلك سبب نجاتها، ثم أرادت مصالحة الأمة، فزارت بعض المعامل، وأظهرت سرورها من تقدُّم الصناعة فيها، وبيَّنت اهتمامها بأحوال الشعب، غير أن الخرق كان اتَّسع على الراقع، فازداد الفرنساويون بغضًا وكرهًا لها، ولمَّا رأت منهم ذلك صمَّمت على الهرب من البلاد هي وزوجها، فمانعها زوجها حاسبًا أن هربه في تلك الأحوال ضرب من الخيانة لبلاده.
وكان شريف النفس أبيَّها، محبًّا للأمة لا يشوبه إلا ضعف الهمة، وفي أحد الأيام هجم البعض عليه، وأوقفوا مركبته، فساءه ذلك وحسبه تعديًا شخصيًّا، فهرب مع عائلته في ٢٠ يونيو سنة ١٧٩١م. ولسوء حظِّه أُمسك في فاران، وأُرجع أسيرًا إلى باريس، وزاد هياج الشعب ضد الملكة، واتهموها بدسيسة مع النمسا، وقويت حجة فرنسا، وبعد عراك طويل ومعاناة أخطار شتى أظهرت أثناءها شجاعة غريبة، وقوة نادرة، وعزمًا وحزمًا تقصر عنهما الرجال.
حكم عليها المجلس بالقتل في ١٥ أكتوبر سنة ١٧٩٣م، وأنفذ الحكم في اليوم الثاني، وذلك بعدما قتل زوجها بثمانية أشهر، وهكذا انتهت حياة هذه الملكة الفريدة التي فاقت الرجال عزيمة وثباتًا، وقاسمتهم الأتعاب والمشاق.
ماري ستوارث ابنة يعقوب الخامس دوق سكوتلاندا
هي شهيرة عصرها جمالًا ونجابة، وزينة العالم الغربي علمًا ومهابة. ولدت سنة ١٥٤٢م من زوجته «ماري دي لورين»، التي ماتت بعد ولادتها بثمانية أيام.
وداعًا يا فرنسا الأنيقة، يا بلادي التي رشحت صباي، والتي فيها أقصى مشتهاي، وداعًا يا أيامي الغراء في مملكة العز والصفاء. إن الفلك الذي فصلني عنك لم يفصل سوى شطري، وأما الشطر الآخر؛ وهو ملكك، فسأتركه في مغناك ذريعة لذكراك.
وكان تغاليها في الاستمساك بالمذهب اللاتيني الذي كان استبدله قومها بمذهب لوثير جعلها بغيضة لدى الأهلين، فرأت أن تتزلف إليهم بزواجها بابن عمها «هنري»، الذي لم يكن له من مزية سوى بسطة في جسمه، ومسحة في جمال وجهه، فزُفَّت عليه سنة ١٥٦٥م، وكان لئيمًا غيورًا، فاتهمها بحب كاتم أسرارها «داود بيز يوالا يتالي»، الذي كان جميلًا فتانًا وموسيقيًّا شهيرًا، فهجم عليه ليلة من باب خفي في قصرها، ولما رآه يعزف أمامها اشتعل حسدًا وغيرة، فقتله غيلة عند الباب الخارجي.
وفي سنة ١٥٦٧م، هلك «هنري» بكيفية تجلب الشك في أمر موته، فاتُّهمت به، وعقيب ثلاثة أشهر تزوجت بلا تدبر في العواقب بالكونت بوتويل، الذي قيل عنه: إنه المُجْهِز بأمرها على زوجها، فهاج فعلُها هذا القومَ، فاتهموها بالخيانة والفاحشة، وزجوها في معقل «لوس ليفان»، وساموها جحد مذهبها علنًا، فأبتْ ولبثتْ سجينة حيثما تمخَّضت عن ولدها «جمس الأول»، الذي وحد مملكتي «سكوتلاندا» والإنكليز، ثم حاولت الفرار فتدلَّت من شرفة عالية، ونجت بنوع عجيب، وكتبت إذ يئست من الملك مستجيرةً بابنة عمها الملكة «أليصابات»، وذلك سنة ١٥٦٨م، فاستقدمتها بأمان.
ولما رأتْ ما أُوتيتْ من محاسن الذات والصفات أضمرتْ لها شرًّا وحسدًا، ثم افترت عليها أمورًا؛ منها: أنها قتلت زوجها، فأودعتها سجنًا ضيقًا مكثت فيه ١٨ عامًا، اتخذت في خلالها وسائل جمة للخلاص فلم تفلح، ومن تلا نبأ سجنها وما لقيت فيه من الضر والنكد لا يكاد يملك عبراته حزنًا ووجدًا، ولو كان فؤاده حجرًا صلدًا، ولم يكف «أليصابات» ذلك حتى اتهمتها ظلمًا ولؤمًا بأنها عاونت فريقًا من أهل مذهبها على إهلاكها، فخفرت ذمتها وحكمت عليها بالموت.
ثم أمرت الأمير «بيل» — وكان من أشد الناس عداوة لماري — بأن يزورها في السجن، وينذرها بوشك القتل، فسار مع فريق من الأمراء وأبلغها الرسالة بلسان أمرَّ من الصبر، وفؤاد أقسى من الصخر، فأجابته متجلدة: إني لست من رعية ابنة عمي؛ فكيف تأمر بقتلي؟! وإذا كان رضاها بموتي فأهلًا به. ألا إن نفسًا لا تسمح لجسم بأن يتحمل ضربة جلاد؛ فهو إذن غير جدير بنعيم الملك الجواد، ثم دعت قسيسها — وكانوا قد حالوا بينهما — فقال لها بعض النبلاء: لو فاوضت أسقفًا لوتيريًّا لكان أقرب للتقوى، فأبتْ، وكان أمير «كنت» متحمسًا في البروتستانتية فقال: إن حياتك لدينا موت، وموتك حياة لنا.
ولما انصرفوا أمرت بالطعام وتناولت قليلًا منه على عادتها، وحانت منها لفتة فرأت خُدَّامها يبكون، فقالت لهم: كفوا يا إخوتي، وافرحوا بانطلاقي من هذا العالَمِ؛ عالم الشقاء، ثم شربت بعد العشاء على أسمائهم رجالًا ونساء، فشربوا معها ركعًا وقد مزجوا شرابهم من عيونهم بماء، والتمسوا عفوها، فعفت عنهم، واستعفتهم عنها، ثم كتبت وصيتها، ووزعت بينهم حلاها وألبستها، وكتبت إلى ملك فرنسا رسائل وصاة في حق جميع حاشيتها، ثم تودَّعت من النوم بالغرار، وأحيت سائر ليلها بالتهجد والاستغفار.
ولما ألقت الغزالة لعابها جاء أمر في طلابها، وكان النهار صاحيًا، ووجه السماء ضاحكًا ضاحيًا، فلبست أبهى ثيابها، وأسدلت عليها رداء من كتان، وخرجت على الفور وسجتها في بنانها، وعلى مُحيَّاها الصبيح الوقور سمات الخفر والتجلد، وكان المجد والإجلال يسيران في خدمتها.
ولما بلغت مقتلها استقبلها الأعيان والأمراء، وبينهم خادمها «ملفن» يشرق بالبكاء، فقالت له: رويدك يا «ملفن»، وكفاك نحيبًا؛ فإنك عما قليل ترى ماري معتوقة من قيد أحزانها، فقل لأهل سكوتلاندا: إني أموت كاثوليكية حافظة لفرنسا وسكوتلاندا عهدي. إلهي اغفر لمن ظمئ إلى دمي كما تظمأ الإبل إلى الماء. إلهي إنك تعلم سرائري وخفايا ضمائري؛ فبرِّئني عند ابني اليتيم، أو ألهمه أن حياتي لم تدنس حرمته، ولم تشن مملكته. إلهي وفِّقه إلى أن ينهج مع ملكة الإنكليز منهج صدق ووداد. إنك لغفور سميع جواد.
ثم ذرفت مدامعها ككريات من الماس تقذف من لجين، وتدحرج على صفحتي لجين، وودعت خادمها الوداع الأخير، فاندفع في البكاء حتى تولَّاه الإغماء، ثم التفتت بجلالها إلى الأمراء، ورغبت إليهم أن يُساعدوا خدمتها على إحراز مالهم من وصيتها، وأن يمكنوهم من القيام حولها ساعة قتلها، فتجافى أمير «كنت» عن مطلبها الثاني؛ لوساوس شيطانية! فقالت له: لا تخف دركًا من هذه النعاج الوديعة الوريقة التي لا مأرب لها إلا التملي مني بهذا الوداع الأليم، وعندي أن حبيبتي لا تمنعني ذلك، كيف لا وأنا ملكة أيضًا وابنة ملك، وزوجة ملك، وأقرب الناس إليها، والله يعلم أنني أقول ذلك بقلبٍ سليم، وضميرٍ مستقيم؟ فلبُّوها حينئذٍ، وسار أمامها الأمراء وخادمها الخاص وراءها رافع رداءها، حتى إذا بلغوا المذبح استوت على أريكة سوداء، فتلى أمر قتلها، فسمعته بإصغاء.
ثم حاول الأساقفة أن يميلوا بها عن مذهبها، فأجابتهم: إني أموت على ما ولدت، فطلب الأمراء أن يشتركوا معها في الصلاة والدعاء، فقالت: لكم دينكم ولي دين!
ثم جثت وأخذت تصلي باللاتينية، فتابعها خدمتها، ولما فرغت كررت الاستغفار عن الملكة والدعاء لابنها، فتقدم الجلاد مستسمحًا، فأجابته مسامحة، ثم نزع عنها خُدَّامها رداءها الأعلى باكيات نائحات، فقابلتهن بالصبر وكفِّ العبرات، ثم غطَّت وجهها بقناعٍ أسودَ، واستوت على الخشبة قائلة: إلهي استودعتك روحي، واستقبَلَت الموت.
فتقدم الجلاد، وقطع هامتها، فهتف الأسقف: هكذا لتهلك أعداؤنا! ثم حنطت جثتها ودفنت باحتفال في كنيسة «بيتير بورغ»، وصنع لها في باريس مأتم حافل، وكان لها من العمر يوم قتلها أربع وأربعون سنة وشهران، وما زال رسمها محفوظًا فوق سريرها في «أيدنبورغ» قاعدة سكوتلاندا، ولها رسم آخر في محبسها الأول محفوظًا مع تاج الملك والسيف والصولجان، ووسام وخاتم ياقوتي فصُّه أكبر من البُندقة، وقد ألَّف مشاهير الكتبة بحياة «ماري» وبراءتها روايات كثيرة، شعرًا ونثرًا، تركوها بعدها للناس أمثولة وذكرى.
وكتبت إلى «أليصابات» وهي في سجنها تقول: من «ماري ستوارث» إلى «أليصابات»، ملكة إنكلترا، لقد برح الخفاء أيتها السيدة، وظهرت عقبة مَن يتَّكل على عدلك في حفظ الذمام وكرم الأخلاق، وقد تبيَّن لي أن المستجير بك عند البلاء كالمستجير بالنار من الرمضاء. فعلام لا تقابلينني؟! ولأي ذنب تلقينني في السجن وقد كنت آمل أن أرتع عندك في القصور المنيعة؟! ولماذا لم أَرَ منك إلا الضغينة والبغضاء عوضًا عن المودة والولاء؟! وهل السجون والقبور لمثل «ماري ستوارث» حتى يحكم عليها مجلسك بها؟! وعلى أي ذنب بنوا حكمهم ووَافَقْتِهم عليه؟! يا تُرى أساءك مني أن معتقدي يخالف معتقدك، وأني لست ابنة كنيستك؟! أوتعدِّين هذا ذنبًا سياسيًّا حتى انقضضت عليَّ من أجله منتقمة متشفية، على حين سلَّمت نفسي إليك، وألقيت أمري بين يديك وقلتُ: خذوها فغلُّوها؟! آه لقد قضى أهل المروءة! فوا حرَّ قلباه!
وآخر ما أقوله أيتها السيدة: إنك إذا كنت لا تنظرين في سوء حالي وشدة مصابي؛ فتنازلي وانظري بعض النظر في مقامي، واعلمي أن في «ماري ستوارث» خلفًا — وأي خلفٍ — لعرش «سكوتلاندا»؟ إنما أنا عالمة أنك تقصدين التنكيل بي، وأعلم السبب الداعي إلى ذلك، ولكنني لا أخاف تنكيلًا، ولا أرهب وعيدًا؛ فإن «أليصابات» لم تعرف بعدُ أي عظيمة ضمَّها صدر «ماري ستوارث»، فسأتحمَّل الظلم بنفسٍ راضية دون أن أفوه ببنت شفة، مكتفية بأن لي ربًّا يُنصف المظلوم من الظالم، وهو الذي يُشيد الممالك ويُقوِّضها، ويرفع الملوك ويخفضها، فليهنأ لك الملك يا «أليصابات»، ولتقر عينك به، وقد خلا لك الجو؛ فاملكي واسرحي وامرحي! ولكنني أذكرك في الختام أن لا تحكمي بغير العدل والإنسانية، والسلام.
فأجابتها أليصابات بما يأتي: إنني لا أقابلك أيتها السيدة حتى يَبيضَّ فوداك، وتصفر خداك من سجون إنكلترا! وأنت لا تتركينها ساعتئذٍ إلا لتُمثلي رواية محزنة يكون لك فيها الدور الأول! والسلام.
ماري دوارليان
وهي ابنة الملك «لويس فيلب الثاني». ولدت في بالرمو سنة ١٨١٣م، وتزوجت سنة ١٨٣٧م بألكسندر دوق دوود تمبرغ، وتوفيت سنة ١٨٣٩م. كانت مغرمة بالفنون المستظرفة، ولا سيما صناعة الحفر، ومن محفوراتها تمثال جان دارك؛ حفرته ولها من العمر ٢٠ سنة، وهو الآن في قاعة التحف في «فرساليا»، وقد حفرت تماثيل أخرى وصورت صورًا كثيرة ظريفة جدًّا.
مدام بلانشار
كانت من اللواتي اشتهرن بفن البالون؛ أي المركبة الهوائية، وكان زوجها «بلانشار» قد سقطت ثروته وخسر كل ما كان قد جمعه، فأمسى فقيرًا حتى إنه قال لها وهو على فراش الموت: إنه لا يرى لها فرجًا بعد موته إلا بأن تقتل نفسها شنقًا أو غرقًا.
ولكنها صممت على المسير في السبيل الذي كان زوجها يسير فيه، وبناء على ذلك شرعت في الصعود في الهواء وغير ذلك، فصعدت مرارًا كثيرة، ونجحت كلَّ النجاح، وأتقنت العمل وتشجعت حتى إنها كانت تعرض نفسها لأخطارٍ كثيرة. وكانت هذه المخاطرات واسطة لتشديد رغبة القوم في التفرج على أعمالها، وبالنتيجة كانت تزيد مداخيلها المالية، وكثيرًا ما كانت تصادف من المخاطر ما كان يكاد يأتيها بالهلاك، وصعدت مرة فأفلت منها عنان مركبتها؛ فسقطت بها إلى مكان موحل يغرق من سقط فيه، فتعلقت المركبة في الأشجار.
وكانت تندفع من مكان إلى مكان بشدة مخيفة، حتى ظن القوم الذين كانوا يتفرجون عليها أنها تهلك إذا لم يُبادر أهل القرى المجاورة لتخليصها! أما عدد صعودها في الهواء صعودًا عموميًّا، فكان بين الخمسين والستين مرة، وكانت في كل مرة تعمل أعمالًا تختلف عن التي عملتها في غيرها.
وفي سنة ١٨١٩م للميلاد، صممت على أن تقيم وهي طائرة في المركبة أعمالًا نارية كالتي يقيمونها في الأفراح والأعياد والولائم، وكانت تربط الأسهم النارية في المركبة، بحيث تقدر أن تشغلها بقضيب طويل في رأسه نار مشتعلة، وكانت تشعلها وتقطع الرباط، فتقع مشتعلة إلى أسفل؛ فيراها المتفرجون. هذا ومعلوم أن من أغرب الأعمال التي عملها بشر هذا العمل الذي كانت تتجاسر أن تعمله امرأة؛ لأنها كانت تصعد إلى الهواء وتبعد عن الأرض ألوفًا من الأقدام بواسطة مادة قابلة جدًّا للاحتراق، وموضوعة في ظرف رقيق قابل للاحتراق أيضًا، وتأخذ في إشعال البارود وغيره من المواد السريعة الاشتعال بقضيب طويل مشتعل.
