تقديم
ينصبُّ البحث في هذا الكتاب على الفكر الإسلامي في مواجهته لمشكلات العصر، وهو لا يزعم أنَّه يستهدف استخلاص مفاهيم عصرية من المنابع الأصلية للفكر الإسلامي، وهي القرآن والسنة، بل إنَّه يرتكز على تحليل الطرق التي فهم بها المسلمون المعاصرون تلك المنابع الأصلية للعقيدة. والفرق بين الأمرَين على جانب كبير من الأهمية؛ ذلك لأننا نشهد كل يوم محاولاتٍ لتفسير الآيات والأحاديث على أنحاء تُتيح للمفسرين أن يهتدوا فيها إلى كشوف أو نظريات علمية حديثة، وإلى اتجاهات اجتماعية وسياسية عصرية، وإلى أهمِّ مبادئ التشريعات التي تنظِّم حياة الإنسان. غير أنَّ تعدُّد هذه التفسيرات وتناقُض الاتجاهات التي تُستخلَص منها، والتي يزعم كلٌّ منها أنَّه هو الذي يُعبِّر عن روح النَّص الأصلي، كل هذا كفيل بإقناعنا بعدم جدوى هذه المحاولات، وبأنَّها في حقيقتها مجادلات يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية دون أن تحسم أمرًا واحدًا.
ومن ثَم كانت دراسات هذا الكتاب تسعى إلى الارتكاز على أرض أكثر صلابة؛ إذ تُفسر الفكر الإسلامي بأنَّه الطريقة الفعلية التي فهم بها المسلمون المعاصرون عقيدتهم، فالفرق إذَن يكمن في أنَّنا لا نزعم أن أيَّ رأي نناقشه هو «رأي الإسلام»، وإنَّما نحن نقتصر على مناقشة «آراء المسلمين». ومن ثَم فإنَّنا نتجاوز كليَّةً مشكلة المفاضلة بين هذه الآراء، ونتجنب البحث فيما إذا كان هذا الرأي أو ذاك هو الأقرب إلى «روح الإسلام الحقيقية»، لأنَّ ما يُهِمُّنا هو أنَّ المسلمين في عصرنا الحاضر قد فهموا عقيدتهم على هذا النحو أو ذاك.
ويضمُّ هذا الكتاب دراساتٍ منها ما لم يُنشر من قبل، ومنها ما نُشر ولكنَّه لم يعد متاحًا للقارئ. وعلى الرغم من أنَّ هذه الدراسات قد كُتبَت على امتداد ستِّ سنوات، فإنَّها تؤلِّف وحدةً عضويةً متماسكة، تدور كلها حول موقف الفكر الإسلامي، أو على الأصحِّ فكر المسلمين، في مواجهته لمشكلات العصر. ولا شكَّ أنَّ البحوث التي تتناول الفكر العربي تدخل بدَورها في هذا الإطار، على أساس أنَّ العنصر الإسلامي شديد التداخل مع عناصر الفكر العربي، فضلًا عن أنَّه بغير شكٍّ أهمُّ مكوِّناته.
وقد صنَّفنا الدراسات التي يتضمنها هذا الكتاب إلى ثلاثة أبواب؛ يدور البحث في الباب الأول منها حول «إيقاع التاريخ والحضارة»، وهو يتناول بصورة رئيسية موقف الفكر الإسلامي من التاريخ وموقع أبعاد الزمان المختلفة من هذا الفكر. أمَّا الباب الثاني فتنصبُّ دراساته على مشكلات متعلقة بالواقع المعاصر، وتناقش مدى قدرة الفكر الإسلامي الحاضر على مواجهة مجموعة من قضايا العصر الأساسية. وأخيرًا، فإنَّ الباب الثالث يسعى إلى تصحيح بعض الأخطاء الشائعة في فكر مجموعات إسلامية كثيرة، ويناقش بعض المفاهيم والأفكار الباطلة التي أصبحَت تجري على الألسن كلما نُوقِشَت علاقة الإسلام بواحد من تيارات الفكر العالمي.
•••
وبعدُ، فإنَّ دراسات هذا الكتاب تُعالج موضوعًا شديد الحساسية، وتتبع في ذلك منهجًا غير تقليدي. وكل ما يطمح إليه الكتاب هو أن يساعد على فتح أبواب حوار رشيد ومتعقِّل حول هذا الموضوع، يتخطَّى أسوار التحريمات المتزمِّتة ويتجاوز مستوى الاتهامات الرخيصة بالهرطقة والتجديف. وإذا كان لمؤلِّف هذا الكتاب من أمنية، فهي ألَّا يلجأ المعترضون عليه — وهم قَطعًا كثيرون — إلى منهج «السُّلطة» في مناقشة آرائه، أعني ألَّا يضعوا أفكاره في مواجهة سُلطة النص، فهذا ميدان يعترف المؤلِّف بأنَّه غير مؤهَّل له، فضلًا عن أنَّه لن يؤدِّيَ إلَّا إلى مساجلات ومجادلات مدرسية لا تعرف نهايةً منطقيةً مُقنِعة. ومن هنا كان أقصى ما أتمناه هو أن تدور المناقشات والاعتراضات، مهما كان عنفها، في ساحة العقل والحجَّة المنطقية، وهي الساحة التي تتسع للجميع، ويمكن في داخلها تسوية كافة الخلافات، أو على الأقلِّ إلقاء أضواء كاشفة عليها، تُتيح لصاحب كل موقف أن يتبيَّن بوضوح ما يتفق فيه وما يختلف مع أصحاب المواقف الأخرى.
إنَّ هذا الكتاب موجَّه إلى عقول الناس، لا إلى عواطفهم. وسواء أكان هذا التوجُّه يُرضي البعض أم لا يُرضيه، فإنَّ كاتب هذه الكلمات يأمُل ألَّا يناقشه أحد إلَّا على الأرض التي اختار لنفسه أن يقف عليها.