حرف الدال
دارمية الحجونية
كانت فصيحة اللسان، بليغة البيان، غير هيابة في المقال، لا يسألها أحد سؤالًا إلا جاوبته بأحسن جواب، وأقنع خطاب، قال أبو سهل التميمي: لما حج معاوية سأل عن امرأة من بني كنانة تنزل بالحجونية يقال لها: دارمية، وكانت سوداء كثيرة اللحم، فأُخبر بسلامتها، فبعث إليها فجيء بها، فقال: ما جاء بك يا ابنة حام؟ فقالت: لست بابنة حام، أنا امرأة من بني كنانة وأنت طلبتني، قال: صدقت، أتدرين لما بعثتُ إليك؟ قالت: لا يعلم الغيب إلا الله، قال: بعثت إليك أسألك علامَ أحببتِ عليًّا وأبغضتني، وواليته وعاديتني؟ قالت: أوَتعفيني، قال: لا أعفيك، قالت: أما إذا أبيت فإني أحببت عليًّا على عدله في الرعية، وقسمته بالسوية، وأبغضتك على قتال مَن هو أولى منك بالأمر، وطلبك ما ليس لك به حق، وواليت عليًّا على ما عقد له رسول الله ﷺ من الولاء، وحبه المساكين، وإعظامه لأهل بيته، وعاديتك على سفكك الدماء، وجورك في القضاء، وحكمك بالهوى.
قال: فلذلك انتفخ بطنك، وعظم ثدياك، وربت عجيزتك، قالت: يا هذا! بهند والله كان يضرب المثل في ذلك لأبي سفيان وهند، قال معاوية: يا هذه! اربعي؛ فإنا لم نقل إلا خيرًا، إنه إذا انتفخ بطن المرأة تم خلق ولدها، وإذا عظم ثدياها تروي رضيعها، وإذا عظمت عجيزتها رزن مجلسها.
فلما سمعت ذلك رجعت وسكن غضبها، ثم قال لها: يا هذه! هل رأيت عليًّا؟ قالت: نعم رأيته، قال: فكيف رأيتِه؟ قالت: رأيته والله لم يفتنه الملك الذي فتنك، ولم تشغله النعمة التي شغلتك، قال: فهل سمعت كلامه؟ قالت: نعم والله، فكان يجلو القلوب من العمى كما يجلو الزيت الصدأ من الطست.
قال: صدقت، فهل لك من حاجة؟ قالت: أوَتفعل إذا سألتك؟ قال: نعم، قالت: تعطيني مائة ناقة حمراء فيها جملها وراعيها، قال: ماذا تصنعين بها؟ قالت: أغذو بألبانها الصغار، وأستحيي بها الكبار، وأكتسب بها المكارم، وأصلح بها بين العشائر، قال: فإن أعطيتك ذلك فهل أحل عندك محل علي بن أبي طالب؟ قالت: سبحان الله أو دونه، فأنشأ معاوية يقول:
ثم قال: أما والله لو كان علي حيًّا ما أعطى منها شيئًا، قالت: لا والله ولا وبرة واحدة من مال المسلمين، ثم أخذتها وانصرفت.
دختنوس ابنة لقيط بن زرارة بن عدس الدارمي
تزوجها عمرو بن عمرو بن عدس، وكانت ابنة عمه، وكان عمرو تزوجها بعدما أسنَّ، وكان أكثر قومه مالًا، وأعظمهم شرفًا، فلم تزل تولع به وتؤذيه وتسمعه ما يكره وتهجوه حتى طلقها، فتزوجها من بعده ابن عمها عمير بن معبد بن زرارة، وكانت «دختنوس» شاعرة لها شعر كثير، منه هجو ومديح ورثاء، وكانت ذات شجاعة عظيمة، وحكمة غريبة، ورأي صائب، وكان أبوها لقيط يرجع إلى رأيها، ويأخذها في غزواته لكي تهديه إلى الصواب عند الخطأ.
