حرف النون
نائلة بنت الفرافصة بن الأخوص
أما بعد، فإنه قد بلغني أنك تزوجت امرأة من كلب؛ فاكتب إلي بنسبها وجمالها.
أما بعد، فإن نسبها أنها بنت الفرافصة بن الأخوص، وجمالها أنها بيضاء مديدة.
إن كانت لها أخت فزوجنيها.
فبعث سعيد إلى الفرافصة يخطب ابنته على عثمان، فأمر ابنه ضبًّا أن يُزوِّجها إياه، وكان ضب مسلمًا، وكان الفرافص نصرانيًّا، فلما أرادوا حملها إليه قال لها أبوها: يا بنية، إنك تقدمين على نساء قريش: هن أقدر على الطيب منك؛ فاحفظي عني خصلتين: فتكحلي وتَطيِّبي بالماء حتى يكون ريحك شن ريح أصابه مطر، فلما حُملت كرهت الغربة وحزنت لفراق أهلها؛ فأنشدت تقول:
فلما قدمت على عثمان قعد على سريره ووضع لها سريرًا حياله، فجلست عليه، فوضع عثمان قلنسوته فبدا الصلع، فقال: يا ابنة الفرافصة، لا يهولنك ما ترين من صلعي؛ فإن وراءه ما تحبين، فسكتت، فقال: إما أن تقومي إلي، وإما أن أقوم إليك، فقالت: أما ما ذكرت من الصلع؛ فإني من نساء أحبُّ بعولتهن إليهن السادة الصلع، وأما قولك: إما أن تقومي إلي وإما أن أقوم إليك؛ فوالله ما تجشمته من جنبات السماوة أبعد مما بيني وبينك، بل أقوم إليك، فقامت فجلست إلى جانبه، فمسح رأسها ودعا لها بالبركة، ثم قال لها: اطرحي عنك رداءك، فطرحته، ثم قال لها: اطرحي خمارك، فطرحته، ثم قال لها: انزعي درعك، فنزعته، ثم قال لها: حلِّي إزارك، فقالت: ذاك إليك، فحلَّ إزارها، فكانت من أحظى نسائه عنده.
وروي عن أبي الجراح مولى أم حبيبة أنه قال: كنت مع عثمان في الدار، فما شعرت إلا وقد خرج محمد بن أبي بكر ونائلة تقول: هم في الصلح. وإذا بالناس قد دخلوا من الخوخة، ونزلوا برأس الحبال من سور الدار ومعهم السيوف، فرميت بنفسي وجلست عليه، وسمعت صياحهم، فنشرت نائلة بنت الفرافصة شعرها، فقال لها عثمان: خذي خمارك؛ فلعمري لدخولهم علي أعظم من حرمة شعرك، وأهوى رجل إليه بالسيف فاتقته بيدها، فقطع إصبعين من أصابعها، ثم قتلوه وخرجوا يكبرون، ولما قتل عثمان قالت نائلة:
من نائلة بنت الفرافصة إلى معاوية بن أبي سفيان
أما بعد، فإني أذكركم بالله الذي أنعم عليكم، وعلمكم الإسلام، وهداكم من الضلالة، وأنقذكم من الكفر، ونصركم على عدوكم، وأسبغ عليكم نعمه، أنشدكم بالله، وأذكركم حقه وحق خليفته الذي لم تنصروه، وبعزمة الله عليكم؛ فإنه قال: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللهِ (الحجرات: ٩)، وإن أمير المؤمنين بُغي عليه، ولو لم يكن له عليكم حق إلا حق الولاية ثم أتي؛ لحق على كل مسلم يرجو أيام الله أن ينصره؛ لقدمه في الإسلام وحسن بلائه، وأنه أجاب داعي الله، وصدَّق رسوله، والله أعلم أنه إذ انتخبه فأعطاه شرف الدنيا والآخرة. وإني أقص عليكم خبره؛ لأني كنت شاهدة أمره كله حتى قضى الله عليه.
إن أهل المدينة حصروه في دار يحرسونه ليلهم ونهارهم قيامًا على أبوابه بسلاحهم، يمنعونه كل شيء قدروا عليه حتى منعوه الماء، يحضرون فيقولون له الإفك، فمكث هو ومن معه خمسين ليلة، وأهل مصر قد أسندوا أمرهم إلى محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر، وكان علي من الحضريين من أهل المدينة، ولم يُقاتل مع أمير المؤمنين ولم ينصره، ولم يأمر بالعدل الذي أمر الله — تبارك وتعالى — به، فظلت تقاتل خزاعة وسعد بن بكر، وهذيل، وطوائف من مزينة وجهينة وأنباط يثرب، ولا أرى سائرهم، ولكني سميت لكم الذين كانوا أشد الناس عليه في أول أمره وآخره.
