الحضارة المصرية في العهد اللوبي
الدِّين
جرت السُّنة على أن تكون الديانة في أي قطر من أقطار العالم من أكبر المظاهر وأدلها على ما لهذا القطر من درجة في الرقي والحضارة؛ فقد بدأ الإنسان بعبادة الأجداد ومظاهر الطبيعة كلٌّ على حسب بيئته، ثم أخذت هذه المعبودات المتعددة تنكمش وتتبلور شيئًا فشيئًا، وكان من جراء ذلك أنْ قلَّ عدد هذه الآلهة، وأصبح لا يعبد منها إلا من كان عُبَّاده لهم نفوذ وسلطان على من جاورهم من الجماعات الأخرى المجاورة لهم، ومن ثم نشأ إله القرية ثم إله المدينة وأخيرًا إله المقاطعة.
وكانت مصر في بادئ أمرها تسير على هذا النظام من أول نشأتها عندما كان لكل مقاطعة إله يعبد فيها ويقدس، ولما اتحدت البلاد وأصبح اتحادها في بادئ الأمر ممثلًا في الوجه القبلي والوجه البحري كان إله كل من هذين القطرين هو المسيطر على الآلهة الآخرين في المقاطعات التي يتألف منها قطره، وأخيرًا عندما تمت وحدة البلاد على يد «مينا» كما يقال أصبح إله العاصمة هو الإله الأعظم في البلاد كلها، وقد كان وقتئذ إله العاصمة المحلي هو الإله «بتاح»، غير أن سيطرة هذا الإله لم تدم طويلًا؛ إذ بعد انتقال العاصمة إلى مكان آخر أصبح الإله المحلي للعاصمة الجديدة هو الإله الأعظم المسيطر على كل الآلهة الأخرى، وهكذا دواليك كلما اتخذ الملوك عاصمة جديدة أصبح إلهها المحلي هو إله الحكومة والإله العظيم للبلاد جميعًا. ومن الغريب أن هذه السُّنة قد بقيت مرعية ثابتة حتى أواخر العهد الفرعوني الأصيل. على أن ذلك لا يعني أن العقائد الدينية المصرية في الداخل لم تتغير وبقيت جامدة، بل على العكس نجد أنه قد حدثت تطورات في المظاهر الخارجية، وكذلك في التفكير الداخلي كان لهما أثرهما الفعال في أخلاق القوم ورقيهم الأدبي وسيرهم نحو فكرة الوحدانية التي طفر إليها «إخناتون» بعد أن مهد إليها السبيل أسلافه بعض الشيء. حقًّا، إن هذه الطفرة جاءت مبتسرة قبل أوانها؛ ولذلك ماتت في مهدها، غير أنها تركت أثرًا عميقًا في عقول المفكرين لا في عقول العامة الذين قالوا وقتئذ: إنا وجدنا آباءنا على دين وإنا على أثرهم لمقتدون.
- (١)
الإلهة «باستت»: هذه الإلهة ليس لها اسم قائم بذاته، بل مثلها كمثل بعض الآلهة، اشتق اسمها من المدينة التي تعبد فيها وهي «باست» (تل بسطة الحالية)، والاسم هنا يعني الخاصة ببلدة «باست»، وهذه الإلهة تعد ضمن مجموعة آلهة لها رأس أسد أو من فصيلة الأسد، وهذه الآلهة في العادة توحي بالفزع والخوف، غير أن بعضها يدل على الوداعة والسرور؛ فالإلهة «باخت» إلهة «بني حسن»، والإلهة «محيت» إلهة «طينة» القريبة من «العرابة المدفونة» لا تدلان على الفزع، بل كل منهما تعد إلهة الوادي الذي تسكنه. هذا، ونجد الإلهة «باخت» تسكن في الصحراء الغربية وتحرس الوادي، والإلهة «تفنوت» من جهة أخرى كانت في الأساطير إلهة رعب وفزع، ولكنها مع زوجها الإله «شو» إله الفضاء كان لها مظهر آخر وقصة طويلة مع زوجها.
ولدينا الإلهة «سخمت» القوية التي تُمثَّل بجسم إنسان ورأس لبؤة، وكانت تقطن «منف»، وكانت معروفة بأنها إلهة الحرب، ومثلها مثل الصل الملكي الذي ينفث النار في وجه الأعداء.
و«سخمت» هذه قد مثِّلت في صورة الإلهة «باستت» التي كانت أحيانًا برأس لبؤة، وأحيانًا برأس قطة، وربما يرجع السبب في ذلك إلى أنه كان من الصعب التفرقة بين هذين الرأسين في الفن المصري، غير أن التمييز بينهما كان في معظم الأحيان ممكنًا بوساطة المتون التي كانت تكتب مع كل، وذلك أن المصري كان يميز الإلهة «باستت» بأنها إلهة الفرح والسرور، وتنعت «سخمت» بأنها إلهة الحرب والدمار. والواقع أن «باستت» كان مثلها كمثل الإلهة «حتحور» إلهة الفرح والرقص والموسيقا، فكانت الأولى تمثَّل برأس قطة وبإحدى يديها الصاجات وتحمل بالأخرى سلة، على أنها كانت تظهر أحيانًا برأس لبؤة؛ مما يدل على أنها تكون إلهة قتال وفزع عند الحاجة.٣ذكرنا أن هذه الإلهة تنتسب إلى البلدة التي تعبد فيها وهي «بوبسطة»، فهي إذن كانت إلهة محلية، وقد علا شأنها وعظم سلطانها عندما اتخذ ملوك الأسرة الثانية والعشرين «بوبسطة» عاصمة لملكهم، فبُنِيَ لها معبد باسمها ومثِّلت في جميع أرجائه، وكان لها ثالوثها كما ذكرنا ذلك في مكانه، وحتى في العيد الثلاثيني الذي أقامه الملك «أوسركون الثاني» لنفسه نجد أن هذه الإلهة على الرغم من أنها لم تأخذ المكان الأول في الاحتفال بهذا العيد، فإنها كانت توجد في الرسوم في الأجزاء السفلى من جدران قاعة العيد، فنشاهد «أوسركون» يقدم لها الساعة المائية كما يقول «نافيل»، هذا إلى أنها تظهر في كل أطوار الاحتفال واقفة أمام الملك سواء أكان هو واقفًا أم قاعدًا، كأنها هي التي تدير كل عملية الاحتفال مُظهِرة أن كل شيء قد عُمِلَ تحت حمايتها.