وكان البعض ينظرون إلى ذلك بعين الخوف؛ لأنهم كانوا يعلمون أن شرارة واحدة من القضيب المشتعل الرأس، أو من المواد التي كانت تحرقها كافية لحرق تلك المركبة الكبيرة إذا وصلت إلى الهيدروجين الذي كان يرفعها، وهكذا حدث؛ فإن النار اشتعلت فاشتعل أسفل المركبة، فأخذت تسقط بسرعة، ثم احترقت الحبال التي كانت تربط مجلس المركبة وسقط؛ فسقطت مدام «بلانشار» على سطح من سطوح بيوت المدينة، ومنها على الأرض فماتت حالًا.
المتجردة هند زوجة المنذر بن ماء السماء
كانت من أعظم نساء العرب جمالًا، فلما مات عنها أخذها ولده النعمان، فكان يُجلسها مع نديميه النابغة والمنخل، فشغفت بالمنخل وامتزجا حبًّا، فأمر النعمان يومًا النابغة أن يصفها، فقال:
فقال المنخل: إن هذا وصف مُعاين، وحرَّض النعمان على قتله، فهرب — وكان عفيفًا — فلما خرج النعمان إلى الصيد رجع بغتة، فوجد المتجردة مع المنخل وقد ألبسته أحد خلخاليها، وشدت رجله إلى رجليها، فقتله. وللمنخل فيها أبيات؛ منها:
متيَّم الهشامية
كانت متيم صفراء مولدة من مولدات البصرة، وبها نشأت وتأدبت وغنت، وأخذت عن إسحاق وعن أبيه من قبله، وعن طبقتهما من المغنين، وكانت من تخريج بذل المغنية وتعليمها لها، وعلى ما أخذت عنها كانت تعتمد؛ فاشتراها علي بن هشام بعد ذلك، فما ازدرت أحدًا ممن كان يغشاه من المغنين. وكانت من أحسن الناس وجهًا وغناءَ وأدبًا، وكانت تقول شعرًا مستحسنًا من مثلها، وحظيت عند علي بن هشام حظوة شديدة، وتقدمت عنده على جواريه أجمع، وهي أم أولاده كلهم، فولدت له صفية — وتكنى أم العباس — ثم ولدت محمدًا، ويعرف بأبي عبد الله، ثم ولدت بعده ابنًا يقال له: هارون، ويعرف بأبي جعفر، سمَّاه المأمون وكنَّاه بهذا الاسم والكنية، قال: ولما توفي علي بن هشام عتقت.
وكان المأمون يبعث إليها فتجيبه فتغنيه، فلما خرج المعتصم إلى «سُرَّ مَنْ رَأَى» أرسل إليها فاستخلصها، وأنزلها داخل الجوسق في دار كانت تُسمَّى الدمشقي، وأقطعها غيرها، وكانت تستأذن المعتصم في الدخول إلى بغداد إلى ولدها فتزورهم، ثم ضمَّ إليها قلم، وهي جارية لعلي بن هشام.
قال الحسن بن إبراهيم بن رياح: سألت عبد الله بن العباس الربيعي: من أحسن من أدركت صنعة؟ قال: إسحاق، قلت: ثم من؟ قال: علوية، قلت: ثم من؟ قال: متيم، قلت: ثم من؟ قال: أنا، فعجبت من تقديمه متيم على نفسه! فقال: الحق أحقُّ أن يتبع.
وكانت متيم جالسة بين يدي المعتصم ذات يوم ببغداد، وإبراهيم بن المهدي حاضر، فغنَّت متيم:
فأشار إليها إبراهيم أن تعيده، فقالت متيم للمعتصم: يا سيدي، إبراهيم يستعيدني الصوت، وكأني أراه يريد أن يأخذه! فقال: لا تعيديه.
فلما كان بعد أيام، كان إبراهيم حاضرًا مجلس المعتصم ومتيم غائبة، فانصرف إبراهيم بعد حين إلى منزله، ومتيم في منزلها بالميدان وطريقه عليها، وهي في منظرة لها مشرفة على الطريق، فسمعها تغني هذا الصوت، فضرب باب المنظرة بمقرعة وقال: قد أخذناه بلا حمدك!
وكان المأمون سأل علي بن هشام أن يهبها له — وكان بغنائها معجبًا — فدفعه عن ذلك، ولم يكن له منها ولد وقتئذٍ، فلما ألح المأمون في طلبها حرص على أن تعلق منه حتى حملت ويئس المأمون منها، فيقال: إن ذلك كان سببًا لغضبه عليه حتى قتله!
وقال علي بن محمد الهشامي: إنه أُهدي إلى علي بن هشام برذون أشهب قرطاسي، وكان في النهاية من الحسن والفراهة، وكان علي به معجبًا، وكان إسحاق يرغب فيه رغبة شديدة، وعرَّض لعلي يطلبه مرارًا فلم يرض أن يعطيه له، فسار إسحاق إلى علي يومًا يعقب صنعة متيم في هذا الصوت:
فاستعاده إسحاق واستحسنه، ثم قال له: بكم تشتري مني هذا الصوت؟! فقال علي بن هشام: جاريتي تصنع هذا الصوت وأشتريه منك؟! قال: قد أخذته الساعة وأدَّعيه، فقول مَن يُصدَّق: قولي أو قولك؟! فاختر الآن مني خلة من اثنتين: إما أن تهبني البرذون وتحملني عليه، وإما أن أبيت فأدعي والله هذا الصوت لي وقد أخذته، قال علي: يُؤخذ قولك ويُترك قولي! لا والله ما أظن هذا، ولا أراه! يا غلام، قدِّم هذا البرذون إلى منزل أبي محمد بسَرْجه ولجامه، لا بارك الله لك فيه!
وكلم ابن هشام متيم يومًا في كلام فأجابته جوابًا لم يرضه، فدفع يده في صدرها، فغضبت ونهضت فتثاقلت عن الخروج إليه، فكتب إليها:
فصنعت له لحنًا وخرجت إليه وصالحته وغنَّته الصوت، وعتبتْ عليه مرة فتمادى عتبها، وترضاها فلم ترض، فقال الدلال يدعو إلى الملال، ورب هجر دعا إلى صبر، وإنما سمي القلب قلبًا لتقلُّبه، ولقد صدَق العباس بن الأحنف حيث يقول:
فخرجت إليه من وقتها، وقال الهشامي: كانت متيم تحبني حبًّا شديدًا محبة الأخت لأخيها، وكانت تعرف أني أحب النبق، فبينما أنا جالس في داري في ليلة من الليالي في وقت السحر إذا أنا ببابي يدق، فقيل: من هذا؟ فقالوا: خادم متيم يريد أن يدخل إليك، فقلت: يدخل، فدخل ومعه صينية فيها نبق، فقال لي: إن متيم تُقرئُك السلام وتقول لك: كنت عند أمير المؤمنين المعتصم بالله، فجاءه نبق من أحسن ما يكون، فأمر أن يوضع في صينية ويُقدِّموها إلى متيم، ففعلوا، فأمرتني أن آتي بها إليك، ودفعت إلي كمية من النقود حتى أدفعها إلى الحراس ليخرجوني بها، وها هي عند المعتصم.
ووفدت على علي بن هشام جدته من خراسان فقالت له يومًا: اعرض عليَّ جواريك، فعرضهن عليها ثم جلس على الشراب، وغنَّت متيم وأطالت جدته الجلوس، فلم ينبسط ابن هشام إليهن كما كان يفعل، فقال هذين البيتين:
وكتبها في رقعة ورمى بها إلى متيم، فأخذتها ونهضت إلى الصلاة، ثم عادت وقد صنعت فيه لحنًا، فغنت فقالت شاهك — وهي جدة ابن هشام: ما أرانا إلا قد ثقلنا عليكم اليوم. وأمرت الجواري فحمَلن محفَّتها، وأمرت بجوائز للجواري وساوت بينهن، وأمرت لمتيم بمائة ألف درهم.
ومرَّت متيم في نسوة وهي مستخفية بقصر علي بن هشام بعد قتله، فلما رأت بابه مغلقًا لا أنيس عليه وقد علاه التراب والغبرة، وطرحت في أفنيته المزابل؛ وقفت وقالت:
ثم سقطت من قامتها، وجعل النسوة يناشدنها ويقلن: الله الله في نفسك؛ فإنك لا تؤاخذين الآن. فبعد كل جهد حُمِلت تتهادى بين امرأتين حتى تجاوزت الموضع.
وقالت متيم: بعث إليَّ المعتصمُ بعد قدومه بغداد، فذهبت إليه، فأمرني بالغناء فغنيت:
فقال: اعدلي عن هذا البيت إلى غيره، فغنَّيته غيره عن معناه، فدمعت عيناه وقال: غني غير هذا فغنيته:
فبكى وقال: ويحكِ لا تغني في هذا المعنى شيئًا! فغنيت:
فقال: والله لولا أني أعلم أنك غنيتِ بما في قلبك لصاحبكِ، وأنك لم تنذريني لمَثَّلتُ بك، ولكن خذوا بيدها فأَخْرِجوها! فأُخْرِجت.
ولما مات علي بن هشام جاء النوائح، فطرح بعض من حضر من مغنياته عليهن نوحًا من نوح متيم، وكان حسنًا جيدًا، فأبطأ نوح النوائح التي جئن؛ لحسنه وجودته، وكانت زين حاضرة فاستحسنته جدًّا وقالت: رضي الله عنك يا متيم؛ كنت علمًا في السرور، وأنت علم في المصائب.
وماتت متيم هي وإبراهيم بن المهدي وبذل في آن واحد، وكان للمعتصم جارية ذات مجون فقالت: يا سيدي، أظن أن في الجنة عرسًا فطلبوا هؤلاء إليه! فنهاها المعتصم عن هذا القول وأنكره، فلما كان بعد أيام وقع حريق في حجرة هذه القائلة فاحترق كل ما تملكه، وسمع المعتصم الجلبة فقال: ما هذا؟! فأخبر عنه، فدعا بها فقال: ما قصتك؟! فبكت وقالت: يا سيدي، احترق كل ما أملكه. فقال: لا تجزعي؛ فإن هذا لم يحترق وإنما استعاره أصحاب ذلك العرس!
مرغريتا الفرنساوية ملكة إنكلترا
هي «مرغريتا أف أنجو» زوجة «هنري السادس». كانت من النساء العاقلات العالمات بضروب السياسة والأحكام، تربت تربية مجد وشرف.
ولما اقترن بها «هنري السادس» استحوذت على قلبه، وملكت الشعب الإنكليزي بحسن سياستها وتدبيرها ملكًا لم يسبق لغيرها من الملكات قبلها، وكانت ظالمة عاتية على المذنبين لديها.
وكان زوجها حليمًا، قليل الهمة، سليم الطباع، لا يلاقي الحوادث بقوة ونشاط، حتى نشأ من سبب ضعفه وعدم اقتدار «مرغريتا» بمفردها على تدبير المملكة رجوع عائلة «بورك» على ما كانت تدعيه سابقًا من حقوق التملُّك، وكان كبار حزب «لنكستر»؛ وهم: الكردينال «بوفورت»، ودوق «دولدفورد»، ودوق «دوغلوستر»، الذين دبروا الملك لما كان «هنري السادس» قاصرًا قد توفوا عن آخرهم، فقام «رتشرد» دوق «بورك» — وهو والد «إدوارد الرابع» — وأخذ يُظهر بكل رفق ودقة حقَّه في الملك، فعضده في ذلك أرل «ورويك» وأرل «سلزيري».
وكان من أعيان إنكلترا الأقوياء، فجرد السيف لمقاتلة «سمرست»، آخر الأشراف الكبار من عائلة «لنكستر»، فانتصر في «سنت البنس» سنة ١٤٥٥م، وكان ذلك الانتصار بداية الحرب بين حزب «وردة لنكستر الحمراء» وحزب «وردة بورك البيضاء»، وتقلبت الأحوال على «رتشرد»، فكان ينجح مرة، ثم يصادف فشلًا مرة أخرى، إلى أن كسرته الملكة «مرغريتا» وذبحته في «ويكفيلد» سنة ١٤٦٠م، فتقلد ابنه «إدوارد» رياسة جيش موات من سكان حدود «ولس» ومن سكان الجبال، وهزم عساكر جرارة تحت قيادة أرل «بميروك»، وأرل «أرمند» بالقرب من «هردفرد».
ثم سار إلى الجهة الجنوبية وأتى لنجدته أرل «ورويك»، الذي انكسر في برنت، فسار إلى لندن فدخلها من دون ممانعة، واستمال إليه الناس بحداثة سنِّه وجراءته وجماله، وأقرَّه المجلس العالي على تخت الملك في ٤ آذار (مارس) سنة ١٤٦١م، فصار للمملكة ملكان وجيشان ملكيان مختلفان في البلاد، واستعدَّ الفريقان للقتال كل الاستعداد، واجتمع في «توتون» بالقرب من «بورك» ١٠٠ ألف مقاتل من الإنكليز من كلا الفريقين، واصطفوا للقتال، وقرَّ الرأي على أنه لا يعفى عن أسرى الحرب! وابتدأت المواقعة في ٢٩ آذار (مارس) سنة ١٤٦١م، والمظنون أنها أشد موقعة جرت في إنكلترا؛ فإنها دامت أكثر من يوم، وقتل فيها ٣٠ ألف رجل، وانكسر حزب «لنكستر» الذي كانت قائدته الملكة «مرغريتا» انكسارًا تامًّا، وثبت الملك «لإدوارد الرابع»، فسافرت «مرغريتا» إلى فرنسا، وطلبت مساعدة ملك الفرنساويين.
وفي سنة ١٤٦٤م، رجعت إلى «اسكوتسيا» بخمسمائة مقاتل من الفرنساويين، واجتمع إليها قوم من الاسكوتسيين، فأضرمت نار الحرب، وجرى لها مع اللورد «مونتا كيوت»، الجنرال الإنكليزي، موقعة بالقرب من «هكسام»، فدارت عليها الدائرة، وأسر الملك هنري زوجها وكثيرون من الرؤساء والقواد. وأما هي فهربت إلى فرنسا أيضًا، وذبَح إدوارد أعداءه ذبحًا ذريعًا في أوائل الانتصار.
ثم عمد إلى الحلم والرفق بالرعية، وانتهز فرصة غياب «مرغريتا»، فأطلق لنفسه العنان، وتزوج سرًّا بامرأة اسمها «إليزابيث» — أرملة السارجون «غراي»، وابنة «رتشرد دوفيل»، وهو البارون «ريفرس» — وكان قد قابلها في بيت أبيها وهو في العيد في غابة غرفتون، وفي شهر أيلول (سبتمبر) أعلن جهارًا أنها زوجته وملكة إنكلترا، ووجَّه إلى أبيها لقب أرل، فساء هذا الاقتران أرل «ورويك» العاتي المتكبر؛ لأن «إدوارد» كان يود أن يقترن بالبرنسيس بونة دوساقوا، وعهد إليه مخابرتها بذلك واستمالتها إليه، فنجح في مخابرته، فكان من «إدوارد» ما تقدم، فكَبر الأمر على الأرل واستعظمه، واتحد مع شقيق «إدوارد» — وهو دوق كلارنس — وجاهر بالعصيان سنة ١٤٦٩م.
