الديانة
لا نزاع في أن أعظم إنتاج قدمه العبرانيون للعالم هو الإرث الديني الذي خلفوه للعالم، أما الفنون الأخرى فتدل شواهد الأحوال على أن إنتاجهم كان ضئيلًا نسبيًّا، والمعترف به الآن أن الإنتاج الديني الذي خلفه العبرانيون قد جعلهم من أهم المعلمين لبني البشر من الوجهة الأدبية والأخلاقية، ويجد القارئ كل ما خلفه لنا العبرانيون في كتاب «العهد القديم» الذي يعد أهم وأعظم كتاب أدبي كامل وصل إلينا قبل عهد المسيح، والواقع أن هذا الكتاب يعد منهلًا ضخمًا لفنون الحضارة العالمية. حقًّا، قد وصلت إلينا آثار دينية وأخرى أدبية عن الحضارات القديمة من الوثائق التي كشف عنها عن طريق الحفائر الحديثة، وكلها يمكن الاعتماد عليها إلى حد ما؛ لأنها وصلتنا مدوَّنة في وثائق نقشت على جدران المعبد، أو على لوحات من الآجُرِّ، أو على بردي، وغير ذلك من أدوات الكتابة، ولكن مما يؤسف له جد الأسف أن كتاب «العهد القديم» الذي يحوي كل مدينة العبرانيين قد وصل إلينا عن طريق الرواية، فاختلطت به بعض الروايات المحرفة! ومع ذلك فإنه قد بقي أزمانًا طويلة قوة فعالة في حياة الإنسان عامة، فنجد أن مادته قد مرت عليها تقلبات فاختير بعضها وحذف بعضها قبل أن تتخذ صورتها النهائية، ومع ذلك نجد أن وحدة شاملة تسود هذه المادة التي كانت موضع الدرس الدقيق في كل الأزمان، فكان أهل الفن والشعراء والكتاب في العهود القديمة والمتوسطة والحديثة يجدون فيه موردًا عذبًا وإلهامًا عظيمًا.
وفي قانون «موسى» يحرر العبد في السنة السابعة (التثنية إصحاح ١٥ سطر ١٢): «إذا بيع لك أخوك العبراني أو أختك العبرانية وخدمك ست سنين، ففي السنة السابعة تطلقه حرًّا من عندك.» وفي قانون «حمورابي» نجد أن الغرامة تترواح من ضعفين إلى ثلاثة بقدر المسروق، وفي الميثاق تكون أربع مرات (راجع سفر الخروج إصحاح ٢٢ سطر ١–٤): «إذا سرق إنسان ثورًا أو شاة فذبحه أو باعه يعوض عن الثور بخمسة ثيران، وعن الشاة بأربعة من الغنم. إن وُجد السارق وهو ينقب فضُرِبَ ومات فليس له دم، ولكن إن أشرقت عليه الشمس فله دم. إنه يعوض إن لم يكن له يبع بسرقته إن وجدت السرقة في يد حية ثورًا كانت أم حمارًا أم شاة يعوض باثنين.»
الإسلام وقرر هذا القانون، غير أنه أباح الصفح لمن يريد فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ (قرآن كريم).