ثم إنه رمي بالنبل والحجارة فنهاهم علي وأمرهم أن يردوا عليهم نبلهم، فردوها إليهم، فلم يزدهم ذلك على القتال إلا جراءة، وفي الأمر إلا إغراء، ثم أحرقوا باب الدار، فجاءهم ثلاثة نفر من أصحابه فقالوا: إن في المسجد أناسًا يريدون أن يأخذوا أمر الناس بالعدل؛ فاخرج إلى المسجد حتى يأتوك.
فانطلق فجلس فيه ساعة وأسلحة القوم مظلة عليه من كل ناحية، وما أرى أحدًا يعادل، فدخل الدار، وقد كان نفر من قريش على عامتهم السلاح، فلبس درعه وقال لأصحابه: لولا أنتم ما لبست درعًا، فوثَب عليه القوم، فكلَّمهم الزبيرُ وأخذ عليهم ميثاقًا في صحيفة، وبعث بها إلى عثمان: إن عليكم عهد الله وميثاقه أن لا تضرُّوه بشيء، فكلموا وتحرجوا، فوضع السلاح، فلم يكن إلا وضعه حتى دخل عليه القوم يقدمهم ابنُ أبي بكر، حتى أخذوا بلحيته وذبحوه، ودعوه باللقب، فقال: أنا عبد الله خليفته، فضربوه على رأسه ثلاث ضربات، وطعنوه في صدره ثلاث طعنات، وضربوه على مقدم الجبين فوق الأنف ضربة أسرعت في العظم، فسقَطتُ عليه وقد أثخنوه وبه حياة، وهم يريدون قطع رأسه ليذهبوا بها، فأتتني بنتُ شيبة بن ربيعة فألقت نفسها معي عليه، فتَوَاطئونا وطأً شديدًا، وعرِّينا من ثيابنا — وحرمة أمير المؤمنين أعظم — فقتلوه رحمة الله عليه في بيته وعلى فراشه.
وقد أرسلت إليكم بثوبه وعليه دمه، وإنه والله لئن كان سلم من قتله لم يسلم من خذله؛ فانظروا أين أنتم من الله — عز وجل — فإنا نشتكي ما مسنا إليه، ونستنصر وليَّه وصالحَ عباده، ورحمة الله على عثمان، ولعن من قتله، وصرعهم في الدنيا مصارع الخزي والمذلة، وشفي منهم الصدور.
فحلف رجال من أهل الشام أن لا يَطَئُوا النساء حتى يقتلوا قَتَلَتَه أو تذهب أرواحهم؛ فكانت هذه الرسالة بسببها واقعة صفين.
ناجية بنت ضمضم المري
هي أخت هرم بن ضمضم. كانت من شاعرات العرب الذين يحضرون الوقائع، ويُحرِّضون على القتال، ولها أشعار قالتها في أخيها هرم المذكور حين قتله ورد بن حابس العبسي في حرب داحس:
وقالت فيه أيضًا:
ولها أيضًا:
نزهون الغرناطية
جوهرة لم يسمح بمثلها الدهر، وفريدة فاقت على نساء العصر، فما الآداب إلا نقطة من بحرها الرائق، وما الجمال إلا من نور وجهها الشارق، لها نادٍ لم يَؤمُّه إلا الأفاضل، ومجلس لم يجتمع فيه إلا كل عاقل، وكانت لطيفة المسامرة، حسنة المحاضرة، حافظة لأشعار العرب وأمثالها، ولم يكن بغرناطة إذ ذاك أحد من أمثالها، وهي من أهل المائة الخامسة. ذكرها الحجازي في «المسهب»، ووصفها بخفة الروح، والانطباع الزائد، والحلاوة، وحفظ الشعر، والمعرفة بضرب الأمثال، مع جمال فائق، وحسن رائق. وكان الوزير أبو بكر بن سعيد أولع الناس بمحاضرتها ومذاكرتها ومراسلتها، فكتب لها مرة:
فأجابته:
ولما قال فيها المخزومي:
قالت:
وقال لها بعض الثقلاء: ما على من أكل معك خمسمائة سوط! فقالت:
وقد اجتمعت مرة مع ابن قزمان في دار الوزير أبي بكر فقالت له عقب ارتجال بديع — وكان يلبس جبة صفراء: أحسنت يا بقرة بني إسرائيل، إلا أنك لا تسر الناظرين! فقال لها: إن لم أسرَّ الناظرين فأنا أسرُّ السامعين، وإنما يُطلب سرور الناظرين منك يا فاعلة، يا صانعة! وتمكَّن السكر من ابن قزمان، وآل الأمر إلى أن تدافعوا معه حتى رموه في البركة، فما خرج إلا وهو قد شرب كثيرًا من الماء ثيابه تهطل.
