حرف التاء
تحفة الزاهدة
هي جارية لبعض تجار بغداد كانت بارعة في الجمال تحسن صنعة العود، وكان سيدها صرف عليها ماله، وزاد في تعليمها وتهذيبها، وكان شراؤها عليه بعشرين ألف درهم، وغايته الربح فيها مثل ثمنها؛ لحسن صنعتها، وكمال أدبها واستقامتها، فبينما هي يومًا جالسة والعود في حجرها وهي تغني وتقول:
ثم كسرت العود وقامت وبكت وانتحبت، فاتهمها سيدها بمحبة إنسان، فاستقصى عن ذلك فلم يجد له أثرًا، فحار سيدها في أمره، ولم يجد لها سلوى عن الاكتئاب والهيام، وقيام الليل، ومناشدة الأشعار، وطول التذكار، وتشتت الأفكار، فسألها عما أصابها فأنشدت تقول:
ولما أعيته الحيل ذهب بها إلى المارستان راجيًا أن تُشفى مما أصابها، ولما دخلت البيمارستان أودعوها في حجرة مغلولة اليدين مقيدة الرجلين، فلما رأت ذلك بكت بكاء مرًّا وأنشدت تقول:
ويروى عن السري السقطي أنه قال: دخلت يومًا على تحفة في المارستان فوجدتها أنضر الناس وجهًا، وعليها أطمار حسنة، فشممت منها رائحة عطرية وهي تفوح شذاها إلى خارج المارستان، فسألتُ القَيِّم عنها فقال: هي جارية مملوكة قد اختل عقلها، فحبَسها مولاها لعلها تنصلح، فلما سمِعتْ كلامَه اغرورقتْ عيناها بالدموع، ثم أنشدت:
قال السري: فسمعت ما أقلقني وأشجاني، وأحرقني وأبكاني، فلما رأت دموعي قالت: يا سري، هذا بكاؤك من الصفة، فكيف لو عرفته حق معرفته؟ ثم أغمي عليها، فلما أفاقت جعلت تقول:
فقال لها السري: يا جارية، سمعتك تذكرين المحبة، فلمن تحبين؟ قالت: لمن تعرَّف إلينا بنعمائه، وجاد علينا بجزيل عطائه، فهو قريب إلى القلوب، مجيب لطلب المحبوب، سميع عليم، بديع حكيم، جواد كريم، غفور رحيم، ثم أنشأت تقول:
قال السري: فبينما نحن كذلك إذا بسيدها أقبل فقال للقيم: أين تحفة؟ قال: هي في الداخل، وعندها السري السقطي — رضي الله عنه — ففرح سيدها ودخل وسلم عليه وعظَّمه، فقال له السري: هي أولى بالتعظيم مني، فما الذي تكرهه منها حتى حبستها ها هنا؟ فقال: أمور كثيرة، وجعل يعدد له خصالها، فقال له السري: عليَّ الثمن وأزيد، فصاح سيدها: وا فقراه! من أين لك ثمن هذه الجارية وأنت رجل فقير؟! فقال له: لا تعجل، دعها في المارستان حتى آتي بثمنها، ثم ذهب باكي العين رأفةً على الجارية حتى طرق باب أحمد بن المثنى، فأخبره الخبر، فدفع له ثمنها ومثله معه، فلما كان الغد أقبل إلى المارستان فقال له: قد جئتُك بثمن الجارية ومثله معه، فقال: لا والله، لو أعطيتني الدنيا ما قبلت، بل هي حرة لوجه الله تعالى. فلما سمعت ذلك بكت بكاءً مرًّا وأنشأت تقول:
وتوجهت إلى مكة، وهناك دخلت الكعبة وجعلت تقول:
ثم مكثت على ذلك مدة وهي بين الخوف والرجاء إلى أن توفاها الله بمكة المكرمة، وبعد ما خرجت من المارستان سأل السري السقطي مولاها عن سبب عتقه لها وعدم قبوله ثمنها، بعد ما كان مشددًا على لزوم استلام الثمن إن وجد من يدفعه إليه، ولما عرض عليه ازدراه واستهزأ بقوله ظانًّا أنه لا يقدر على ثمنها، فقال له مولى الجارية: إنه بعد ما حصل منه ذلك راجع صوابه وقال: إن السري السقطي مع ضيق ذات يديه، وعدم اقتداره على ثمن جارية مثل هذه تعهَّد بأن يستحضر ثمنها، ولا بد ذلك أن يكون من أهل الخير، وليس هو بأكرم مني حالة كوني قادرًا على عمل الخير بدون أن يحصل لي ضرر، وغلب عليَّ الكرم ففعلت ما فعلت، وأرجوك الدعاء، فدعا له السري بإصلاح حاله، وبزيادة البركة في ماله، وتصدق بثمن الجارية الذي استحضره من أحمد بن المثنى المار ذكره.
