«الاختيار بين السريع والقاتل»
حين نتدبَّر أصول عملية نزع السلاح النووي والقضايا المتعلقة بها عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة، علينا أن نضع في حسباننا أنه في بداية العصر النووي لم يكن هناك وجود لأي قواعد، ولا وجود لمعايير خاصة بمنع الانتشار النووي، ولا وجود لمفهوم الردع النووي، وتحديدًا لم يكن هناك وجود لأي خطوط حمراء فيما يخص الحرب النووية. لكن كان هناك سباق تسلح واضح، يسيرُ في جدِّية عقب صراع أدَّى إلى إزهاق نحو ٦٠ مليون روح. في الوقت عَيْنِه، حملت التطورات في مجال الطاقة النووية آمالًا مستقبلية في استخدام هذه الطاقة من أجل الأغراض السلمية؛ مثل إمكانية أن تُمِدَّ الطاقةُ النووية العالمَ بمصدر لا ينضب من الطاقة. والمهم في الأمر أن العمليات المرتبطة بالاستخدامات العسكرية والمدنية للطاقة الذرية كانت واحدةً تقريبًا.
تقليديًّا، كانت هناك جهود لمشاركة المعلومات على المستوى الدولي، شأن ما يحدث في أغلب التطورات العلمية. لكن بسبب القدرة التدميرية المعروفة جيدًا للقنبلة الذرية والقوة التي تمنحها هذه القنبلة للدولة التي تملكها؛ لم تكن الولايات المتحدة مستعدَّة للإفصاح عن أسرارها النووية في غياب نظام ضبط دولي فعَّال. ومنذ ذلك الوقت والتوفيق بين الرغبة في جَنْي الفوائد السلمية لهذه القوة المسخَّرة حديثًا وبين الحاجة للسيطرة على قدراتها التدميرية الممكنة يمثِّل مشكلة عويصة.
ركَّزَت الجهود المبكرة على مجابهة المشكلة من خلال الاتفاقات الدولية، وساوَتْ بين عدم الانتشار النووي ونزع السلاح النووي. فلم يَكَدْ يَمُرُّ شهران على ضرب هيروشيما بالقنبلة الذرية حتى أخبر الرئيس هاري إس ترومان الكونجرس بأن «أمل الحضارة يكمن في الاتفاقات الدولية الساعية — إن أمكن — إلى التخلي عن تطوير القنبلة الذرية واستخدامها.» كان العديد من علماء الذرة البارزين يحملون نفس وجهة النظر. وقد أوصى «تقرير فرانك»، المسمى على اسم رئيس اللجنة التي أصدرته، في يونيو ١٩٤٥ — وقبل أن تُلقَى القنبلة الذرية على اليابان — بأنه نظرًا لأنه سيكون من المستحيل على الولايات المتحدة أن تحتكر السلاح النووي بشكل دائم، فمن الضروري أن يتحقق التخلص من الأسلحة النووية من خلال الاتفاقات الدولية.
استهدفت تحركاتٌ سياسيةٌ عديدة تأسيسَ إطار عمل يمكن فيه السيطرة على الطاقة النووية. وقد تمَّ التوصل إلى «الإعلان المتفق عليه بين الدول الثلاث»، وذلك بين الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى وكندا، شركاء الحرب المتعاونين في تطوير القنبلة. وفي الخامس عشر من نوفمبر ١٩٤٥ — في واشنطن — أعلنت الدول الثلاث عن نيتها أن تتشارك مع جميع الدول المعلومات العلمية المرتبطة بالطاقة الذرية من أجل الأغراض السلمية أو المدنية. وإدراكًا للمعضلة المتمثلة في التوفيق بين القوتين التدميرية والسلمية للطاقة الذرية؛ دعا الإعلان إلى الامتناع عن نشر هذه المعلومات إلى أن تُوضَع الضمانات الملائمة قيدَ التنفيذ. وبعد ذلك دعا الإعلانُ الأممَ المتحدة إلى تأسيس لجنة من أجل التوصية بنظام عالمي للسيطرة على الطاقة الذرية.