فظهرت في الحال نتيجة اتحاده مع أشراف البلاد وأكابرها غير المرتضين بتصرفات «إدوارد»، وامتدت الثورات في كل جهات البلاد، وجنَّد «روبين» من ردسذال في كونيتة بورك ٦٠ ألف مقاتل وشهر الحرب، فسار إليه «إدوارد». وكان «ورويك» قد ذهب إلى فرنسا فاستمال إليه لويس الحادي عشر، وصالح «مرغريتا» عدوته القديمة، ورجع إلى إنكلترا بعساكر قليلة، فنزل في «درتموت» ولم يمض إلا أيام قلائل حتى صار عنده ٦٠ ألف مقاتل ونيف؛ لأن الشعب كان يحبُّه كثيرًا، فتقدَّم إلى الشمال، وكان تقدُّمه سببًا لانحلال عزائم الجنود الملكية، فهرب إدوارد إلى هولاندا سنة ١٤٧٠م، وأُخرج خصمه من القصر الذي كان محبوسًا فيه، فسمع الناس في أزقة لندن وشوارعها تضج مرة أخرى بذكر اسمه، والتأم المجلس العالي بأمر الملك الجديد، فحكم فيه على «إدوارد» بأنه غاصب، وصادف المتحزبون له إهانة واحتقارًا نقضت كل الأعمال التي جرت في أيامه.
وكانت سطوة «مرغريتا» في الشعب الإنكليزي نافذة، وأحزابها كثيرون، وكلما أرادت الثورة تجد من يساعدها، وآلت على نفسها أن لا تدع إنكلترا في راحة ما دامت على قيد الحياة؛ ولذلك صارت تلقي الدسائس والفتن، وكلما سمعت بثورة كانت أول مَن بادر إليها، إلا أن دوق برغنديا كان يساعد «إدوارد» سرًّا؛ فجمع «إدوارد» جيشًا من الفلمنك في مدة قصيرة، وسار بهم إلى «رافنسبور»، وتقدم إلى داخلية البلاد متظاهرًا أنه لم يأت إنكلترا إلا للحصول على الأملاك التي ورثها من آبائه.
وكان يوصي رجاله بأن يصرخوا قائلين: فليعش الملك هنري! إلى أن وردت إليه نجدات كافية لمقاتلة أعدائه، فجاهر بالعدوان، والتقت العساكر في برنت في ١٤ نيسان (أبريل) سنة ١٤٧١م، فدارت الدائرة على اللنكستريين، وقتل «ورويك» فاستولى «إدوارد» على لندن مرة ثانية، وقبض على «هنري» أيضًا، وأرجعه إلى الحبس. وفي تلك الأثناء خرجت «مرغريتا» من فرنسا، وأتت إنكلترا مع ولدها «إدوارد»، وكان له من العمر ١٨ سنة، فنزلت في «ويموت» بجيش فرنساوي في نفس النهار الذي جرت فيه موقعة برنت، وحدث بينها وبين دوق «سر مرنت» قتال في «تيوكسبري» في ٤ أيار (مارس) سنة ١٤٧١م، فانكسرت جنودها، وقتل ابنها، وأسرت هي، فبقيت في الأسر خمس سنين إلى أن افتداها ملك فرنسا. أما زوجها الملك «هنري» فمات في الحبس بعد تلك المعركة بأسابيعَ قليلةٍ.
وفي سنة ١٤٧٤م، تواطأ كل من «إدوارد» ودوق «برغنديا» على قسمة فرنسا إلى قسمين: أحدهما يشتمل على الولايات الشمالية والشرقية، تستولي عليه «برغنديا»، والآخر تستولي عليه إنكلترا، فعبر «إدوارد» في مضيق «كاني» بجيش إنكليزي، إلا أن دوق برغنديا لم يفِ بعهده، فأرسل لإدورد تحريرًا يعتذر فيه عن قصوره.
ولما علمت «مرغريتا» بذلك سعت بكونها عقدت معاهدة ما بين «إدوارد» و«لويس»، ملك فرنسا، آلت إلى نفع «إدوارد»، فإنه تقرر فيها أن لويس يدفع لإدوارد ولكل من كبار رجاله مرتبات سنوية وافرة، وجرت هذه المعاهدة من دون قتال، ثم إن «مرغريتا» أوقعت خلافًا شديدًا بين «إدوارد» وأخيه «كلارنس»؛ لأن «إدوارد» منع «كلارنس» بمداخلته من التزوج بابنة دوق «برغنديا»، وكانت وارثة الملك بعد أبيها، وذات ثروة وافرة، وبعد ذلك بمدةٍ وجيزة قتل اثنان من أصحاب «كلارنس»؛ لتهمات كاذبة كان جملتها أنهما ساحران! فأخذ كلارنس في تبرئتهما، فقتله سرًّا في شهر شباط (فبراير) سنة ١٤٧٨م، بدعوى أنه طعن في عدالة الحكومة! وانهمك «إدوارد» في آخر حياته في اللذات والملاهي، وأهمل مصالح المملكة، وبقيت بعده «مرغريتا» مدة من الزمن حتى ماتت في فرنسا وهي قريرة العين بأخذ ثأرها من «إدوارد»؛ حيث نكَّدت عليه كل حياته، وتوفيت بعده بمدة طويلة.
مرغريتا دي فالوا
هي شقيقة فرنسيس الأول ملك فرنسا، ومن أشهر النساء الكاتبات اللواتي نبغن في عهده، ولدت في «أنكولبم» سنة ١٤٩٢م، وتزوجت «بشرل دي فالوا» دوق الأنسون سنة ١٥٠٩م، ثم توفي زوجها سنة ١٥٢٧م، فحزنت عليه حزنًا شديدًا، وزاد حزنها بما كان وقتئذٍ من أسر أخيها، وما ألمَّ بصحته من الاعتلال، فسارت إلى مدريد وخاطبت الإمبراطور «شرلكان» ووزراءه في أمره، فاضطروا إلى معاملته بالإكرام؛ لما رأوه فيها من الحزم، وعند رجوع فرنسيس الأول فرنسا بقي حافظًا لأخته ذكرًا جميلًا، وعقد زواجها سنة ١٥٢٧م على «هنري دالبريت» ملك نافار، فرزقت منه دالبريت والدة «هنري الرابع».
وكانت «مرغريتا دي فالوا» مجاهرة بالمحاماة عن البروتستانت، فرُفعت الشكوى عليها إلى أخيها، وحرضت إحدى الجرائد الكاثوليكية أن يبتدئ بعقوبتها إذا رغب في استعمال الهرتقات من مملكته، فتصامم الملك عن استماع ذلك وقال: إن أختي لا تعتقد إلا ما أعتقده، ولا يمكن أن تدين بدين يضرُّ بمملكتي. وقد اشتهرت هذه الكاتبة بطيبة القلب، ومكارم الأخلاق، وحب الفقراء، فكانت تُحسن بالأموال الطائلة على المستشفيات في «لانسون ومورتاني»، وبنَتْ مكانًا لِلُّقطاء أطلق عليه اسم الأولاد الحُمر، واتصفت بجميع المناقب حتى سمَّاها بعض شعراء عصرها بالنعمة الرابعة وعروس الشعر العاشرة.
ومن الأمور المقررة التي لا يختلف فيها اثنان إشغال هذه الملكة بالمركز الأعلى في مراتب الآداب بين بنات عصرها، وإحرازها قصب السبق على جميع كتاب القرن السادس عشر، وجمعها بين حدة الذكاء، وقوة التصور، ودقة النقد، وشدة الاطلاع، فكأنما هي روض زاهر بالمعارف لا يفوتها شيء من متفرقات الفوائد. وقد نبغت في الشعر والنثر والسياسة واللاهوت، واليونانية والعبرانية، ودرست الموسيقى والهندسة وأتقنتهما، وكانت غيورة على العلم تجل شأن العلماء، وتحب معاشرتهم، فلا يكاد يخلو اجتماع لها منهم، وقد امتازت بسهولة الكتابة نثرًا ونظمًا.
ومن أشهر مؤلفاتها كتاب اسمه «الهتباتيرون»، وهو مجموع حكايات حكيمة على نسق «كليلة ودمنة»، اتخذه «لافونتين» نموذجًا جرى عليه في تأليف حكاياته الشهيرة، وانتقى منه المواضيع الأدبية التي بنى عليها كتاباته، ويقال: إن «مرغريتا» كتبت القسم الأكبر من هذا الكتاب في هودجها أثناء تجوالها وأسفارها، وكانت تكتب بسهولة وبلا مراجعة كأنها تكتب إنشاءً يُملَى عليها. وقد جاء في مقدمة هذا الكتاب أنه حدثت أمطار وزوابع عظيمة في جبال «ألبيرتيبس»، وكان الناس يتقاطرون في كل سنة إلى جهة هنالك ذات ينابيع مفيدة للاستحمام بها والشرب منها؛ طلبًا للصحة والعافية، فاضطروا أن يهجروها على إثر هذه الزوابع، وتراكضوا أفواجًا هربًا من الموت المفاجئ، فسقط بعضهم في النهر، فحملتهم المياه الطاغية وأغرقتهم، وهرب آخرون إلى الغابات، فافترستهم الوحوش الكاسرة، وانهزم فريق منهم إلى بعض القرى التي بعثوا إليها اللصوص وقطاع الطُّرق، فسلبوهم أشياءهم، وأوقعوا بهم!
أما العقلاء منهم فلجئوا إلى «دير سيدة سيراس»، ومكثوا هناك ينتظرون الفرج، وكان قد بوشر ببناء جسر يقطعون عليه النهر، فلما طال أمر بنائه عقدوا العزم على أن يقص كل منهم قصته على رفقائه في كل يوم، حتى لا يشعروا بطول المدة التي يقضونها بالانتظار. وهذا الكتاب مجموع القصص المذكورة، وفيها من الوقائع الأدبية، والنكات اللذيذة المفيدة ما ترتاح إليه الخواطر. وقد ألحقت كل قصة من هذه القصص بتأملات لا تقل أهميتها عن بقية المؤلف من حيث إصابة المرمى وحسن الوضع.
أما منظومات هذه الملكة، فنذكر منها المجموعة التي طبعت سنة ١٥٤٧م، وهي تتألف من روايات وأسرار وهزليات، ثم منظومة أخرى اسمها انتصار الحَمَل ورثاء سجين، وكلها من خيار الأشعار النفيسة، وكانت مولعة بالصنائع والفنون الجميلة، فشيدت قصر «ليو»، وضمَّت إليه الجنات البديعة، ثم توفيت في «قصر أودوس» في «التارب» سنة ١٥٤٩م.
وفي سنة ١٥٥٠م، كتبت «ملوت سنت مارت» سيرة حياتها، وصدَّرتها بصورة مواعظ في اللاتينية والفرنساوية بعبارة فصيحة جدًّا، فانتشرت بين الناس وأحرزت شهرة عظيمة، ولا تزال إلى يومنا هذا موضوع أحاديث الأدباء. وقد نُصب لها تمثال في جنة ليكسيمبرج؛ إظهارًا لفضلها، وإقرارًا بما كان لها من عظمة الشأن بين آل الأدب والعرفان.
مريم ابنة عمران
ابن ساهم بن أمود بن منشا بن حزقيا بن أحرنق بن يوثان بن عزازيا بن أنصيا بن ناوس بن نوثا بن بارض بن نهناسط بن رادم بن أيبا بن رجعم بن سليمان بن داود — عليهما السلام.
كان زكريا بن يوحنا وعمران بن ساهم متزوجين بأختين؛ إحداهما: عند زكريا؛ وهي «أليصابات» بنت فاقود أم يحيى، والأخرى: عند عمران؛ وهي حنة بنت فاقود أم مريم، وكان قد أمسك عن حنة الولد حتى أيست وعجزت، وكانوا أهل بيت بمكانٍ، فبينما هي في ظل شجرة؛ إذ نظرت طائرًا يطعم فرخًا، فتحركت عند ذلك شهوتها للولد، ودعَت الله تعالى أن يهب لها ولدًا، وقد نذرت على نفسها إن رزقها الله بولد تتصدق به على البيت المقدس، فيكون من خَدَمته ورُهْبانه، فتقبل الله دعاءها وحملت بمريم، فحررت ما في بطنها، ولكن لم تعلم ما هو فقالت: رب إني نذرت لك ما في بطني محررًا عن الدنيا وأشغالها، خالصًا لك وخادمًا لبيتك المقدس.
فقال لها زوجها: ويحك! ماذا صنعت؟! إن كان في بطنك أنثى لا تصلح لذلك، فوقعا جميعًا في وهم من ذلك، وفي حالة حملها تُوفِّي زوجها عمران.
فلما أتمَّت مدة حملها وضعت جارية فقالت: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ (آل عمران: ٣٦)، في خدمة بيتك المقدس وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ (آل عمران: ٣٦)، وكانت مريم أجمل النساء وأفضلهن وأحسنهن، وأنبتها الله نباتًا حسنًا. وكانت أخذتها أمها ولفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد، ووضعتها عند الأحبار، كما نذرت على نفسها، وقالت لهم: دونكم هذه النذيرة، فتنافس فيها الأحبار، وكل منهم أراد أخذها، وقال لهم زكريا — وكان أكبرهم: أنا أحق بها منكم؛ لأن عندي خالتها.
فقالت له الأحبار: لا نفعل ذلك ولا نُسلمها إليك، ولكن نقترع عليها، ومَن خرج سهمه أخذها، فاقترعوا فطلعت من سهم زكريا، فأخذها وكفَلها وضمَّها إلى خالتها أم يحيى، واسترضعت منها حتى بلغت مبالغ النساء، وبنى لها محرابًا في المسجد، وجعل بابه مرتفعًا لا يرتقى إليها إلا بسلم، فلا يصعد إليها غيره، وكان يأتيها بطعامها وشرابها في كل يوم، وكان إذا خرج من عندها أغلق عليها بابها، فإذا دخل عليها وجد عندها رزقًا — أي فاكهة — فيقول لها: من أين أتى لك هذا؟! فتقول: هو من عند الله.
فلما ضعف زكريا عن حملها خرج إلى قومه وقال لهم: إني كبرت وضعفت عن حمل ابنة عمران، فأيكم يكفلها بعدي ويقوم بأداء خدمتها كما كنت أفعل بها؟ فقالوا: لقد جهدنا، وأصابنا من الجهد ما ترى. فلم تجد من يحملها، فتقارعوا عليها بالسهام، فخرجت من سهم رجل صالح نجار يقال له: يوسف بن يعقوب بن ماثان، وكان ابن عمها، فتكفل بها وحملها، فقالت له مريم: يا يوسف، أحسن الظن بالله، سيرزقنا من حيث لا نحتسب، فجعل يوسف يرزقه الله برزق حسن، ويأتي كل يوم لها بما يصلحها من كسبه، فيدخل إليها زكريا فيرى عندها فضلًا من الرزق فتقول له: هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
فلما بلغت من العمر خمس عشرة سنة، وهي إذ ذاك في خدمة البيت المقدس، وكان اعتراهم يوم شديد الحر نفد فيه ماؤها، فأخذت قلَّتها وانطلقت إلى العين التي فيها الماء لتملأها منها.
فلما أن أتت إلى العين وجدت عندها جبريل قد مثَّله الله بشرًا سويًّا، فقال لها: يا مريم، إن الله بعثني إليك لأهب لك غلامًا زكيًّا، قالت: أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا، قال لها: إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا، قالت: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (مريم: ٢٠)، قال: كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ (مريم: ٢١)، فلما قال لها ذلك استسلمت لقضاء الله، فنفخ في جيب درعها، وكانت وضعته إليه.
فلما انصرف عنها لبست درعها فحملت بعيسى بإذن الله، ثم ملأت قلتها وانصرفت إلى مسجدها، فلما ظهر عليها حملها كان أول من أنكر عليها ذلك ابنُ عمِّها يوسفُ النجار، واستعظم ذلك الأمر، ولم يدر ماذا يصنع، وكلما أراد أن يتهمها ذكر صلاحها وعبادتها وبراءتها، وأنها لم تغب عنه ساعة واحدة، وإذا أراد أن يبرئها رأى الذي ظهر بها من الحمل.
فلما اشتد ذلك عليه وأعياه الأمر كلَّمها وقال لها: إنه قد وقع في نفسي من أمرك شيء، وقد حرصت على أن أكتمه، فغلبني ذلك، ورأيت أن الكلام فيه أشفى لصدري، فقالت له: قل قولًا جميلًا.
قال لها: أخبريني يا مريم: هل نبت زرع من غير بذر؟! قالت: نعم، قال: هل نبتت شجرة من غير غيث؟! قالت: نعم، قال: فهل يكون ولد من غير ذكر؟!