تذكارباي خاتون
هي ابنة الظاهر «بيبرس». كانت تقية صالحة، محبة للخير، مُقرِّبة للفقراء، وأخصُّهن النساء الصالحات، حتى إنها من محبتها لهنَّ بنَتْ لهن رباطًا وسمته برباط البغدادية، وصفه المقريزي بقوله: إن هذا الرباط بداخل الدرب الأصفر تجاه خانقاه «بيبرس»؛ حيث كان المتجر، ومن الناس من يقول: رواق البغدادية. وهذا الرباط بنته الست الجليلة «تذكارباي خاتون»، ابنة الملك الظاهر «بيبرس»، في سنة ٦٨٤ﻫ، للشيخة الصالحة زينب ابنة أبي البركات المعروفة ببنت البغدادية، فأنزلتها به ومعها النساء الخيرات، وما برح إلى وقتنا هذا — أي وقت المقريزي — يعرف سكانه من النساء بالخير، وله دائمًا شيخة تعظ النساء وتذكرهن وتفقههن. وآخر من أدركنا فيه الشيخة الصالحة سيدة نساء زمانها زينب بنت فاطمة بنت العباس البغدادية. توفيت سنة ٧١٤ﻫ، في ذي الحجة، وقد أنافت على الثمانين، وكانت فقيهة وافرة العلم، زاهدة، قانعة باليسير، عابدة، واعظة، حريصة على النفع والتذكير، ذات إخلاص وخشية وأمر بالمعروف.
انتفع بها كثير من نساء دمشق ومصر، وكان لها قبول زائد، ووقع في النفوس، وصار بعدُ كلُّ من قام بمشيخة هذا الرباط من النساء يقال لها البغدادية. أقامت به عدة سنين على أحسن طريقة إلى أن ماتت يوم السبت لثمانٍ بقين من جمادى الآخرة سنة ٧٩٦ﻫ، وأدركنا هذا الرباط، وتودع فيه النساء اللاتي طُلِّقنَ أو هُجرنَ، حتى يتزوجنَ أو يرجعنَ إلى أزواجهن؛ صيانة لهن لما كان فيه من شدة الضبط، وغاية الاحتراز، والمواظبة على وظائف العبادات.
ثم لما فسدت الأحوال في عهد حدوث المحن بعد سنة ٨٠٦ﻫ، تلاشت أمور هذا الرباط، ومنع مجاوروه من إقامة النساء المتعبدات فيه. وهذا الرباط قد زال بالكلية، وبني في محله الآن الحوانيت المتسعة على باب الدرب الأصفر.
تركان خاتون الجلالية ابنة طغفاج خان من نسل فراسياب التركي
هي زوجة السلطان «ملكشاه»، ووالدة السلطان «محمود بن ملكشاه». كانت من النساء العاقلات الدَّيِّنات، والحكيمات المدبرات. شهدت لها التواريخ وألسنة الأقلام بالحكمة والتدبير، وعلو الهمة والإقدام، وكانت مُطاعةً في أوامرها، مسموعة الكلمة عند أمراء المملكة، محبوبة لديهم.
وكانت تبذل لهم العطايا والإقطاعات، وكان زوجها لا يرد لها طلبًا، وهي المالكة والمشاركة له في الملك، وكانت من حسن سياستها وتدبيرها توصلت لأن تصاهر الخليفة المقتدي بأمر الله العباسي، وذلك من كثرة ترددها على حريم الخلافة ومعها ابنتها «خاتون»، وهي كانت من الجمال على جانبٍ عظيم. وصفوها للمقتدي فأحبها على الوصف، وأراد الاقتران بها، فأرسل الوزير فخر الدولة أبا نصر بن جهير إلى السلطان «ملكشاه» يخطب ابنته، ولما سار فخر الدولة إلى أصبهان ووصل إلى السلطان يخطب منه ابنته للخليفة، فقال له: إن ذلك مما يزيدني شرفًا، ولكن الأمر في ذلك إلى والدتها «تركان خاتون»، فيجب أن تذهب إليها.
وأمر نظام الملك أن يمضي معه إلى «تركان خاتون» ويتكلم معها في هذا المعنى، فمضيا إليها فخاطباها فقالت: إن ملك غزنة وملوك الخانية وما وراء النهر طلبوها وخطبوها لأولادهم، وبذلوا أربعمائة ألف دينار فلم أرضَ، فإن حمل الخليفة هذا المال فهو أحق منهم، فبلغ الخبر «أرسلان»، والدة الخليفة، فتأثرت من ذلك وأرسلت إلى «تركان خاتون» تقول: إن ما يحصل لها من الشرف والفخر بالاتصال بالخليفة لم يحصل لأحدٍ غيرها، وكلهم عبيده وخدمه، ومثل الخليفة لا يطلب منه مال، فأجابت إلى ذلك، وشرطت أن يكون الحمل المعجَّل خمسين ألف دينار، وأنه لا يبقى له سرية ولا زوجة غيرها، ولا يكون مبيته إلا عندها، فأجيبتْ إلى ذلك، فأعطى السلطان يده، فعاد فخر الدولة إلى بغداد.