وفي اجتماع «مؤتمر الوزراء» الذي انعقد في موسكو في السابع والعشرين من ديسمبر ١٩٤٥، وافق الاتحاد السوفييتي على هذه المبادئ في «إعلان موسكو»؛ وهو بيان سوفييتي إنجليزي أمريكي. ضم الإعلان أيضًا نصًّا خاصًّا بقرار مقترح للأمم المتحدة من أجل تأسيس لجنة معنية بالسيطرة على الطاقة الذرية، وقد دعا الإعلان فرنسا والصين وكندا للمشاركة في رعاية القرار، وبالفعل تمت الموافقة على القرار بالإجماع خلال أولى جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة في الرابع والعشرين من يناير ١٩٤٦.
بهذه الطريقة، تأسَّست «لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية». وتكوَّنَت اللجنة من كل أعضاء مجلس الأمن (أستراليا، والبرازيل، والصين، ومصر، وفرنسا، والمكسيك، وهولندا، وبولندا، والاتحاد السوفييتي، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة)، إضافة إلى كندا؛ أي ما مجموعه اثنتا عشرة دولة. وقد دعا القرار إلى إنشاء لجنة تابعة لمجلس الأمن، تُهَيْمِن عليها الولايات المتحدة وبريطانيا والصين والاتحاد السوفييتي. وهذه الخطوة — التي اقترحتها موسكو — بيَّنت كيف أن جهود التشارك في المعرفة الذرية ستكون خاضعة لاعتبارات مجلس الأمن. وقد امتلكت الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن حقَّ النقض (الفيتو)، وذلك فيما يخص القضايا الموضوعية لا الإجرائية. وقد لعب حق النقض — ولا يزال — دورًا مهمًّا في جهود السيطرة على الطاقة الذرية.
تضمَّنت مسئوليات لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية — من بين ما تضمنت — الإشرافَ على تبادل المعلومات العلمية الأساسية من أجل الأغراض السلمية، والسيطرة على الطاقة الذرية من أجل ضمان استخدامها للأغراض السلمية وحسب، وإزالة الأسلحة النووية من ترسانات أسلحة الدول، والضمانات الفعالة عن طريق التفتيش وغيره من الوسائل من أجل حماية الدول الملتزمة من مخاطر الانتهاك والتهرب.
في الوقت عَيْنِه، شكَّل وزير الخارجية الأمريكي جيمس إف بيرنز لجنةً لدراسة طرق السيطرة والضمانات من أجل حماية الولايات المتحدة، وذلك خلال المفاوضات. جاء الأعضاء الخمسة للمجموعة — بقيادة مساعد وزير الخارجية دين أتشيسون — من دوائر عسكرية وسياسية ذات صلة بعملية تطوير القنبلة. نظرت لجنة أتشيسون إلى «مجلس من الخبراء» بوصفه مصدرًا للمعرفة بالجوانب الفنية للطاقة الذرية. كان هذا المجلس تحت رئاسة ديفيد ليلينثال — رئيس هيئة تينيسي فالي — وضم ثلاثة علماء آخرين أبرزهم جيه روبرت أوبنهايمر، الفيزيائي الذي لعب دورًا كبيرًا في مشروع مانهاتن.
تمخَّضت جهود هاتين المجموعتين عن وثيقة بعنوان «تقرير عن السيطرة الدولية على الطاقة الذرية»، والذي صار يُعرَف على الفور باسم «تقرير أتشيسون-ليلينثال». يُبرِز هذا التقرير — الصادر في أواخر مارس من عام ١٩٤٦ — الخصائصَ الفنية التي من شأنها أن تُحدِّد طبيعة نظام السيطرة الدولي على الطاقة الذرية. والأهم من ذلك أن المشاركين في إعداده رأوا فيما خلص إليه من نتائج أساسًا للمناقشة وليس خطة نهائية. وقد اعتمد مقترح الولايات المتحدة بتأسيس لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية اعتمادًا شديدًا على الأفكار الواردة في تقرير أتشيسون-ليلينثال من أجل إرساء نظام للسيطرة الدولية.