وذكر «نافيل» أن العيد الثلاثيني الذي أقيم في «بوبسطة» كان خاصًّا بالملك، وليس له علاقة باجتماع «بوبسطة» الذي وصفه لنا «هيردوت»،٤ وهو الذي كان يعقد كل سنة. وعلى حسب نقوش «كانوبس»٥ كان يوجد اجتماعان كل سنة: الاجتماع الكبير، والاجتماع الصغير، وكان كل منهما يُحتَفل به في شهر بئونة، والعيد الثلاثيني للملك «أوسركون» لم يكن له أية علاقة خاصة بالإلهة «باستت» إلهة المدينة، إلا أنه من المحتمل إقامته في اليوم الأول من شهر كيهك، وذلك أن كل النتائج تدعو كيهك شهر «سخمت»، وهي أحد الأشكال التي تظهر بها الإلهة «باستت»، وربما كان ذلك صدفة. ومن كل ما سبق نجد أن الإلهة «باستت» لم تكن إلهة محلية وحسب، وأن شهرتها كانت بسبب اتخاذ «بوبسطة» عاصمة للملك، وأنه لما أقيم العيد الثلاثيني كان الإله «آمون» الذي كان الإله المسيطر في كل أنحاء القطر هو الذي يقوم بأعظم دور في هذا الحفل بوصفه الإله الأحد الفرد الصمد، أما الآلهة الآخرون فكانوا أتباعًا له وحسب. - (٢)
الإله «حرشف»: يجد الباحث في تاريخ الآلهة المصريين القدامى ارتباكًا في تمييز الآلهة التي مُثِّلث في صور حيوانات، فكما وجدنا صعوبة في تمييز الإلهة «سخمت» من الإلهة «باستت»، كذلك نجد صعوبة في تمييز الإله «حرشف» الذي كان يمثَّل في صورة كبش من الإله «آمون» رب «طيبة» أو الإله «خنوم» رب «الشلال».
فالإله «آمون» كان يتميز بالكبش المقدس الذي يمثله بقرنيه الملتويين الساقطين، أما الآلهة الأخرى التي تمثَّل في صورة كبش فكانت تمثِّل قرنيها متوازيين على رأس الحيوان، وبعيدين عن الرأس، ومع ذلك نقرأ أن الإغريق يميزون في الجنس الأخير بين التيس والكبش.
فمن بين الكباش الكبش الذي يمثل الإله «حرشف» الإله العظيم لبلدة «أهناسية المدينة»، ويعده عُبَّاده بمثابة إله عالمي؛ إذ يطلقون عليه ملك القطرين، وتعد عيناه بمثابة الشمس والقمر، ومن أنفه يخرج الهواء،٦ ويدل معنى اسمه «الذي على بحيرته» على أن معبده يوجد عند بحيرة، وهذا هو الواقع؛ لأن معبد الإله كان مقامًا عند مدخل الفيوم، حيث توجد بحيرة قارون.وترجع عبادة الآلهة التي لها رأس كبش مثل «حرشف» و«خنوم» وتيس «منديس» إلى الأزمان القديمة؛ إذ وجدت لوحة من الأسرة الأولى يمثَّل عليها كبش يقبض بيده على الصولجان «واس»،٧ وفي أثناء هذا الوقت كان الإله «حرشف» قد استوطن «أهناسية المدينة»،٨ وقد جاء ذكر هذا الإله على حجر «بالرمو».٩ ولدينا وثيقة من أوائل الأسرة الخامسة تُظهِر أن إقليم الشلال كان ضمن المراكز الرئيسية لعبادة الإله «خنوم».١٠ وفي أوائل الأسرة السادسة نعرف أن الكبش كان يعبد في «منديس»،١١ كل ذلك كان قبل أن يظهر «آمون»، وأنه ورث عنهما بعض الصفات. وعلى ذلك فإن من المهم لدينا أن نفهم أن محرابين من محاريب عبادة الكبش كان لهما علاقة بتدفق المياه، فكان «حرشف» في «أهناسية المدينة»، حيث تتدفق المياه في الفيوم، والإله «خنوم» كان عند «الشلال الأول»، حيث يتدفق الماء إلى مصر نفسها، وقد كان كل من «حرشف» و«خنوم» متصلًا أحدهما بالآخر، ولا أدل على ذلك من أنه عندما قسمت مقاطعة «شجرة نعر» قسمين: «نعر العليا» و«نعر السفلى»؛ أي المقاطعتان العشرون، والواحدة والعشرون، كان من نصيب «حرشف» «نعر العليا»، ومن نصيب «خنوم» «نعر السفلى» (راجع أقسام مصر الجغرافية للمؤلف ص٦٧-٦٨).واسم «حرشف» يدل على نفسه؛ أي «الذي على بحيرته»، واسم «خنوم» مشتق من كلمة معناها: «عين ماء» أو «بئر ماء» لا بمعنى «يوحد» أو «غنم»، ومن محاريبه الهامة المحراب الذي في «الفنتين»، حيث كان يوجد الماء الطاهر والأواني الأربعة، وفيما بعدُ كان في الكهوف التي يصب فيها إله النيل الماء في أوانيه. ولدينا قصة من الأسرة العشرين نجد فيها أن تيس «منديس» كان يعبد عند «الشلال الأول»؛ إذ ذُكر في هذه القصة أنه يسكن في جزيرة «سهيل» القريبة من «الفنتين» (راجع Gardiner, The Chester Beatty No. I. p. 15 Note 1). - (٣)
الإله «بتاح»: عندما استولى ملوك الأسرة الثانية والعشرين على زمام الأمور في البلاد لم يألوا جهدًا في أن يسيروا على نهج الملوك السالفين في عباداتهم ومناهجهم في إقامة المباني الدينية في أنحاء البلاد، وبخاصة أنهم كانوا يعلمون تمام العلم أنهم ليسوا من أصل مصري عريق، على الرغم من أنهم كانوا قد اتخذوا مصر موطنًا ثانيًا لهم وأصبحوا مصريين بمرور الزمن، وقد كان الآلهة السائدة عبادتهم في هذا الوقت هم آلهة العواصم الكبيرة في تلك الفترة، وأعني بذلك الإله «آمون» في «طيبة»، والإله «حرشف» في «هيركليوبوليس»، والإلهة «باستت» في «بوبسطة»، ثم الإله «بتاح» في «منف» العاصمة القديمة لمصر، وعلى رأس الكل «آمون». وقد تحدثنا عن عبادة «آمون» وعبادة «باستت» وكذلك عبادة «حرشف»، وبقي أن نتحدث عن عبادة الإله «بتاح» في «منف» في تلك الفترة.