قالت: نعم، ألم تعلم أن الله — عز وجل — أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر، والبذر يكون من الزرع الذي أنبته من غير بذر؟! ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الشجر من غير غيث، وبالقدرة جعل الغيث حياة الشجر بعدما خلق كل واحد منهما على حدته؟! أوَتقول: إن الله لا يقدر أن ينبت شجرًا حتى استعان بالماء، ولولا ذلك لم يقدر على إنباته؟! فقال لها يوسف: نعم، إن الله قادر على كل شيء، وقادر على أن يقول للشيء كن فيكون، فقالت له مريم: ألم تعلم أن الله خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى؟ قال: بلى.
فلما قالت له ذلك وقع في نفسه أن الذي بها مِن أمر الله، وأنه لا يسعه أن يسألها عنه، وذلك لما رأى من كتمانها لذلك، ثم تولى خدمة المسجد وكفاها كل عمل كانت تعمل فيه؛ لما رأى من رقة جسمها، واصفرار لونها، وضعف قوتها، فلما أثقلت مريم ودنا نفاسها خرجت من المسجد إلى بيت خالتها لتلد فيه، فلما دخلت عليها قامت أم يحيى واستقبلتها وأدخلتها، ثم قالت لها: يا مريم، شعرت أني حاملة وأنك أنت أيضًا حاملة مثلي، فإني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك.
ولما أقامت في بيت خالتها أوحى الله إليها: إنَّك إن ولدت بجهة قومك قتلوك أنت وولدك؛ فاخرجي من عندهم، فأخذها يوسف النجار ابن عمها وخرج بها هاربًا، وقد حملها على حمار له، حتى أتى قريبًا من أرض مصر أدركها النفاس، فألجأها إلى أصل نخلة — وكان ذلك في زمن الشتاء — وكانت هذه النخلة يابسة ليس لها سعف ولا كراسيف، وهي في موضع يقال له: بيت لحم، قال: فلما اشتد الأمر بمريم تضرعت إلى ربها وقَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (مريم: ٢٣)، فنوديت أن لا تحزني قد جعل ربك تحت سريًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (مريم: ٢٥).
فلما ولدت ونزل الغلام من بطنها ناداها وكلَّمها — بإذن الله تعالى — وقد أجرى الله لها نهرًا من ماء عذب بارد، ولما يسر الله لها أسباب ولادتها رجعت به إلى قومها، وكانت قد غابت عنهم أربعين يومًا، فكلمها عيسى في الطريق فقال: يا أماه، أبشري؛ فإني عبد الله، فلما دخلت على أهلها ومعها الصبي بكوا وحزنوا وقالوا: يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (مريم: ٢٧-٢٨)، فمن أين لك هذا الولد؟ فأشارت لهم مريم إلى الصبي أن كلموه، فغضبوا وقالوا: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (مريم: ٢٩)، فقال عند ذلك الصبي — وهو ابن أربعين يومًا: إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (مريم: ٣٠–٣٣).
فلما شاع خبره بين قومه أراد «هيردوس» ملكهم أن يهمَّ بقتله، فأخذهما يوسف النجار وهرب إلى مصر، فأقامت مريم بمصر اثنتي عشرة سنة تغزل الكتان، وتلتقط السنبل في أثر الحصادين إلى أن بلغها أن «هيردوس» الملك قد مات، فرجعت هي وابن عمها يوسف النجار إلى أن أتوا إلى جبل يقال له: الناصرة، فسكنوا فيه إلى أن بلَغ ولدها من العمر ثلاثين سنة، ثم خرجوا إلى قومهم، وقيل: إن وفاتها قبل رفع ولدها عيسى — عليه السلام — بست سنين.
مدام نكر
هي ابنة رجل فقير الحال من خدمة الدين. اشتهرت في حداثتها بجمالها وآدابها، ورآها المؤرخ «كين» الإنكليزي الشهير — وكان سائحًا في أوروبا — فراعه جمالها وذكاؤها، ووقعت منه موقعًا عظيمًا، وعزم على الاقتران بها، ثم رجع إلى بلاده وكاشف أباه بذلك، فلم يسلم له، بل تهدده بطرده من بيته وحرمانه من ميراثه إن فعل! فوقع «كين» بين عصيان الهوى وعقوق الوالدين، فاختار أصغرهما — وهو الأول — وبقيت محبة هذه الفتاة في فؤاده، ثم استحالت مع الأيام إلى الإكرام والاعتبار، وبعد قليل مات أبوها ولم يخلف مالًا تعيش به، فأقلعت إلى مدينة «جنيفا» تعلم وتعيش من أجرة التعليم، وهناك رآها المسيو «نكر»، وكان كاتبًا في أحد البنوك، فأحبَّها وعزم على أن يقترن بها حينما تنصلح أموره.
ولم يمض عليه سنون كثيرة حتى صار من كبار الأغنياء، فتزوج بها سنة ١٧٦٤م، واتخذها معينة له ومشيرة، وأحبها حبًّا مفرطًا، وهي كانت أهلًا لمحبته واعتباره؛ لأنها جعلت غرضها من الحياة إرضاءه، ودخلت باريس وعمرها ٢٥ سنة، وهي غير معتادة على المعيشة في المدن الكبيرة، ولا متربية تربية تؤهلها للدخول بين أهل الجاه والمجد! وكان بباريس حينئذٍ أشهر فلاسفة فرنسا وكُتَّابها، فسوَّلت لها نفسها أن تجعل لزوجها مقامًا بين علمائها مثل مقامه بين أغنيائها، ففتحت بيتها لهؤلاء الفلاسفة وجعلته ناديًا لهم، وكانت ترحب بهم وتجول معم في الحديث، وتحاول أن تقتادهم إلى التدين والتقوى.
وكان زوجها يعتمد عليها في مقابلة زواره وضيوفه، وكان إذا دعا بعضهم إلى بيته يقول لهم: هلم نتمتع بحديث مدام «نكر»! واعتزل الأشغال التجارية كلها، وأناط بزوجته تدبير منزله وأمواله، فكانت تحل وتربط وتبيع وتشتري.
وقد بينت ابنتها مدام «دوستايل» الكاتبة الشهيرة سبب ذلك بقولها: لما رأى أبي أن أمي فقيرة لا مال معها، ورآها شاعرة بذلك، خاف أن تستصغر نفسها، فسلَّمها كل أمواله، وخوَّل لها التصرف المُطلق فيها؛ لكي تشعر من نفسها أن المال لها؛ فتنفذ وتَخلُص من صغر النفس.
وذهب «كين» — المؤرخ المتقدم ذكره — إلى باريس، فدعاه زوجها إلى بيته، وأحسن ضيافته، ورحبت هي به، وأخبرته أن دخل زوجها السنوي لا يقل عن عشرين ألف دينار. ثم عُين المسيو «نكر» وزيرًا لمالية فرنسا ومديرًا لها، فأصلح شئون المالية، واهتم بإصلاح السجون والمستشفيات، وكان الفضل الأول في ذلك لزوجته؛ لأنها كانت تتعهد السجون بنفسها، وتتفقد كل أحوالها، وتدبر الطرق المناسبة لإصلاحها، وأنشأت بيمارستانًا بباريس، فسُمي باسمها إلى هذا اليوم.
وأقام زوجها في هذا المنصب الرفيع خمس سنوات، وكانت هي المدبرة لأموره؛ لصعوبتها، وأقرَّ زوجها بفضلها. وكان زوجها يفتخر بها ويُعدِّد فضائلها، فلامه البعض على ذلك! لكنهم أخطئوا في لومهم خطأً بينًا؛ لأنه إذا حق للإنسان أن يفتخر بآبائه وجدوده وبعلمه وآدابه، كما فعل عمرو بن كلثوم، والسموءل بن عادياء، وأبو العلاء المعري في قصائدهم الفخرية، حقَّ له أيضًا أن يفتخر بآل بيته، ولا سيما بزوجته إذا كانت ممن يُفتخر بها كمدام «نكر»؛ هذه التي كانت مرشدة لزوجها، ومدبرة لأموره، وزهرة فضل عرفها في بيته.
ولكن المناصب محفوفة بالمتاعب، ومن رقي العلا استهدف لوقع أسهم الردى، فلم يمضِ على المسيو «نكر» خمس سنوات في هذا المنصب حتى كثر حساده، وخيف عليه من عدوانهم، فعزم على الاستعفاء، وحثته عليه زوجته حتى استعفي وتنحى عن الأشغال السياسية، فأسف محبو فرنسا على استعفائه، ولامه البعض منهم؛ لأنها حثَّته على الاستعفاء، ولكن عذرها واضح، وحجتها دامغة؛ ألا وهي أنها خافت عليه من العدوان، وما تنفع المناصب والحياة في خطر؟!
وإلى ذلك أشارت في كتاب كتبته إلى «كين» المؤرخ؛ حيث قالت: إنني راغبة في هذا المنصب، ولكنني لم أتأمل في عواقبه، فاضطررت في الآخر أن أُرغِّبه في تركه، وقد أسفت فرنسا كلها على استعفائه، ونحن أيضًا آسفون جدًّا لاضطرارنا إلى ترك هذا المنصب، ولا سيما لأننا نخاف أن لا تجري أموره في مجراها بعد أن تركناه. أما مسيو «نكر» فلم يترك الاشتغال بعد تركه للمنصب المذكور، بل أكبَّ على تأليف كتاب جاء من أبدع الكتب، فبيع منه في أسبوع واحد ثمانون ألف نسخة، وألَّفت مدام «نكر» كتابًا في الطلاق أودعته آيات البلاغة، وطبعته سنة ١٧٩٤م.
وتوفيت في تلك السنة بعد أن أصابها مرض عصبيٌّ مؤلم، فحزن عليها زوجها حزنًا مفرطًا، وأروى ضريحها بالعبرات، وحقَّ له الحزن والبكاء عليها؛ لأنها رفعت لواء عزِّه، وأنارت سبل حياته بذكاء عقلها وسمو آدابها.
مريم مكاريوس
ولدت مريم نمر مكاريوس في ربيع سنة ١٨٦٠م في حاصبيا، مدينة من مدن سوريا، قبل حدوث المذبحة الشهيرة فيها ببضعة عشر يومًا، وتيتمت من أبيها بتلك المذبحة التي شابت لهولها الولدان، فحملتها أمها مع أخيها إلى مدينة صيدا بعدما فرت بهم إلى قرية مجدل شمس بقرب جبل الشيخ، ثم أتت إلى مدينة بيروت وهي تغذيها بألبان الحزن، وتغسل وجنتيها بدموع الحسرات، وقامت عليها وعلى أخويها تُربِّيهم بما اشتهر عنها من الحكمة والذكاء، إلى أن بلغوا سن التمييز، فأدخلتهم في إحدى مدارس القدس الشريفة؛ ليتعلموا بها العلم الذي لم يكن لأمهم حظ منه؛ لأنها ولدت ورُبِّيت في عصر كان تعليم البنات محظورًا فيه؛ بحجة أنه غير لازم لهن، ويخشى منه عليهن! — كذا ظن أهل العصر، وهو ظن أقبح من إثم — فلم تلبث المترجَمة في القدس إلا زمانًا يسيرًا حتى اختارت لها أمها مدرسة من أحسن مدارس بيروت، أدخلتها ولم ترض أن تخرج منها قبل أن تتم دروسها كلها وتأخذ شهادتها، فدرست من اللغة العربية وفنونها: الصرف، والنحو، والبيان، ومن الإنكليزية كذلك، ومن العلوم التاريخية والجغرافية والحساب والفلسفة الطبيعية والهيئة وغير ذلك، وتمرنت على الأعمال اليدوية من خياطة وتطريز ونحوهما، ونالت الشهادة المدرسية سنة ١٨٧٧م، وكانت وهي في المدرسة مشهورة بإخلاص النية، وسلامة الطوية، وذكاء العقل، وشدة الحياء.
وبعد خروجها من المدرسة بقليل اقترن بها شاهين مكاريوس، فأنشأت له بيتًا زينته بلطفها، ودبرته بحكمتها، وفتحت أبوابه للأصدقاء الأدباء من رجال ونساء، فكانوا على مائدتها كأنهم في نادٍ من النوادي العلمية، والمحافل الأدبية، وهي تطربهم بعذب كلامها، وتكرمهم بخمرة معانيه، ورزقها الله ثلاثة أولاد: ذكرين وأنثى، فربَّتهم أحسن تربية، وعلَّمت كبيرهم مبادئ العربية والإنكليزية، وكانت عازمة أن تُعلِّم أخاه وأخته متى بلغوا سن التمييز، ولكن أدركتها المنية قبل تحقيق المنى، فخسر أطفالها خسارة لا تعوض.
وفي غرة سنة ١٨٨٠م، اتفقت مع البعض من صديقاتها، وعقدت جمعية أدبية سمَّتها «باكورة سورية»، وانضم إليهن عدد من السيدات المهذبات، فكُنَّ يتناوبن الخطب والمناظرات.
ومِن خُطبها خطبة تاريخية انتقادية في الخنساء الشاعرة العربية الشهيرة، جمعت فيها ما تفرَّق في كتب الأدب، وشفعته بانتقاد مكين يدلُّ على توقد ذهنها، ودقة نظرها، وقد أدرجها «المقتطف» في سنته التاسعة.
ولها أيضًا مقالة عنوانها: حرارة الماء، أدرجت في السنة الثانية منه، ونبذ أخرى ورسائل، ومناظرة عنوانها «بنات سوريا» مع البيكباشي الدكتور سليم الموصلي، ومناظرة عنوانها «دفاع النساء عن النساء» مع الدكتور شلبي أفندي شميل مُؤلِّف الشفاء — سنذكرها في هذه الترجمة؛ لأنها لا يزال صداها يدوي في الآذان حتى الآن — وقد كان هذان الدكتوران طبيبيها الخاصين حتى ساعة موتها، وقد بذلا كل الجهد والعناية حفظًا لحياتها الثمينة، فأعياهما الداء العياء.
نحن نميل طبعًا إلى قراءة سير الناس؛ ولذلك نرى أكثر نساء العالم تقتبس معارفهن وفوائدهن من قراءة الكتب التي من هذا الباب، ولا يخفى عليكن أن المرأة الصادقة لا تقصد بمطالعة الروايات وسير الناس مجرد تسلية الخاطر، وإشغال المخيلة بما يهيج الأطفال، ويسلي الأولاد الصغار، ولكنها تقصد أولًا تحصيل الفوائد اللازمة لها في حياتها؛ مثل: معرفة الأخلاق واختلاف الأحوال، وصروف الزمان، والتصرف في النوائب، وفضل ممارسة الفضيلة، ووخامة مرتع الرذيلة، واعتبار العواطف الشريفة، والاقتداء بالذين فاقوا في حسن صفاتهم، وكرم أخلاقهم، وفازوا بجميل صبرهم، وأفادوا بحسن تربيتهم واهتمامهم بجبر القلوب الكسيرة، وتشجيع النفوس الصغيرة، وإصلاح شئون هذه الفضائل وأمثالها تقصدها المرأة الحكيمة أولًا في مطالعة الروايات والسير، وتقصد الفكاهة والتسلية ثانيًا.
وإني طالما وددت لو كان لنا — نحن بنات اللغة العربية — ما لغيرنا من الروايات التي إذا قرأناها لم تعلُ وجوهنا حمرة الخجل، ومن السِّيَر التي نجد فيها ما يُوسِّع العقول، ويُهذِّب الأخلاق، ويُلطِّف العواطف، ويُكمِّل الأدب، ويعلم أحوال العالم، ويكشف لنا خبايا الطبع البشري، فلم أنل المُنى إلا في قليل مما وقفت عليه، ولم أزل أضطر إلى مطالعة كتب الإفرنج لتحصيل ما أشتهيه من هذا القبيل، مع أننا في زمان تتبارى فيه أقلام الكتاب، ويتباهى فيه أولو النباهة والذكاء.