خطة باروخ
هذه هي الخلفية الكامنة وراء المقترحات الأمريكية المُقدَّمة إلى الأمم المتحدة في يونيو ١٩٤٦. وكانت الخطة المعروفة باسم «خطة باروخ» — والمسماة باسم كبير مفاوضيها برنارد باروخ؛ رجل الدولة العجوز الذي عمل مع رؤساء أمريكيين في وظائف متعددة منذ الحرب العالمية الأولى — تهدف إلى منع انتشار الأسلحة النووية، ظاهريًّا من خلال تأمين التكنولوجيا والمواد الذرية، وذلك عن طريق السيطرة على الأمم المتحدة حديثة المولد. وفق هذه الخطة، من شأن هيئة تابعة للأمم المتحدة أن تشرف على السيطرة على مناجم المواد الخام المستخدمة في الأسلحة النووية وأن تكون مسئولة عن أي عمليات إنتاج. أيضًا — بموجب هذه الخطة — سوف تتخلى الولايات المتحدة عن أسلحتها ومنشآتها النووية عبر عملية انتقال مرحلية.
وخلال عرض الخطة على الأمم المتحدة في الرابع عشر من يوليو ١٩٤٦، استعانَ باروخ بتلميح ميلودرامي لماضي الولايات المتحدة أيام فترة الغرب المتوحش قائلًا: «نحن هنا كيْ نتَّخِذ خيارًا بين السريع والقاتل … إذا فشلنا، فسنكون قد حكمنا على كل رجل أن يكون عبدًا للخوف. دَعُونا لا نخدع أنفسنا؛ علينا إما أن نختار «السلام العالمي» أو «الدمار العالمي».» كانت أسس خطة باروخ بسيطة بما يكفي بحيث يمكن للجمهور استيعابها، واقترح باروخ — الرئيس السابق لمجلس الصناعات الحربية إبان فترة حكم وودرو ويلسون — إنشاءَ «هيئة دولية للتطوير الذري» يكون واجبها الوحيد الإشراف على كل مراحل تطوير الطاقة الذرية وعلى استخدامها، على أن يكون مفتاح نجاح عمل هذه الهيئة هو فعاليتها في السيطرة والتفتيش على الأنشطة المتعلِّقة بالطاقة الذرية؛ لأنه عندئذٍ — وفقط عندئذٍ — ستكون الولايات المتحدة مستعدة للتوقف عن تصنيع الأسلحة النووية وكذلك التخلي عن مخزونها من هذه الأسلحة.
عدَّد باروخ أنشطةً متنوعة من الممكن اعتبارها أنشطة إجرامية؛ وهي: امتلاك المواد الخام الذرية المناسبة للاستخدام في القنابل الذرية أو فصلها، والاستيلاء على ممتلكات مملوكة للهيئة أو رخصت بها الهيئة، والتدخل في أعمال الهيئة، وأخيرًا الانخراط في مشروعات «خطيرة» تتعارض مع عمل الهيئة أو تتم دون ترخيص من الهيئة. ثم أضاف باروخ إسهامه المميز داعيًا إلى توقيع عقوبات شديدة على الدول التي تنخرط في مثل هذه الأعمال. ورغم إقراره بأهمية حق النقض لأعمال مجلس الأمن، فإنه قال إنه فيما يخص الطاقة الذرية «يجب ألا يكون هناك حق نقض يحمي أولئك الذين يخرقون اتفاقاتهم الرسمية القاضية بألا يُطوِّروا أو يستخدموا الطاقة الذرية لأغراض تدميرية.»
تباينت ردود الأفعال حيال الخطة تباينًا واسعًا. فبعد قراءة الخطبة، امتدح ونستون تشرشل باروخ قائلًا: «ما من رجل أفضِّلُ أن يتولى زمام مثل تلك المشكلات البغيضة خلاف برنارد باروخ.» وبينما عارض البعض هذه الخطة لأنها تتخلى عن أكثر مما ينبغي، عارضها آخرون لأنها غير مُنْصِفة للاتحاد السوفييتي، ودعوا إلى وقف عمليات تصنيع القنابل الذرية فورًا. وقد قال نحو ٣٠ من أعضاء مجلس الشيوخ إن الخطة ليست قابلة للتنفيذ العملي، بينما قال رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي آرثر فاندنبرج إن الخطة كانت «أهم لسلام العالم من أي شيء آخر حدث في نيويورك». وبحلول شهر سبتمبر، أفاد استطلاع للرأي بأن ٧٨ بالمائة من الجمهور الأمريكي يؤيد الخطة.