والواقع أن اللوبيين عندما استولوا على زمام الأمور في مصر جعلوا منها مراكز حربية في جهات متفرقة؛ ليكونوا أصحاب النفوذ والقابضين على أعِنَّة الأمور إذا ما دعا داعٍ لقيام فتنة أو نشوب ثورة بين الأهلين، ومن أهم هذه المراكز التي كانت فيها حامية عظيمة للوبيين «منف» العاصمة العريقة في القدم لوادي النيل، وقد كان كما شرحنا من قبل الكاهن الأكبر لإله أي مركز من هذه المراكز الحربية هو في الوقت نفسه القائد الحربي من المشوش، وقد توارث وظيفة الكاهن الأكبر «لبتاح» سلسلة أفراد من أسرة المشوش حتى الفتح الكوشي.
وكذلك يقال: إنه قد عاش آبادًا لا حصر لها، أو إنه كان صاحب الأعياد الثلاثينية؛ ولذلك كان كل ملك يعد نفسه صورة منه؛ لأنه هو الملك صاحب الحكم الطويل، وعلى ذلك كان لا بد من قيام الإله «بتاح» بدور في الأعياد الثلاثينية التي كان يحتفل بها ملوك مصر مدة حياتهم كما تحدثنا عن ذلك من قبل.
هذا، ويُلحَظ أنه كان يُعبَد في منطقة «منف» إله آخر يدعى «سكر» يمثَّل بجسم إنسان ورأس صقر، وهو إله الموتى، وعندما عظمت عبادة «بتاح» في منف طغى على «سكر» هذا وأخذ كل صفاته وأصبح يدعى «بتاح-سكر»، وربما كان هذا هو السبب الذي جعل «بتاح» يمثَّل في صورة مومية تقريبًا. وقد زاد الطين بلة أن «أوزير» أصبح هو إله الموتى الوحيد، فامتزج اسمه باسم إله الموتى «سكر» في هذه الجهة، وأصبح يدعى «أوزير سكر»، فلم يقبل عُبَّاد «بتاح» في «منف» ذلك على ما يظهر، وبخاصة أن إلههم «بتاح» كان قد ضم إليه «سكر» وأصبح بذلك إله الموتى بالاشتراك مع «سكر»، وعلى ذلك مزجوا الآلهة الثلاثة معًا بوصفهم إلهًا واحدًا للموتى وسموه «بتاح-سكرأوزير».
والإله «بتاح» هو ثالث لثلاثة في منف يتألف منهم ثالوث إلهي كما هي الحال في كل المدن العظيمة المصرية التي كان فيها ثالوث، والآلهة الذين يتألف منهم ثالوث «منف» هم: «بتاح»، وزوجه «سخمت» إلهة الحرب، ثم الابن وهو «نفرتم». وتُمَثَّلُ «سخمت» في صورة لبؤة، أما «نفرتم» فيمثَّل في صورة شاب صغير يرتدي على رأسه زهرة البشنين.
وقد كان الإله «بتاح» من الآلهة البارزين في كل عهود التاريخ المصري، وكانت تحبس عليه الأوقاف الكثيرة في عهد الدولة الحديثة هو و«آمون» و«رع» كما تحدثنا عن ذلك من قبل.
ويرجع السبب في ذلك إلى أنه كان إله عاصمة البلاد الرئيسي، ومن أجل ذلك نشأ له لاهوت خاص ينسب إليه خلق آتوم نفسه وكل الآلهة، وسنتحدث عنه عندما نتحدث عن الوثيقة الخاصة به في عهد الملك «شباكا» السوداني في عهد الأسرة الخامسة والعشرين.