وفي مُحرَّم نقل جهازها إلى دار الخليفة على مائة وثلاثين جملًا مجللة بالديباج الرومي، وكان أكثر الأحمال من الذهب والفضة، وثلاث عماريات، وعلى أربعة وستين بغلًا مجللة بأنواع الديباج الملكي وأجراسها وقلائدها من الذهب والفضة، وكان على ستة منها اثنا عشر صندوقًا من فضة لا يُقدَّر ما فيها من الجواهر والحلي، وبين يدي البغال ثلاث وثلاثون فرسًا من الخيل الرائعة، عليها مراكب الذهب مرصعة بأنواع الجواهر، ومن عظيم إكسير الذهب. وسار بين يدي الجهاز سعد الدولة «كوهرائين» والأمير «برسق» وغيرهما. ونثر أهل نهر معلى عليهم الدنانير والثياب. وكان السلطان خرج من بغداد متصيدًا، ثم أرسل الخليفة الوزير أبا شجاع إلى «تركة خاتون» وبين يديه نحو الثلاثمائة موكب، ومثلها مشاعل، ولم يبق في الحريم غرفة إلا وقد شعلت فيها الشمعة والاثنتان، وأكثر من ذلك، وأرسل الخليفة مع «ظفر» خادمه محفَّة لم يُرَ مثلها.
وقال الوزير لما وصل ﻟ «تركان خاتون»: إن سيدنا ومولانا أمير المؤمنين يقول: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وقد أذن في نقل الوديعة إلى داره، فأجابت بالسمع والطاعة، وحضر نظام الملك فمن دونه دولة السلطان، وكل منهم معه من الشمع والمشاعل شيء كثير، وجاء نساء الأمراء والكبار ومن دونهم كل واحدة منهن منفردة في جماعتها وتجمُّلها، وبين أيديهن الشموع الموكبيات والمشاعل يحمل ذلك جميعه الفرسان، ثم جاءت الخاتون ابنة السلطان بعد الجميع في محفة مجللة عليها من الذهب والجواهر أكثر شيء، وقد أحاط بالمحفة مائة جارية من الأتراك بالمراكب العجيبة، وسارت إلى دار الخلافة، وكانت ليلتهم مشهودة لم يُرَ ببغداد مثلها.
فلما كان الغد أحضر الخليفة أمراء السلطنة، وخلع عليهم كلهم، وعلى كل من له ذكر في العسكر، وأرسل الخُلَع إلى «تركان خاتون» وإلى جميع الخواتين، وعاد السلطان من الصيد بعد ذلك، وبعدما مكثت مدة في دار الخليفة وولدت منه ولدًا لم يطب لها المقام معه، فأخبرت والدتها بذلك، وهي أرسلت إلى الخليفة تطلب ابنتها طلبًا لا بد منه. وسبب ذلك أن الخليفة أكثر الاطراح لها والإعراض عنها، فأذن لها في المسير، فسارت في ربيع الأول سنة ٤٨٢ﻫ، وسار معها ابنها من الخليفة أبو الفضل جعفر بن المقتدي بأمر الله، ومعهما سائر أرباب الدولة، ومشى مع محفتها سعدُ الدولة «كوهرائين»، وخدَمُ دار الخلافة الأكابر، وخرج الوزير وشيعهم إلى النهروان وعاد، وسارت الخاتون إلى أصبهان، فأقامت فيها إلى ذي القعدة وتوفيت، وجلس الوزير ببغداد للعزاء سبعة أيام، وأكثر الشعراء مراثيها ببغداد وبعسكر السلطان.
وسار «ملكشاه» بعد قتل نظام الملك إلى بغداد في الرابع والعشرين من شهر رمضان سنة ٤٨٥م فلقيه وزير الخليفة عميد الدولة بن جهير، واتفق أن السلطان خرج إلى الصيد وعاد ثالث شوال مريضًا، وأنشب الموت أظفاره فيه، وكان سبب مرضه أنه أكل لحم صيد فحمَّ وافتصد ولم يصر إخراج الدم، فثقل مرضه، وكانت حمته محرقة؛ فتوفي ليلة الجمعة في النصف من شوال سنة ٤٨٥ﻫ.
ولما ثقل نقل أرباب الدولة أموالهم إلى حريم دار الخلافة، ولما توفي سترت زوجته «تركان خاتون» موته وكتمته، وأعادت جعفر ابن الخليفة من ابنة السلطان إلى أبيه المقتدي بأمر الله، وسارت إلى بغداد والسلطان معها محمولًا، وبذلت الأموال للأمراء سرًّا، واستحلفتهم لابنها محمود، وكان تاج الملك يتولى ذلك لها، وأرسلت قوام الدولة «كربوقا» إلى أصبهان بخاتم السلطان، فاستنزل مستحفظ القلعة وتسلمها، وأظهر أن السلطان أمره بذلك، ولم يُسمع بسلطان مثله، ولم يُصلِّ عليه أحد، ولم يلطم عليه وجه.