وكان أخذها معه في يوم «شعب جبلة» بينه وبين عامر وعبس، وكان وجد في طريقه كرب بن صفوان بن الحباب السعدي، وكان شريفًا، فطلب منه الصحبة، فأبى محتجًّا بالبحث عن إبل له، فقال: لا أدعك تذهب فتخبر بي القوم، فحلف له أن لا يخبرهم، ثم سار عنهم وهو مغضب، فلما دنا منهم أخذ خرقة وصرَّ فيها حنظلة وترابًا وشوكًا، وخرقتين من يمانية، وخرقة حمراء، وعشرة أحجار سود، ثم رمى بها حيث يسقون ولم يتكلم، فوصلت إلى قيس بن زهير العبسي، فقال: هذا من صنع الله بنا. هذا رجل قد أُخذ عليه عهد أن لا يكلمكم، فأخبركم أن أعداءكم قد غزوكم، وهم بنو حنظلة، وصاحب بن زرارة، وقبيلتان من اليمن، وفي عشرة أيام يكونون عندكم، فخذوا حذركم، ولما عاد كرب بن صفوان قال له لقيط: قد أنذرت القوم، فأعاد الحلف أنه لم يكلم أحدًا، فأطلقه، فقالت له «دختنوس»: ردني إلى أهلي ولا تُعرضني لعبس وعامر؛ فقد أنذرهم لا محالة، فاستحمقها وساءه كلامها، وردها وسار إلى بني عامر وعبس وتحاربا، وانكسر قومه، وأبلى بلاء حسنًا حتى اندك الجرف بفرسه، فهجم عليه عنترة فطعنه، وعند ذلك تذكر ابنته «دختنوس» فقال:
فلما بلغها موته قالت ترثيه:
وقالت ترثيه أيضًا:
ولها مراثٍ كثيرة لم نعثر إلا على هذه منها.
دلوكة بنت زباء ملكة من ملوك القبط الأولين بمصر
كانت أول امرأة ملكت بعد هلاك فرعون وجنوده في البحر، وكان ملكها عشرين سنة، وعملت أعمالًا عظيمة أشهرها الجدار المعروف بحائط العجوز، قالوا عنه: إنه أحد العجائب العشرين التي بمصر، يحيط بمصر شرقًا وغربًا من العريش إلى أسوان، ويقال له: جدار العجوز أيضًا.
وسبب بناء هذا الحائط على ما قيل: إن مصر لما خلت من الأشراف والأبطال بعد غرق فرعون وجنوده بالبحر الأحمر اجتمعت النساء، وملَّكن عليهن دلوكة، وكانت ذات شرف وحكمة ودراية، وكان عمرها مائة وستين سنة، فخافت أن يتناولها الملوك، فجمعت نساء الأشراف وقالت لهن: إن بلادنا لم يكن يطمع فيها أحد، ولا يمد عينه إليها، وقد هلك أكابرنا وأشرافنا، وذهب السحرة الذين كنا نقوى بهم، وقد رأيت أن أبني حصنًا أحدق به جميع بلادنا، فأضع عليه المحارس من كل ناحية؛ فإنا لا نأمن من أن يطمع فينا الناس.
فبنت هذا الحائط وأحاطت به جميع أرض مصر؛ المزارع والمدائن والقرى، وجعلت دونه خليجًا يجري فيه الماء، وأقامت القناطر والترع، وجعلت فيه المسالح والمجارس، على كل ثلاثة أميال مجرس ومسلحة، أي محل للسلاح، والمجارس صفان على كل ميل، وجعلت في كل مجرس رجالًا، وأجرت عليهم الأرزاق، وأمرتهم أن يحرسوا بالأجراس، فإذا أتاهم آتٍ يخافونه ضرب بعضهم إلى بعض بالأجراس، فيأتيهم الخبر بأي وجه كان في ساعة واحدة، فينظرون في ذلك، فمنعت بذلك مصر ممن أرادها، وفرغت من بنائه في ستة أشهر على ما قيل، وقيل: إنها بنته خوفًا على ولدها؛ لأنه كان كثير القنص، فخافت عليه من سباع البر والبحر، واغتيال من جاور أرضهم من الملوك والبوادي، فحوطت الحائط من التماسيح وغيرها.
قال المقريزي: وقد بقي من حائط العجوز بقايا كثيرة في بلاد الصعيد، وهو مبني من اللبن الكبار.