فقال: اسمع يا وزير، وقال له أبياتًا — أضربنا عنها لعدم اللزوم، وخروجها على حد الآداب — فأمر له بما يليق من الثياب، وأجزل له الصلة، وكانت تقرأ على أبي بكر المخزومي الأعمى، فدخل عليها أبو بكر الكندي فقال يخاطب المخزومي:
فأفحم وأطال الفكر فما وجد شيئًا، فقالت نزهون:
ومن شعرها:
نعمى جارية ظريف بن نعيم
كانت أديبة ظريفة ذات جمال زاهر، ولطف باهر، وكان سيدها شغف بها شديدًا، فلما كان يوم وهو جالس في داره إذا بشرطة الحجاج دخلت عليه، فأخذوه حتى أدخلوه عليه فقال: علي بالجارية، فقال: أصلح الله الأمير، إنها روحي، فلا تكن سببَ هلاكي! فأمر بالقبض عليه، وأرسل مَن جاء بالجارية، فلما رآها علم أنها لا تبقى له إن عرف الخليفة بأمرها، فوجَّه بها إلى الشام مِن ليلتها إلى عبد الملك وحبس الشاب، فلما زال عقله أطلقه، وأخذ ماله، وتوجَّه الشاب إلى دمشق فأقام بها مدة متنغص الحياة، فأراد أن يحتال على الاجتماع بالجارية فلم يمكن، فوقَّع في رقعة: إن رأى أمير المؤمنين أن يأمر جاريته نعمى أن تغني لي ثلاثة أصوات اقترحتها، ثم يفعل ما يشاء أن يفعل.
فلما قرأ القصة اشتد غضبه، ثم عاوده الحلم، فلما انصرف أحضر الشاب والجارية وقال: مُرْها بما شئتَ، فقال لها: غنِّي قول قيس بن ذريح:
فغنَّت فمزَّق أثوابه! ثم قال لها: غنِّي قول جميل:
فغنَّت فغُشي عليه، ثم أفاق فقال: غنِّي قول المجنون:
فلما غنَّت قام فألقى نفسه من شاهق فمات! فقال عبد الملك: لقد عجل على نفسه، أيظن أني أخرجت جارية وأعود فيها؟! خذها يا غلام فأعْطِها لورثته، أو فتصدقوا بها عليه، فلما نزلوا بها نظرت إلى حفيرة مُعدَّة للسيل، فجذبت يدها من الغلام وهي تقول:
وألقت نفسها في الحفيرة فماتت!
السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب
قال المقريزي: إن أمها أم ولد، تزوجها إسحاق بن جعفر الصادق بن محمد الباقر فولدت له ولدين: القاسم وأم كلثوم، ولم يعقبا، وبعده تزوجت بالحسن بن زيد، فولدت له نفيسة، وكانت نفيسة من الصلاح والزهد على الحد الذي لا مزيد عليه، فيقال: إنها حجت ثلاثين حجة، وكانت كثيرة البكاء تديم قيام الليل، وصيام النهار، فقيل لها: ألا ترفقين بنفسك؟! فقالت: كيف أرفق بنفسي وأمامي عقبة لا يقطعها إلا الفائزون؟! وكانت تحفظ القرآن وتفسيره، وكانت لا تأكل إلا في كل ثلاث ليالٍ أكلة واحدة، وذكر أن الإمام الشافعي — رضي الله عنه — زارها من وراء الحجاب وقال لها: ادعي لي، وكان بصحبته عبد الله بن عبد الحكم، وماتت — رضي الله عنها — بعد موت الإمام الشافعي بأربع سنين، وقيل: إنها كانت فيمن صلَّى على الإمام الشافعي — رضي الله عنها — وقد توفيت في شهر رمضان سنة ثمان ومائتين للهجرة، ودفنت في منزلها المعروف بخط درب السباع بمصر.