وكان كل من «حمورابي» و«موسى» يتلقى قوانينه من ربه، فكان الأول يتلقاها من شمش (إله الشمس)، والثاني من «يهوه»، غير أن العنصر الخلقي الذي نجده في قانون «موسى» الذي يشمل الوصايا العشر ليس له نظير في أي قانون في العالم، ولم يكن في مقدور من جاء بعده إلا «عيسى» أن يضيف تحسينات على هذه الوصايا العشر، فنجد فيها أن التحريم يذهب إلى ما وراء دائرة العمل، فيذهب إلى التفكير في كل موبق. ومن رجال التعليم العبرانيين الكاهن، وكانت وظيفته تعليم القانون، ولكن كان يؤديه أكثر مما يعلمه، فكان الكاهن يقوم بواجباته عند المذبح وتأدية الشعائر الأخرى، فكان يعمل وسيطًا بين الإنسان والله، وكان الكهنة يؤلفون طائفة خاصة بين أمم العالم القديم، ونجد في حالة الكهانة عند العبرانيين أنهم كانوا يتوارثونها في أسرة «هارون» وحسب. (سفر الخروج إصحاح ٢٨ سطر ١): «وقرِّب إليك هارون أخاك من بني إسرائيل ليكهن لي.» إلخ. (وسفر العدد إصحاح ١٦ سطر ٤٠): «تذكارًا لبني إسرائيل لكيلا يقترب رجل أجنبي ليس من نسل هارون ليبخر بخورًا أمام الرب فيكون مثل «قورح» وجماعته كما كلمه الرب عن يد «موسى».»
وكان من بين المعلمين كذلك في البيئة اليهودية الرجل الحكيم، والواقع أن الحكماء العبرانيين كانوا يتحدثون إلى الأفراد أكثر مما يتحدثون إلى المجتمع، وقد كانت رسالته أن يفلح في عمله لا ليكسب حظوة الإله ورضاه، وكانت الحكمة على خلاف القانون مصدرها الإنسان؛ إذ كانت نتيجة ملاحظته وتجاربه، وكُتُبُ الحكمة المشهورة هي: كتاب «أيوب»، و«الأمثال»، و«سفر الجامعة». وأهم كاتب بين كل كُتَّاب الحكم الأدبية هو كاتب سفر «أيوب».
ومؤلف كتاب «أيوب» لا يعد حكيمًا منقطع النظير وحسب، بل كذلك يعد شاعرًا نسيج وحده، والشعر العبري مثله كمثل الشعر في كل اللغات الشرقية، يعبر عن أقوال خارجة عن شعور قوي وُضِعَت في أوزان خاصة، والشعر الغنائي كان السائد بين بني إسرائيل، فكان الشاعر بوصفه مغنِّيًا يحفل في قصائده العظيمة بالخلاص الذي صنعه «يهوه»، أما بوصفه كاتبًا للزبور (المزامير)؛ فإنه كان يعبر عن عواطف التائب الذي كان يرجو الرحمة أو يعبر عن فرحه بالمغفرة التي نالها. (راجع المزامير إصحاح ٣٢): «طوبى للذي غُفِرَ إثمُه وسُتِرَتْ خطيته.» إلخ. (ومزامير إصحاح ٥١): «ارحمني يا الله حسب رحمتك.» أو يعبر عن مشاعر رجل ضعيف يصبح يائسًا، أو يصلي لله للنجاة (راجع مزامير إصحاح ٣): «يا رب، ما أكثر مضايقيَّ! كثيرون قائمون عليَّ.» إلخ. (والمزامير إصحاح ٢٣): «الرب راع فلا يعوزني شيء.» إلخ. (والمزامير إصحاح ٣٨): «يا رب، لا توبخني بسخطك، ولا تؤدبني بغيظك.» إلخ. ولذلك كان الشاعر معلمًا في بني إسرائيل.
