ضربة البداية
عند صخرةٍ قريبة من مكان السيارة التي كانت النيران مشتعلةً فيها، شاهد «عثمان» ساق رجل تبرز من بين الأعشاب … ولم يُصدِّق «عثمان» عينَيه أولًا … ثم قال لافتًا نظر «بو عمير»: ساق … ساق رجل!
واتجه الاثنان إلى حيث ظهرت الساق … ومن بين الأعشاب النامية ظهرت بقية الرجل … ممددًا على ظهره، وصاح «عثمان» بحزن: إنه «ش. ٢٨».
بو عمير: هل أنت متأكد؟
عثمان: بالطبع … لقد ظلِلت أتمرَّن على يدَيه ستة شهور كاملة … كان أفضل رامٍ بالخنجر في المقر السري!
بو عمير: ولكن لماذا فعل هذا؟
وقبل أن يُجيب «عثمان» … كانت الإجابة قد وصلتهما … فقد كان ذراع «ش. ٢٨» بارزةً من بين الأعشاب … وقد انقبضت أصابع يده على ورقة بيضاء.
عثمان …
أكتب لك بسرعة جدًّا … لقد رأيتني في الشارع وطاردتني … وقد أُعجبت بأسلوبك في المطاردة … ما زلت تلميذًا مجتهدًا، ولكن لأنك رأيتني ورأيتك … فقد أصبحتُ خطرًا على حياتك … إن «مالمو» يستطيع أن يعرف بمجرَّد أن يراني أنني رأيتك لأنني سأفكِّر فيك … وما أسهل ما يعرف كيف يقرأ ما يدور في ذهني …!
أرجو أن تُطمئن رقم «صفر»؛ إنني فعلت المستحيل حتى لا يعرفوا شيئًا … كنت أُحوِّل أفكاري بعيدًا عنكم حتى لا يعرف كل شيء … ولكني كنت أحيانًا ورغمًا عني أجدكم تحتلُّون تفكيري، وكان «مالمو» يعرف على الفور ما أُفكِّر فيه … لقد حاولت مرارًا أن أتصل برقم «صفر» أو بكم اليوم، ولكن لم يكن أحد يرد … وكان هذا أفضل.
إنني أكتب لك هذه الرسالة وأنا أعرف أنك تبحث عنِّي في العمارة الكبيرة … وسوف أخرج الآن وأركب سيارةً وسوف تُطاردونني … وسأنتحر … نعم … سأقتل نفسي … لأنني أصبحت خطرًا على زعيمي رقم «صفر» وعليكم، وأنتم أصدقائي وأولادي … سأقتل نفسي حتى لا يعرف هؤلاء الأشرار أكثر ممَّا عرفوا!
وإذا كانوا قد عرفوا مني الكثير عنكم … فسوف أرد لهم الجميل وأُعرِّفكم بأشياء كثيرة عنهم، وهذه هي أوصافهم بدقة.
- (١) مالمو: قصير القامة … ضخم الرأس … أصلع تمامًا … يُدخِّن الغليون، ثابت الأعصاب … يداه صغيرتان كأيدي النساء … وبالإضافة إلى كونه «قارئ أفكار» فهو منوِّم مغناطيسي، وعالم نفسي … عمره ٤٥ سنة.
- (٢) كاتسكا: طويل وسمين … يُدخِّن ويشرب بإفراط … من أشرس زعماء العصابات … غزير الشعر … متعجِّل دائمًا … ويتحدَّث كثيرًا، مخطِّطٌ بارع، يُعتبر أحد خمسة يُسيطرون على العالم السفلي في أمريكا … سبق اعتقاله وسجنه … عمره ٥٥ سنة.
- (٣) ون بولت: شابٌّ أنيق … قوي العضلات … أشقر، عيناه صفراوان، شديد الثقة بنفسه … يمضغ اللبان طول الوقت … يحمل في العادة مسدسَين من طراز «كولت» العيار الكبير، وأحيانًا يحمل بندقيةً سريعة الطلقات في حقيبته «سامسونايت»، وهي طراز خاص من البنادق، يمكن فكُّه إلى قطع صغيرة … رأيته يتمرَّن … وبلا شك إنه من أمهر الرماة الذين رأيتهم في حياتي … ولكن هناك عيب فيه؛ إنه بطيء نسبيًّا … وأنت تعرف أن جزءًا من الثانية يكفي في معركة للقضاء على الخصم. عمره حوالي ٣٨ سنة. إنهم يعيشون متنقِّلين بين خمس جهات مختلفة في «بيروت» و«الجبل»؛ منها فندق «فينسيا» … وفندق «كارلتون» … ومقر سري في الجبل قرب مطعم الديك الذهبي … مدخله مختفٍ خلف شجرة أرز، وكمية من الشجيرات الكثيفة … وقد قمت بتعليق شريط أصفر من القماش على فرع الشجرة كدليل للمكان.
الوداع يا أصدقائي … إنني أعرف أن رقم «صفر» لا يُريدكم أن تصطدموا بهؤلاء … وقد خالفته الرأي … وأترك لكم حرية التصرُّف … وهناك ملحوظة هامة … إن قارئ الأفكار لا يمكنه أن يقرأ ما تُفكِّر فيه إلَّا إذا حدَّد مكانك.
كان «عثمان» يقرأ الخطاب بصوت مرتفع، و«بو عمير» يستمع في تأثُّر شديد … فهذا محارب من أفضل المحاربين يُفضِّل الموت على الإدلاء بأسرار منظمة الشياطين … ويترك رسالةً ذات قيمة هائلة … ولاحظ «بو عمير» أن صوت «عثمان» أخذ يخفت وهو يقرأ السطور الأخيرة … وأحسَّ أنه سيبكي، فقال له: هيا بنا.