دليلة الفلسطينية
امرأة فلسطينية من وادي «سوريف» أحبها «شمشون»، فعرف أقطاب الفلسطينيين بحبه لها، وقالوا لها: انظري بماذا قوته العظيمة، وبماذا نتمكن منه حتى نوقعه أو نقهره ونحن ندفع إليك كل منا ألفًا ومائة درهم من الفضة؟ فقالت ﻟ «شمشون»: أخبرني بماذا قوتك العظيمة، وبماذا توثق لتقهر؟ فقال لها: إذا أوثقوني بسبعة أوتار طرية لم تحف بعد فإني أضعف وأصير كواحد من الناس، فدفعوها إليها فشدته بها والكمين رابض عندها في المخدع.
ثم قالت له: قد دهَمك الفلسطينيون، فقطع الأوتار كما يقطع خيط المشاقة إذا أشيط، فقالت له: لقد خدعتني، فأخبرني بماذا توثق؟ فقال: إن أوثقوني بحبال جديدة لم تستعمل قط، فإني أضعف وأصير كواحدٍ من الناس، ففعلت كما فعلت في المرة الأولى، فقطع الحبال كالخيط، فكررت السؤال، فقال لها: إذا ضفرت سبع خصل من شعر رأسي وربطت بها كالوتد فإني أصير كباقي الرجال، فأخذت منه سبع خصل مع السرى، فمكنتها بالوتد وقالت له: قد دهمك الفلسطينيون، فاستيقظ من نومه وقلع الوتد والنسيج والسرى، فعاتبته على مخادعتها، وكانت تضايقه كل يوم بكلامها وتضاجره حتى تاقت نفسه إلى الموت، فأطلعها على ما في قلبه وقال لها: لم يَعلُ رأسي موس لأني ناسك لله من بطن أمي؛ فإن حلقت رأسي فارقتني قوتي.
ورأت «دليلة» أنه قد كاشفها بكل ما في قلبه، فأرسلت ودعت أقطاب الفلسطينيين وقالت: اصعدوا هذه المرة، فأضجعته على ركبتيها ودعت رجلًا فحلق سبع خصل من رأسه، ثم قالت له: قد دهمك الفلسطينيون، فاستيقظ ووجد أن قوته قد فارقته، فقبضوا عليه، وتلقبت «دليلة» بالمحتالة؛ لاحتيالها على «شمشون» — كما مر — وخبرها في سفر القضاة «الإصحاح السادس عشر» من التوراة.
دنانير جارية يحيى بن خالد البرمكي
كانت جارية صفراء من مولدات المدينة. كان مولاها قد أدَّبها وخرجها في الأدب والشعر والغناء حتى صارت أدرى الناس بالغناء القديم، وأكمل الجواري آدابًا، وأكثرهن رواية للغناء والشعر، وأحسنهن وجهًا، وأظرفهن عشرة.
فلما رآها خالد بن يحيى البرمكي شغف بها واشتراها. وكان الرشيد يسير إلى منزله ويسمعها حتى ألفها واشتد عجبه بها، فكان أكثر مسيره إلى مولاها، ويقيم عندها، ويبرها ويفرط، حتى إنه وهبها في ليلة عقدًا قيمته ثلاثون ألف دينار، وعلمت زبيدة بحاله فشكته إلى أهله وعمومته، فعاتبوه على ذلك فقال: ما لي في الجارية أرب في نفسها، وإنما أربي في غنائها، فاسمعوها، فإن استحقت أن يُؤْلَف غناؤها وإلا فقولوا ما شئتم.
فأقاموا عنده ونقلهم إلى يحيى، فلما سمعوها عذروه، وعادوا إلى زبيدة وأشاروا عليها أن لا تلح في أمرها، فقبلت ذلك وأهدت إلى الرشيد عشر جوارٍ. وكان اعتماد «دنانير» في غنائها على ما أخذته من بذل المغنية، وهي التي خرجتها، وأخذت أيضًا من الأكابر الذين أخذت البذل عنهم، مثل: فليح، وإبراهيم الموصلي، وابن جامع، وإسحاق، ونظرائهم. ولها كتاب مجرد في الأغاني مشهور، وكانت تناظر ابن جامع وأمثاله فتغلبهم.