ومن أهم المعلمين بوجه خاص «النبي» (المبلغ بالعبرية)، ولا يقصد بكلمة «نبي» هنا ذلك الرجل الذي يخبر عن الحوادث المستقبلة، بل هو الذي يتحدث بالنيابة عن آخر، وفي هذه الحالة كان ينوب عن الله، وهذا هو المعنى اللغوي لكلمة «نبي»، وقد بدأت الديانة العبرية بالأنبياء، وقد نشأ النبي بمثابة احتجاج على الديانة البعلية وعبادات أخرى أجنبية، وقد كان الغرض من الأنبياء هو توطيد ديانة «يهوه»، فكان الأنبياء في الواقع هم أبطاله، وقد بدءوا فعلًا باتخاذ ذلك قاعدة لمبدئهم. واستمر أنبياء «إسرائيل» على هذا المنوال، فشقوا طريقهم إلى عالم سامٍ من التفكير الروحاني، وبذلك انتخبوا ديانة جديدة وهي ديانة توحيد تتمثل في إله واحد سام لجميع العالم، وقد علَّم الأنبياءُ الناسَ أن هذا الإله الأحد كان قبل كل شيء إله أخلاق وحق، وفضلًا عن ذلك كان ينتظر هذا الإله من أتباعه أن يكونوا أصحاب أخلاق وأصحاب عدالة مثله، وهذا الإله كان لا يتمتع بالضحايا والقربان التي كانت تقرب له، بل يحيا وينعم بالأخلاق المثالية الصالحة، فكان كل ما يهمه هو سلوك الشخص لا التعبد إليه، وكان المبدأ الرئيسي في تعاليم الأنبياء هو التوحيد المبني على الأخلاق الصالحة التي لا تشوبها شائبة.
على أن تفكير الأنبياء لم ينتج رأيًا جديدًا عن طبيعة الله وصفاته، أو علاقة الإنسان بالله وحسب، بل أنتج طرازًا شعريًّا جديدًا من الأدب مُقَفًّى يؤثر في النفس ويستهويها، وقد فقد بطبيعة الحال كثيرًا من تأثيره الشعري بالترجمة، وكان أول ظهور أدب الأنبياء ما بين سنة ٧٥٠ و٥٥٠ق.م.
غير أن أنبياء العبرانيين لم يسيروا على هذا المنهج؛ إذ نجد أنه في حين كان الجيش الآشوري يقهر أهل «يهوه»، كان أنبياؤه يعلِّمون العبرانيين أن «يهوه» يستعمل «آشور» بمثابة آلة عقاب تنصب على قومه؛ لأنهم تعدوا حدود إلههم، وبذلك انقلبت الهزيمة إلى نصر، ومن ثم لم تصبح مكانة «يهوه» ثابتة في مكان واحد بل رُفِعَت إلى درجة أعلى؛ إذ صارت مكانة سامية فريدة تسود كل العالم وتملؤه.
وقد كان مما لا يصدقه العقل أن يصبح راعي غنم وخاتن شجر جميز من بلدة خاملة الذكر في «يهودا» والصحراء المجاورة أول فرد في تاريخ الفكر الإنساني يصل إلى تصور الإله بأنه الفرد الأحد وإله العالم كافة! ونعني بذلك «عاموس» التقوعي (تقوع بلدة خربة على مسافة ستة أميال جنوبي بيت لحم) الذي أعلن رسالته عام ٧٥٠ق.م وكان «عاموس» هذا يبشر بلسانه لا بقلمه، فكان بذلك مثله كمثل «محمد» — عليه الصلاة والسلام، ومن المحتمل أنه كان كذلك أميًّا، وقد نشر رسالته في مملكة الجنوب في عهد الملك «يربوعام» الثاني الذي جلبت فتوحه ثروة حديثة ومطايب جديدة لبني إسرائيل كما ذكرنا من قبل، وكان «عاموس» أول من عبد «يهوه» إلهًا للناس كافة (سفر عاموس إصحاح ٩٨ سطر ٥–٧): «إن السيد رب الجنود هو الذي يمس الأرض فتذوب، وينوح جميع الساكنين فيها وتطمو كلها ثم تنضب كنهر مصر، وهو الذي يشيد في السماء علاليه، ويؤسس على الأرض قبته، الذي يدعو مياه البحر ويصبها على وجه الأرض «يهوه» اسمه، ألستم لي كبني الكوشيين يا بني إسرائيل؟ يقول الرب: ألم أصعد إسرائيل من أرض مصر والفلسطينيين من كفتور والآراميين من قير؟» وكان «عاموس» هذا ينظر إلى «يهوه» بأنه رب العدالة الاجتماعية.
