راعيان في الجبل
أخذ «عثمان» بأصابع مدرَّبةٍ يجمع قطع الرادار الصغير … وبعد أقل من نصف ساعة كان الجهاز … وهو يعمل بالبطارية … يدور كأنه لعبةٌ في يد طفل … ويضيء أنواره كسيارةٍ صغيرة. ولم تمضِ لحظات حتى كان مؤشِّر الاستماع يُسجِّل وجود محادثة، وأخذ «عثمان» يستمع في اهتمام … وقد انعكس اهتمامه على «إلهام» و«أحمد» و«بو عمير».
ولم تمضِ سوى لحظات قليلة حتى أغلق «عثمان» الجهاز وقال: لقد كانت نهاية رسالة من شخص يُدعى «معلوف» … إنه يقول: لقد عثرنا على المكان … سأعاود الاتصال بكم في السادسة مساءً.
أخذ «أحمد» يُردِّد هذه الجملة: «لقد عثرنا على المكان … لقد عثرنا على المكان.»
ثم التفت إلى بقية الشياطين قائلًا: ماذا يقصد ﺑ «عثرنا على المكان» … هل يقصد المقر السري للشياطين؟ أم يقصد مكان رقم «صفر»؟
ردَّت «إلهام»: أعتقد أنه يقصد مكان رقم «صفر» … فإن مقر الشياطين في الأغلب معروف لهم من «ش. ٢٨».
أحمد: إنها رسالة في غاية الخطورة … ويجب أن نستمع إلى ما سيقوله «معلوف» لهم في السادسة.
بو عمير: من غير المعقول أن نبقى في هذا المكان حتى السادسة.
أحمد: لنبحث فورًا عن مسكنٍ قريب من هنا … وأعتقد أننا سنجد … فقد شاهدت قبل أن نصل إلى هنا … سيارةً تقف أمام أحد المنازل وحقائب كثيرةً تُنقل إليها … وأعتقد أن هناك سُكَّانًا يتركون مسكنهم.
إلهام: ولكن في ملابسنا هذه لن نتمكَّن من التقدُّم لاستئجار مسكن!
ابتسم «عثمان» وقال: لقد أوقفنا السيارة في مكان قريب، وبها ثياب عادية لي وﻟ «بو عمير».
أحمد: إنك تتصرَّف بشكلٍ ممتاز يا «عثمان» … لقد تحرَّكتَ حتى الآن بأسلوب رائع … أحضرتَ جهاز الرادار والملابس … والسيارة!
قال «عثمان» باكتئاب: إنني أبتسم، ولكن قلبي حزين. لا تنسوا أن «ش. ٢٨» كان أستاذي ولا بد من الانتقام له … وقد قرَّرت أن أعثر على هؤلاء القرود الثلاثة مهما كلفني الأمر.
إلهام: دون أن تندفع لارتكاب خطأ؛ فمشاعر الانتقام كثيرًا ما تجعل الشخص ينسى نفسه.
عثمان: إن عملنا ليس فيه مشاعر شخصية، ولكن كثيرًا ما تختلط المشاعر الشخصية بالعمل … ذلك رغم إرادتي.
أحمد: اذهب أنت و«بو عمير» فغيِّرا ملابسكما في السيارة … لتذهبا إلى المنزل الذي شاهدتُ السكان يخرجون منه خلف هذا المنحنى.
وأشار «أحمد» إلى المكان … وسرعان ما كان «بو عمير» و«عثمان» يتجهان إلى السيارة، وبقيت «إلهام» و«أحمد» يُراقبان الطريق إلى مسكن الأشرار الثلاثة، وبعد نصف ساعة وصلت سيارة تُشبه الميكروباس … أصغر قليلًا … مغلقة تمامًا. ولاحظت «إلهام» و«أحمد» أن لها «إيريال» غير عادي … ومضت السيارة تدور ثم اختفت خلف الأشجار والأعشاب.
قالت «إلهام»: إنها متجهةٌ إلى مقر القرود الثلاثة.
أحمد: سيارة غريبة!
إلهام: إن بها أجهزةُ غير عادية!