وكان مولده سنة ٤٧٦ﻫ، وكان من أحسن الناس صورة ومعنى، وخطب له من حدود الصين إلى آخر الشام من أقصى بلاد الإسلام في الشمال إلى آخر بلاد اليمن، وحمل إليه ملوك الروم الجزية، ولم يفته مطلب، وانقضت أيامه على أمن عام، وسكون شامل، وعدل مطرد، وما ذلك إلا باتحاده مع «تركان خاتون»، وعدم إتيانه أمرًا إلا برأيها ومشورتها حتى دان لهما العبادُ، وذلَّت لسلطانهما البلاد.
ولما مات «ملكشاه» وفعلت زوجته كما ذكر، أرسلت إلى الخليفة المقتدي في أمر الخطبة بأن يخطب لولدها محمود، فأجابها بشرط أن يكون اسم السلطنة لولدها، والخطبة له، ويكون مدير زعامة الجيوش الأمير «أنز»، يصدر عن رأي تاج الدين، وهو الذي يدبر الأمر بين يدي «تركان خاتون»، فلما جاءت رسالة الخليفة إلى «خاتون» بذلك امتنعت من قبوله، فقيل لها: إن ولدك صغير ولا يجيز الشرع ولايته، وكان مخاطبها الغراني، فأذعنت له وأجابته إليه، ولُقِّب ناصر الدنيا والدين، وأرسلت «تركان خاتون» إلى أصبهان في القبض على «بركيارق»، أكبر أولاد السلطان، خيفة أن ينازع ولدها في السلطنة، فقبض عليه.
فلما ظهر موت «ملكشاه» وثَبَتِ المماليك النظامية على سلاح كان لنظام الملك بأصبهان فأخذوه، وساروا من البلد وأخرجوا «بركيارق» من الحبس وملَّكوه بأصبهان، وكانت والدته زبيدة بنت ياقوتي بنت عم «ملكشاه» خائفة على ولدها من «تركان خاتون» أم محمود، فأتاها الفرج بالمماليك النظامية، وسارت «تركان خاتون» من بغداد إلى أصبهان، فطالب العسكر تاج الملك بالأموال فوعدهم، فلما وصلوا إلى قلعة «برجين» صعد إليها ليُنزل الأموال منها، فلما استقر فيها عصى على «تركان خاتون» ولم ينزل خوفًا من العسكر، فساروا عنه ونهبوا خزائنه فلم يجدوا بها شيئًا، ولما وصلت «تركان خاتون» إلى أصبهان لحقها تاج الملك واعتذر لها بأن مستحفظ القلعة حبسه، وأنه هرب منه إليها، فقَبِلَت عذره.
وأما «بركيارق» فإنه لما قاربت «تركان خاتون» وابنها محمود أصبهان خرج منها هو ومن معه من النظامية، وساروا نحو الري، فلقيهم «أرغش» النظامي في عساكره، وصاروا يدًا واحدة، فلما اجتمعوا حاصروا قلعة «طبرق» وأخذوها عنوة، وسيرت «تركان خاتون» العساكر إلى قتال «بركيارق»، فالتقى العسكران بالقرب من «بروجرد»، فاجتاز جماعة من الأمراء والذين في عساكر «خاتون» إلى «بركيارق»؛ منهم: الأمير «يلبرد» و«كمشتكين الجاندار» وغيرهما، فقوي بهم، وجرت الحرب بينهم. وآخر ذي الحجة اشتد القتال، فانهزم عسكر «خاتون» وعادوا إلى أصبهان، وصار «بركيارق» في أثرهم، فحصرها بأصبهان.
وكان تاج الملك في عسكر «خاتون» وشهد الوقعة، فهرب إلى نواحي «بروجرد»، فأخذ وحمل إلى عسكر «بركيارق» وهو يحاصر أصبهان، وكان يعرف كفاءته، فأراد أن يستوزره، فشرع تاج الملك في إصلاح كبار النظامية، وفرَّق فيهم مائتي ألف دينار سوى العروض، فزال ما في قلوبهم، فلما بلغ عثمان، نائب نظام الملك، الخبر ساءه، فوضع الغلمان الأصاغر على الاستغاثة، وأن لا يقنعوا إلا بقتل قاتل صاحبهم، ففعلوا، فانفسخ ما دبَّره تاج الملك، وهجم النظامية عليه فقتلوه، وفصلوه أجزاء، وكان قتله في محرم سنة ٤٨٦ﻫ، وحمل إلى بغداد أحد أصابعه، وكان كثير الفضائل، جم المناقب، وإنما غطَّى جميع محاسنه ممالأته على قتل نظام الملك، وهو الذي بنى تربة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وعمل المدرسة التي إلى جانبها، ورتب بها الشيخ أبا بكر الشاشي، وكان عمره حين قتل سبعًا وأربعين سنة.
وفي شعبان سنة ٤٨٦، أرسلت «تركان خاتون» إلى إسماعيل بن ياقوتي بن داود، خال «بركيارق» وابن عم «ملكشاه»، تُطْمِعه أن تتزوج به، وتدعوه إلى محاربة «بركيارق»، فأجابها إلى ذلك، وجمع خلقًا كثيرًا من التركمان وغيرهم أصحاب «سرهنك ساوتكين» في خيله، وأرسلت إليه «تركان خاتون» «كربوقا» وغيره من الأمراء في عسكر كثير مددًا له، فجمع «بركيارق» عساكره وسار إلى حرب خاله إسماعيل، فالتقوا عند الكرج فانحاز الأمير «يلبرد» إلى «بركيارق» وصار معه، فانهزم إسماعيل وعسكره وتوجه إلى أصبهان، فأكرمته «تركان خاتون»، وخطبت باسمه، وضربت اسمه على الدنانير بعد ابنها محمود بن «ملكشاه».