وهذه هي الكلمات التي وضعها في فم «يهوه»، أو بعبارة أخرى التي بلغه إياها الإله «يهوه». (وسفر عاموس إصحاح ٥ سطر ٢١–٢٤): «بغضت كرهت أعيادكم، ولست ألتذ باعتكافاتكم، إني إذا قدمتم لي محرقاتكم وتقدماتكم لا أرتضي، وذبائح السلامة من مسمناتكم لا ألتفت إليها، أبعد عني ضجة أغانيك ونغمة ربابك لا أسمع، وليَجْرِ الحق كالمياه، والبِرُّ كنهر دائم.»
نبوءة أشعيا وقداسة الله
وقد خطا «أشعيا» إلى الأمام بتفكير عصره، وذلك بتوكيد قداسة الله مُظهِرًا كماله بقرنه بعدم كمال الإنسان (سفر أشعيا إصحاح ٦ سطر ٣): «وكان هذا ينادي ذاك ويقول: قدوس، قدوس، قدوس، رب الجنود، الأرض كلها مملوءة من مجده.»
وعاش «أشعيا» في عصر مضطرب رأى فيه تخريب «سمارية» على يد «سرجون» ٧٢٢ق.م، كما شاهد هجوم «سنخريب» على «أورشليم» ٧٠١ق.م، وقد واجه هذه الأحداث وبرز على معاصريه وقدم لهم مثلًا لامعًا في الوطنية التي لا تنكمش أمام أية تضحية؛ لأنه كان ملهمًا بروح من عند الله لا تعرف الهزيمة؛ فقد سار مدة ثلاث سنوات عاري الجسم حافي القدمين؛ ليظهر لقومه نوع المعاملة التي يلاقيها الأسرى الذين وقعوا في شراك المصريين والكوشيين (سفر أشعيا إصحاح ٢٠ سطر ٣): «فقال الرب: كما مشى عبدي «أشعيا» عاريًا حافيًا فكان آية وأعجوبة ثلاث سنين على مصر وكوش.» وكان «أشعيا» فضلًا عن ذلك يبشر بالمسيح، فقد رأى بعين العقيدة رؤيا السلام العالمي تحت حكم «أمير سلام» ملكه العالم كله؛ أي في عصر ستنقلب فيه السيوف إلى أسلحة محاريث وتسكن فيه الذئاب مع الغنم (سفر أشعيا إصحاح ٩ سطر ٦-٧): «لأنه يولد لنا ولد، ونعطَى ابنًا، وتكون الرياسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيبًا مشيرًا إلهًا قديرًا أبًا أبديًّا، رئيس السلام لنمو رياسته وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته؛ ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن إلى الأبد، غيره رب الجنود تصنع هذا.» (وإصحاح ٢ سطر ٢–٤): «ويكون في آخر الأيام أن جبل بيت الرب يوطد في رأس الجبال، ويرتفع فوق التلال، وتجري إليه جميع الأمم، وينطق شعوب كثيرون ويقولون: هلموا نصعد إلى جبل الرب، إلى بيت إله يعقوب وهو يعلمنا طرقه فنسلك في سبله الأنهار، من صهيون تخرج الشريعة، ومن أورشليم كلمة الرب، ويحكم بين الأمم، ويقضي للشعوب الكثيرين فيضربون سيوفهم سككًا، وأَسِنَّتَهم مناجل، فلا ترفع أمة على أمة سيفًا، ولا يتعلمون الحرب من بعد.» (وإصحاح ١١ سطر ١–٩): «ويخرج قضيب من جذع يسي، وينبت غصن من أصوله، ويحل عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب، ولذته تكون في مخافة الرب، فلا يقضي بحسب نظر عينيه، ولا يحكم حسب سمع أذنيه، بل يقضي بالعدل للمساكين، ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض، ويضرب الأرض بقضيب فمه، ويميت المنافق بنقمة شفتيه، ويكون البر مِنْطَقَةُ مَتْنَيْه، والأمانة منطقة حِقْوَيْهِ.