تركا المكان مسرعَين وعاودا صعود الجبل، ثم ركبا السيارة وانطلقا إلى الشقة المفروشة. كان «أحمد» و«إلهام» قد عادا منذ قليل، وعندما دخل «بو عمير» و«عثمان» قالت «إلهام»: يبدو أن خلفكما أخبارًا هامة.
روى «عثمان» باختصار وسرعة ما حدث … ثم مدَّ يده بخطاب «ش. ٢٨» إلى «أحمد» … وأخذ «أحمد» يلتهم السطور بسرعة، ووجهه يكشف عن انفعالاته المتباينة، ثم ناول الخطاب إلى «إلهام» والتفت إلى «بو عمير» و«عثمان» قائلًا: لقد حقَّقتما معجزة!
وغاص «أحمد» في صمته لحظات ثم قال: رحم الله «ش. ٢٨» … لقد كان رجلًا مخلصًا! … وقد وضع خطته بإحكام عندما رآكما تُطاردانه.
إلهام: ولكن كيف لم يعرف قارئ الأفكار ما يُفكِّر فيه «ش. ٢٨»؟
أحمد: لأنه لم يكن يُتابعه في هذه الفترة … وانتهز «ش. ٢٨» هذه الفرصة ليضع خطته في كتابة الخطاب … ثم خروجه إلى الجبل حيث وضع بين يدَينا أهمَّ المعلومات التي نطلبها … ومات!
إلهام: هل وصلنا إلى نقطة التماس؟
أحمد: تقريبًا … ولكن ملاحظة «ش. ٢٨» الأخيرة مهمة جدًّا، يجب ألَّا نترك قارئ الأفكار «مالمو» يرانا أو يُحدِّد مكاننا، وبهذا يمكن أن نعمل ضده بحرية.
إلهام: إنني أُفكِّر في شيء … أن نضع خطتنا في مواجهة هذا الثالوث الجهنمي على أساس التخلُّص منهم واحدًا واحدًا … أي التركيز على واحد ثم الآخر وهكذا … إنهم الثلاثة يُمثِّلون وحدة قتال خطيرة … ولكن لو أخذناهم واحدًا وراء الآخر، لقلَّت خطورتهم.
بو عمير: فكرة صائبة … بمن نبدأ؟
عثمان: بالقاتل … مستر «ون بولت» … إنه أداة التنفيذ!
أحمد: إنني أرى العكس … أن نبدأ بالرأس المفكِّرة … بالذي أحضر «مالمو» وأحضر مستر «ون بولت»، أقصد زعيم العصابة «كاتسكا» … إننا إذا قضينا عليه ففي الأغلب سوف يفر الباقيان … إنه استأجرهما، فإذا انتهى هو؛ تركا الميدان وهربا …
عثمان: معقول جدًّا … والآن عندنا أوصاف الثلاثة … ونعرف ثلاثة أماكن من خمسة أماكن يعيشون فيها … فمن أين نبدأ؟
بو عمير: أقترح أن نبتعد عن المدينة بقدر الإمكان … فليس من السهل القضاء على رجل في وسط المدينة المزدحمة بالناس … وسنُعرِّض أنفسنا لمشاكل مع الشرطة … فالقتلة الثلاثة ينزلون «بيروت» بأسماء مستعارةٍ طبعًا وفي شكل رجال أعمال في الغالب، وسنُقيم الدنيا ونُقعدها إذا قُتل واحد منهم، خاصةً وأننا ليس لدينا إثبات عن المهمة التي جاءوا من أجلها … وفي نفس الوقت ليس لدينا حماية من رقم «صفر»، بعد أن أصر على أن نبتعد عن الثلاثة تمامًا، وألَّا نُحاول الاصطدام بهم …
أحمد: معك كل الحق … فلْنراقب المزرعة القريبة من الديك الذهبي!
إلهام: ألا نستعين ببقية الشياطين؟
أحمد: ليس في هذه المرحلة!
عادت «إلهام» تسأل: ألا نُحيط رقم «صفر» علمًا بما حدث؟
أحمد: هذا ما أُفكِّر فيه … ولكني أخشى إذا علم بما حدث أن يطلب منا التوقُّف حتى لا نتدخَّل!
بو عمير: لا بأس أن نُخبره بوفاة «ش. ٢٨»، فهذه معلومات تُهمُّه!
أحمد: معقول … معقول جدًّا.
وصمت الأربعة لحظات ثم قال «عثمان»: إن مراقبة هؤلاء الثلاثة لن تكون مهمةً سهلة، ولا بد من وضع خطة معقولة … تُقرِّبنا منهم دون أن يُحسوا بنا!
أحمد: لقد فكَّرت في هذا أيضًا … وأعتقد أن وجود أربعة أشخاص على مقربة من مقر السفَّاحين الثلاثة سيُثير انتباههم … ومن الأفضل أن نُقسِّم أنفسنا إلى وحدتَين!
إلهام: ما رأيكم في التنكُّر؟
بو عمير: فكرةٌ جيدة.
إلهام: في إمكاني أن أصبح راعية غنم في هذا المكان الشاعري.
أحمد: وأنا معك!
والتفتت «إلهام» إلى «بو عمير» وقالت: وأنت و«عثمان» … ماذا ستفعلان؟
قال «بو عمير» مبتسمًا: دعي هذه المهمة لي أنا و«عثمان» … سنُفكِّر في شيء مبتكَر نقترب به من مقر الثلاثة … دون أن يشك واحد منهم فيما نفعل!
ونظر الأربعة بعضهم إلى بعض وابتسموا في رضًا.