وكاد الأمر في الوصلة يتم بينهما، فامتنع الأمراء عند ذلك، لا سيما الأمير «أنز»، وهو مدبر الأمر ورئيس الجيش، وآثروا خروج إسماعيل عنهم، وخافوه وخاف هو أيضًا منهم، ففارقهم وأرسل يستأذن أخته «زبيدة»، والدة «بركيارق»، في اللحاق بهم، فأذنت له في ذلك، فوصل إليهم وأقام عندهم أيامًا يسيرة، فخلا به «كمشتكين الجاندار» و«آقسنقر» و«بوزوان»، وبسطوا له في القول، فأطلعهم على سرِّه، وأنه يريد السلطنة وقتل «بركيارق»، فوثبوا عليه فقتلوه، وأعلموا أخته خبره، فسكتتْ عنه.
وفي سنة ٤٨٦ﻫ، أرسلت «تركان خاتون» جيشًا مع الأمير «أنز» لقتال «توران شاه بن قاورت بيك»، حاكم بلاد فارس، فسار إليه وحاربه، وأخذ أكثر بلاده، وبقي حاكمًا عليها، ولما لم يحسن الأمير «أنز» تدبير بلاد فارس استوحش منه الأجناد، واجتمعوا مع «توران شاه» وهزموا «أنز»، ومات «توران شاه» بعد الكسرة بشهر من سهم أصابه فيها.
وبقيت «تركان خاتون» في عز ورفعة ومنعة لم يقدر عليها أحد من الملوك والسلاطين، وطالما حاول «بركيارق» إذلالها وأخذ السلطنة منها، فلم يقدر عليها، وذلك من كثرة حكمتها وكرمها وحسن إدارتها؛ فإن جميع الأمراء كانت تحبها، وتسعى في خدمتها، إلى أن توفيت في رمضان سنة ٤٨٧ﻫ بأصبهان.
وكانت قد برزت من أصبهان لتسير إلى تاج الدولة «تتش» لتتصل به، فمرضت وعادت وماتت، وأوصت إلى الأمير «أنز» وإلى الأمير «سرمز»، شحنة أصبهان، بحفظ المملكة على ابنها محمود، ولم يكن بقي بيدها سوى قصبة أصبهان، ومعها عشرة آلاف فارس أتراك، وكان لها جملة آثار، مثل: بناء مساجد، وأضرحة، ومدارس، وبيمارستانات، وخلاف ذلك في جميع أنحاء المملكة، وأسف الناس عليها أسفًا شديدًا. تغمدها الله برحمته.
تقية ابنة أبي الفرج
ذكرها الحافظ السلفي في تعليقه وأثنى عليها، وأخذت عنه العلم بثغر الإسكندرية، وفاقت الرجال فيه، ولها زيادة على ذلك الباع الطُّولَى في الشعر والأدب، ولطائفها الأدبية مع الحافظ المذكور كثيرة؛ منها أنه كان مارًّا بمنزله فعثر فجُرحتْ قدمه، فقطعت جارية من الدار قطعة من خمارها وعصبت بها قدمه، فأنشأت تقية تقول:
ومن غرائبها في الأدب أنها مدحت الملك المظفر بن أخي السلطان صلاح الدين بقصيدة خمرية، فقال ممازحًا: أتعرف الشيخة هذه الأحوال مِن صِباها؟ فبلغها ذلك فنظمت قصيدة أخرى حربية وصفت فيها الحرب وما تتعلق به أحسن وصف، وبعثتها إليه وقالت: علمي بهذا كعلمي بذاك. وهي في القرن السادس من الهجرة.
تماضر الشهيرة بالخنساء
هي ابنة عمرو بن الحارث بن الشريد بن رياح بن يقظة بن عصية بن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة، وقيل: تهبة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن عيلان بن مضر، وتكنى أم عمرو، وإنما الخنساء لقب غلب عليها، وهي الظبية، وكان دريد بن الصمة رآها يومًا وهي تهنأ جملًا فعلق بها وقال فيها:
وخطبها بعد ذلك إلى أبيها، فقال له أبوها: مرحبًا بك يا أبا قرة، إنك لكريم لا يطعن في حسبه، واليد لا تردُّ عن حاجته، ولكن لهذا المرأة في نفسها ما ليس لغيرها، وإنما أذكرك لها، ثم دخل عليها وقال: يا خنساء، أتاك فارس هوازن وسيد بني جشم «دريد بن الصمة» يَخطبُك، وهو ممن تعلمين. ودريد يسمع قولها، فقالت: يا أبت، أتراني تاركةً بني عمي مثل عوالي الرماح وناكحةً شيخ بني جشم، هاته اليوم أو غدًا، وأنشأت تقول:
فخرج إليه أبوها فقال: يا أبا قرة، قد امتنعت، ولعلها أن تجيب فيما بعدُ، فقال دريد: سمعت ما دار بينكما، وانصرف غضبان وقال يهجو الخنساء:
وهي طويلة أضربنا عنها، فقيل للخنساء: ألا تجيبينه؟ فقالت: لا أجمع عليه أن أرده وأهجوه. ولما ردت دريدًا خطبها رواحة بن عبد العزيز السلمي، فولدت له عبد الله، ثم خلف عليها مرداس بن أبي عامر، فولدت له يزيد ومعاوية، وبنتًا اسمها عمرة.