الوحي
تدل النقوش التي وصلت إلينا من العهد الفرعوني حتى الآن عن الوحي الإلهي أنه كان يقوم بدور هام في تسيير الأمور في البلاد من الوجهتين: الاجتماعية، والسياسية، والظاهر من المتون التي في أيدينا يدل على أن الذين كانوا يقومون بالدور الهام في توجيه هذه الأبحاث التي كان يدلي بها الإله هم الكهنة، وقد تدرج استعمال الوحي منذ الأسرة الثامنة عشرة فاتُّخِذ أولًا أداة لتنصيب الفرعون على عرش البلاد، ثم انحدر إلى تعيين رئيس الكهنة فكبار الموظفين في المعبد، ثم انتقل بعد ذلك إلى الإفادة منه في الكشف عن السرقات والفصل في الخصومات التي كانت تُرتكَب بين أفراد عامة الشعب، وحتى في المعاملات كتقدير أثمان سلع البيع والشراء. وكانت كلمة الوحي هي العليا حتى فوق أحكام المجالس المحلية التي كانت تقضي في شكاوى الشعب وحقوقهم، وقد رأينا أن الإله «آمون» هو الذي كان يفصل في هذه الأمور عامة في التاريخ المصري منذ الأسرة الثامنة عشرة، وقد أخذت قوته تعظم منذ حكم ملوك هذه الأسرة تبعًا لازدياد نفوذ كهنته في البلاد، حتى انتهى الأمر إلى أن أصبح في عهد الأسرة الواحدة والعشرين هو المسيطر على مصالح الشعب والحاكم المطلق في مصائرهم وأقدارهم، وأطلق عليه كهنة هذه الأسرة ملك البلاد، وكان الكاهن الأكبر وقتئذ آلة لتنفيذ أحكام هذا الإله كما زعم الكهنة.
ولما كان الإله «آمون» هو القاضي الأعلى في البلاد؛ فلم يكن في استطاعة تمثاله في معبد «آمون» الرئيسي أن يفصل في كل قضايا الشعب في كل أنحاء البلاد؛ ولذلك نجد أن كل بلدة أو قرية أو حي من أحياء مدينة «طيبة» أو غيرها من البلدان العظيمة له تمثال خاص «بآمون»، وكان هذا التمثال يحمل اسمًا خاصًّا يميزه عن تماثيل الجهات الأخرى، وإليه كان يأتي المتظلمون في خلال الأحفال والأعياد التي كانت تقام له، ويبثون إليه شكاياتهم، ومن ثم كانت للكهنة مكانة عظيمة وسلطان قوي على سكان البلاد؛ مما أدى إلى جمع السلطة في أيديهم في نهاية الأمر، وأصبحوا بوساطة إلههم «آمون» الأعظم الحكام الحقيقيين لمصر العليا، وأحيانًا لمصر كلها ريفها وصعيدها، ولم يشترك في هذه السلطة الدينية مع الإله «آمون» إله آخر من الآلهة المصريين إلا الملك المؤلَّه «أمنحتب الأول» الذي كان صاحب السلطان في مدينة العمال «بطيبة الغربية»، وقد تحدثنا عن مكانة الإله في غير هذا المكان من حيث الوحي وغيره. والمطَّلع على تاريخ الوحي في الأمم الأخرى يجد أنه كان لكل أمة طريقة في نزول الوحي الإلهي، ولسنا نعرف أمة سبقت مصر في هذا الاتجاه، بل كل الأحوال تدل على أنه كان لها قصب السبق في هذا المضمار، ثم ظهر في البلاد الأخرى المجاورة، فنعلم بوجوده في فلسطين، وفي بلاد اليونان، ثم في بلاد العرب؛ إذ كان «محمد» — عليه الصلاة والسلام — يتلقى تعاليمه الدينية ورسالته عن طريق الوحي بوساطة الملاك «جبريل» الذي كان يُنَزِّل عليه القرآنَ الشريف تنزيلًا، وسنتحدث أولًا عن طريق تبليغ الوحي في مصر، ثم نشير إلى ما كان يوجد من فروق بينه وبين وحي الأمم الأخرى.
والواقع أنه لدينا عدة وثائق هامة عن الوحي في العصر الفرعوني، وقد تحدثنا عن الكثير منها في هذا الجزء من مصر القديمة [راجع الأسرة الثانية والعشرين الفرعون شيشنق الأول].
وهذه المتون على الرغم من أنها تضع أمامنا الأسئلة والأجوبة التي كانت تقدم للإله؛ فإننا من وقت لآخر نجد في ثناياها بعض معلومات ضئيلة عن الطريقة التي كانت تُتَّبَع في عرض الأمور التي طُلِبَ الإجابة عليها، وعن الطريقة التي كان يجيب بها الإله.
وهذه الطلبات المكتوبة التي كانت تُطْلَب من الإله الإجابة عنها كانت لا بد تحدث كثيرًا على حسب ما يمكن فهمه من الأمثلة القليلة التي وصلت إلينا.
تفاصيل عن كل سرقة ارتكبت ضدي بوساطة العامل «نختموت»
لقد ذهبوا إلى بيتي وأخذوا رغيفين كبيرين، وثلاثة أرغفة منوعة، وأهرقوا عطوري، وفتحوا مخزن حنطتي، وسلبوا قطعة قصدير، وذهبوا إلى مخزن المرفأ وسلبوا نصف الخبز — كرشتو الخاص بأمس، وأهرقوا زيت نحح.
وفي الشهر الثالث من فصل الصيف، اليوم الثالث عشر، في أثناء الاحتفال بطلعة الملك «أمنحتب»، ذهبوا إلى المخزن وسلبوا ثلاثة أرغفة (عقو) كبيرة، وثمانية أرغفة (سعب)، وفطيرة «رحو»، وقعب نبيذ، وفتحوا مكيال جعة (بزقت) كانت موضوعة على الماء (لتبقى باردة؟) عندما كنت في بيت «خن» والدي، فاعمل يا سيدي على أن ترد لي كل خسارتي.
والجملة الأخيرة تدل صراحة على أن هذه كانت شكاية صريحة وضعت أمام تمثال العبادة الخاص بالملك المؤلَّه «أمنحتب الأول».