ويقال: إنها حفرت قبرها هذا وقرأت فيه مائة وسبعين ختمة، وإنها لما احتُضرتْ خرجت من الدنيا وقد انتهت في حزبها إلى قوله تعالى: قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ قُل لِلهِ ۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ (الأنعام: ١٢)، ففاضت نفسها مع قوله تعالى: الرَّحْمَةَ (الأنعام: ١٢)، وكان سبب دخولها إلى مصر كما قال ابن خلكان: إنها دخلت مصر مع زوجها إسحاق بن جعفر، وقيل: مع أبيها الحسن، وإنها لما استقر بها المقام ودخل الشافعي إلى مصر حضر إليها، وسمع عليها الحديث. وكان للمصريين فيها اعتقاد عظيم، وهو إلى الآن باقٍ كما كان. ولما توفي الإمام الشافعي أدخلت جنازته إليها، وصلَّت عليه في دارها، ولما ماتت عزم زوجها على حملها إلى المدينة، فسأله المصريون بقاءها عندهم فأبقاها، ودفنت في الموضع المعروف بها الآن.
إن السيدة نفيسة — رضي الله عنها — ولدت بمكة سنة خمس وأربعين ومائة، ونشأت بالمدينة في العبادة والزهد، وكانت ذات مال، ولما ورد الشافعي إلى مصر كانت تُحسن إليه، وربما صلى بها في رمضان. ولما قدمت مصر كانت بها بنت عمها السيدة سكينة، ولها بها الشهرة التامة، فخلعت عليها الشهرة، فصار للسيدة نفيسة القبول التام بين الخاص والعام، وماتت وهي صائمة فألزموها الفطر، فقالت: وا عجباه! لي منذ ثلاثين سنة أسأل الله تعالى أن ألقاه وأنا صائمة، أأفطر الآن؟! هذا لا يكون! ثم قرأت سورة الأنعام، فلما وصلت إلى قوله تعالى: لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبِّهِمْ (الأنعام: ١٢٧) ماتت ودفنت بمدفنها المشهور الآن.
إن سبب قدوم السيدة نفيسة إلى مصر أنها حجت ثلاثين حجة، وفي الحجة الأخيرة توجهت مع زوجها إلى بيت المقدس، فزارت قبر الخليل إبراهيم، وأتت مع زوجها مصر في رمضان سنة ثلاث وتسعين ومائة، وكان لقدومها إلى مصر أمر عظيم تلَّقاها الرجال والنساء بالهوادج من العريش، ونزلت أولًا عند كبير التجار بمصر، وهو جمال الدين عبد الله بن الجصاص، وكان من أصحاب المعروف والبر، فأقامت عنده شهورًا يأتي إليها الناس من سائر الآفاق للتبرُّك، ثم تحولت إلى مكانها المدفونة به — وهبه لها أمير مصر السري بن الحكم.
وسبب ذلك أن بنتًا يهودية زَمِنة تركتها أمها عندها وذهبت إلى الحمام، فقدَّر الله شفاءها على يد السيدة — رضي الله عنها — وعند ذلك أسلمت البنت وأبواها وجماعة من الجيران يبلغ عددهم نحو السبعين نفرًا، ولما شاع ذلك لم يبق أحد في مصر إلا قصد زيارتها، وكثر الناس على بابها، فطلبت الرحيل إلى بلاد الحجاز، فشق على أهل مصر ذلك وسألوها الإقامة فأبَتْ، فركب إليها السري بن الحكم وسألها الإقامة، فقالت: إني امرأة ضعيفة، وقد شغلوني عن عبادة ربي، ومكاني قد ضاق بهذا الجمع الكثيف، فقال لها السري: أما ضيق المكان فإن لي دارًا واسعة بدرب السباع، فأشهد الله أني قد وهبتها لك، وأسألك أن تقبليها مني، وأما الجموع الوافرة فقرري معهم أن يكون ذلك يومين في كل أسبوع، وباقي أيامك في خدمة مولاك. فجعلت لهم السبت ويوم الأربعاء إلى أن توفيت.