حكى بعضهم أنه لما كانت ليلة زفاف عمرة كانت أمها جالسة ملتفة بكساء أحمر وقد هرمت وهي تلحظ ابنتها لحظًا شديدًا، فقال القوم: يا عمرة، ألا تحرشت بأمك، فإنها الآن تعرف بعض ما أنت فيه. فقامت عمرة تريد شيئًا، فوطأت على قدمها وطأة أوجعتها، فقالت لها وقد اغتاظت: حسن إليك يا حنفاء كأنك تطئين أمة ورهاء، أنا كنتُ أكرم منك عرسًا، وأطيب ورسًا، وذلك زمان إذ كنت فتاة أعجب الفتيان، لا أذيب الشحم، ولا أرعى البهم، كالمهرة الصنع لا مضاعة ولا عند مضيع. فضحك القوم من غيظها.
وكانت الخنساء من شواعر العرب المعترف لهن بالتقدم، وهي تعد من الطبقة الثانية في الشعراء، وأكثر شعرها في رثاء أخويها معاوية وصخر. وكان معاوية أخاها لأمها وأبيها، وكان صخر أخاها لأبيها، وأحبهما إليها، واستحق صخر ذلك منها؛ لأنه كان موصوفًا بالحلم، مشهورًا بالجود، معروفًا بالتقدم والشجاعة، محظوظًا في العشيرة، وأجمل رجل في العرب، فلما قُتل جلست الخنساء على قبره زمانًا طويلًا تبكيه وترثيه، وفيه جل مراثيها، وكانت في أول أمرها تقول البيتين أو الثلاثة حتى قتل أخوها معاوية وصخر. وقد أجمع الشعراء على أنه لم تكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها.
وقيل لجرير: مَن أشعر الناس؟ فقال: أنا لولا هذه الخبيثة، يعني الخنساء، وقال بشار: لم تقل امرأة قط شعرًا إلا تبين الضعف في شعرها، فقيل له: أوكذلك الخنساء؟ قال: تلك فوق الرجال. وكان الأصمعي يقدم ليلة الأخيلية عليها.
قال المبرد: كانت الخنساء وليلى فائقتين في أشعارهما، متقدمتين لأكثر الفحول، وكان النابغة الذبياني يجلس للشعراء في سوق عكاظ وتأتيه الشعراء فتنشده أشعارها، فأنشدته الخنساء في بعض المواسم قصيدتها الرائية التي في أخيها صخر، فأعجبه شعرها وقال لها: اذهبي فأنت أشعر من كانت ذا ثديين، ولولا هذا الأعمى أنشدني قبلك — يعني الأعشى — لفضلتك على شعراء هذا الموسم؛ فإنك أشعر الإنس والجن، وكان ممن عرض شعره في ذلك الموسم حسان بن ثابت، فغضب وقال: أنا أشعر منك ومنها، فقال: ليس الأمر كما ظننت، ثم التفت إلى الخنساء، وقال: يا خناس، خاطبيه، فالتفتت إليه الخنساء وقالت: ما أجود بيت في قصيدتك هذه التي عرضتها آنفًا؟ قال قولي فيها:
فقالت: ضعفت افتخارك وأندرته في ثمانية مواضع في بيتك هذا، قالت: قلت لنا: الجفنات، والجفنات ما دون الغر، ولو قلت: الجفان لكان أكثر، وقلت: الغر، والغرة: بياض في الجبهة، ولو قلت: البيض لكان أكثر اتساعًا، وقلت: يلمعن، واللمع: شيء يأتي بعد شيء، ولو قلت: يشرقن لكان أكثر؛ لأن الإشراق أدوم من اللمعان، وقلت: بالضحى، ولو قلت: بالدجى، لكان أكثر إطراقًا، وقلت: أسياف، والأسياف ما دون العشرة، ولو قلت: سيوفًا لكان أكثر، وقلت: يقطرن، ولو قلت: يسلن لكان أكثر، وقلت: دمًا، والدماء أكثر من الدم.
فسكت حسان ولم يرد جوابًا، وكان في أثناء ذلك ظهور الإسلام، فقدمت الخنساء على رسول الله ﷺ فأسلمت، واستنشدها فأنشدته، فأعجب بشعرها وهو يقول: «هيه يا خنساء.» ثم انصرفت.