فيسكن الذئب مع الخروف، ويربض النمر مع الجدي، والعجل والشبل والمسمن معًا، وصبي صغير يسوقها، والبقرة والدبة ترعيان تربض أولادهما معًا، والأسد كالبقر يأكل تبنًا، ويلعب الرضيع على سرب الصل، ويمد الفطيم يده على حجر الأفعوان، لا يسوءون ولا يفسدون، في كل جبل قدسي؛ لأن الأرض تمتلئ من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر.»
وقد بشر بدين جديد لم يكن في استطاعة جهود ستة وعشرين قرنًا من التقدم أن تصل إلى تحقيق كنهه والسير على ما جاء فيه. هذا، وقد دعا «أشعيا الثاني» بالتوحيد أيضًا.
نبوءة أرميا
كان «أرميا» من بيت كهانة، ولد في مدينة صغيرة تدعى «عانوت» على نحو ساعة من «أورشليم» إلى الشمال، وكان «أرميا» يختلف عن «أشعيا» بعض الشيء في تبليغه؛ فقد كان من دأب «أشعيا» التعزية وإيحاء الآمال، ولكن «أرميا» كان على عكسه فيُنْذِر بالموبقات ولا يفتح للرجاء سبيلًا. وهناك تفاوت آخر بين هذين النبيين من حيث النفس والإنشاء؛ فإن كلام «أشعيا» كثير الماء والرونق، عالي الطبقة، حاد اللهجة، فخم العبارة. أما كلام «أرميا» فسهل مفهوم، عامي اللهجة، على غير حدة في المقال شأن المتكلم بثقة. ويرجع هذا التفاوت إلى البيئة التي ولد كل منهما فيها.
هذا، وكان يختلف «أرميا» كذلك عن «عاموس» و«أشعيا» بأنه كان نبيًّا كاتبًا (سفر أرميا إصحاح ٣٦ سطر ٢١–٢٣).
وكانت مدة رسالته حوالي سنة ٦٢٦–٥٨٦ق.م، مضاها في الآلام والتعذيب، ولسنا مبالغين إذا قلنا: إن سيرته تعد أسمى سيرة في كل كُتَّاب العهد القديم؛ فقد رأى بعيني رأسه هجوم «بختنصر» على «أورشليم» عام ٥٩٧ق.م وتخريبها عام ٥٨٦ق.م، وقد كان مثل «عاموس» و«أشعيا الثاني» موحدًا، غير أن توحيده كان نافذًا وعمليًّا، فقد أعلن بكلمات لا يتطرق إليها الشك أو الإبهام أن كل الآلهة غير الإله الأحد الفرد الصمد إن هي إلا غرور ومن صنع الإنسان وأوهام الخيال، وقد رأى مثل «أشعيا» عالَمًا مثاليًّا تؤدَّى فيه المحاكمة والعدالة (راجع سفر أرميا إصحاح ٥ سطر ٧): «كيف أصفح لك عن هذه؟ بنوك تركوني وحلفوا بما ليست آلهة، ولما أشبعتهم زنوا، وفي بيت زانية تزاحموا.» ونفس السفر (إصحاح ١٤ سطر ٣٢): «هل يوجد في أباطيل الأمم من يمطر؟ أو هل تعطي السماوات وابلًا؟ أما أنت هو الرب إلهنا فنرجوك؛ لأنك أنت صنعت كل هذه.» (وكذا إصحاح ١٠ سطر ١٠–١٢): «أما الرب الإله فحق، هو إله حي، وملك أبدي، مِن سخطه ترتعد الأرض ولا تطيق الأمم غضبه، هكذا تقولون لهم: الآلهة التي لم تصنع السماوات والأرض تبيد من الأرض ومن تحت هذه السماوات، صانع الأرض بقوته، مؤسس المسكونة بحكمته، وبفهمه بسط السماوات.» (وإصحاح ١٦ سطر ١٧–٢١): «لأن عيني على كل طرقهم لم تستتر عن وجهي، ولم يختف إثمهم من أمام عيني، وأعاقب أولًا إثمهم وخطيتهم ضعفين؛ لأنهم دنسوا أرضي، وبجثث مكرهاتهم ورجاساتهم قد ملئوا ميراثي. يا رب، عزي وحصني وملجئي في يوم الضيق، إليك تأتي الأمم من أطراف الأرض ويقولون: إنما ورث آباؤنا كذبًا وأباطيل وما لا منفعة فيه، هل يصنع الإنسان لنفسه آلهة وهي ليست آلهة؟ لذلك هأنذا أعرفهم هذه المرة أعرفهم يدي وجبروتي فيعرفون أن اسمى «يهوه».»