وواضح أن الشاكي كان تاجرًا له مخزن على مرفأ غربي «طيبة»، ويحتمل كذلك أنه كان يملك محل تجارة في «طيبة» الغربية نفسها، وقد سُرِقَ متجره ومخزنه بوساطة «نختموت» وعصابته. وحدث بعد ذلك أنه في مناسبة عيد «أمنحتب» الذي كان يجتمع فيه كل سكان «طيبة الغربية»، وكان الشاكي بين هذه الجموع، وهو يراقب أو يشترك في حفل هذا الإله المحبوب؛ أن اقتحم اللصوص باب مخزنه الذي ربما كان متصلًا بمنزله، وقد ذكر الشاكي أنه كان في بيت والده في اجتماع أسري كان قد عُقِدَ هناك بمناسبة هذا العيد، وبعد انتهاء الاحتفال عاد المحتفلون به لإقامة الولائم في بيوتهم، وقد وجد الشاكي بيته ومخزنه قد سطا اللصوص عليهما، وسلبوا متاعه السالف الذكر؛ ولذلك جاء يطلب النَّصَفَة من تمثال الإله بالكشف عن السارق.
تعالَ إليَّ يا سيدي، لقد بدأت والدتي وأخواتي جميعًا الشجار معي قائلة (والدتها): لقد أعطيتك نصيبين من النحاس كان قد أعطاهما إياي والدي، ويحتويان على سخان وموسى وإناءين «نو»، وكان الكاتب «بنتاور» هو الذي أعطانيها، وقد أخذتها مني واشترت (٦) مرآة بالقيمة التي قدرتها لها (أي للأم وللإخوة)، ويبلغ ذلك مائة دبن (٧) وقد أعطاني والدي خمس حقائب من الحنطة، وحقيبتين من الشعير، وكانت ملك زوجي (أي هذه الأشياء) مدة سبع سنين، ولم يتسلم (من ثمنها) إلا أربع حقائب حنطة، وأنهما رجل وامرأة (وعلى ذلك تسلمت نصيبين وهما لي ولوالدتي).
ويلاحَظ أن هذه الوثيقة تختلف عن الوثائق الأخرى الخاصة بالوحي التي لا نجد فيها إلا ذكر حوادث مضت يقصها الكاتب، على حين أن في الوثيقة التي نحن بصددها نجد الشاكي يقدم لنا شكايته كما نطق بها هو، وبذلك نراه يقول في البداية: «يا سيدي» مخاطبًا الإله مباشرة، ويُفهَم أن المتحدث هنا امرأة.
والواقع أن هذا المتن مبهم المعنى، ولا يمكن حله بطريقة مفهومة تمامًا، ويمكن محاولة تلخيصه كالآتي مع التحفظ التام: وذلك أن والدة المدعية وأولادها تدعي أنها أعطت بنتها على ما يظهر بمناسبة زواجها نصيبين من النحاس بمثابة مهر، ومع ذلك فإن المدعية تقول: إن هذين النصيبين ليسا من والدتها ولكن من والدها، وإن الكاتب «بنتاور» — وهو موظف رسمي — قد قام بتدوين نقل هذه الملكية، وعلى الرغم من ذلك استولت الأم على الأشياء التي يتألف منها هذان النصيبان: مرآة يقدر ثمنها بالمبلغ الذي حددته المدعية وهو مائة دبن، ومن جهة أخرى تسلمت المدعية من والدها دخلًا مقداره خمس حقائب حنطة، وحقيبتان من الشعير، وهو ما كان يخص زوجها، غير أنه لم يتسلم إلا أربع حقائب وأنها لرجل وامرأة؛ أي هي وزوجها، وبهذه الكيفية يكون ما تسلمته هو نصيبان لها ولأمها.
- (١)
هل سيعين «سبتي» كاهنًا؟
- (٢)
هل هو الذي سرق هذه الحصيرة؟
- (٣)
هل أناس المقبرة الملكية سرقوها؟ (أي الأشياء).
- (٤)
يا سيدي الطيب! هل ستعطي الجرايات؟
- (٥)
يا سيدي الطيب، إنه قال ذلك حقيقة.
ويدل كل ما لدينا من وثائق عن الوحي على أن هذه الاستعلامات لم تكن خطابات ترسل للإله، بل كانت إما أسئلة أو ذكر بيانات وحسب.
- (١)
خطاب موجه للإله في صيغة المنادي، أو كانت توجه في صيغة بيان وحسب، وقد ذكرنا حالتين في اللغة المصرية جاءتانا في صيغة المنادي: «يا سيدي الطيب».
- (٢)
يكون السؤال نفسه مباشرًا أو غير مباشر، (في حين أنه في العهد المصري تكون صيغة الإثبات أو صيغة الأمر، وهما الحالتان اللتان نجدهما كثيرًا).
- (٣)
ذكر صلاة أو دعاء مثل: «اكشف لي يا إلهي عن ذلك» أو ما يشبه هذا التعبير، وهذا مالم نجده قط في الاستراكا الصغيرة التي تحدث عنها «شرني» إلا في حالة واحدة.
أما العصور الأقدم من هذا العصر أو بعبارة أخرى العصر الذي تنسب إليه الاستراكا الصغيرة التي نحن بصددها؛ أي عصر الأسرتين: التاسعة عشرة، والعشرين؛ فكانت الطريقة لا بد مختلفة؛ إذ لم نجد في متون الاستراكا أي: جواب أجاب به الإله؛ لأن هذه في الواقع ليست أسئلة حقيقية، بل مجرد ذكر وقائع أو أوامر، وهي بهذه الكيفية كانت لا تتطلب بالضبط جوابًا. هذا فضلًا عن أن المتون الخاصة بالوحي — ولدينا عدد لا بأس به منها — لا تتحدث عن طريقة كالتي ذكرها المؤرخ «شوبارت»؛ إذ كان من الصعب أن يحدث مثل ذلك خلال الأحفال التي كان يظهر فيها الآلهة، وهي اللحظة التي كانت تعد الوقت المناسب إن لم تكن الوقت الوحيد الذي يَعرض فيه المتظلمون شكاياتهم للفصل فيها حالًا، ولا شك في أن جواب الإله كان يأتي في الحال بعد وضع السؤال مباشرة على حسب المتون التي بين أيدينا.