أثارت قضيةُ حق النقض تعليقاتٍ مؤيِّدة وأخرى ناقدة. وقد اتُّهِم الكاتب الصحفي الشهير والتر ليبمان باروخ بأنه يَقُود الولايات المتحدة إلى طريق مسدود في ظل وجود شرط حق النقض، بينما دعم قاضي المحكمة العليا — ويليام أو دوجلاس — مقترحَ باروخ الداعي لتجريد مجلس الأمن من حق النقض فيما يخص الشئون الذرية. وقد رأت صحيفة «ديلي ووركر» الأمريكية الناطقة بلسان الحزب الشيوعي الأمريكي في إلغاء حق النقض فرصةً لواشنطن ولندن كي «تحرزا قَصَبَ السبق» على الاتحاد السوفييتي، وأن هذا الإلغاء «يُمثِّل انطلاق النسر الأمريكي في جولة افتراس جديدة». وقد جاء رد الكرملين على خطة باروخ بعدها بخمسة أيام — في التاسع عشر من يونيو — في خطاب ألقاه نائب وزير الخارجية السوفييتي أندريه جروميكو.
خطة جروميكو
تحاشى جروميكو في حديثه الحُجَّة الأمريكية المتعلقة بالسلام الذري، وبدلًا من هذا دعا إلى مؤتمر دولي يهدف إلى حظر إنتاج الأسلحة النووية واستخدامها، وفي الوقت ذاته طالب بنزع سلاح الولايات المتحدة النووي كشرط سابق على أي اتفاق. ولتحقيق هذا المقصد، نادى جروميكو بإصدار قرارين؛ أولهما يدعو المؤتمر إلى حظر استخدام القنابل الذرية وإنتاجها، وتدمير الأسلحة الموجودة في غضون ثلاثة أشهر، وفي الوقت نفسه يطلب من المسئولين إصدار قوانين داخل بلادهم لمعاقبة المخالفين، أما القرار الثاني فيدعو إلى تشكيل لجنتين؛ واحدة لتبادل المعلومات العلمية والأخرى لإيجاد السبل لضمان الالتزام بهذه الشروط.
جاء الرد السوفييتي المباشر الوحيد على خطة باروخ في صورة معارضة لإلغاء حق النقض، وذلك على النحو التالي: «إن محاولات تقويض المبادئ، التي أرساها ميثاق مجلس الأمن — بما في ذلك إجماع أعضاء المجلس عند تقرير القضايا الجوهرية — لا تتفق مع مصالح الأمم المتحدة … [و] يجب أن تُرفَض.» لم يكن من المرجح أن يقول ممثل جوزيف ستالين غير ذلك، خاصة وقد بدأت الحرب الباردة تتخذ هيئتها.
كان رد فعل واشنطن الرسمي متحفظًا. وفي مؤتمر صحفي قال أحد أعضاء الوفد الأمريكي إنه لا يشعر باليأس، ووصف المقترح السوفييتي بأنه «مفتوح للنقاش وليس موقفًا سوفييتيًّا نهائيًّا». ولتجنُّب التسبب في شقاق صريح في هذه المرحلة المبكرة من المفاوضات، قدَّم الوفد الأمريكي إفادات صحفية غير مصحوبة بأسماء كي يعلن عن موقفه. ومن ثم، أفادت صحيفة «ذا نيويورك تايمز» بأنه وفقًا لما صرَّح به مصدر موثوق فإن الولايات المتحدة لم يكن بوسعها أن تقبل خطة جروميكو، على الأقل في غياب الضمانات التي اقترحها باروخ؛ لأن هذا يعني تخلي الولايات المتحدة عن مصدر قوتها العسكرية.
في البداية، وافقت لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية على أن تُوقِف عملَها وتتحوَّل إلى لجنة جامعة عاملة؛ وذلك لكي تصيغ خطة تضم كل الأفكار التي اقتُرحت من أجل هيئة السيطرة الدولية. وقد أعادت كلٌّ من واشنطن — التي لاحظت مستوى الدعم الذي حظي به مقترحها — وموسكو التأكيدَ على موقفيهما السابقَيْن. وبعد قَدْر من التأخير من جانب جروميكو بسبب الاسم، تشكَّلت مجموعة أصغر — سُمِّيَت «اللجنة الفرعية الأولى» — لصياغة الملامح الممكنة التي قد تملكها خطة السيطرة، وكانت الدول الأعضاء بهذه اللجنة هي: فرنسا، والمكسيك، وبريطانيا، والولايات المتحدة، والاتحاد السوفييتي.