ولم يذكر لنا المؤرخون عن اسم أم الخنساء، ولم يكلفوا النفس أي كلمة عن التي قاست الأهوال وأحيت الليالي حرصًا على حياة بنتها، وحبًّا لتربيتها، فأين الإنصاف من ذلك؟! وفضل البنت من فضل أمها، وقد قال الفليسوف: إن الباري إذا شاء أن يخلق في أرض فيلًا عظيمًا خلق فيلة عظيمة تلده. وما أدرانا أن الخنساء لولا فضل أمها لم يكن فيها فضل تشتهر به، ولولا حسن تربية أمها لها نبغت بما نبغت. نعم، إنها ولدت من نسل امرئ القيس أشعر شعراء العرب، والأقرب إلى العقل أن تكون قريحته قد اتصلت إليها بحكم الوراثة، ولكنها اتصفت أيضًا بصفات أدبية أسمى من صفاتها العقلية. ومن المعلوم أن امرأ القيس لم يَفُق في آدابه ولو فاق الشعراء في شعره؛ فالمتأمل في سيرة الخنساء يجد مندوحة لإسناد الفضل إلى أمها، وإن يكن على سبيل الزعم والتخمين، ولو تنازل المؤرخون إلى ذكر أم الخنساء وصفاتها؛ لظهر الحق، وانتفت الظنون، وكفى بذلك فائدة إن لم يكن في ذكر الأم غيرها.
وقد ضربوا صفحًا أيضًا عما جرى للخنساء في صباها، ولم يشيروا إلى أيام حداثتها، والحال أن الإنسان لا يتكمل الفائدة ولا اللذة في مطالعة سير غيره إلا متى اطلع على أحوالهم، فعرف نقائصهم وفضائلهم، وحسناتهم وسيئاتهم، وما فاقوا فيه وقصروا عنه، وكيف طرأت عليهم التجارب والمصاعب فتخلصوا منها، وتغلبوا عليها، وكيف توسَّعت قواهم العقلية، واستقامت قواهم الأدبية، ونمَتْ أبدانهم، واشتدت قواهم الجسدية، وما كانت نوادرهم ومزاياهم وسائر خصائصهم. وهذه الأمور كلها تظهر في زمان الطفولية والصبا أحسن ظهور؛ ولذلك يجد القارئ معظم اللذة والطلاوة، إن لم نقل معظم الفائدة أيضًا، في معرفة أحوال الشخص في طفوليته وحداثته.
وقد عرَفتُ المُترجَمة في ردِّها على الدكتور شلبي شميل بقولها: «إن الزوجة الفاضلة هي المعزية الحزين، المفرجة الكروب، الصابرة على مضض العيش ونغص الحياة، الراضية بمشاركة الرجل في سرائه وضرائه، المحافظة على ولائه، الطالبة ستره، الناسية نفسها في خدمته، الباذلة حياتها في مسرته وتربية عائلته، الممتازة بالوراعة والعفاف والطهارة.» وهذه الأوصاف قد كانت دأبُها في حياتها، وقد استكملتها واحدة فواحدة كما يعلم ذلك أصدقاؤها ومعارفها، وأما أنا فلم يسعدني الحظ برؤيتها، وبالاقتباس من أنوار معارفها.
وفي سنة ١٨٨١م، أنشأ بعض المحسنات الأمريكانيات والوطنيات جمعية لتعليم النساء البائسات والتصدق عليهن، فشاركتهن في هذا العمل المبرور، وجعلت بيتها دارًا لتلك الجمعية، فكن يجتمعن فيه كل أسبوع يتعلمن ويأخذن ما يُتصدَّق به عليهن من كساء ونقود.
وفي أواخر سنة ١٨٨٥م، انتقلت المترجمة مع زوجها إلى الديار المصرية، ولما استقر بها القرار عكفت على المطالعة والدرس؛ استعدادًا لعمل حميد كانت ناوية أن تشرع فيه؛ خدمة لبنات عصرها لو فسح في أجلها، ولكن باغتها على غرَّة مرض له «باشلس» يدخل الأبدان مع الهواء، وينشب في الرئتين أظفاره، وهو المنية بعينها، ولا دافع له من دواء ولا رقية:
فأرجعت مريضة إلى بر الشام في صيف تلك السنة، ونزلت في قرية من أطيب قرى لبنان هواءً وماءً، فأقامت هناك على رُبى لبنان تصارع الداء بجودة الهواء، إلى أن دخل فصل الشتاء فقال الأطباء: قد أزف الرحيل، ومصر لمن كان مثلها خير دواء. فرجعت إلى مصر ومضت إلى حلوان، وعادت إلى القاهرة، وامتحنت كل علاج قديم وحديث أشار به الأطباء، وكلهم من صفوة المعارف وأخلص الأصدقاء لها، ولكن ماذا ينفع الدواء والداء عياء؟
ولم يذهب المرض الطويل والألم الشديد بشيء من بشاشة وجهها، ولا من طلاوة حديثها، ولا من حصافة رأيها؛ فكانت تبش بوجه العوَّاد مهما كانت آلامها قوية، وتسامرهم وتطايبهم وترتئي الآراء السديدة، وتقص الأحاديث المفيدة، وهي عارفة بسير مرضها، وبأن الشفاء فيه نادر، ولما قطعت الرجاء من الحياة كاشفت ذويها، فأرادوا أن يقووا آمالها فقالت: إليكم عن المُحال؛ فقد أزف الرحيل، وستحضرني الوفاة هذه الليلة! ونادت زوجها وأخاها وكل واحد من أصدقائها باسمه، وتكلمت معهم كلامًا يلين له الجماد، ويفتت الأكباد، ثم أغمضت جفنيها، وأسلمت الروح في الساعة الأولى من يوم ٢٢ آذار (مارس) سنة ١٣٠٦ﻫ، في غرة فصل الربيع، وهي في غرة ربيع الحياة.
إلى حضرة الرئيسة المحترمة والأعضاء المكرمات، بعد التحية أقول: إني لو خيرت لاخترت الحضور بينكن والتمتع بمجالستكن، واجتناء لذيذ أحاديثكن على المكاتبة وتبادل الأشواق بالحبر والقرطاس، ولكن هذا نصيبنا؛ فقد قسم لنا أن نترك الوطن العزيز، وأن نفارق صاحبات حبيبات، ودارًا ضمتنا جميعًا فقضينا فيها أوقات أنسٍ من أظرف الأوقات، وتعلَّقت قلوبنا بها، فصارت تحن إليها، وتتحسر عليها؛ ألا وهي المدرسة التي أنتن مجتمعات فيها الآن، والتي تغذينا منها بألبان المعارف والعلوم.
لا ريب عندي أن كلًّا منكن تذكر الآن تلك الأيام التي كنا نجتمع فيها معًا كالأخوات، بنات العائلة الواحدة، مشمولات بنظر اللواتي كن يسهرن علينا سهر الأمهات على البنات، ونحن نرتع في نعيم الطهر والصبا، نملأ منه صافي كأس الحياة، لا همَّ لنا إلا العلوم، ولا غمَّ إلا عدم حفظ الدروس. أما الآن فقد تبدلت تلك الأحوال، وتشتت عملنا في كل الجهات، حتى صار يصعب علينا الاجتماع جميعًا في محل واحد ومكان، كما هو مقتضى جمعيتنا هذه، وقد وصلت دعوتكن إلي وأنا بعيدة عنكن غير قادرة على الاجتماع معكن، وقد قيل: إن الطاعة خير من الذبيحة؛ فلذلك رأيت أن أكتب إليكن ببعض ما شاهدته بعد اجتماعنا الأخير؛ إجابة لطلبكن في الدعوة، راجية منكن المعذرة على إشغال وقتكن بمطالعته؛ لقلة ما تضمن من الفوائد.
فأقول: فارقت بيروت في ٤ تشرين الثاني (نوفمبر) سنة ١٨٨٥م مع رفيقتي الصادقة الوداد، السيدة ياقوت صروف، قاصدين القاهرة محل إقامتنا الآن، فمررنا بمدن رأيت فيها جماعة من بنات مدرستنا اللواتي سبقننا إلى هذه البلاد، ثم ركبنا القطار وسرنا أسرع من الطير في تلك المركبات العجيبة التي أزالت عناء الأسفار، وقربت ما بعد من الديار، فقطعنا في نحو ساعات ما يقطع عندنا في أسبوع من الزمان، ولما دخلنا القاهرة وجدناها مدينة كبيرة متسعة الأزقة، والشوارع تختلف عن بيروت اختلافًا عظيمًا، ولكن لم تطل إقامتي فيها حتى صِرْتُ أشعر بالوحشة العظيمة لجبال لبنان التي حوتْ بيروت في كنفها، والبحر المتوسط المنبسط أمامها كالبساط الأزرق في رواق أجمل القصور.
هذا؛ ومن يسمع عن القاهرة أو يقرأ كلام الكُتَّاب فيها يتوهم أنها هي الفسطاط — المدينة القديمة الشهيرة — والحال أن تلك لم يبق منها إلا أطلال بالية، وبيوت قليلة خربة أو متداعية، وكلها في جهة تعرف بمصر العتيقة في هذه الأيام.
وأما المدينة ففي ٣٠ درجة من العرض الشمالي، و٢٨ درجة من الطول الغربي في وسط سهل فسيح، قد اختلطت فيه رمال البادية بالطين الذي جرفه نهر النيل إلى مصر من قلب أفريقيا، ويحاذيها من ناحية الشرق: الجبل المقطم، وهو كبعض التلال المنبسطة في رُبَى لبنان أو أوطأ منها، ومن ناحية الغرب نهر النيل ملاصقًا للبيوت التي على أطرافها، ولغزارة مائه واتساعه العظيم يسمونه هنا بحرًا، وقد صدقوا؛ فلو جمعت أنهار سوريا كلها معًا لما ساوتْ جانبًا منه.
والمدينة مؤلفة اليوم من بيوت قديمة، وبيوت جديدة؛ فالقديمة مبنية ومرتبة على الاصطلاح الشرقي، والشوارع بينها ضيقة، والأزقة يغلب أن تكون قذرة! والهواء غير نقي؛ لانحصاره، والمباني غير جميلة، ولكنها لا تخلو من محاسنَ كثيرةٍ يلذ بها ذو الذوق السليم؛ كمنجورها المعروف بالمشربية؛ فإنه بديع الجمال، ويزيده طول عهده حسنًا وجمالًا؛ لأن طول الزمان كبعد المكان يكسو الشيء أثوابًا من الجمال، والجديدة مبنية على الطراز الغربي الجديد؛ ولا حاجة لوصفه. وأحقر المباني القديمة أكواخ الفلاحين؛ وهي صغيرة قذرة في جميع أنحاء القاهرة، فيرى الإنسان في الأرض الواحدة قصورًا فخيمة، ومباني رشيقة، وزخارف تسبي العقول، وتبهر الأبصار، بجانبها تلك الأكواخ الحقيرة البناء، القذرة النتنة الداخل، المعروفة عند المصريين بالعشش! فكأني بمصر قد جمعت أبدع الصناعة الأوروبية مع أحقر الصناعة الأفريقية في رقعة صغيرة من الأرض!
وكانت القاهرة قديمًا محاطة بسورٍ لا تزال آثاره ظاهرة في بعض الجهات إلى الآن، ويقال: إن الرياح كانت تسفي عليها رمال الصحراء قديمًا حتى تغشيها بها كما يُغشي الضباب جوانب الأنهار؛ ولذلك كثر رمد العينين فيها، وتلفت عيون الجانب الكبير من أهاليها، ولكن لما حكم محمد علي باشا وإبراهيم باشا — الذي تغلب على سورية وحكم عليها زمانًا، ولا يزال اسمه أشهر من نار على علم عندنا في بلاد مصر — عمَّرها إلى درجةٍ سامية في التمدن، فأنشأ المدارس والمعامل، وبنى المستشفيات، وفتح الطرقات، وغرس الأشجار، وجعل القاهرة ثانية القسطنطينية في الاتساع، وبنى جامعه المعدود من أشهر جوامعها العديدة على مقربة من الجبل، وكله مبني من المرمر اللامع الذي يكاد يكشف عما تحته، ومزين بالنقوش والكتابات البديعة، وفيه الثريات الكبيرة والطنافس النفيسة، التي لم تر عيني أعظم منها ولا أبدع صفة.
ولما توفي إلى رحمة ربه دفن فيه، وأحيطت الحجرة التي دفن فيها بمشبك من النحاس الأصفر المتقن الصنعة، البديع الشكل، والجامع يطلُّ على المدينة. وقد وقفت بجانبه فرأيت أمامي معظم القاهرة مقطعة بالشوارع تقطعًا هندسيًّا، وقد رُفعت فيه قباب الجوامع على ما سواها من المباني، وعلت المآذن مئاتٍ كأنها شجر غاب في سهل، أو سواري السفن في البحر.
ويلي المدينة غربًا نهر النيل جاريًا بين حقول الزرع وغياض الشجر وغابات النخيل، كأنه سيف صقيل مسلول على بساطٍ أخضرَ وثيرٍ، ويلي حواشيه الخضراء رمال الصحراء، والأهرام الناطحة عنان السماء. وهذا المنظر من المناظر التي تستحق أيدي أبدع المصورات، وتعرضها قرة للعيون، ونزهة للنفوس. وبجانب هذا الجامع قلعة عظيمة كانت تُسكُّ فيها النقود، ويعرف مكان سكِّها بالضربخانة. والقلعة اليوم في قبضة الجنود الإنكليز التي دخلت بلاد مصر بعد النازلة العربية.
وفي القاهرة جوامعُ عديدةٌ بعضها موصوف بجمال داخله رونق، ولكن أشهرها في الاسم يكاد يكون أدناها في البناء! أريد به الجامع الأزهر الذي سمعتن به كثيرًا؛ فهو جامع للتدريس، وفيه من الطلبة ما ينيف عن عشرة آلاف طالب على ما يقال؛ فهو أكثر مدارس الأرض طلبة، وأقدمها عهدًا — فيما يظن — ومنه يخرج أشهر علماء العربية والفقه والأدب من المسلمين. والذي اعتنى كثيرًا بتحسين القاهرة وهندستها وترتيبها إسماعيل باشا، والد سمو الخديوي الحالي.
قيل: إنه كان مُعلِّقًا خارطة باريس في غرفته الخاصة حيث تقع عينه عليها في دخوله وخروجه، وكان باذلًا جهده في تخطيط القاهرة بحسبها؛ فمد الطرق الواسعة فيها من طرف إلى طرف، حتى صارت المركبات تخترقها في أكثر جهاتها، وغرس الشجر على جانبيها، ونوَّر أشهر شوارعها بنور الغاز، وشيد فيها المباني الضخمة من قصور ونحوها، وأشهرها مرسح للتمثيل يسمونه «الأوبرا» بالاسم الفرنساوي، قد أنفقت عليه أموال كثيرة جدًّا حتى صار الناس لا يستكثرون فيها أعظم المبالغات.
وددت لو أن قلمي العاجز يستطيع وصف محاسن هذه «الأوبرا»، فكنت أوفيها حقها! أما الآن — وأنا على ما أنا عليه من العجز والقصور — فأكتفي بوصف وجيز لها؛ ففي وسط قاعة التمثيل ثريا — أي نجفة — تنار بالغاز، لها أنابيب من الصيني على هيئة الشمع، فيتوهم الناظر إليها أنها شمع، وقد صنع بعضها أكبر من بعض، حتى كأنه ذاب مشتعلًا، وبعضها كأنه الشمع الذائب يقطر عن جوانبه، وقد عبث النسيم باللهيب، فأصاب حافة الشمعة، فإذا بها إلى غير ذلك مما قلد فيه الشمع تمام التقليد، وحجم هذه الثريا معتدل الاتساع.
وفي وسط القاعة أمام مرسح الملعب نحو ثمانمائة كرسي مشدودة بالمخمل العنابي، وحولها أربع طبقات مستديرة بعضها فوق بعض، وقد قسمت كل طبقة إلى أربعين غرفة، في كل غرفة خمسة كراسيٍّ ومقعد مشدود بالمخمل العنابي اللون، وجدرانها مدهونة بمثل ذلك اللون، وعلى بابها ستار من لونها، وقد علقت مرآة كبيرة على جدار منها، وفرشت أرضها بالطنافس، وكل غرفة معدة لخمسة أشخاص، وأما سقف القاعة فمرسوم فيه صور أشهر الممثلين والموسيقيين، وللخديوي غرفة خاصة، ولحرمه غرفة خاصة مقابلها، وكلتاهما على غاية الإحكام والهندام، وفيها من الفرش والوشي والتطريز ما يُدهش الأنظار!