وقيل: إن عمر بن الخطاب سألها: ما أقرح مآقي عينيك؟ قالت: بكائي على السادات من مضر، قال: يا خنساء، إنهم في النار، قالت: ذاك أطول لعويلي عليهم، إني كنت أبكي لهم من الثأر، وأنا اليوم أبكي لهم من النار، وقيل: إنها أقبلت في خلافته حاجَّةً، فنزلت بالمدينة بزي الجاهلية، فقام إليها عمر في أناس من الصحابة فدخل عليها، فإذا هي كما وُصِفَتْ له فعذَلها ووعظها، وقال لها: إن الذي تصنعين ليس صنع الإسلام، وإن الذين تبكين هلكوا في الجاهلية، وهم أعضاء اللهيب وحشو جهنم، فقالت: اسمع مني ما أقول في عذلك إياي ولومك لي، فقال: هاتِ، فأنشدته من شعرها في أخويها، فتعجب من بلاغتها وقال: دعوها؛ فإنها لا تزال حزينة أبدًا.
وقيل: إنها أتت عائشة فنظرت إليها وعليها الصدار وهي محلوقة الرأس تدب من الكبر على عصا، فقالت لها عائشة: أخناس؟ فقالت: لبيك يا أماه، قالت: أتلبسين الصدار وقد نُهي عنه في الإسلام؟ فقالت: لم أعلم بنهيه، قالت: ما الذي بلغ بك ما أرى؟ قالت: موت أخي صخر، قالت عائشة: ما دعاك إلى هذا إلا صنائع من جميله، فصفيها لي، قالت: نعم، إن لشعاري سببًا، وذلك أن زوجي كان رجلًا متلافًا يقامر بالقداح، فأتلف فيها ماله حتى بقينا على غير شيء، فأراد أن يسافر فقلت له: أقم وأنا آتي أخي صخرًا فأسأله، فأتيته فشكوت إليه حالنا وقلة ذات أيدينا، فشاطرني ماله، فانطلق زوجي فقامر به فقمر حتى لم يبق لنا شيء، فعدت إليه في العام المقبل أشكو إليه حالته، فصار لي بمثل ذلك فأتلفه زوجي، فلما كان في الثالثة أو في الرابعة خلت بصخر امرأته فعذلته ثم قالت: إن زوجها مقامر، وهذا ما لا يقوم به شيء؛ فإن كان ولا بد من صلتها فأعطها خمس مالك، فإنما هو متلف، والخير فيه والشر سيان، فأنشأ يقول لامرأته:
ثم شطر ماله فأعطاني أفضل شطريه، فلما هلك اتخذت هذا الصدار. والله لا أخلف ظنه ولا أكذب قوله ما حييت.
وكان للخنساء أربعة بنين، فلما ضرب البحث على المسلمين بفتح فارس، صارت معهم وهم رجال، وحضرت وقعة القادسية سنة ١٦ هجرية وسنة ٦٣٨ ميلادية، وأوصتهم من الليل بقولها: يا بني، إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد، كما إنكم بنو امرأة واحدة، ما هجنت حسبكم، ولا غيرت نسبكم، واعلموا أن الدار الآخرة خير من الدار الفانية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (آل عمران: ٢٠٠)، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، وجللت نارًا على أرواقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رسيسها؛ تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة.
فلما أضاء لهم الصبح باكروا إلى مراكزهم، فتقدموا واحدًا بعد واحد ينشدون أراجيز يذكرون فيها وصية العجوز لهم حتى قتلوا عن آخرهم، فبلغ الخبر إليها فقالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر الرحمة. وكان عمر بن الخطاب يعطيها أرزاق بنيها الأربعة، وكان لكل منهم مائة درهم حتى قُبض.
وأخبار الخنساء كثيرة، وهي أشهر من أن تُذكر، ومن شعرها قولها في أخويها معاوية وصخر وأبيها عمرو:
وقولها في أخويها:
وقولها ترثي أخاها معاوية:
وقولها أيضًا فيه، وكان مقتله في بني مرة:
وأما مراثيها في أخيها صخر فكثيرة جدًّا — كما قلنا — وأشهر ما قالت فيه قولها عندما مات:
وقولها:
وقولها:
وقولها:
وتوفيت الخنساء في البادية في خلافة معاوية بن أبي سفيان. رحمة الله عليها.
تماضر زوجة زهير
كانت من بنات بني عبس الأكابر الذين ورثوا المجد كابرًا عن كابر، تزوَّجت بالملك زهير العبسي على محبة ووفاق، وزادت به شرفًا ومقامًا، وإجلالًا وإكرامًا، وولدت له جملة أولاد نجباء، منهم: قيس ومالك ابنا زهير، وزوجها زهير مَلِك بني عبس، ولها رثاء قليل في ولدها مالك — قتله حذيفة بن بدر — ومن قولها:
تنوسة جارية علية بنت المهدي العباسي
كانت ذات حسن وجمال، وبهاء وكمال، وأدب ما له مثال. تعلمت الغناء حتى صارت أحسن المغنين والمغنيات، وساعدها على ذلك صوتها، وحدَّة ذهنها، وشدة استحضارها. وكانت تختلف إلى الأمير محمد بن عبد الله بن طاهر وترتاح لمنادمته، وهو يشتاق لسماع صوتها.