وقيل: إنها عملت يومًا صوتًا أعجب به مولاها يحيى جدًّا، وأتى إلى إبراهيم الموصلي وطلب إليه أن يسمعه منها؛ لينظر هل هو كما وقع في نفسه، فأتى إبراهيم وغنت «دنانير» الصوت، فطرب له إبراهيم واستعاده منها ثلاث مرات؛ لعله يجد موضوعًا فيه قابلًا للإصلاح يصلحه فينسب إليه فلم يجد.
وقال بعضهم: إنها كانت تغني غناء إبراهيم فتحكيه حتى لا يكون بينهما فرق، وكان إبراهيم يقول ليحيى: متى فقدتني و«دنانير» باقية فما فقدتني! وقامت «دنانير» عند البرامكة دهرًا طويلًا لم تخرج من عندهم، ولا كفرت نعمة مولاها. وشغف بها عقيل مولى صالح بن الرشيد فخطبها، فردته، فاستشفع عليها مولاها صالحًا وابن محرز وغيرهما فلم تجبه، فكتب إليها:
فكان كالكاتب على صفحات الماء، ومات ولم يجد لعلته من دواء، وأقامت على الوفاء لمولاها، وأصابتها علة الجوع الكلبي وهي عند البرامكة، فكانت لا تصبر عن الأكل ساعة واحدة، فكان يحيى يتصدق عنها في كل يوم من شهر رمضان بألف دينار؛ لأنها كانت لا تصومه.
وحُكي أن الرشيد دعا بها بعد نكبة البرامكة وأمرها أن تغني، فقالت: يا أمير المؤمنين، آليت أن لا أغني بعد سيدي أبدًا، فغضب وأمر بصَفْعها، فصُفِعت وأقيمت على رجليها، وأعطيت العود فأخذته وهي تبكي أحر بكاء، وغنت صوتًا يفتت الجلمود حزنًا، فرقَّ لها الرشيد وأمر بإطلاقها، فانصرفت.
دهيا ابنة ثابت بن تيفان
وقومها جرادة من زناتو. كانت تُلقب بالكاهنة ملكة البربر في جبل «أوراس»، قال ابن خلدون: وكان لها بنون ثلاثة ورثوا رياسة قومهم عن سلفهم، وربوا في حجرها، فاستبدَّت عليهم وعلى قومهم بهم، وربما كان لها من الكهانة والمعرفة بغيب أحوالهم، وعواقب أمورهم، فانتهت إليها رياستهم، فملكت ٣٥ سنة، وعاشت ١٢٧ سنة، وكان قتل عقبة بن نافع بإغرائها، وكان المسلمون يعرفون ذلك منها.
قيل: وكان مذهبها ومذهب قومها وقبائل تفوسة اليهودية، وكانت تدعي خطاب الشياطين، فلما انقضى أمر البربر وقُتل «كسيلة»، رئيس «أوراس»، عندما غزاهم العرب، انضم برابرة «أوراس» ومن جاورهم إلى «دهيا» هذه؛ لما كان لها من السيادة والسلطة والدهاء، فلما غزا إفريقيا حسان بن النعمان الغساني من قبل عبد المطلب بن مروان استولى على قيروان و«قرطاجنة»، ثم سار إلى الكاهنة وحاربها عند نهر «مسكيني» على مرحلة من «باغابة» و«محانة»، فانكسر المسلمون أمامها، وقتلت منهم جمًّا غفيرًا، وأسرت جماعة منهم خالد بن يزيد القيسي، فأطلقتهم جميعًا ما عدا خالد بن يزيد، أبقته عندها واتخذته لها ولدًا لشجاعته وشرفه، ففارق حسان إفريقيا، وكتب إلى عبد الملك أن يمده بالجيوش، وأقام بعمل برقة خمس سنوات ينتظر ورود الإفادة.