وكذلك عندما نقرأ في نقوش الكاهن الأكبر «بينوزم» أنه قد وُضِعَتْ أمام الإله وثيقتان مكتوبتان، وأن الإله قد أجاب بأخذ إحداهما؛ فإنه ليس من حقنا أن نفرض أن التمثال قد أخذها في يده؛ إذ إن الفعل «أخذ» هنا في اللغة المصرية يدل على معنى مجازي، وهو على ما يُظَنُّ يختار، وليس لدينا ما يدل على كيفية هذا الاختيار.
وقد ذكرنا من قبل أن الرفض قد يعبَّر عنه بالرجوع إلى الوراء أو التقهقر إلى الوراء؛ أي إن الإله قد تقهقر من الفكرة المعروضة أمامه.
ونقوش الكاهن «بينوزم» الثاني هامة بالنسبة لموضوع الوحي وما يوحَى به إما بالقبول أو بالرفض، وذلك أننا نجد فيها عند الاستشارة في موضوع الموظف الكبير «تحتمس» وللحكم عليه إذا كان مذنبًا أو بريئًا أنه وُضِعَ أمام تمثال الإله وثيقتان مكتوبتان: إحداهما ذُكر فيها أنه بريء مما نسب إليه، والثانية أنه غير بريء مما نسب إليه، وأن الإله كان في يده أن يفصل في أيهما تدل على الحقيقة. وقد لا يكون الحكم بين شيئين وحسب بل قد يكون بين عدة أشياء (كما ذكر من قبل).
- (١) السؤال والجواب: هل سأتزوج؟ هل لا أتزوج؟
- (٢) بيان: سأتزوج لن أتزوج.
- (٣) أمر: تزوج لا تتزوج.
وبعد ذلك كانت توضع استراكونان على الأرض أمام التمثال الإلهي الذي كان يُحمَل على أعناق الكهنة في أثناء الاحتفال به، وكان كل من الاستراكونين على أحد جانبي الطريق التي يمر بها التمثال، وكان التمثال يجيب عند الاقتراب من الواحدة أو الأخرى، أو كانت توضع الاستراكون التي تدل على الإجابة بالموافقة أمام موكب تمثال الإله، والتي تدل على الرفض خلفه، وكان التمثال عندما يتقدم ينتخب الوثيقة التي تدل على الموافقة (هثن) أو التي تدل على الرفض (نعي-ن-حا).
والواقع أن الآلهة كانت تشترك في حياة الشعب المصري القديم اشتراكًا وثيقًا؛ فقد كانت لا تمر حادثة إلا رأيت تأثير الآلهة أو إرادتهم فيها، وبخاصة مع الآلهة المحليين، وقد كان ضمن العادات الدنيوية الشائعة عند عامة الشعب أن يستشيروا الآلهة قبل القيام بعملٍ ما، وبخاصة في عهد الدولة الحديثة كما قلنا من قبل.
وقد كان الآلهة يجيبون عن طلبات استشارات القوم بطرق مختلفة ذكرنا منها الكثير، وكانت إما بالكهنة، أو كان الإله يجيب شخصيًّا، وهذا ما أثر تأثيرًا كبيرًا في المتدينين منهم، وكان يحدث أحيانًا أن يجيب الإله عن سؤال وضع له عن أحلام رآها السائل في نومه، وكان تفسيرها بالإجابة عن السؤال بإحدى الطرق السابقة، أو بالتكلم بصوت خفي سري، إما في الغابات أو في الصحراء، وهو ما يعبر عنه بالهاتف، وكانت تماثيل الإله المقامة أحيانًا في المعابد تقوم بعمل حركات غير منتظرة، وذلك برفع اليد، أو تحريك الرأس كما ذكرنا من قبل، وغير ذلك من الحركات التي كان يخترعها الكهنة.
وقد كان الكهنة هم دائمًا المترجمون لإرادة الآلهة، بل كانوا أحيانًا هم الممثلون والمنظمون لهذا العمل الإلهي، وكان القوم يعلمون ذلك، ومع هذا فإن ذلك لم ينقص من قيمة الوحي أو قوته في أعين المتدينين من الشعب.
وقد كان الكهنة أحيانًا يرتدون أشياء تُصَوِّرُهُمْ بصور الآلهة، وبخاصة الرءوس المستعارة التي كانت تصورهم في صور الآلهة الذين كانوا يمثَّلون بصور حيوانات؛ فلدينا في معبد «دندرة» لوحتان غريبتان في بابهما: الأولى نشاهد عليها رجلًا راكعًا على تمساحين، قابضًا بإحدى يديه على عقرب من الذنب، وتدل نسبة الرسم بين الرجل وهذه الحيوانات على أن الأخيرة كانت صناعية، ويلاحظ في الصورة أن رأس الرجل يغطيه وجه مستعار يمثل الإله «حور» أي: الصقر وعلى كتفيه جناحا هذا الإله، وعلى ذلك فهو يمثل الإله «حور» على التمساحين. أما اللوحة الثانية فتمثل كاهنًا واقفًا يغطي رأسَه حتى الكتفين برأس مستعار يمثِّل رأس الإله «أنوبيس» (ابن آوى)، ويوجد في متحف «برلين» «هلدزهيم» في أواسط ألمانيا رأس مستعار مماثل للسابق مصنوع من الطين المحروق، وكذلك يوجد في متحف «اللوفر» بالقسم المصري وجه مستعار من الخشب يمثل رأس «أنوبيس» (ابن آوى)، ويلاحَظ أن فكه متحرك، وهذه الخاصية تسمح للكاهن أن يحرك فكه، وبذلك كان يقلد الإله «أنوبيس» متكلمًا من وراء ستار.