واستغرق كل منهما في أفكاره … ماذا تحمل السيارة؟ … وفي نفس الوقت إن هؤلاء القرود الثلاثة على أكبر جانب من الخطورة … ولا شك أن الشياطين لم يُقابلوا في حياتهم رجالًا أخطر ولا أهمَّ من هؤلاء الثلاثة … فكيف يكون الصِّدام؟ وكيف ينتهي؟
ولم يستمرَّ تفكيرهما طويلًا فقد ظهر «بو عمير» من بعيد يقود السيارة … وأطلق نفيرها ثلاث مرات بطريقة فهم منها «أحمد» و«إلهام» أن الطريق آمن، وعليهما أن يتجها إلى المنزل … قالت «إلهام» ضاحكة: أصبحت الخراف مشكلة … ماذا سنفعل بها؟
أحمد: إن المنزل الذي استأجرناه له حديقة خلفية … وسنضع الخراف فيها فقد نحتاج إليها فيما بعد.
وأخذا يقودان الخراف إلى اتجاه المنزل … وبعد أن راقبا الطريق فترةً حتى خلا من السيارات … دخلا المنزل بعد أن وضعا الخراف في الحديقة الخلفية.
كانت الفيلا التي استأجرها «عثمان» و«بو عمير» تقع على صخرة مرتفعة … تُحيط بها أشجار الأرز من كل جانب … وقد بُنيت بالأحجار كالقلعة … وقالت «إلهام» وهي تتجوَّل فيها: إن موقعها ممتاز، كيف استأجرتماها؟
ردَّ «بو عمير»: لحسن الحظ وجدنا المالك يستعد لمغادرتها وإغلاقها … ولم يستغرق الحديث معه سوى دقائق وقد دفعنا له ٢٠٠٠ ليرة إيجار لمدة شهر، وكان سعيدًا جدًّا.
إلهام: طبعًا … إنها لا تساوي أكثر من ١٥٠٠ ليرة!
أحمد: المهم أننا عثرنا عليها … ومهمتك الآن يا «عثمان» أن تذهب لإحضار ملابس لنا من المقر السري.
إلهام: من الأفضل أن يتصل ﺑ «سرور» ويُقابله في مكان قريب.
أحمد: معك حق، واطلب يا «عثمان» بعض الأسلحة الثقيلة.
وقام «عثمان» بالاتصال ﺑ «سرور» واتفقا على اللقاء عند كازينو «لبنان».
قضى الشياطين الأربعة بقية النهار جالسين في انتظار حلول الساعة السادسة … وقد خرج «أحمد» و«إلهام» بملابس الرعاة مرتَين لمراقبة مكان القرود الثلاثة، ولكنهما لم يحصلا على معلومات.
وقبل السادسة كان الرادار اللاسلكي الذي ثبَّتوه فوق الفيلا يدور في مختلِف الاتجاهات … وفي السادسة تمامًا بدأت شاشة الرادار تُسجل نقطًا متقاربة، وجهاز اللاسلكي المركب يستقبل رسالةً من أغرب ما سمعه الشياطين.
قال «معلوف» في رسالته: إن «مالمو» عبقري … فرقم «صفر» لم يُغادر لبنان نهائيًّا … فقد غادرها ليوم واحد ثم عاد في شكلٍ مختلف وباسم مختلف … فقد سمَّى نفسه «بريان فاسكو»، وهو يُقيم ظاهريًّا في فندق «كارلتون» حيث نزلنا فترة … ولكنه يستخدم مقرًّا سريًّا قرب البحر … سوف نتابعه مع زملائي فترةً حتى نُحدِّد مكانًا يتردَّد عليه … وموعدًا يوجد فيه … فلْيكن مستر «ون بولت» مستعدًّا، فقتل هذا الرجل مهمة صعبة … ولا بد من إصابته من أول مرة وإلَّا أفلت منا إلى الأبد … سأعاود الاتصال بين العاشرة ومنتصف الليل لأنني لا أعرف متى نجده مرةً أخرى.
أغلق «عثمان» جهاز الرادار اللاسلكي … وجلس الشياطين الأربعة صامتين … كانت الرسالة رهيبة … إن رقم «صفر» يُصارع وحده هؤلاء القرود الثلاثة، وإنهم عثروا عليه رغم محاولته الاختفاء … وإنهم حدَّدوا مكانه، وسيقع في أيديهم.
في هذه اللحظات الحاسمة ظهرت كفاءة الشياطين … وحسن تدريبهم، وذكاؤهم وشجاعتهم.