هذا عدا ما فيها من قاعات الجلوس، ومخازن الملابس والآلات، وسائر المعادن، وملابس للممثلين من المنسوجات المختلفة الألوان والأشكال؛ من حرير وقطن وكتان. ومن يجول في مخازن الأوبرا يحسب أنه يجول في أسواق مدينة قد حوت مخازنها من القماش والحلي والملابس والأحذية والأسلحة والآلات والدواليب والأمراس ما لا يوصف بخط القلم على القرطاس!
ومن مشاهد القاهرة أيضًا الجسر الكبير على نهر النيل تمر عليه المركبات؛ لاتساعه، ويُمشى على رصيفين بجانب طريق المركبات، ولطوله لا تقطعه المركبات في أقل من ثلاث دقائق أو أربع، وكله من الحديد المفروش بالبلاط، وهو يفتح ويقفل في ساعة معينة من اليوم لمرور السفن بالجسور التي نقرأ وصفها في كتب الإفرنج.
ومن مشاهد القاهرة مدارسها العلمية وأشهرها مدرسة قصر العيني؛ حيث يعلم فيها الطب والجراحة، وهناك صف من النساء يتمرن على التمريض، ويدرسن علم الولادة وبعض فروع الطب، ويمتحن جهارًا كبقية التلامذة من الشبان ومدرسة المهندسخانة، وتدرس فيها العلوم العالية، ولا سيما الرياضيات وصناعة الهندسة، والمدارس في مصر كثيرة؛ أعظمها وأشهرها للحكومة، ولكن أكثرها تعلم بالأجرة.
ومن المشاهد العلمية أيضًا: المرصد الفلكي، والمعمل الكيماوي، والمكتبة الخديوية، ولعلها أحسن مكتبة في الشرق، وخصوصًا في كتبها العربية.
وأعظم مشاهد القاهرة اعتبارًا: معرض الآثار المصرية المعروف هنا بالأنتيكخانة؛ ففيه من الآثار المصرية ما يعزُّ وجوده في غيره من معارض الدنيا، من تماثيل وصور ونقوش، وكتابات وآنية وأجسام محنطة قد حنط بعضها من قبل أيام موسى الكليم، ولا يزال على رونقه الأصلي، حتى إن الكفن ما عليه من الألوان؛ كالزنجاري والأصفر والأحمر، لا تزال على ما كانت عليه من البهاء منذ آلاف من السنين، مع أن ألوان هذا الزمان لا تقيم، بل تَحُولُ وبهاؤُها يزول.
وهذه الآثار يمتد زمانها من أيام أقدم الفراعنة إلى الإسكندر فالبطالسة فالرومانيين فالأقباط بعدهم، وبينها كثير من جثث ملوك المصريين وعيالهم مُحنَّطة من قبل أيام الخليل إبراهيم، ولا تزال شعورها على رءوسها، ولفائفها وأكفانها باقية عليها غير بالية، وشاهدت هناك شيئًا كثيرًا من الجواهر والحلي القديمة المصنوعة كحلي هذه الأيام؛ من أقراط وخواتم وأساور وعقود مرصعة بالحجارة الكريمة ترصيعًا متقنًا.
ومن الغريب أن من بين الأساور ما هو على شكل الحية، وعيناه حجران كريمان كأساور هذه الأيام، وشاهدت أيضًا أسلحة كثيرة الأنواع، مختلفة الأشكال، ومرايا مصنوعة من المعادن الصقيلة، وأحذية ذات سيور، وقمحًا وحمصًا وفولًا وعدسًا وبيضًا وإجَّاصًا ودومًا — وهو كبير يشبه السفرجل في هيئته — وكتانًا من أحسن أنواع البوص، وأمراسًا ومكانس، وأدوات البناء من الخشب والنحاس المعروف بالبرنز، ولم أر بين تلك التحف أثرًا للحديد، حتى مسامير التوابيت وغيرها كلها من الخشب أو النحاس؛ إذ الحديد كان لا يزال مجهول الاستعمال في تلك الأيام على ما أظن.
وهناك تماثيل لأكثر الملوك القدماء، منها من المرمر، أو الحجر الصلد، أو النحاس، وأبدع ما في صنعتها بوضع العيون التي رأيتها، وهي متخذة من الحجارة الكريمة، ولإتقان صناعتها في الشكل واللون واللمعان لا تمتاز عن عيون الأحياء إلا بالجهد، وهي أفضل كثيرًا من العيون التي يصنعها أبناء هذا الزمان.
ومن أغرب التماثيل التي رأيتها هناك تمثال من الجميز قد أمسك بيده عصًا — أظنها من العرعر — والمظنون أنه صُنع قبل أيام النبي موسى، وأنه من أقدم مصنوعات البشر، ومع ذلك فكأنه تمثال رجل من المصريين في هذه الأيام، ويسمى عندهم شيخ البلد. وكل من دخل هذا المعرض علم بعض العلم عن عبادة المصريين، واعتبارهم لجثث موتاهم؛ مما يُرى فيه من تماثيل الآلهة التي على صورة التمساح والسلحفاة والقرد والسنور والضفدع والخنفساء، وغيرها من تماثيل الحيوانات، مما يرى من الجثث المحنطة الملفوفة لفًّا محكمًا بلفائف الكتان المتناهي في الرقة، وهي موضوعة في توابيتَ من الخشب.
وهذه التوابيت ترسم على ظواهرها صور موتى، وتُغطى ظواهرها وبواطنها بكتابات بالخط المصري القديم المعروف بالهيروغليف، ويوضع فيها من الجثث المحنطة والمآكل المحنطة المجففة، مثل الأرز والبيض واللحم والأثمار ونحوها، وكانت عادتهم أن يضعوا التابوت المتضمن الجثة ضمن تابوت آخر، وهذا ضمن آخر، وهكذا حتى يبلغ عدد التوابيت أربعة أو أكثر أحيانًا!
ثم يضعونها داخل تابوت من الحجر الأصم، وقد رأيت تابوتًا لإحدى الملكات قد صنع كله من الكتان المرصوص طاقًا على طاق.
ثم عولج بنوع من الطلاء حتى صار كالخشب سمكًا وصلابة، والغالب أن كل أثر من هذه الآثار يكون مقرونًا بكتابة هيروغليفية تبين ماهيته وما حالته. وقد رافقنا داخل المعرض رجل مصري يقرأ هذا الخط، ويترجمه لنا، كما نقرأ نحن كتب الإفرنج ونترجمها.
وفي القاهرة منتزهات مختلفة عظيمة الإتقان، فيها تصدع الموسيقى، وتسمع آلات الطرب في كثير من الأحيان، بعضها في وسط المدينة، وبعضها خارجها؛ كمنتزه شبرا — وهو قديم العهد — والعباسية، والأزبكية، والجزيرة. وقد فضلت الجزيرة على ما سواها؛ لأنها قريبة الشبه من بقاع كثيرة في سوريا ولبنان والمفاوز بنظرة واحدة. وهي تبعد نحو ميل عن وسط المدينة، والطريق إليها واسعة نظيفة محاطة بالأشجار الملتفة على الجانبين، ترش بالماء يوميًّا جميع طرق المدينة، فيتلبد ترابها، ولا يثور غبارها تحت الحوافر والعجلات والأقدام، وتظهر من خلالها المروج المختلفة الألوان، والنيل ينساب في وسطها انسياب الأفعوان، وهي تؤدي إلى قصر فخيم بناه إسماعيل باشا — الخديوي السابق — في وسط حديقة غناء، كثيرة الأشجار، لطيفة الأزهار، واسعة الطرق، عديدة التماثيل، وجلب إليها الأنواع العديدة من الوحش والطير حتى أشبهت معارض الحيوانات في أوروبا، ولم يبق بها إلا القليل في هذه الأيام.
والمنتزه العمومي قرب هذا القصر مركزه يعرف بالجبلاية، ولعل المراد بها تصغير الجبل، وهي تقليد الجبل الطبيعي، قد صنعت حجارتها من الحصى والرمل، يمر الصاعد إلى قمتها في مغارة واسعة كثيفة الظل، رطبة الهواء، يتسلسل الماء من نواحيها، ويتدفق من بعض الثقوب التي فيها، ويقطر من سقفها خيوط مدلاة قد رسب الكلس عليها، وكستها الطبيعة، فأشبهت الرواسب الكلسية التي تتدلى من سقوف بعض الكهوف السورية، وفي جوانبها حياض كالنُّقر من الصخور قد سدت بالزجاج السميك كأنه ماء قد جمد فكون جدارًا من الجليد، وفي أرضها الحجارة كأنها أنفذت من سقف المغارة وجوانبها، وتدحرجت في أرضها على ممر السنين وتوالي الحوادث والأيام، ثم يرقى على درج ملتف وكأنه طبيعي لم تمسه يد البشر، حتى يصل إلى قمتها، فيجد هناك في طريقه بقعة كانت مزروعة بالأعشاب والأزهار والأشجار، ويرى حوله منظرًا فسيحًا من غياض الصنوبر — من شجر الفتنة، ولعلها كتبت الصنوبر سهوًا — والسنط وسهول القمح والحبوب، والنيل ينسحب بينها كأسلاك الفضة وصحارى الرمال، إلى غير ذلك مما يشرح الصدر ويطيل العمر.
وأخبرت أنه يوجد ما هو أجمل من هذه الجبلاية في قصر يسمى قصر الجيزة، ولكني لم أره، ويوجد جبلاية أصغر منها في المتنزه الكبير في وسط المدينة المعروفة بجنينة الأزبكية، وهي جنينة مساحتها لا تقل عن مساحة إحدى قرى لبنان المتوسطة في الاتساع، في وسطها بحيرة متسعة تسير فيها القوارب الصغار والكبار، ودائر البحيرة الأشجار الكبيرة، والأزهار النضيرة، والأراضي الخضراء، والحدائق الغناء، وفيها مرسح للتمثيل، ومبانٍ للطعام، وقباب تضرب الموسيقى العسكرية فيها يوميًّا، وأبوابها مفتوحة لعموم الناس، ومخازن القاهرة الكبرى بيد الإفرنج من الأجانب.
وأكثر جهاتها المطروقة من الخاصة والعامة، مزدحمة بالقهاوي والحانات والخمارات، ولم يترك الأوروبيون المتعاطون الأسباب في القاهرة واسطة إلا أجروها لاجتذاب الأهالي إلى الإسراف واللهو والطرب؛ ولذلك ترى العامة من الأهلية يتهافتون على ما به خرابهم وبوارهم تهافت الفراش على لهب النار، ولم نسمع حتى الآن بجمعية علمية أو أدبية للأهالي تذكرنا جمعيات بيروت، أو اجتماعات مفيدة للشبان والشابات كالاجتماعات التي عندنا، إلا أننا منذ مدة حضرنا افتتاح جمعية علمية أدبية في دار المرسلين الأمريكيين، كان فيها نحو مائة وخمسين نفسًا حاضرين، واجتماعاتها أسبوعية، وقد تزايد عدد الحضور جلسة فجلسة حتى صار يبلغ خمسمائة في هذه الأيام، وقد ضاقت القاعة دونهم؛ فالأمل أن هذه الجمعية تثبت وتنمو وتكون سببًا لقيام غيرها من الجمعيات العلمية الأدبية؛ حتى ينتشر التهذيب الصحيح بين الشبان والأهالي الذين أوتوا حظًّا وافرًا من اللطف الطبيعي، ولين العريكة، وسهولة الانقياد. والله أسأل أن يُقدِّرنا على قضاء خدمة نافعة لبنات هذه البلاد. انتهى.
ومن كلامها مقالة أدرجت في السنة الأولى من جرنال «اللطائف» تحت عنوان تربية الأولاد، وهي خطبة ألقتها في أحد الاحتفالات، قالت: «قال الحكيم: ربِّ الولد في طريقة أدب؛ فمتى شاب لا يحيد عنها، وقال علماء الأخلاق: مَن أدب ولده صغيرًا سُرَّ به كبيرًا. وهما قولان جديران بالمراعاة، وحريان بكل اعتبار؛ لأنهما صادران من أعقل الناس وأحكمهم، متعلقان بأهم ما في العالم في الأعطية والكنوز؛ فإن الأولاد هم عماد الهيئة الاجتماعية، منهم يقوم الأفاضل، ومنهم يقوم العلماء وولاة الأمور، ومنهم تتألف القبائل والأمم والشعوب؛ فهم أساس الهيئة الاجتماعية، وبهم يتم انتظامها وتمدُّنها وارتقاؤها في مراتب الكمال.
ولما كانت تربيتهم أقوى الوسائط المُثقِّفة لعقولهم، المُهذِّبة لأخلاقهم، المُقوِّمة لاعوجاجهم، وكانت هذه التربية متوقفة على الوالدين خصوصًا، وغيرهم عمومًا، كانت واجبات الوالدين نحو أولادهم من أعظم الواجبات، والوديعة التي أمَّنهم الباري — تعالى — عليها أجلَّ الودائع؛ ولذلك لا يسع الوالدين الحنونين إلا الاهتمام بتربية أولادهم، والبحث عما يجعلها قويمة المنهاج، شافية العلاج.
وهذا ما قصدت الكلام فيه بوجه الاختصار، فأقول: إن التربية ليست علمًا بقواعد وأصول كسائر العلوم يتعلمه الإنسان من بطون الصحف، ولكنها نوع من السياسة يراعي فيها الإنسانُ أحوالَ الأولاد والزمان والمكان، مع أنها لا تخلو من مبادئ عمومية يصح الجري عليها في كل حال، لكن أكثرها يتوقف على حكمة المربي وفطنته وغيرته وحسن أخلاقه، ويمكنني أن أقول بالإجمال: إن التربية يلزم لتمامها شروط بعضها يتعلق بالمُربِّي، وبعضها بالمُربَّى.
فمن أعظم الشروط اللازمة في المُربِّي أن يكون هو نفسه مُربِّيًا حسنَ الطَّوِيَّة، مهذبَ الأخلاق والأقوال، حميد السيرة، صافي السريرة وإلا ذهبت مساعيه عبثًا، وربما زادت أضرارها على منافعها؛ لأن المُربَّى يميل بالطبع إلى الاقتداء بمربيه في كل شيء، وتقليده قولًا وفعلًا، حتى كأنه صورة خلقته، أو صدَى صوته، فإذا لم يجرِ المُربِّي على حسَبِ تربيته للمُربَّى كُذبت أقواله وأفعاله، وأُبطلتْ أمياله ومساعيه.
يحكى أن السرطان أراد يومًا أن يُقوِّم خطوات ابنه فقال له: ما لك يا بني تمشي مجانبًا ولا تقوِّم خطواتك؟ قال: رأيتك يا أبي تمشي كذلك قبلي فاقتديت بك، وحسبي أن أشبهك، ولقد أصاب قول من قال: «ومن يشابه أبه فما ظلم.» ويلزم المُربِّي أيضًا مع ذلك أن يكون حكيمًا متأنِّيًا، مالكًا طبعه، خبيرًا بمواقع الأقوال، ونتائج الأفعال؛ فيجعل كلامه مع المُربَّى على قدر الحاجة اللازمة لتقويم أوَده، وتهذيب أخلاقه، ويُقصِر أفعاله على ما يُؤثِّر في نفس الطفل أحسن تأثير يحثه على الخير، وينهاه عن المنكر. وأما الشروط اللازمة في المُربَّى فسأتكلم عليها في أواخر هذه المقالة.
قلت: إن التربية تتوقف خصوصًا على الوالدين، وعمومًا على غيرهم، ومعلوم أن معظم تربية الوالدين يتوقف على الأمهات لا على الآباء؛ لوجودهن غالب الأحيان مع أولادهن أيام الطفولية، ولكون الاهتمام بهم من أخص واجباتهن، وبما أن كثيرات منا — نحن الحاضرات ها هنا — أمهات أولاد يقصدن تربية أولادهن أحسن تربية، ويتَّقدنَ غيرة على تحسين طباعهم وتهذيب أخلاقهم؛ فقد رأيت أن أُبدي بعض ما عندي في هذا الشأن؛ لعله يقع موقع القبول عند إحدى السامعات؛ فيفيد، أو أسمع عنه ملاحظات من إحداهن فأستفيد؛ فأتقدم في الكلام بناءً على أن الشروط اللازمة متكملة في المربيات السامعات؛ لعلمي أنهن من اللواتي ربين أحسن تربية، ولكن يعوزنا الاختبار والانتفاع بأثمار التجارب.