وقد أقبل على زيارتها في الحياة وبعد الممات خلق كثير لا يحصون من العلماء والخلفاء والأولياء وغيرهم، وقيل: إن الحنفي كان يقول عند زيارتها: السلام والتحية والإكرام من العليِّ الرحمن على نفيسة الطاهرة المطهرة سلالة البررة، وابنة علم العشرة؛ الإمام حيدرة. السلام عليك يا ابنة الحسن المسموم، أخي الإمام الحسين، سيد الشهداء المظلوم. السلام عليك يا ابنة فاطمة الزهراء، وسلالة خديجة الكبرى. رضي الله — تبارك وتعالى — عنك وعن جدِّك وأبيك، وحشرنا في زمرة والديك وزائريك. اللهم بما كان بينك وبين جدِّها ليلة المعراج؛ اجعل لنا من همِّنا الذي نزل بنا انفراجًا، واقض حوائجنا في الدنيا والآخرة يا رب العالمين.
وكان بعض زائريها يقول عند مشهدها:
وكان بعضهم يقول أيضًا:
وبعد وفاتها صارت أرباب الدولة تبني ضريحها الشريف تبركًا بمقامها المنيف، فمنهم ذاتُ الحجاب المنيع والقدر الرفيع؛ والدة السلطان الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب. أنشأت رباطًا بجوارها، والملك الناصر محمد بن قلاوون أمر بإنشاء جامع بخطبة، وشيَّد بناءه. ولما توفي الخليفة أمير المؤمنين أبو العباس أحمد بن العباس، المعروف بالأسمر، في سنة إحدى وسبعمائة، أمر السلطان الناصر أن يُدفن بالمشهد النفيسي؛ فدفن هناك وأقيمت عليه قبة.
ومن النوادر التي حصلت في مشهد السيدة نفيسة — كما قال الجبرتي في «تاريخه»، والأمير علي باشا مبارك في «خططه» — أنه في سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف، اجتمع الخدام في المشهد النفيسي بواسطة كبيرهم الشيخ، وأظهروا عنزًا صغيرًا، وزعموا أن جماعة أسرى من بلاد النصارى توسلوا بالسيدة نفيسة، وأحضروا ذلك العنز لذبحه في الليلة التي يجتمعون فيها للذكر والدعاء، ويتوسلون في خلاصهم من الأسر! فاطلع عليهم الكافر، فزجرهم وسبهم ومنعهم من ذبح العنز، فرأى في المنام رؤيا هائلة فأعتقهم وأعطاهم دراهم وصرفهم مكرمين، فحضروا إلى مصر ومعهم العنز، فذهبوا بها إلى المشهد النفيسي، وكثرت فيه الخرافات وتقاويل الناس، فمن قائل: إنهم أصبحوا وجدوها عند المقام، ومن قائل: فوق المنارة، ومن قائل: سمعناها تتكلم، ومنهم مَن يقول: السيدة أوصت عليها، وأن الشيخ سمع كلامها من القبر!
ثم بعد هذه الشهرة أبرزها للناس وجعلها بجانبه، وجعل يقول من الخرافات التي يستجلب بها قلوب الناس ويجمع بها الدنيا! وتسامع الناس بذلك، وأقبلوا من كل فجٍّ رجالًا ونساء لزيارتها، وأتوا للشيخ بالنذور والهدايا، وعرفهم أنها لا تأكل إلا قلب اللوز والفستق! ولا تشرب إلا ماء الورد والسكر المكرر! فأتوه من كل جانب بالقناطير من ذلك! وعملوا للعنز القلائد والأطواق الذهبية، وافتتنوا بها، وشاع ذلك الخبر عند الوزراء والأمراء وأكابر النساء، فجعلن يرسلن كلٌّ على قدر مقامه من النذور، وازدحمن على زيارتها، فأرسل الأمير عبد الرحمن كتخدا إلى الشيخ عبد اللطيف يلتمس منه الحضور إليه بالعنز؛ ليتبرك بها هو وحريمه! فركب الشيخ بغلته والعنز في حجره، وصحبته الطبول والبيارق والجم الغفير من الناس، حتى دخلوا إلى بيت ذلك الأمير على تلك الحالة، وصعد بها إلى المجلس وعنده كثير من الأمراء، فتملَّس بها.