وقيل: إن محمد بن عبد الله جلس يومًا في مجلس أنسه — وكان عنده صديقه الحسن بن محمد بن طالوت، وكان أخص الناس به — فقال له: لا بد لنا في يومنا هذا من ثالث نطيب بمعاشرته، ونلتذ بصحبته ومؤانسته حتى نسمع صوت تنوسة، فمن تُرى أن يكون طاهر الأعراق غير دنس الأخلاق؟ فأعمل فكره الحسن وأمعن نظره وقال: أيها الأمير، قد خطر ببالي رجل ليس علينا في مجالسته كلفة، قد خلا من إبرام المجالسة، وبرئ من ثقل المؤانسة، خفيف الوقفة إذا أحببت، سريع الوثبة إذا أمرت، قال: ومن ذاك؟ قال: مان الموسوس، قال: أحسنت والله، فتقدم إلى أصحاب الأرباع بطلبه، فما كان بأسرع من أن اقتنصه صاحب ربع الكرخ فسار به إلى باب الأمير، فأُدخِل الحمام وأخذ من شعره، وأُلبِس ثيابًا نظافًا، ثم أدخل عليه فقال: السلام عليك يا أمير، فقال: عليك السلام يا مان، ألم يأن أن تزورنا على حين توقانٍ منا إليك، ومنازعة قلوبنا نحوك؟ فقال مان: الشوق شديد، والمزار بعيد، والحجاب عتيد، والبواب فظ عنيد، ولو سهل الإذن لسهلت علينا الزيارة، قال: لقد ألطفت في الاستئذان، فلا تمنع في أي وقت جئت من ليل أو نهار، ثم أذن له فجلس، ثم دعا له بالطعام فأكل، ثم غسل يديه وأخذ مجلسه. وكان محمد قد تشوَّق إلى السماع من تنوسة جارية ابنة المهدي، فأُحضرتْ، فكان أول ما غنَّت:
فقال مان: أحسنت والله، ألا زدت فيه:
فاندفعت تغنيه، فرق محمد بن عبد الله له وقال: أعاشق أنت يا مان؟ قال: فاستحيا، وغمزه ابن طالوت أن لا يبوح له بشيء فيسقط من عينه، فقال: بل هلع وطرب — أعز الله الأمير — وشوق كان كامنًا فظهر، وهل بعد المشيب من صبوة؟ ثم اقترح محمد على تنوسة هذا الصوت من شعر أبي العتاهية:
فغنَّته فطرب محمد، ثم دعا برطل فشربه فقال مان: ما على قائل هذا الشعر لو زاد فيه:
فكان أبعث للصبابة بين الأحشاء، وألطف تغلغلًا على كبد الظمآن من زلال الماء، مع حسن تأليف نظامه وانتهائه إلى غاية تمامه، قال محمد: أحسنت والله يا مان، ثم أمر تنوسة بإلحاقها هذين البيتين بالأولين ففعلت، ثم غنَّت هذين البيتين من شعر أبي نواس:
فاستحسنه محمد فقال «مان»: لولا رهبة التعدي لأضفت إلى هذين البيتين بيتين لا يردان على سمع ذي لبٍّ إلا صد استحسانه لهما، فقال محمد: الرغبة فيما تأتي به حائلة دون كل رهبة، فهات ما عندك، فقال:
قال محمد: أحسنت والله فأجز:
فقال مان:
ثم سكت، فقال محمد: فأعِدْ لي وصفك لها، فقال:
فقالت تنوسة: وجب علينا يا مان شكرك، فساعدك دهرك، وعطف عليك إلفك، وقارنك سرورك، وفارقك محذورك، والله تعالى يديم لنا السرور ببقاء من ببقائه اجتمع شملنا، فأنشأ يقول:
فأومأ إليه ابن طالوت بالقيام فنهض وهو يقول:
فقال محمد: وجب جزاؤك لشكرك على غير نعمة سلفت منا إليك، ثم أقبل على ابن طالوت فقال: يا هذا، ليس خساسة ثوب المرء واتضاع المنظر ونبوُّ العين بمُذهبٍ جوهرَ الأدب المُركَّب فيه، ولله درُّ صالح بن عبد القدوس حيث يقول:
ثم قال وهو واقف:
فأنا أستودعكم الله، ثم انصرف، فأمر له محمد بن عبد الله بصلة سنية، قال ابن طالوت: فما رأيت أحدًا أحضر ذهنًا منه إذ تقول له الجارية: عطَّف عليك إلْفك، فينفيها بقوله: «ليس لي إلف فيقطعني.» البيت، قال: ولم يزل محمد مُجريًا عليه رزقًا سنيًّا إلى أن مات، وبقيت تنوسة معززة مكرمة في منزل علية ابنة المهدي إلى أن ماتت بعدما عمَّرت ولم يتغير شيء من صوتها وجمالها.