أرى أن الوالدة لا تقدر أن تربي ولدها على ما تريد إلا بعدما تستولي على عقله وعواطفه، وتعرف طباعه، والذي يدلني على ذلك هو أن التربية لا تُنمِّي في نفس الطفل ما ليس له أثر ولا وجود فيها، بل ما هو موجود قد أودعه الباري — تعالى — فيها، ولا تقتصر على إنماء هذا الموجود، بل تُقدِّم النامي وتُهذِّبه وتقوِّيه وتُشدِّده؛ فمثل الوالدة في تربية ولدها مثل الغارس في تربية غرسه؛ ألا ترين كيف يُمهِّد له الأرض ويُسوِّيها ويُسمِّدها ويرويها حتى يتأصَّل فيها، كلَّما نما وطال يقوِّمه إذا رآه مُعوجًّا، ويقضبه ويهذبه حتى يقوى ويعلو ويتحسن منظره، هكذا تفعل الأم في ولدها بالتربية؛ تنظر إلى جسده وتقويه وتنميه بالطعام والرياضة والإتقاء من الآفات، وتنظر إلى عواطفه وقواه العقلية والأدبية فتوسِّعها وتُقوِّيها، وتُقوِّم اعوجاجها وتُهذِّبها، فإن لم تكن هذه بيدها وطوع أمرها؛ فكيف تقدر عليها؟! ولكن تكون خاضعة لها، وطوع إرادتها.
يجب على الوالدة أن تنبه على تربية ولدها وهو طفل صغير ضعيف الإرادة، وتتعهده منذ ذلك الحين: تارة بالأمر والنهي كالسُّلطان المطلق، وطورًا بالحب والرفق كالصديق الحبيب؛ حتى تكون مَهيبةً عنده، مسموعة الكلمة، ومحبوبة منه، ومقبولة الأوامر. وهذا غاية عظمة الملوك والحكام، ومنتهى ما يبلغون إليه في سياستهم مع الرعية؛ وهو أن يكونوا مهيبين محبوبين، مسموعي الكلمة، معزوزي الجانب.
إذا راقبت الأم ولدها وجدت أنه لا يبلغ من العمر نصف سنة حتى تظهر عليه علامات الفهم، وتبدو منه أفعال الإرادة؛ فيغضب ويرضى، ويبكي وقت الغيظ، ويتبسم وقت الرضا، وحينئذٍ يجب على الأم أن تتخذ ما عندها من الحكمة؛ لتطبع إرادتها على لوح نفسه، وتغرس محبتها في أعماق فؤاده، وتنفذ كلمتها في أمرها ونهيها له، متدرجة من الأمور الصغيرة إلى المبادئ الكلية على توالي الأيام؛ فمتى صار يطلب شيئًا لا يناسب إعطاؤه إياه تمنعه عنه ولا تطاوعه، ولو بكى وصرخ صراخًا شديدًا، حتى يرسخ في ذهنه أن البكاء والصراخ لا يُنيلانه المطلوب إذا لم تُرد الوالدة ذلك، وأن الطاعة خير من العناد، وإذا أصرَّ الطفل على مسك ما لا يخصه بعدما منعته والدته من ذلك مرارًا؛ فلا تخفيه من أمامه خوفًا من بكائه، بل تردُّه عنه بكل لطف وحزم، وتفهمه بقدر الطاقة أن ذلك الشيء لا يخُصُّه، وأنه يجب أن يطيع والدته، ويُخضع إرادته لإرادتها، ولا تزال تعلمه بمثل هذين المثلين حتى تتأصل الطاعة لوالدته في نفسه، وتنمو فيه مع نماء قوى عقله، ولكن ليس بالغضب والعنف؛ بل بالرفق واللين واللطف.
ومن خطأ الوالدين والوالدات في التربية أنهم يحسبون البشاشة في وجه الولد، والملاطفة في معاملته تئول إلى استخفافه بكلامهم وتمرُّده عليهم؛ فلذلك تراهم لا يُكلِّمونه إلا زجرًا، ولا ينظرون إليه إلا شزرًا، وإذا ارتكب أقلَّ ذنب أوسعوه ضربًا وتعنيفًا، وإذا ضحك أو لعب في حضرتهم وبَّخوه وانتهروه كأنه قد جنى ذنبًا، زاعمين أن ذلك كله يزيد سطوتهم عليه، ويُمكِّن الطاعة في نفسه لهم! وهذا صحيح؛ ولكن إلى حدٍّ معين؛ لأن هذه المعاملة تُمكِّن سلطة الوالدين على أولادهم، ولكنها تكون ثقيلة عليهم، مكروهة عندهم، يترقبون الفرص لمخالفتها، ويتحايلون للتخلص منها؛ ولذلك كثيرًا ما تكون نتيجتها فيهم تربية الخوف والخيانة والبغض والكراهة في نفوسهم، ويتلو ذلك المكرُ والرياء، أو العصيان والتمرد كما لا يخفى؛ إذ القسوة والعنف في المتسلط يجعلانه مهيبًا، ولكن مكروهًا، ومطاعًا ولكن مستثقلًا، والنفوس الأبية لا تذل إلَّا إلى حين، ولا تصبر على الضيم إلا ريثما تجد بابًا لدفعه.
فيجب على الوالدين — والوالدات خصوصًا — أن يعاملوا أولادهم في التربية بالرفق، وأن يقابلوهم بوجوهٍ باشَّة إلا حيث لا تُقبل البشاشة، وأن يكون كلامهم في الإنذار والتوبيخ مقرونًا بالتأني والهدوِّ؛ حتى يفهم الولد مؤداه ويقبله عن اقتناع؛ لا عن خوف ورعدة، كما يكون إذا أدبته أمُّه عن غضبٍ وحنق؛ إطفاء لنار غيظها. والحزم والهدوُّ والتأني في تربية الطفل وتأديبه تُلقي لمربيته هيبة في فؤاده ليس فوقها هيبة، فتبقى مقرونة بالطاعة له طول أيامه، ولا سيما لأنها تكون ممزوجة في نفسه بالحب والمودة.
والخلاصة أنه يجب على الأم أن تجعل لها في نفس ولدها طاعة مؤسسة على الحب تدوم إلى طويل، لا طاعة مؤسسة على الخوف تدوم إلى قصير، وكما يطلب من الوالدة أن تكون حاكمة متسلطة على عقل ولدها وعواطفه، يطلب منها أن تكون بمنزلة الصديق والرفيق له؛ تخصص جانبًا من وقتها لملاعبته بالملاعب المختلفة، وتسليه تارةً بقصِّ القصص المفيدة عليه، وطورًا بتعليمه ما ينير ذهنه، وحثِّه على ما يميل إليه من طبعه؛ حتى تتعلق نفسه بها تعلقًا شديدًا، ويفضل مجالستها واستماع أقوالها على مجالسة كل واحد سواها، فيكتسب منها في أثناء ذلك ما تريد أن تلقيه في ذهنه من الأفكار والمبادئ، وينمو على ما تحب أن ينمو عليه.
وها هنا مندوحة واسعة للكلام على الأتعاب التي يجب على الوالدة أن تهبها لأولادها حتى تدفع عنهم الملل والضجر، وما ينشأ عنهما من المساوئ الكثيرة التي تفسد التربية والأخلاق، وها هنا محل الكلام على تدبير ما يلزم لتحسين ذوق الولد وتعويده على حسب ما هو جميل، واعتبار ما هو نافع ومفيد، وتربيته على مراقبة الأمور، وملاحظة ما حواليه من الكائنات وعجائب طبائعها، وغرائب أفعالها، وها هنا محل الكلام أيضًا على ترويضه وتقوية جسده، ولكني لا أتعرض لشيء من ذلك كله لئلا يضيق المقام، واعتمادًا على ما هو شائع منه في كتبنا وجرائدنا.
وصدق الوالدة مع ولدها في كل مواعيدها أمر لا بد منه في التربية، وكذبها عليه يُربِّيه على الكذب لا محالة، والدعاء عليه يَحطُّ قيمتها في عينه، ويفسد آدابه، وتكثير الأوامر عليه والطلبات منه تلقيه في الحيرة والارتباك، فيصير يطلب الابتعاد عنها، ولا يصدق أن يتيسر له الفرار من وجهها حتى يغافلها ويسرع إلى أصدقائه وملاعبه.
قال بعض الحكماء: الصدق أهم ما يجب اتباعه في تربية الصغار وتهذيبهم، فمن كذب على ولده كذبة علَّمه الكذب.
وقال أيضًا: إن تهذيب الولد يبتدئ بنظرة أمه، والتفات أبيه، وتبسم أخته أو أخيه.
ومن أغلاط التربية عندنا أنه إذا قامت الأم لتأديب ولدها فكثيرًا ما يعارضها الأب ويحمي الولد من التأديب؛ كأن أمه عدو له تقصد الانتقام منه! وإذا قام الأب لتأديب ولده عارضته الأم! وكل ذلك مما يمنع فوائد التربية عن الولد، ويحمله على الظن بأنها صادرة عن الغضب والانتقام؛ لا عن حب الواجب وحسن المقصد، ومن أغلاطنا في التربية أيضًا أننا لا نتحرى تعويد الأولاد على الاعتماد على أنفسهم، والاستقلال عن سواهم، بل إذا رأينا في ولدنا ميلًا إلى شيء من ذلك أمتناه؛ إجابة لدواعي الخوف والشفقة التي في غير محلها، فإذا رأت الأم ابنها يميل إلى حز الخشب والنجارة بسكين أخذت السكين من يده؛ خوفًا من أن يجرح إصبعه جرحًا طفيفًا، ولا يخطر لها أن توصي أباه ليبتاع له عِدَّة صغيرة للنجارة؛ ليتعود بها على عمل أعمال كثيرة تنفعه في أيامه، وتبعد عنه الضجر والسآمة. والحال أن أكثر مخترعي الإفرنج يربون على حب الاختراع بأمور كهذه وهم أولاد صغار، وإذا رأت الأم ولدها يركض في الشمس وراء الفراش والجنادب صاحت وولولت؛ خوفًا عليه من حر الشمس، وكان الأوْلَى بها أن تشتري له كتابًا ذا صور وتُربِّيه على مراقبة المخلوقات الطبيعية، قيل: إن لبنيوس — المعدود من أعظم علماء النبات — كان في صغره يحب الأزهار، فزرع له أبوه أرضًا وقسَّمها على وفق ذوقه، فكان يتفقدها ويعتني بها، ولما شبَّ ولع بدراسة علم النبات حتى طار صيته في الآفاق.
ويجب الحذر في التربية من إضعاف عزيمة الولد وإرادته؛ فإن والدات كثيرات يذللن الولد حتى لا تبقى له إرادة، فإذا شبَّ كان ضعيفًا، وكانت تربيته أعظم مصيبة عليه!
وكثيرون ينكرون فوائد التربية ويقولون: إن وجودها وعدمها سيان! ويستشهدون على ذلك بقولهم: إن فلانًا رُبِّي في صغره أحسن تربية، فكان أحسن الأولاد، وكان يُقدر له أعظم النجاح، فلما كبر أتى المنكرات ولم يجنِ إلا ثمار الذل والفشل، والآخر رُبِّي في صغره أردأ تربية، ولما كبر فاق فضلًا ونبلًا وكرم أخلاق، وخالف ظن الناس فيه!
أقول: «إن إنكار هؤلاء الناس لمنافع التربية مبنيٌّ على وهم فاسد؛ وهو أن التربية إنماء الموجود وتحسينه — كما مر في بدء الكلام — ولا تُوجد ما ليس موجودًا؛ فقد يخص البارئ بمواهب أناسًا دون آخرين حتى إنهم مع قلة التربية يفوقون سواهم ممَّن ربِّي تربية حسنة، ولكن لو تساوت مواهب الفريقين لفاق المُربَّى بالأخلاق؛ ولذلك اشتُرط في المُربَّي أن يكون قابلًا للتربية من طبعه، وقليل مَن لا يقبلها، ومهما قوي في الفطرة حسك الشرور، وغلظت أصول المساوئ والآثام، فإنها تضعف حتى تضجر وتزول بحسن التربية وجميل الاعتناء. ا.ﻫ.
إن حضرة الفاضل الدكتور شبلي شميل يعد من جملة الذين إذا أطعموا أشبعوا، وإذا ضربوا أوجعوا، فمقالته التي عنوانها «الرجل والمرأة وهل يتساويان؟» — المندرجة في الجزءين السادس والسابع من مقتطف هذه السنة — قد حوتْ من الشواهد والحقائق ما يشبع عقول القارئين، ومن التحامل على المرأة والإجحاف بحقها ما يوجع نفوس القارئات، وليس لنا وجه لدفع قوله بأنه خَصْم ذو غرض، أو رجل قليل المعارف لا يُعبَأ بقوله؛ لأنه قال وأعاد القول مرارًا: إنه ليس قصده حط شأن المرأة؛ بل تقرير الحق الواقع.
- أولًا: إن القسم الأول من المقالة المذكورة مقصور على إثبات أن
الذكور من الحيوانات العالية أشد من الإناث، وأن الرجل
أضخم من المرأة جثةً، وأكبر جمجمةً، وأثخن عظمًا، وأقسى
عضلًا، وأنضر سحنة، ودمه أثقل نبضانًا، وأغلظ قوامًا،
وجسده أكثر فسادًا وانحلالًا؛ إذ يفرز من الحامض الكربونيك
أكثر مما تفرز هي، وغير ذلك مما يدل على أن الرجل أشد من
المرأة. وما لبث أن جعل هذه الأوصاف دليلًا على الشدة حتى
انتقل إلى جعلها امتيازًا يمتاز به الرجل، ولم يؤيد هذا
الامتياز بأن حضرة الدكتور يذكر مقابله امتياز المرأة على
الرجل بالجمال، واعتدال القوام، ولطف التركيب، والغضاضة
والبضاضة ونحوها من الأوصاف التي تُميِّزها عليه؛ كما هو
مُسلَّم به إجماعًا أيضًا؛ لأنه إن كانت ضخامة الجسم
والقوة الوحشية تعدان امتيازًا للرجل من وجه؛ فلطف القد
وحسن الخلق يعدان امتيازًا للمرأة من أَوْجُهٍ، والإنصاف
يقتضي ذكرهما عند ذكر غيرهما، لكن حضرة الدكتور أغفلهما
تمام الإغفال.
ثم إنه ذكر تقوس القدم في الرجل وانبساطها في المرأة دليلًا على ارتقائه في الخلق أكثر منها، وكذلك يزرر ثيابه عن اليمين وهي تزررها عن اليسار! وكذلك بطء نموه وسرعة نموها، إلى غير ذلك من الأدلة التي لم يُسلِّم بصحة مدلولها واحد حتى ينفيها آحاد، وترك الأمر والإنصاف يقتضي ذكر الأمر المقرر قبل الشواهد التي لم تثبت صحتها ولا صحة ما يستشهد عليه بها.
- ثانيًا: إن فحوى القسم الثاني من مقالة حضرة الدكتور هي إثبات أن
الرجل أعظم عقلًا وإدراكًا من المرأة، وقد عدد فيه القوى
العقلية التي زعم أن الرجال يفوقون فيها النساء، ولم يذكر
للنساء قوة يَفُقنَ فيها، والذي أعلم أن كل الباحثين — حتى
الذين بحثوا قديمًا عما إذا كان للمرأة نفس! — لم ينكروا
أن المرأة تفوق الرجل في بعض القوى العاقلة؛ مثل: الإدراك
عن طريق الحواس، المعروف بالشعور، وسلامة البداهة والذوق
العقلي، ثم إن حضرته يبني حكمه بصغر عقل المرأة عن عقل
الرجل بكون دماغه أثقل من دماغها!