وأمر بإدخالها إلى الحريم للبركة، وكان قد أوصى بذبحها وطبْخها، فلما ذبحوها وطبخوها أخرجوها مع الغداء، فأكلوا منها، وصار الشيخ يأكل والأمير يقول: كل يا شيخ من هذا التيس السمين، فيقول: والله إنه طيب ونفيس! وهو لا يعلم أنه عنزه، وهم يتغامزون ويضحكون، فلما أكلوا وشربوا القهوة طلب الشيخ العنز، فعرَّفه الأمير أن الذي كان بين يديه وأكل منه هو العنز، فبهت الشيخ عند ذلك ثم بكَّته الأمير ووبَّخه، وأمر أن يوضع جلد العنز على عمامته، وأن يذهب به كما جاء بموكبه وبين يديه الطبول والأشائر، ووكل به من أوصله إلى محله على الصورة المذكورة، وفي ذلك يقول الأديب الكامل والشاعر الناثر عبد الله بن سلامة الأدكاوي:
نصرة إيلياس غريب
ولدت نصرة غريب بطرابلس الشام عام ١٨٦٢م، من عائلة غريب، وأمها من فاضلات النساء، فورثت منها طيب الأخلاق، وصفاء النية، ورقة الجانب، وكانت وحيدتها، فاعتنت بتربيتها وأرضعتها لبان العلوم في أحسن مدارس طرابلس، فتمكنت منها المناقب الحسنة بالقدوة والتربية. وهذه القوى الثلاث — أي الوراثة والقدوة والتربية — مصدر الأخلاق ودعامتها، فقلما يطيب فرع أصله خبيث، وقلما يخبث فرع أصله طيب.
ولما بلغت السابعة عشرة، اقترنت بجانب الوجيه «عزتلو إدوار بيك إيلياس»، وسكنا في مدينة الإسكندرية مدةً ثم انتقلا إلى مصر القاهرة، واشتهرت بين معارفها وسيداتها بالذكاء وصفاء النية، وعزة النفس، وحب الإنسانية، وقيل: إنها كانت تتصدق على الأرامل والمحتاجين والصدقات الكثيرة، مع ما كانت عليه من الاقتصاد في النفقات، والابتعاد عن الإسراف في المعيشة.
وكانت تعين زوجها في جميع أشغاله، وفي تدبير بيتها، ولها الرأي الصائب، والقول السديد، كما شهد هو نفسه، ولما جاءت إلى القاهرة ورأت أن ليس فيها عند الطائفة الأرثوذكسية جمعية خيرية، أخذت تحث وجهاء هذه الطائفة على إنشاء جمعية مثل جمعية الإسكندرية لمساعدة المساكين.
وكانت تحب جريدة المقتطف العلمية، وتطالعها وتذاكر في بعض مواضيعها، وتلتذ بالمذاكرة العلمية، فتصغي إليها بكليتها كمن يفهم دقائق الأمور، وكانت كثيرة المطالعة دقيقة الانتقاد، وإذا أعجبها كتابٌ أشارت على صديقاتها بمطالعته، وإذا رأت في كتاب ما لا يستحسن ذمَّته، ولامت واضعيه.
وكانت اجتمعت مع مريم مكاريوس وأخريات من الفاضلات يتذاكرن في حالة المرأة الشرقية، ووددن أن يعم تعليم البنات وتهذيبهن على أسلوب يصرفهن عن الاكتفاء بقشور التمدن الأوروبي، ويرغبهن باقتباس الفضائل السامية التي ترفع شأن المرأة وتؤهلها لتربية النوع الإنساني.
ولما كانت على هذه الصفات الحسنة لم تكن طويلة العمر مديدة الحياة حتى كانت تنفع بنات جنسها، ولكن اختطفتها المنية وهي في ريعان الشباب؛ فتوفيت مأسوفًا عليها من الجميع.
نوار بنت أعين بن صعصعة
ابن ناجية بن عقال المجاشعي. كانت أحسن نساء زمانها وجهًا، وأجملهن خلقًا، وأفصحهن منطقًا، وكانت ذات أدب زائد، ومعرفة تامة بالأوابد، مكرمة عند قومها، مسموعة الكلمة فيهم. تزوَّج بها الفرزدق — الشاعر المشهور — رغمًا عنها، قيل: إن سبب زواجها به أنه كان خطَبها رجل من بني عبد الله بن دارم، فرضيت به، وكان الفرزدقُ وليَّها، وهو ابن عمها، فأرسلت إليه أن زوِّجني من هذا الرجل، فقال لها: لا أفعل إلا أن تشهدي بأنك قد رضيت بمن أزوِّجك به! ففعَلتْ.