وفي هذه المدة ملكت «دهيا» إفريقيا كلها، وبعد الخمس سنوات سيَّر عبد الملك إلى حسان الجنود والأموال، وأمره أن يناجز «دهيا» الكاهنة، فأرسل حسان رسولًا سرًّا إلى خالد بن يزيد، فكتب إليه خالد يعرفه تفرُّق البربر بظلم الكاهنة، ويأمره بالسرعة، فسار حسان وعلمت الكاهنة فقالت: إن العرب يريدون البلاد والذهب والفضة، ونحن إنما نريد المزارع والمراعي، ولا أرى إلا أن أخرب إفريقيا حتى ييأسوا منها، ثم فرقت أصحابها فخربوا البلاد، وهدموا الحصون، ونهبوا الأموال، فلما قرب حسان من البلاد لقيه جمٌّ من أهلها من الروم يشكون إليه ظلم الكاهنة، فسار إلى «فانيس»، فلقيه أهلها بالأموال والطاعة، فجعل فيها عاملًا، فسار إلى قعصة فأطاعه من بها، واستولى عليها وعلى «قسطيلة»، ونفذ أمره، وبلغ الكاهنة قدومه، فأحضرت ولديها وخالد بن يزيد وقالت لهم: إني مقتولة هذه المرة، فامضوا إلى حسان وخذوا لأنفسكم منه أمانًا، فساروا إليه وبقوا معه، وسار حسان نحوها، فالتقوا واقتتلوا قتالًا شديدًا، فانهزم البربر وقُتلوا قتلًا ذريعًا، وأُدركت الكاهنة فقُتلت، ثم استأمن البربر إلى حسان فأمَّنهم، وشرط عليهم أن يكون منهم عسكر مع المسلمين عدتهم اثنا عشر ألفًا، فأجابوا، فجعل على هذا العسكر أحد ابني الكاهنة المذكورين.
ديدون ابنة الملك بقلوس
هي ملكة «سورو» زوجة «سيته»، كاهن «هركليس» الذي كان أغنى الفينيقيين على بكرة أبيهم، وأجملهم خَلقًا وخُلقًا. ثار أخوها «بكاليون» بزوجها فقتله طمعًا في استلاب كنوزه، فجزعت عليه «ديدون» جزعًا عظيمًا، ولم تطق بعده المكث في صور، ففرت مع أخيها «برقا» وقوم ممن تغيروا على أخيها، زاعمة أن زوجها المقتول قد أمرها بالرؤيا أن تبارح صور، وكانت قد نقلت خفية إلى محل اسمه «كرنا» — واقع بين صور وصيدا — قسمًا جليلًا من أمتعتها وثروتها، فركبت من هناك سائرة إلى شمال فينيقية، فعاجت بسيرها لجزيرة قبرص، وكان يوم عيد، فرأت على الشاطئ ربربًا من أجمل بنات الجزيرة مجتمعاتٍ هناك للهو والمرح، فاختطف رجالُها منهن وأقلعوا، حتى إذا بلغوا سواحل «زوجيتا» تجاه جزيرة صقلية، استأذنت «ديدون» ملكها «برياس» في بناء قلعة، فأذن لها على شريطة أن تبذل له خراجًا، فرضيت وبنت هناك قلعة بصرة، ومعناه حصن باللغة الفينيقية، فحرفه اليونان في لغتهم فسموها «برسا»، أي جلد الثور.
ثم اشترت من ملك موريتانيا أرضًا أنشأت فيها مدينة قرطاجنة الإفريقية، وذلك سنة ٨٦٠ قبل المسيح، وكان «أيارياس» قد شغف بها حبًّا، فخطبها من نفسها، ولما لم تسعها مخالفته حرصًا على حياة قومها، وكانت مرتبطة مع زوجها المقتول بقسم أن لا تستبدله بآخر، طلبت مهلة ثلاثة أشهر لكي تستعد للزفاف عليه فلبَّاها، ولكنها في نهاية المدة المذكورة علت رابية هناك وطعنت نفسها بخنجر فماتت، فكانت سيرتها موضوعًا جميلًا لكتبة الإفرنج يبنون عليها راياتهم المفجعة. وقد عثر المتأخرون على تمثال ﻟ «ديدون» منحوت بيد «كيرين» الشهير، قيل: إنه محفوظ الآن بدار الآثار في لندن.