ويعد بعض الكتاب بأن ما جاء في الفصول من ثلاثين إلى ثلاثة وثلاثين من سفر «أرميا» أجمل درة فيه؛ إذ تشمل هذه الفصول أسمى أفكار كتاب «العهد القديم»؛ ففيها نجد «يهوه» يدخل مع قومه في عهد جديد نفذ به إلى أعماق النفوس، فلم يكتب على لوحات من الحجر كما كانت الحال مع آباء هؤلاء القوم، بل نقش تعاليمه على صفحات القلوب. (راجع أرميا إصحاح ٣١ سطر ٣١–٣٤): «ها أيام تأتي، يقول الرب: وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر حين نقضوا عهدي فرفضتهم. يقول الرب: بل هذا هو العهد الذي أقطعه مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيام. يقول الرب: أجعل شريعتي في داخلهم، وأكتبها على قلوبهم، وأكون لهم إلهًا، وهم يكونون لي شعبًا، ولا يعلمون بعد كل واحد صاحبه وكل واحد أخاه قائلين: اعرفوا الرب؛ لأنهم كلهم سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم. يقول الرب: لأني أصفح عن إثمهم ولا أذكر خطيتهم بعد.»
وقد اتخذ المسيح فكرة العهد الجديد هذه في العَشاء الأخير، واقتبس مؤلف الرسالة للعبرانيين الإشارة الأصلية لها (راجع إنجيل متى إصحاح ٣٦ سطر ٢٧-٢٨): «وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلًا: اشربوا منها كلكم؛ لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد، الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا.» (وإنجيل لوقا إصحاح ٢٢ سطر ١٩-٢٠): «وأخذ خبزًا وشكر وكسر وأعطاهم قائلًا: هذا هو جسدي الذي يبذل عنكم، اصنعوا هذا لذكري، وكذلك الكأس أيضًا بعد العَشاء قائلًا: هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يسفك عنكم.»
وفي المناسبة نفسها أعلن «أرميا» عقيدة المسئولية الشخصية التي تتنافى مع العقيدة القديمة القائلة: «إن الآباء قد أكلوا حصرمًا، وإن أسنان الأطفال قد ضرست منها.» فأبرز بذلك خطوة في الحساسية الأدبية لم يصل إليها بعد في أيامنا هذه بعض الأمم الأوروبية عندما تحكم عليهم بسلوكهم في الحرب العالمية الثانية. (راجع أرميا سفر ٣١ سطر ٢٩-٣٠): «في تلك الأيام لا يقال بعدُ: إن الآباء أكلوا الحصرم وأسنان البنين ضرست، بل كل واحد بمأثمه يموت، وكل إنسان يأكل الحصرم فإنما تضرس أسنانه.»