اجتمعت اللجنة الفرعية الأولى في الأول من يوليو، بعد يوم واحد من تجربة الولايات المتحدة قنبلة ذرية في جزيرة بيكيني، وهو ما رآه البعض دليلًا على أن الولايات المتحدة ليس لديها أي نية للتخلي عن احتكارها للقنبلة. وقد منح استمرار التجارب الذرية الأمريكية للسوفييت نصرًا دعائيًّا، ناهيك عن أنه أمدَّهم بالحافز كي يواصلوا مسعاهم الخاص في هذا الصدد. وفي الخامس والعشرين من يوليو أَجْرَت الولايات المتحدة تجربة أخرى. لكن في سبتمبر، أجَّل ترومان التجربة التالية — المقرر القيام بها في مارس ١٩٤٧ — وكان احترامه للمفاوضات الجارية أحد الأسباب التي دعته لذلك.
أبرزت المناقشات التي جَرَتْ في اللجنة الفرعية الأولى بعضًا من الخلافات الرئيسية بين الجانبين. فقد أصرَّ جروميكو في البداية على تجريم الأسلحة الذرية بحكم القانون، ولم يكن مهتمًّا بقدر كبير بنظام السيطرة. ومن جانبهم، طالب الأمريكان بنظام سيطرة ملائم قبل أن يتخلوا عن أسلحتهم. كما أن الموقفين المتعارضين للدولتين بشأن مسألة حق النقض زاد من حدة الشقاق بينهما. ورغم أن هدف الأمريكان من تقديم المذكرة كان الحصول على استجابات أكثر تحديدًا من السوفييت، فإن جروميكو تشبَّث بموقفه.
أدرك رئيس اللجنة الفرعية الأولى، وزير شئون الخارجية الأسترالي هربرت إيفات، الطريقَ المسدود الذي وصلت إليه المفاوضات، واقترح على اللجنة بأسرها تشكيلَ ثلاث لجان فرعية جامعة من أجل تناول القضايا الفنية، مع تنحية المسائل السياسية جانبًا؛ وذلك على أمل العثور على أرضية مشتركة. وبموافقة الأغلبية وافقت اللجنة على تشكيل «اللجنة الثانية» و«اللجنة الفنية والعلمية» — وهي اللجنة الوحيدة التي دعم السوفييت تشكيلها — إضافة إلى «لجنة قانونية». وقد جرى العمل الأهم داخل اللجنة الفنية.
اجتمعت اللجنة الثانية أولًا، بيد أنها عجزت عن تجاوز الخلافات التي شهدتها اللجنة الفرعية الأولى، وصارت منتدى لرفض جروميكو الصريح لخطة باروخ. وقد صرح جروميكو في الرابع والعشرين من يوليو ١٩٤٦ قائلًا إنه اختصارًا «من المستحيل أن يَقْبَل السوفييت المقترحات الأمريكية في صيغتها الحالية على الإطلاق، إجمالًا أو تفصيلًا.» كما رفض بالمِثْل الإذعانَ لفكرة إلغاء حق النقض. وقد شدد جروميكو، مستحضرًا عملية تأسيس الأمم المتحدة، على أهمية قضية السيادة القومية في مداولاته. وقد أشار جروميكو إلى أن خطة باروخ تَعتبر الطاقة الذرية شأنًا ذا أهمية دولية، لا قومية. ومن ثم، فقد نظر إلى هذا المبدأ بوصفه خرقًا للفقرة السابعة من البند الثاني من ميثاق الأمم المتحدة؛ والتي تدعو إلى عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأعضاء.