فلما توثَّق منها قال: أرسلي إلى القوم أن يأتوا، فجاء بنو عبد الله بن دارم، فلما اجتمعوا في مسجد بني مجاشع، وجاء الفرزدق فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: قد علمتم أن النوار قد ولتني أمرها، وأشهدكم أني قد زوَّجتها نفسي على مائة ناقة حمراء سوداء الحدق. فنفرت من ذلك وأرادت الشخوص إلى عبد الله بن الزبير حين أعياها أهل البصرة أن لا يطلقوها من الفرزدق حتى يشهد لها الشهود، وأعياها الشهود أن يشهدوا لها؛ اتقاء الفرزدق، وابن الزبير يومئذٍ أمير الحجاز والعراق يدعى له بالخلافة، فلم تجد من يحملها إليه، وأتت فتية من بني عدي بن عبد مناة يُقال لهم: بنو أم النسير، فسألتهم برَحِمٍ تجمعهم — وكانت بينها وبينهم قرابة — فأقسَمت عليهم ليَحملنَّها، فحملوها، فبلغ ذلك الفرزدق، فاستنهض عدة من أهل البصرة فأنهضوه، وأوقروا له عدة من الإبل، وأُعين بنفقة فتبع النوار، وقال:
وقال فيهم أيضًا:
فأدركها وقد قدمت مكة، فاستجارت بخولة بنت منظور بن زبان الفزاري — وكانت عند عبد الله بن الزبير — فلما قدم الفرزدق إلى مكة اشرَأَبَّ الناسُ إليه، ونزل على بني عبد الله بن الزبير، فاستنشدوه واستحدثوه، فكان مما أنشدهم قوله:
وقال أيضًا:
ثم شفعوه إلى أبيهم، فجعل يقبل شفاعتهم في الظاهر، حتى إذا جاء إلى خولة قلبته عن رأيه، فمال إلى النوار، فقال الفرزدق في ذلك:
فبلغ ذلك ابن الزبير فدعا بالنوار فقال: إن شئتِ فرَّقتُ بينكما؛ أقتله فلا يهجونا أبدًا، وإن شئتِ سيِّرتُه إلى بلاد العدو فيقتل؟ فقالت: لا أريد واحدة منهما، فقال لها: إنه ابنُ عمِّك، وهو فيك راغب، فأزوِّجك إيَّاه، فقالت — وقد فضَّلت عذابها على هلاكه: نعم قد رضيت، فدعا بالفرزدق وقال له: جئني بصداق النوار وإلا فرَّقت بينكما، فقال الفرزدق: أنا في بلاد غربة فكيف أصنع وأنك تحكم عليَّ لتثبَ عليها وتصطفيها لنفسك؟! وكان ابن الزبير حديدًا، فقال لها: هل أنت وقومُك إلا جالية العرب، ثم أمر فأقيم الفرزدق من مجلسه، وأقبل على من حضر فقال: إن بني تميم كانوا وثبوا على البيت قبل الإسلام بمائة وخمسين سنة فاستلبوه، فأجمعت العرب بما انتهكت منه ما لم ينتهكه أحد قط فأجلتها من أرض تهامة، ثم حتم على الفرزدق إن لم يحضر صداقها ليقتلنه شرَّ قتلة، فبلغ ذلك الفرزدق فقال: إن ابن الزبير يُعيِّرنا بالجلاء، ثم قال:
فبلغ هذا الشعر ابن الزبير، فأسَرَّه في نفسه، وخرَج يومًا للصلاة فرأى الفرزدق في طريقه، فعمد إلى عنقه فكاد يَدقُّها وقال له: لا بد أن تنفذ حكمي، فترَكه لا يعي ما يفعل، فقيل له: عليك بسلم بن زياد؛ فإنه محبوس في السجن يطالبه ابن الزبير بمال، فذهب إليه وقص عليه قصته، فقال له: كم صداقها؟ قال: أربعة آلاف دينار، فأمَر له بها، وبألفين للنفقة، فقال الفرزدق في ذلك:
ولما ذهب إلى ابن الزبير ونقده المال؛ سلَّمها له ومالُها معها، فقال الفرزدق: خرجنا ونحن متباغضان، فعدنا ونحن متحابان! وأنشد يقول لها:
فجاء إلى البصرة فقال جرير:
فقال الفرزدق مجيبًا له:
وقيل: إنها لما كرهت الفرزدق حين زوَّجها نفسه لجأت إلى بني قيس بن عاصم، فقال فيها:
فبلغهم ذلك الشعر وقالوا له: والله لئن زدت على هذين البيتين لنقتلنك غيلة!