وهناك أنبياء آخرون قاموا بقسطهم في إعلان رسالة التوحيد كلٌّ بما كُلِّف به ومنهم:
نبوءة «ميخا»
عاش «ميخا» حوالي عامي ٧٣٠–٧٢٢ق.م، ويدعى «ميخا المورشتي» نسبة إلى «مورشة جت»، وهي قرية من قرى بسط «يهودا»، وهو معاصر النبي «أشعيا»، وكان لسان حال الفقراء الذين رآهم يتألمون من الظلم وعدم نصفتهم، وقد رأى بعينيه الثاقبتين أن هناك أشياء حسنة ستأتي بعد. (سفر ميخا إصحاح ٤ سطر ١–٨): «ويكون في آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتًا في رأس الجبال، ويرتفع فوق التلال، وتجري إليه شعوب وتسير أمم كثيرة ويقولون: هلم نصعد إلى جبل الرب، وإلى بيت إله يعقوب فيعلمنا من طرقه، ونسلك في سبله؛ لأنه من صهيون تخرج الشريعة، ومن أورشليم كلمة الرب، فيقضي بين شعوب كثيرين، ينصف لأمم قوية بعيدة فيطبعون سيوفهم سككًا ورماحهم مناجل، لا ترفع أمة على أمة سيفًا، ولا يتعلمون الحرب فيما بعد، بل يجلسون كل واحد تحت كرمته وتحت تينته، ولا يكون من يرعب؛ لأن فم رب الجنود تكلم؛ لأن جميع الشعوب يسلكون كل واحد باسم إلهه، ونحن نسلك باسم الرب إلهنا إلى الدهر والأبد.
وفي ذلك اليوم يقول الرب: أجمع الظالعة، وأضم المطرودة، والتي أضررت بها، وأجعل الظالعة بقية، والمقصاة أمة قوية، ويملك الرب عليهم في جبل صهيون من الآن إلى الأبد، وأنت يا برج القطيع أكمة بنت صهيون إليك يأتي ويجيء الحكم الأول ملك بنت أورشليم.»
وقد كان يُعَدُّ في زمنه إمام العدالة الاجتماعية، وكلماته الذي فاه بها في هذا الصدد تعد من الكلمات الخالدة (سفر ميخا إصحاح ٦ سطر ٦–٨): «بماذا أتقدم إلى الرب وأنحني لله العلي؟ أبمحرقات أتقدم إليه وبعجول حولية؟ أيرتضي الرب بألوف الكباش وربوات أنهار زيت؟ أأبذل بكري عن معصيتي، وثمرة بطني عن خطيئة نفسي؟ قد بين لك أيها الإنسان ما هو صالح، وما يطلب منك الرب إنما هو أن تجري الحكم، وتحب الرحمة، وتسير بتواضع مع إلهك.»
نبوءة حزقيال
هو «حزقيال» بن «بوزي» من السلالة الكهنوتية، وكان في جملة من أُجْلِيَ إلى «بابل» مع الملك «بكنيا»، وصار نبيًّا في السنة الخامسة من الجلاء. وفي بعض التقاليد القديمة يقال: إن «حزقيال» تُوُفِّيَ شهيدًا، قتله أحد رؤساء أمته؛ لأنه كان يزجره عن عبادة الأوثان. ونقرأ في الإصحاح الثامن عشر من سفره كلامًا ممتعًا عن المسئولية الشخصية، وهو معاصر للنبي «أرميا»، وقد أظهر لنا في هذا الفصل شعوره الفياض بالمُثُل العليا مما قصر عن بلوغه الأمم المسيحية في القرن العشرين الميلادي. ومما يلفت النظر بوجه خاص أن أنبياء العبرانيين قد ارتفعوا في كلامهم إلى مستوًى سامٍ لم يَفُقْهُ حتى الآن إلا المسيح ومحمد — عليه الصلاة والسلام — والواقع أن الإسلام الذي يعد ثالث ديانة موحِّدة بالله قد أخذ تعاليمه عن اليهودية والمسيحية كما جاء ذلك في التنزيل.