والواقع أننا لا نعرف على وجه التأكيد الاستعمال العادي للوجوه المستعارة التي من هذا الصنف، ولكن يمكننا أن نفرض أنها كانت تستعمل في الأحفال وإقامة الشعائر الدينية.
ويلاحَظ أن عدد الكهنة والكاهنات الذين كانوا يلبسون هذا الرأس المستعار كان كبيرًا في عهد أواخر الدولة الحديثة، وقد ازداد هذا العدد في عهد البطالمة والرومان، ولم تكن كل التماثيل لها ميزة الإجابة عن أسئلة المتدينين الذين يستشيرونهم، بل كان ذلك قاصرًا على التماثيل التي صُنِعَتْ بخاصة لهذا الغرض؛ فقد كان بعضها يُصنَع ومعه آلات خاصة يستعملها الكهنة، وذلك بتحريك عضو من أعضائها كانحناء الرأس وغير ذلك. ولدينا في متن لوحة «بختان» جملة غريبة في بابها، حيث نجد أن الفرعون يخاطب تمثال الإله «خنسو»، ويطلب إليه أن يدير رأسه نحو«بختان»، وقد وافق الإله على ذلك بهز رأسه بقوة مرتين.
يأيها الثور العظيم، إن مكانتك تعظم بصوتي، وإنك تتحرك على حسب كلامي، وإن قلبي راض لأنك تأتي.
وفي عهد الدولة الحديثة نجد الملكة «حتشبسوت» قبل أن ترسل بعثها إلى بلاد «بنت» للبحث عن الروائح العطرية والبخور استشارت وحي الإله «آمون» في «طيبة»، وبعد أن أجابها الإله بالقبول أمرت بسفر البعثة. ونعلم كذلك أن الإله «آمون» قد أوحى بأن يكون «تحتمس الثالث» خلفًا لوالده «تحتمس الثاني» على عرش الملك، وذلك بوساطة أمر أصدره الإله من «فمه في نفس المحراب».
وقد ذكرنا من قبل أن الكاهن الأكبر لآمون المسمى «نبوننف» قد انتُخب بوساطة الوحي في غيابه؛ ليكون الكاهن الأكبر «لآمون»، وقد انتخبه الإله «آمون» نفسه (راجع مصر القديمة الجزء السادس).
وقد كان الوحي بوصفه صوتًا إلهيًّا يلعب دورًا خطيرًا في انتخاب الملوك والكهنة العظام والقضاة، لا في مصر وحدها بل كذلك عند بني إسرائيل واليونان، كما يقص علينا ذلك كثير من الكتاب الأقدمين.
أما عن بني إسرائيل فلدينا متن معروف يقص علينا كيفية تعيين أول ملك وطني إسرائيلي (راجع سفر «الملوك الأول» الفصل العاشر سطر ١٧–٢٤) وهاك نصه: «ثم إن صموئيل استدعى الشعب إلى الحرب في المصفاة (١٨) وقال لبني إسرائيل: قد قال الرب إله إسرائيل: أنا الذي أخرج إسرائيل من مصر وأنقذكم من أيدي المصريين ومن أيدي جميع الممالك التي ضايقتكم، (١٩) وأنتم اليوم قد رفضتم إلهكم الذي هو مخلِّصكم من جميع ويلاتكم وشدائدكم، وقلتم له: أقم علينا ملكًا. فقفوا الآن أمام الرب على حسب أسباطكم وعشائركم. (٢٠) ثم قدم صموئيل جميع أسباط إسرائيل، فأخذ سبط بنيامين (٢١) ثم قدم سبط بنيامين بعشائره فأُخذت عشيرة مطري، وأُخذ شارل بن قيس فطلبوه فلم يوجد، (٢٢) فسألوا الرب أيضًا: هل أتى الرجل إلى هنا؟ فقال الرب: هو ذا قد اختبأ بين الأمتعة، (٢٣) وأسرعوا وخذوه من هناك. فوقف الشعب فإذا هو يزيد طولًا على الشعب كافة من كتفه فما فوق، (٢٤) فقال صموئيل لجميع الشعب: أرأيتم أن الذي اختاره الرب لا نظير له في جميع الشعب؟ فهتف الشعب كله وقالوا: يحيا الملك.»
وهذا المتن على حسب قول بعض المؤرخين يحمل في طياته الخروج على نظام الملكية الغاشمة؛ إذ إن ما جاء فيه يدل على أن الملك في هذه الحالة قد انتُخب بتدخل الوحي على نظام الاقتراع. والواقع أن نظام الرجوع إلى الوحي بطريقة الاقتراع (البخت) كان نظامًا عاديًّا، وقد استمر يُعمَل به عند الإسرائيليين في عهودهم المتأخرة، غير أن الأستاذ «لدز» يميل إلى القول بأن نظام انتخاب الملك في «إسرائيل» كان وراثيًّا في الأسرة الحاكمة حتى عهد «شاوول».
ولا شك في أن كثيرًا من الأمم القديمة قد استعمل نظام الوحي بالاقتراع عند تعيين حكامهم، وأحسن حالات معروفة لنا تاريخيًّا في انتخاب كبار الموظفين في مصر القديمة الكاهن «نب وننف» الذي تحدثنا عنه فيما سبق.