ولما كان لا يحق لي الاعتراض في معرض مثل هذا؛ فحسبي أن أسأل جنابه: هل يعتبر ثقل الدماغ دليلًا قاطعًا على كبر العقل؟! لأن الذي نعلمه — وهو مأخوذ عن أحدث مناقشة للعلماء في هذا الشأن — أن كبر العقل بمعزلٍ عن ثقل الدماغ؛ فقد يكون الإنسان من أعقل أهل زمانه ودماغه خفيف جدًّا، أو متوسط في الثقل، وقد يكون من أصغر الناس عقلًا ودماغه ثقيل جدًّا؛ ولذلك لا تقنع عقولنا القاصرة بأن ثقل الدماغ دليل كبر العقل حتى يتبين لنا ذلك بالبرهان القاطع.
- ثالثًا: إن معظم الإجحاف كان في كلام حضرة الدكتور عن آداب المرأة وفضائلها، وهنا لا أخشى أن أخالف حضرته تمام المخالفة؛ إذ المحقق المشهور أن الفضائل نصيب المرأة؛ فهي المُعزِّيةُ الحَزينَ، المُفرِّجة الكروبَ، الصابرة على مضض العيش ونغص الحياة، الراضية بمشاركة الرجل في سرائه وضرائه، المحافظة على ولائه، الطالبة لمسرته، الناسية نفسها في خدمته، الباذلة حياتها لمسرته وتربية عائلته، الممتازة بالوراعة والعفاف والطهارة، إلى غير ذلك مما يعد منه ولا يُقدَّر، فحسبي ما ذكرت.
مريم بنت يعقوب الأنصاري
سكنت إشبيلية، وأصلها على ما قيل من شلب، وكانت صدر نبهائها وأدبائها، وممن لهن قدر منجبيها ونجبائها، سردت البديع أحسن سرد، وافترست المعاني كالأسد الورد، وأبرزت درر المحاسن من صدفها، وحازت من أفخر الإجادة وشرفها، ومدحت ملوكًا طوقتهم من مدائحها قلائد، وزفت إليهم من معانيها خرائد، وجلتها عليهم كواعب بالألباب لواعب، فأسالت العوارف وما تقلص لها من الحظوة ظل وارف، وقد أثبت المقري ما يعترف بحقها، ويُعرف به مقدار سبقها. وكانت تعلم النساء الأدب، وتحتشم لدينها وفضلها، وعمرت عمرًا طويلًا، واشتهرت بإشبيلية بعد الأربعمائة، وذكرها الحميدي، وأنشد لها جوابها لما بعث المهدي لها بدنانيرَ وكتب إليها:
ونص الجواب منها:
ومن شعرها وقد كبرت:
مريم صوفيا إمبراطورة الروسية
هي ابنة ملك الدانمارك، وشقيقة إمبراطورة «أستوريا» والبرنسيس قرينة الدوق «أوف وليس»، ولي عهد إنكلترا. أميرة نساء هذا الزمان، وأديبتهن في هذا العصر والأوان، ربيت في بيت أبيها بهيئة بسيطة لا تعلو عن حالة المتوسطات بالغنى والثروة من نساء العالم، وقد طرحت كل كبرياء وتشامخ من صبوتها، ولم تزل على ذلك حتى الآن، وهي في مقام تنحني أمامها أعناق نحو مائة مليون من البشر. وقد زادها الله عزًّا وكمالًا بالمواهب الطبيعية؛ فإنها على جانبٍ كبير من اللطف والرقة، ودماثة الأخلاق، ولين العريكة، وعلى جانبٍ أعظم من غزارة العقل، وحدة الذهن، وصدق التصور، وحسن البديهة. وقد استودع الله في هيكلها اللطيف من القوة والشجاعة ما يعزُّ وجوده في خير أشداء الرجال.
وقد عرَفتُ المُترجَمة في ردِّها على الدكتور شلبي شميلومن شريف طباعها أنها شديدة الحب لجلالة الإمبراطور — قرينها — ميالة إلى عمل الحسنات، منشطة للمعارف، لا تحب التداخل في شئون السياسة كثيرًا، نزوعة إلى العمل، شديدة الكره للكسل والكسالى، مولعة بمطالعة الكتب المفيدة، تخيط أكثر ثيابها بيدها — الأمر الذي يكشف عن ضعة في نفسها الكريمة — لا تحب الإسراف والتبذير، تقوم بنفسها مع مساعدة إحدى الفاضلات بتعليم بنيها الثلاثة وابنتيها. ولشدة ميلها للدروس والمطالعة أصبحت تتكلم بعددٍ من اللغات، وبالإجمال: إن شريف خلالها يقوم واعظًا ونذيرًا في نساء العالم قاطبة؛ يرد المتكبرات إلى الضعة واللين، والواهنات القُوى إلى النشاط والإقدام، والمسرفات إلى الاقتصاد، والمُبتعدات عن عمل البر والإحسان إلى حبه والعمل به.
مزروعة بنت عملوق الحميرية
كانت من فصحاء زمانها، ومن اللواتي كُنَّ في فتوح الشام، حضرت الحروب مع خالد بن الوليد بالشام ومصر، وشهدت حرب النسوة في وقعة سحور مع خولة بنت الأزور، ولها شعر في رثاء ولدها وهو مأسور في وقعة أنطاكية؛ وهو:
فقالت لها ولمن معها سليمى بنت سعد بن زيد بن عمرو بن نفيل — وكانت من الزاهدات العابدات: أبهذا أمركن الله؟! أمرَكنَّ بالصبر، ووعدكن على ذلك الأجر. أما سمعتن ما قال الله — سبحانه وتعالى: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (البقرة: ١٥٦-١٥٧)؛ فاصْبِرْنَ تُؤْجرْنَ، فقالت لها مزروعة: إن كلامك هو الحق، وأتيتِ بالصدق، ثم سكَتنَ عن البكاء.
مسكة جارية الناصر محمد بن قلاوون
قد نشأت في داره، وصارت قهرمانة منزله، يُقتدى برأيها في عمل الأعراس السلطانية والمهمات الجليلة التي تعمل في الأعياد والمواسم، وترتيب شئون الحريم السلطاني، وتربية أولاد السلطان، وطال عمرها وصار لها من الأموال الكثيرة والسعادات العظيمة ما يجلُّ وصفه، وصنعت برًّا ومعروفًا كبيرًا، واشتهرت وبَعُدَ صيتُها وانتشر، وتقدمت عند السلطان، وكانت مسموعة الكلمة عنده وعند حرمه؛ وذلك لحسن خدمتها وصنيعها وصيانتها لمنزله، وقد صنعت مصانع كثيرة؛ مثل: مساجد، وتكايا، ومدارس، وغير ذلك. جميعها تهدَّم.
بسم الله الرحمن الرحيم، أمَرَتْ بإنشاء هذا المسجد المبارك الفقيرةُ إلى الله — تعالى — الحاجَّةُ إلى بيت الله، الزائرةُ إلى قبر رسول الله ﷺ الستُّ الرفيعة مسكة، سنة ست وأربعين وسبعمائة.
ومنقوش بدائرة من الخارج بالحجر سورة يس، وبه منبر مكتوب عليه: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ الآية (التوبة: ١٨).
وكان الفراغ من الجامع المبارك في شهور سنة ست وأربعين وسبعمائة، إلى غير ذلك من الأوصاف الحميدة.
ولما توفيت الست «مسكة» دفنت فيه، وقبرها ظاهر للآن، وإنما الجامع معطل وغير مقام الشعائر لتخرُّبه حالة وجود أحكار له في ديوان الأوقاف المصرية.
مفضلة الفزارية بنت عرفجة الفزاري
كانت تحت محمد بن عوف الطائي، وكانت بديعة الجمال، فصيحة المقال، عالمة بضروب الشعر، وشعرها فيه بلاغة تستحسن. ومن قولها في زوجها محمد المذكور حين قُتل في بعض غزواته:
منفوسة بنت زيد بن أبي الغوار رضي الله تعالى عنها
كانت إذا مات ولدها تضع رأسه على حجرها وتقول: والله لتقدمك أمامي خير عندي من تأخرك بعدي، ولصبري عليك أولَى من جزعي عليك، ولئن كان فراقك حسرة؛ فإن في توقُّع أجرك لخيره، ثم تنشد قول عمرو بن معديكرب — رضي الله عنه:
مهجة القرطبية صاحبة ولادة
كانت من أجمل النساء في زمانها وأخفهن، وعلقت بها ولادة ولازمت تأديبها، وكانت من أخف الناس روحًا، ووقع بينها وبين ولادة ما اقتضى أن تهجوها. ومن شعرها في ولادة حينما كانتا مصطلحتين:
ولها أشعار كثيرة لم نشأ جمعها، وأقتصر منها على هذا المقدار.
مي ابنة طلابة بن قيس بن عاصم الغساني
كان جدُّها قيسٌ من أجلاء ملوك العرب وأفاضلهم حتى ضربت به الأمثال؛ لجلاله وسماحته، وحسن جواره ودماثته، وكانت مي قصيرة، عذبة الكلام، بليغة، غزالة العينين، زجَّاء الحاجبين. مرَّ عليها غيلان بن معدي الكناني، المعروف بذي الرمة، وكان غيسانيًّا مليحًا، وشاعرًا فصيحًا، فأدركه الظمأ، فمال إلى سرادق علا عروضه وأطنابه، وامتدت أوتاده وأسبابه، وإذا بمي تُمشِّط رأسها وقد أسبلت شعرها كأنه عثاكيل النخل، ووجهها يشف من خلاله، فقال غيلان: هل من إداوة تنفي الأوام، وتشفي من السقام، فأسرعت إلى ماء شِيب باللبن وسقته، ثم رحَّبت به وأنزلته، فجلس يأكل مما هيَّأت، وعيونها تروي له عن الأيام ما خبأت، فما انصرف آخر النهار إلا وفي قلبه لاعج وأوار، كأنهما مارج من نار، فعطف يعاودها على طول الشقة وفرط المشقة، وينشد:
وحدث يومًا عقبة الفزاري فقال ما معناه: أتاني يومًا ذو الرمة فقال: إن في مية خلوفًا، فهل لك أن تسعدني في الزيارة؟ فقلت: لبيك، ثم سرنا حتى إذا أتينا الربع نظرت النساء إلى غيلان فعرفنه، فجئن يتهادين — وبينهن مي — حتى جلسن لائذات به، فقالت حسناء منهن: أسمعنا يا ذا الرمة ما قلت: فالتفت إليَّ وقال لي: أنشدها ما رويت عني، فاندفعت أقول قصيدته التي أولها:
ولما بلغت قوله:
قالت الحسناء: لكن اليوم فلتحل. ثم مضيتُ في الإنشاد حتى انتهيت إلى قوله:
قالت مي: ويحك يا ذا الرمة، خف عواقب الله! ثم ما زلت في الإنشاد حتى بلغت قوله:
قالت الحسناء: قتلته يا مي — قتلك الله! فقالت مي: ما أصحه وهنيئًا له! فأصعد ذو الرمة زفرة كاد حرُّها يحرق عارضيه. أما أنا فداومت إنشادي حتى انتهيت إلى قوله:
فقالت الحسناء باسمة: قد روجع الآن القولُ وبدا الوجهُ، فمن لنا بأن يُنضي الدرع سالبه؟ فضحكت مي، ثم قالت الحسناء: إن لهذين شأنًا؛ ففرجوا عنهما، فقمت مع من قام وجلست بحيث أراهما، فتعاتبا طويلًا ولم يبرح غيلان من مكانه، ولم يسمع من حديثهما سوى قولها: كذبت والله. ولا أدري بِمَ كذَّبته، ثم جاءني ومعه نافجة طيب أهدته إياها فقال: شأنك وهذه، ثم قال: وهذي قلادة أعطتنيها، فوالله لأقلدنها بعيرًا، ثم عقدها في سيفه كالحمائل وانصرفنا، ثم وقفنا على أطلال مي فأنشد:
وانضمت عيناه بالعبرة وقال: إني جلد صبور، وإن كان مني ما ترى، ثم انصرفنا، وكان آخر العهد به، فوالله ما رأيت أشد منه صبابة، ولا أحسن صبرًا! ومن لطائف أشعاره قوله:
مية بنت ضرار الضبية
كانت ذات أدب وفصاحة وحماسة، ولها شعر موزون ورثاء مستحسن في أخيها قبيصة — وكان قتل في إحدى الغزوات — ومنه قولها:
مية بنت عتبة
كانت صاحبة حسن وجمال في زمانها، وكان أبوها أميرًا في قومه، مطاعًا في عشيرته، وكانت هي لعلوِّ منزلة أبيها مسموعة الكلمة أيضًا، وكان رأيها حسنًا يستشيرونها في أمورهم، وكان لها معرفة بمعاني الشعر. ولما مات أبوها رثته بأبياتٍ، منها ما عثرنا عليه؛ وهو:
مريم نحاس نوفل
هي ابنة جبرائيل نصر الله نحاس. ولدت في بيروت في ٦ كانون الثاني سنة ١٨٥٦م (يناير)، وتهذبت في المدارس الإنكليزية السورية مدة ثمان سنوات بين خارجية وداخلية، فتعلمت اللغتين العربية والإنكليزية مع التاريخ والجغرافيا والحساب والبيانو، وجميع أشغال الإبرة واليد.
وفي ١٤ تشرين الثاني (نوفمبر) سنة ١٨٧٢م، اقترنت بنسيم أفندي نوفل، في المركز الصيفي في جبل لبنان؛ إذ كان والدها وقرينها المذكوران من متوظفي الحكومة اللبنانية.
وفي خلال سنة ١٨٧٣م شرعت بتأليف كتاب عام لإحياء ذكر بنات جنسها اللطيف، وسمته بكتاب «معرض الحسناء في تراجم مشاهير النساء»، وهو يتضمن تراجم شهيرات النساء من الأموات والأحياء مُرتَّبًا على نسق القواميس الإفرنجية، وقد أعلنت في أكثر الجرائد عن هذا المشروع المبتكر، وصرفت باقي عزيمتها على الاشتغال به باذلة في سبيله كل ما أحرزته من الحلي والمجوهرات؛ حتى لا يقال: إن للرجال العلم والأدب، وللنساء الجمال والذهب. وريثما أصبح القسم الأول منه على وشك النهاية رفعته إلى مَن اشتهرت بين بنات جنسها: مُؤسِّسة المدرسة السيوفية في مصر القاهرة، التي كان فيها نحو الثلاثمائة تلميذة يغتذين من ألبان معارفها وآدابها، حضرة الأميرة جشم آفت هانم أفندي، ثالث حُرَم سمو إسماعيل باشا الخديوي السابق، فأفاضت عليها من نعم القبول ما حمل مُقدِّمته إلى نشر جميل الشكر والامتنان في جريدة الأهرام الغراء، ذاكرة ما وعدت به الأميرة من المكارم والإحسان.
وفي حزيران (يوليو) سنة ١٨٧٩م، طبع بأمر دولتها مثال للكتاب يتضمن المقدمة، وترجمة حياة الأميرة المشار إليها، وتراجم بعض النساء الشهيرات. وقد وزِّع في كثير من البلدان العربية، غير أن سفر الجناب الخديوي السابق مع آل بيته الكرام إلى نابولي في تلك السنة أوقف السعي بإتمام القسم الثاني من تراجم الأحياء، ومن ثم فإن الحوادث الغريبة التي أضاعت قسمًا من المعدات والصور التي حضرت لتزيين الكتاب اضطرت المؤلفة أن تصبر على مضض الأيام، وفي صدرها حزازات من حكم الزمان، ومن كساد بضائع الآداب في البلاد الشرقية.
وهذه الأسباب والمسببات التي قضت بتأخير هذا الكتاب إلى حين من الزمن ما برحت تتردد مع الأيام في فكر المؤلفة، حتى توفاها الله في صباح يوم الاثنين من شهر نيسان (أبريل) سنة ١٨٨٨م، بعد أن أوصت قرينها بإتمام مشروعها الذي قضت بين محابره ودفاتره مدة العمر.
وقد رثاها حضرة الشاعر الأديب إلياس أفندي نوفل بقصيدة رنانة، فمن جملة ما قال فيها عن وصف الفقيدة: