حرف الثاء
ثبيتة ابنة الضحاك بن خليفة الأنصارية الأشهلية
ولدت على عهد رسول الله ﷺ، وكانت على جانبٍ عظيم من الجمال والكمال، واللطافة والأدب، وعزة النفس، وكان يضرب بها المثل في الجمال بين نساء العرب، وكانت كلما خرجت من منزلها تتمايل إليها الأنظار، وتهوي إليها القلوب بالأبصار. وكان مرةً سهلُ بن أبي حثمة مارًّا في الطريق فرأى محمد بن مسلمة يطارد ثبيتة بنظره، فقال له: أتفعل هذا وأنت صاحب رسول الله ﷺ؟ فقال: نعم، إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إذا ألقى الله — عز وجل — في قلب رجل خطبة امرأة؛ فلا بأس أن ينظر إليها.» ومن ذلك يتضح أن من أراد الخطبة فله أن ينظر مخطوبته قبل زواجه بها، وبقيت ثبيتة محط أنظار شبان الصحابة حتى تزوجت وهي في غاية العفة والصيانة، ولم يمدد إليها أحد يده بسوء، ولها صحبة حسنة وأحاديث نبوية.
ثبيتة ابنة مرداس بن قحفان العنبري
كانت من شاعرات العرب وكرمائهن اللاتي يضرب بهن المثل، وكان زوجها كريمًا لم يوجد أكرم منه في زمانه.
قيل: إنه أتاه أخو امرأته يومًا فأعطاه بعيرًا من إبله وقال لامرأته: هاتي حبلًا يقرن به ما أعطيناه إلى بعيره، ثم أعطاه بعيرًا آخر، وقال: هاتي حبلًا، ثم أعطاه ثالثًا فقال: هاتي حبلًا، فقالت: ما بقي عندي حبل، فقال: عليَّ الجمال، وعليك الحبال، فرمت إليه خمارها وقالت: اجعله حبلًا لبعضها، فأنشأ يقول:
فأجابته فورًا:
ثبيتة ابنة يعار بن زيد بن عبيد بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف الأنصارية
كانت من المهاجرات الأوائل، ومن فاضلات النساء الصحابيات، وهي امرأة أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وهي مولاة سالم مولى أبي حذيفة. قُتل سالمٌ يوم اليمامة.
وكانت ثبيتة من النساء الأديبات العابدات الزاهدات الصابرات على العبادة، مشهورة بحسن صحبتها، ولها رواية مثبوتة عند المحدثين.
الثريا ابنة عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر
كانت من شهيرات نساء قريش وأبرعهن جمالًا وكمالًا، وكان عمر بن أبي ربيعة مستهامًا بها، وكانت تصيف بالطائف، وكان عمر يغدو إليها كل غداة إذا كانت بالطائف على فرسه، فيسائل الركبان الذين يحملون الفاكهة من الطائف عن أخبارها، فلقي يومًا بعضهم فسأل أحدهم عن أخبارهم، فقال: ما استطرفنا خبرًا، إلا أنني سمعت عند رحيلنا صوتًا وصياحًا على امرأة من قريش اسمُها اسمُ نجم من السماء، وقد سقط عليَّ اسمه، فقال عمر: الثُّريا؟ قال: نعم. وقد كان بلغ عمر قبل ذلك أنها عليلة، فوجَّه فرسه على وجهه إلى الطائف يُركضه ملء فروجه، وسلك طريقَ كداء — وهي أحسن الطرق وأقربها — حتى انتهى إلى الثريا، وقد توقعته وهي تتشوق له وتتشَوَّف، فوجدها سليمة، ومعها أختاها رضيا وأم عثمان، فأخبرها الخبر، فضحكت وقالت: والله أنا أمرتهم لأختبرَ ما لي عندك في ذلك! فقال هذا الشعر:
وسأل مسلمةُ بنُ إبراهيمَ أيوبَ بنَ مسلمةَ: أكانت الثريا كما يصف عمر بن أبي ربيعة؟ فقال: وفوق الصفة، كانت والله كما قال عبد الله بن قيس:
وحجت رملة بنت عبد الله بن خلف الخزاعية فقال فيها عمر:
وبلغت الأبيات الثريا — بلَّغتها إياها أم نوفل — فقالت: إنه لوقاحٌ صنع بلسانه، ولئن سَلمتُ له لأردَّنَّ من شأْوه، ولأثنينَّ من عِنانه، ولأعرفنَّه نفسه. وهجرت عمرَ، فلما هجرته قال في ذلك:
فلما سمع ابن عتيق قوله: «من رسولي إلى الثريا فإني.» قال: إياي أراد، وبي نوَّه، لا جرم والله لا أذوق أكلًا حتى أشخص فأُصْلِحُ بينهما ونهَض. قال بلال مولى ابن أبي عتيق: فركب وركبت معه، فسار سيرًا شديدًا، فقلت: أبقِ على نفسك؛ فإن ما تريد ليس يفوتك، فقال: ويحك!
وما حلاوة الدنيا إن تم الصدع بين عمر والثريا! فقدما مكة ليلًا غير محرمين، فدق على عمر بابه، فخرج إليه وسلم عليه ولم ينزل عن راحلته، فقال له: اركبْ أُصلِح بينك وبين الثريا، فأنا رسولك الذي سألت عنه، فركب معه وقدموا الطائف، وقد كان عمر أرضى أم نوفل، فكانت تطلب له الحيل لإصلاحها فلم يمكنها، فقال ابن أبي عتيق للثريا: هذا عمر قد جشمني المسير من المدينة إليك، فجئتك به معترفًا لك بذنب لم يَجْنِه معتذرًا من إساءته إليك، فدعيني من التعداد والترداد؛ فإنه من الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون. فصالحته أحسن صلح وأتمه وأجمله، ورجعوا إلى مكة، فلم ينزلها ابن أبي عتيق حتى رحل، وزاد عمر في أبياته فقال:
وكانت أم نوفل دعتها لابن أبي عتيق، ولو دعتها لعمر ما أجابت.
وأتى عمر الثريا يومًا ومعه صديق له كان يصاحبه ويتوصل بذكره في الشعر، فلما كشفت الثريا الستر وأرادت الخروج إليه رأت صاحبه فرجعت، فقال لها: إنه ليس ممن أحتشمه ولا أخفي عنه شيئًا، واستلقى فضحك — وكان النساء إذ ذاك يتختمن في أصابعهن العشرة — فخرجت إليه فضربته بظاهر كفها، فأصابت الخواتم ثنيتيه العُلْيَيَيْنِ وكادت أن تقلعهما، فعالجهما فشفيتا واسودَّتا، وكان يفتخر بهما، ويعدُّه أثرًا عزيزًا عنده.
وواعدت الثريا عمر أن تزوره، فجاءت في الوقت الذي ذكرته، فصادفت أخاه الحارث قد طرقه وأقام عنده، ووجَّه به في حاجة له ونام مكانه وغطى وجهه بثوب، فلم يشعر إلا بالثريا قد ألقت نفسها عليه تُقبِّله، فانتبه وجعل يقول: اعزبي عني؛ فلستُ بالفاسق. أخزاكما الله. فلما علمت بالقصة انصرفت، ورجع عمر فأخبره الحارث بخبرها، فاغتمَّ لما فاته منها وقال: أما والله لا تمسك النار أبدًا وقد ألقت نفسها عليك! فقال الحارث: عليك وعليها لعنة الله.
وتزوجها سهيل بن عبد العزيز بن مروان، وكان عمر بن أبي ربيعة أخرجه مسعدة بن عمر — والي اليمن — في أمرٍ عرَض له، وتزوجت الثريا وهو غائب، فلما رجع وجدها نقلت في ذلك اليوم إلى الشام، فأتى المنزل الذي كانت فيه وسأل عنها، فأُخبر أنها رحلت من يومئذٍ، فخرج في أثرها فلحقها في مرحلتين — وكانت قبل ذلك مهاجرته لأمر أنكرته عليه — فلما أدركهم نزل عن فرسه ودفعه إلى غلامه، ومشى متنكرًا حتى مرَّ بالخيمة، فعرفته الثريا وأثبتت حركته ومشيته، فقالت لحاضنتها: كلِّميه. فسلَّمتْ عليه، وسألته عن حاله، وعاتبته على ما بلغ الثريا عنه، فاعتذر وبكى، فبكت الثريا وقالت: ليس هذا وقت العتاب مع وشك الرحيل، فحادثها إلى طلوع الفجر، ثم ودَّعها وبكيا طويلًا، وقام فركب فرسه ووقف ينظر إليهم وهم يرحلون، ثم أتبعهم بصره حتى غابوا، وأنشأ يقول:
وهي قصيدة طويلة، وقال فيها أيضًا:
وكتب إليها يومًا وقد غلبه الشوق:
وكتبه في قوهية وشنَّفه وحسَّنه، وبعث به إليها، فلما قرأته بكت بكاءً شديدًا ثم تمثلت:
وكتبت إليه تقول:
ولما مات عنها سهيل خرجت إلى الوليد بن عبد الملك، وهو خليفة بدمشق، في قضاء دين عليها، فبينما هي عند أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان إذ دخل عليها الوليد فقال: من هذه؟ فقالت: الثريا جاءتني أطلب إليك قضاء دين عليها وحوائج لها، فأقبل عليها الوليد فقال: أتروين من شعر عمر بن أبي ربيعة شيئًا؟ قالت: نعم، يرحمه الله كان عفيفًا، أروي قوله:
فقضى حوائجها وانصرفتْ بما أرادت، فلما خلا الوليد بأم البنين قال لها: لله درُّ الثريا، أتدرين ما أرادت بإنشادها ما أنشدتني من شعر عمر؟ قالت: لا، قال: إني لما عرَّضتُ لها به عرَّضت لي بأن أمي أعرابية، وأم الوليد وسليمان ولادة بنت العباس بن جزي بن الحارث بن زهير بن جذيمة العبسي. فلما ماتت الثريا أتى الغريض المغني إلى كثير بن كثير السهمي فقال له: قلْ أبيات شعر أنُحْ بها على الثريا، فقال له هذين البيتين:
ثيودورا زوجة الملك بوستينان
هي ابنة «أكاسيوس» القبرصي، حارس الأدباب في الملعب، فلما مات أبوها باتت مع أختيها «كوميتو» و«أنسطاسيا» في حالة فقرٍ يُرثى لها، وجميعهن صغيرات في السن لا يتجاوز عمر الكبرى سبع سنوات، وكانت «ثيودورا» جميلة حسناء فقيرة، فلم تجد سبيلًا للكسب إلا الانخراط في سلك الممثلات، فأعجبت الناس بمهارتها، واتخذت خلانًا وبدَّلت أحبة لتعيش في راحة وهناء.
قيل: إنها كانت في بلاد «بافلاغونيا»، فحلمت أنها ستصير امرأة ملك قوي، فعادت إلى القسطنطينية مسرعة وتابت، واتخذت لها بيتًا عاشت به بالبر والطهارة والتقوى، تشتغل الليل والنهار بأشغال يدوية؛ لتعيش وتساعد المساكين، فعلم بها «بوستينان» ونظرها، فتيَّمه هواها وشغفه جمالها الباهر، وأعجبه نشاطها وعفتها، فاقترن بها على رغم مضادة أمه ونسبائه والشرائع القديمة التي تحظر على الشريف أن يقترن بعبيده، أو ممثلة، أو غريبة، وأغرى عمه «بستين» على إصدار أمر يخالف القانون ويبطله، ويفتح سبيلًا لتوبة بنات الهوى، وأملهن بالارتقاء إلى أعلى الدرجات وذروة المجد والفخار.
ولما تولى «بوستينان» العرش شارك امرأته بالملك، وأجلسها على عرشه، ووضع التاج القيصري على هامته وهامة «ثيودورا» الممثلة بنت «أكاسيوس» حارس الأدباب. ولم تنج هذه الملكة بتوبتها من هَجْو العالمين، فرشقتها ألسنة المبغضين المضادين بسهام الاحتقار والتنديد، وجهدوا في تذكيرها حالتها الأولى ونكايتها بكل أوانٍ، فهجرت لذلك مدينة القسطنطينية، وعاشت بقصورها وجنانها الواقعة على شاطئ البوسفور، واعتزلت الناس، وانتقمت منهم ما استطاعت، وكان زوجها في ابتداء ملكها مريضًا، فبذلت جهدها في جمع الأموال ليمكنها أن تعيش بها عزيزة بعده مكرمة.
والحق يقال: إن «ثيودورا» كانت امرأة ذكية فاضلة أتت أعمالًا عظيمة مبرورة مشكورة، وساعدت زوجها في السياسة أشد المساعدة بآرائها وحكمتها، ولكن الشعب اليوناني أبغضها لاتباعها مذهب «أفتيس» ومضادتها بعض الأساقفة.
وفي حزيران سنة ٥٤٨م ماتت بعلة رديئة كست جسمها بثورًا، فتكون مدة ملكها ٢٢ سنة.
ومن أعمالها السديدة ما كان في وقت الثورة المشهورة التي حصلت في القسطنطينية في أيام ملك «بوستينان»، وقد اجتمع الملك والوزراء والعظماء حائرين مضطربين يرجون بالهرب خلاصًا، فنهضت الملكة «ثيودورا» وقالت: إنني أحتقر الفرار إلا من الراحة والسلام، فإلى الموت مصير الإنسان، وحياة الأمراء المالكين كالعدم بعد فقدهم العز والملك، فأطلب إلى الله أن لا يجعلني يومًا واحدًا عارية من التاج وأدوات الزينة الملكية، بل يميتني قبل خلعي وسقوطي عن منصة الفخر والمجد. وإذا اعتمدت أيها الملك على الهرب، فجميع وسائله ميسورة لك: فهذه خزائنك ملأى بالذهب والجواهر، وهذا البحر مغطى بالسفن المواخر، ولكن خَفْ من يوم تعيش به عيشة دنيئة مُحتقَرة في المنفى.
أما أنا فناهجة منهج القدماء القائلين: إن العرش ضريح مجد. وأحيت هذه المرأة بكلامها وشجاعتها شجاعة زوجها، فرفض الفرار، وعاد إلى التفكير والتدبير، فتيسرت له وسائل إقناع الأقوام بخطئهم، فأذعنوا إليه خاضعين، وبخضوعهم ذل الآخرون، فتمكنت الحكومة من قهرهم، وراق الوقت للملك «بوستينان» بسبب مشورة هذه الفاضلة وحسن آرائها.