وقد أظهر الأستاذ «مسبرو» أسفه لعدم وجود تمثال متكلم من التي كانت تتحدث إلينا بالوحي حتى زمنه، ولكن لحسن الحظ قد وُجد حديثًا عند أحد تجار الآثار تمثال نصفي يغلب على الظن أنه كان من الصنف الذي يبحث عنه «مسبرو»، وهو يمثل الإله «رع حور ماخيس» في صورة إنسان برأس صقر، ويوجد في ظهره حفرة ليمكن تثبيته في الحائط كما قال بائعه، ويبلغ ارتفاعه ٥١ سنتيمترًا، وعرضه ٤٤ سنتيمترًا، وسمكه حوالي ١٧ سنتيمترًا، ويلبس التمثال قميصًا وعباءة ملكية ذات ثنيات، ويشاهَد على التمثال بقايا ألوان، فنشاهد بعض اللون الأحمر على الوجه، واللون الأزرق على الإكليل والعباءة، ويحلِّي رأسَ الإله تاجٌ إمبراطوري من أوراق البلوط عليه تاج صغير مزدوج لملك الوجه القبلي والوجه البحري، وخلف الرأس يسطع إكليل ثور عظيم، وقد نُقِشَ ظهر التمثال بإتقان؛ فقد حُفِرَ عليه من ارتفاع القفا حفرة بيضية حافتها العليا على مسافة ثلاثين سنتيمترًا من قاعدة التمثال، والحافة السفلية على مسافة ٢١ سنتيمترًا، وارتفاع الحفرة ٠٫٠٩ من المتر، وعرضها ٠٫٠٨ من المتر، وعمقها عشرة سنتيمترات.
ويوجد في هذه الحفرة من الجهة اليمنى قناة ضيقة مساحتها ٠٫٠١٥م × ٠٫٠١م، وطولها ٠٫٠٢ من المتر، وتنتهي بالضبط تحت الأذن اليمنى للإله بفتحة بيضية تقريبًا، وهذا الفتحة الصغيرة لا تُرى إذا نظر الإنسان للتمثال من وجهه.
والظاهر أن هذا التمثال النصفي كان يوضع في قديم الزمان على قاعدة مرتفعة، والواقع أن أسفل التمثال مسطح تمامًا؛ مما يدل على ذلك.
وإذا كان الكاهن — الذي كان يقعد خلف التمثال مختفيًا وراء التاج العظيم وجسم التمثال ولذلك لا يراه أحد — يقرِّب فاه من الحفرة ويتحدث، فإن صوته الذي تتغير نبراته كان يرن من الفتحة الصغيرة حتى يخيل للسامع أن التمثال نفسه هو الذي يتكلم.
هذا، وقد وافتنا الكشوف الحديثة بطريقة أخرى عن كيفية إبلاغ الوحي، وذلك أنه عُثر في «كوم وسط» (مركز المحمودية مديرية البحيرة) على قاعدة تمثال وجزء من نفق مصنوع من البرنز متصل بهذه القاعدة، وهذا النفق مؤلف من جزءين: قاعدة، وغطاء. وأحرف القاعدة متجهة إلى أعلى من كل جهة إلى ارتفاع ٤٫٦سم مكوِّنةً بذلك حواجز يبلغ ارتفاعها ١٧٫٧سم، ويلاحظ أن أحد أطراف النفق قد أُعِدَّ ليُرَكَّبَ في أحد طرفي القاعدة بواسطة مسمار، وهذا الطرف كان سليمًا، والطرف الآخر كان مهشمًا بعض الشئ، أما قاعدة التمثال فيبلغ طولها ٥٨سم، وعرضها ٢٤سم، وارتفاعها ٢٦سم، وتحتوي على ثقوب؛ مما يدل على أنه كان فيها مسامير لوصل النفق بها، وفي أعلى القاعدة توجد أربع حفر لتثبيت أقدام حيوان من ذوات الأربع، ويحتمل أنه كان ثورًا. وتدل الصورة التي أُخذت بعد كشف هذا الأثر مباشرةً أنه كان موضوعًا على الأرض على رقعة من الحجر الجيري، وهذا النفق لا بد كان مخفيًّا تحت الأرض. أما تاريخ هذا التمثال فنعرفه من الآجُرِّ المحروق الذي كانت مبنية به الحجرة التي وجد فيها، وبعبارة أخرى يرجع إلى العصر المتأخر من عهد البطالمة أو العصر الروماني المصري.
وليس لدينا أي تفسير معقول لوجود قاعدة هذا التمثال والنفق المتصل بها؛ إلا أن هذا الأثر كان خاصًّا بالوحي، وذلك أن أصحاب الحاجات الذين كانوا يأتون بقرباتهم ليقدموها أمام تمثال الحيوان المقدس، ويطلبون إليه إجابتهم عن أسئلتهم كانوا يتلقون الإجابة بأصوات، ويحتمل أنها كانت كلمات تخترق النفق، يقولها كاهن يقعد بعيدًا عن النظر عند الطرف الآخر من النفق. هذا، وقد تحدثنا عن الوحي في منظر على أحد جدران معبد المدامود، وقد ظهر فيه قاعدة تمثال بالضبط كالتي نحن بصددها يقف عليها ثور وأمامه إمبراطور روماني يقدَّم له القربان، غير أنه ليس لدينا معلومات عن مكان الوحي في معبد المدامود؛ ولذلك لا نعلم إذا كان يستعمل مثل الأثر الذي نحن بصدده الآن.
ومما سبق يمكن القول بأن «كوم الوسط» قد قدَّم لنا للمرة الأولى تفسيرًا للطريقة التي يمكن أن يجعل بها التمثال يجيب عن أسئلة توضع له.
وقد كان هذا الموضوع مثار بحث وتفكير دائم، وقد اقتُرِحَت عدة اقتراحات مختلفة بعضها مستحيل وبعضها مقبول كما سبقت الإشارة إلى ذلك.