وكانت النوار دائمًا تتخاصم معه، وتغضب منه، وتنفر عنه، ومكثت معه زمانًا طويلًا وهي في نكد وعدم راحة. وكانت عندما تغضب منه تقول: ويحك! أنت تعلم أنك إنما تزوجتني ضغطة وخدعة عليَّ. ولم تزل في كل ذلك على مضض حتى حلفت اليمين الموثق، ثم حنثت بها وتجنبت فراشه، فتزوج عليها امرأة يقال لها: جهيمة من بني النمر بن قاسط — حلفاء لجرير بن عباد بن ضبيعة — فجعل يأتي النوار وبه ردغ وعليه الأثر، فقالت له النوار: هل تزوَّجها إلا هدادية؟ — تعني حيًّا من بني أزد بن عمان — فقال الفرزدق:
ولم تزل النوار بالفرزدق ترفق به وتستعطفه حتى أجابها إلى طلاقها، وأخذ عليها أن لا تفارقه ولا تبرح من منزله، ولا تتزوج برجل غيره بعده، ولا تمنعه من مالها ما كانت تبذله له!
وأخذت عليه أن يُشهد الحسن البصري على طلاقها، فأجابها لذلك، واستصحب معه راوية أبي شفقل وراوية أخرى، وصحبت النوار رجالًا كثيرة كانوا يلوذون بالسواري خوفًا من الفرزدق أن يراهم، فساروا جميعًا حتى أتوا الحسن البصري، فقال الفرزدق: يا أبا سعيد، اشهد أن النوار طالق ثلاثًا، فقال الحسن: قد شهدنا. فلما انصرفوا قال الفرزدق لأبي شفقل: قد ندمت، فقال له: والله إني لأظن أن دمك يترقرق، أتدري مَن أشهدتَ؟! — يعني بذلك الحسن البصري — والله لئنْ رجَعتَ لتُرجمنَّ بالأحجار. ومضى وهو يقول:
وقيل: إن النوار أوصت الفرزدق قبل موتها أن يصلي عليها الحسن البصري، فأخبره الفرزدق في ذلك، فقال له: إن كانت وفاتها قَبْلَنا فأخبرني بها، فكان كذلك. وقد تُوفيتْ وأُخرجت وجاء الحسن البصري وسبقهما الناس، فانتظروهما، فأقبلا والناس منتظرون، فقال الحسن: ما للناس؟!
فقال الفرزدق: ينتظرون خير الناس وشر الناس، فقال الحسن: لست بخير الناس ولا شرها، ثم صلوا عليها ودفنوها.
وقال له الحسن: ما أعددتَ لهذا المضجع؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة. ثم نظر إلى قبر النوار وأنشد:
نيكتورسيس
هي ملكة فرعونية من ملوك مصر، وهي من ملوك الدولة السادسة المصرية. كانت أكثر نساء عصرها لطفًا وجمالًا، وأشهر بنات مصرها فضلًا وكمالًا، وأغزر علماء زمانها عقلًا ودهاء، وأوفر الناس حزمًا وذكاء، قيل: إن المصريين أُشْربوا حبَّها وفتنوا بها، فأدخلوها بعد الممات في مصاف المعبودات.
ومما ذكر عن دهائها أن فريقًا من رجال الدولة وثبوا على أخيها وقتلوه؛ إذ كان ملكًا قبلها، وكان ذلك منهم بغيًا وظلمًا، ولما خلفته على العرش دعت الباغين لمأدبة أعدتها لهم في قصر عظيم جميل قائم على أخدود بجوار نهر النيل. ولمَّا مُدَّت الأسمطة وابتدءوا بالطعام، وآلات الطرب عازفة تبدد بألحانها كتائب الأشجان، وتغنيهم بأغاريد تُغنيهم عن ارتشاف سلافة ألحان، أمَرَتْ إذ ذاك بماء نهر النيل فانساب عليهم حتى أغرقهم عن آخرهم — وكانوا زهاء الخمسين — فلقوا كنودهم الذميم، وأملت عليهم: إن كيدي عظيم.