وقف «أحمد» وقال: سنخوض صراعًا رهيبًا حتى الموت مع هؤلاء القرود الثلاثة … اتصلي يا «إلهام» فورًا برقم ٣٣٣٠٣ واطلبي أن يلحق بنا هنا «فهد» و«باسم» و«زبيدة» … إنهم في مكان قريب … وسيصلون خلال ساعة.
ثم التفت إلى «بو عمير» وقال: سنخرج معًا بمجرَّد هبوط الظلام … سنُراقب من قريب مقر هؤلاء القرود … فلا يجب أن نتركهم يتحرَّكون إلَّا تحت مراقبتنا.
ثم التفت إلى «عثمان» وقال: أنت يا «عثمان» ستبقى هنا مع «إلهام». عليك أن تستمع إلى جهاز اللاسلكي في الموعد الذي حدَّده «معلوف».
وتمشَّى في الغرفة بضع خطوات ثم قال: كل سلاح عندنا مباح استخدامه … مدافع رشاشة، قنابل يدوية … أصابع ديناميت … يجب القضاء على هؤلاء الثلاثة وأعوانهم جميعًا … يجب ألَّا يبقى شخص واحد يعرف أسرار الشياطين اﻟ «١٣» والزعيم رقم «صفر». إن بقاء أي واحد فيهم حي معناه أننا سنظل مهدَّدين.
قامت «إلهام» بإعداد الشاي … وتناولوا بعض الساندويتشات … وعندما هبط الظلام تسلَّل «أحمد» و«بو عمير» خارجَين … وعند الباب الخارجي قابلوا «فهد» و«باسم» و«زبيدة»، وبعد أن تبادلوا السلام قال «أحمد»: سيروي لكم «عثمان» كل ما حدث … وإذا لم أعد أنا و«بو عمير» في منتصف الليل … فتصرَّفوا.
واختفيا في الظلام … سار في الطريق الرئيسي … ثم انحرفا ناحية أشجار الأرز الذي يختفي خلفها مقر القرود الثلاثة … ثم سارا في دائرة واسعة حتى لا يقتربا من مدخل المنزل مباشرة.
عندما وصلا إلى المنزل كانا خلفه تمامًا … ولاحظا أنه كالقلعة الحصينة … رغم الظلام … عرفا بخبرتهما أن هناك أجهزة أمن قويةً مبثوثة حول المنزل، تجعل الاقتراب منه شبه مستحيل.
اقتربا أكثر … وفجأةً قال «بو عمير» وهو يجذب يده إلى الوراء … «أحمد» … خذ حذرك!
كان «بو عمير» متقدِّمًا عن «أحمد» بضع خطوات، فتوقَّف «أحمد» مكانه، ولاحظ أن «بو عمير» يعود إلى الوراء بصعوبة وهو يلهث، ثم قال: هناك مجالٌ مغناطيسي قوي حول المنزل … لقد كاد يجذب المسدس من يدي … وأي محاولة لدخول المنزل بقوة السلاح مستحيلة.
أحمد: إن هؤلاء القرود الثلاثة من أخطر ما رأيت … ولكن هذا لن يمنعنا من أداء مهمَّتنا … سأترك لك أسلحتي كلها وسأتقدم بلا سلاح، وفي هذه الحالة لن يُؤثِّر فيَّ المجال المغناطيسي … فلا بد أن نعرف ماذا يحدث هناك.
تخلَّص «أحمد» من الأسلحة التي يحملها … ثم قال ﻟ «بو عمير»: أعتقد أن المجال المغناطيسي تُحدثه السيارة؛ فمن الواضح أنها سيارة غير عادية … وسأُحاول تعطيل هذا المجال.
بو عمير: هل ستتغيَّب طويلًا؟
أحمد: ليس أكثر من ربع ساعة. فإذا لم أعد … فإنني أخشى أن يتمكَّنوا من أسري، وسيقرأ «مالمو» أفكاري … وفي هذه الحالة عليكم تغيير مكانكم فورًا.
بو عمير: ولكن!
ولكن قبل أن يُتم جملته … تقدَّم «أحمد» في الظلام متجهًا إلى مقر القرود الثلاثة حيث كانت أضواء خفيفة تنبعث من بعض نوافذه.