بدأت اللجنة الفنية والعلمية اجتماعاتها في التاسع عشر من يوليو، وكان الإطار الذي عمل الأعضاء داخله ناجحًا نجاحًا عظيمًا. شكلت اللجنة مجموعة غير رسمية من العلماء، ووافقت على أن أعضاء هذه المجموعة لا يمثِّلون دولهم، بل هم يستكشفون الجوانب الفنية للضمانات بوصفهم أفرادًا، وأي نتائج سيتوصلون إليها من شأنها أن تُحال إلى اللجنة الرئيسية. وبالإضافة إلى المعلومات الفنية الواردة في تقرير أتشيسون-ليلينثال، قدمت الولايات المتحدة معلومات عامة وأخرى تخصُّ الاستخدام المفيد للطاقة الذرية في أحد عشر أطروحة مختلفة. واستجابة لأمر تكليفها، أكملت اللجنة الفنية تقريرها في الثالث من سبتمبر، وخلصت إلى أنه تعذَّر عليها أن تجد «أي أساس فيما هو متاح من حقائق علمية يدعم الافتراض بأن السيطرة الفعالة غير ممكنة من الناحية التكنولوجية». لكن ستظل مشكلة أخرى حاضرة على الدوام؛ المشكلة السياسية.
نظرًا للتأخير الشديد الذي شهدته أعمال اللجنة، قرَّر باروخ أن يكتب خطابًا إلى ترومان يطلب فيه الموافقة على توصيتين؛ الأولى تقضي بضرورة فرض تصويت داخل لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية في موعد مبكر، ويُفضَّل قبل يناير ١٩٤٧، حين تتغيَّر الدول الأعضاء باللجنة، والثانية تقضي بالدعوة للتأهب العسكري في مجال الطاقة الذرية، في حالة الفشل — المرجح — لعمل اللجنة.
جَرَتْ زيارة باروخ إلى البيت الأبيض من أجل تسليم خطابه في الثامن عشر من سبتمبر على خلفية من التغطية الصحفية الواسعة لآراء وزير التجارة هنري والاس، الذي كان معارضًا لخطة باروخ. وقد ضربت ملاحظات والاس — التي لاقت قبولًا واسعًا من الجمهور الليبرالي — باروخَ في الصميم، وأضرَّت بصورته العامة على نحو بالغ. قال والاس إن أحد العيوب الأساسية لخطة باروخ كان الإصرار الأمريكي على أن تتخلى جميع الدول الأخرى عن حقها في استكشاف استخدامات الطاقة النووية، وأن تسلم المواد الخام إلى هيئة دولية، بينما لن تتخلى الولايات المتحدة عن أسلحتها إلى أن تتأكد من إرساء نظام كهذا. وكان والاس يرى أن الولايات المتحدة لم تكن لِتَقْبَل بمثل هذه الصفقة لو أنها كانت على الطرف الآخر من طاولة المفاوضات.
رأى باروخ أن مثل هذا الشقاق لن يؤدي إلا إلى تقويض أثر التصويت القادم باللجنة. وفي مؤتمر باريس للسلام لوزراء الخارجية، تقدَّم وزير الخارجية جيمس إف بيرنز بشكوى مماثلة، زاعمًا أن تصريحات والاس قد فتَّتْ في قوة موقفه هناك. ومن ثم هدد كلٌّ من باروخ وبيرنز بالاستقالة ما لم يتراجع والاس عن تصريحاته. وفي ضوء هذه الأزمة طلب ترومان من والاس الاستقالة؛ وبالفعل تلقَّاها منه في العشرين من سبتمبر.
وبينما تواصلت قضية والاس-باروخ في الصحافة، دعا السوفييت أخيرًا إلى تصويت على تقرير اللجنة الفنية والعلمية. وقد سعدت المجموعة بالتصويت السوفييتي لصالح التقرير، بيد أنها كانت سعادة قصيرة الأجل؛ إذ صرَّح المندوب السوفييتي بأن صوته مصحوب بتحفُّظ مبنيٍّ على حقيقة أن المعلومات التي بُنِيَتْ عليها نتائج التقرير كانت معلومات غير كاملة؛ ومن ثم ينبغي اعتبارها معلومات مفترضة ومشروطة. قَبِلَتِ اللجنة الثانية بشكل رسمي تقرير اللجنة الفنية والعلمية في الثاني من أكتوبر، وبدأت في سماع شهادة عدد من خبراء المجال.
ورغم سير أعمال اللجنة الثانية على نحو سلس، أوضحت بعض الأفعال السوفييتية خلال شهر أكتوبر ١٩٤٦ بجلاء أن الطرفين كانا مختلفين أشدَّ الاختلاف. في الوقت عَيْنِه ضَغَطَ باروخ على ترومان من أجل تلقِّي ردٍّ على الخطاب الذي أرسله له في شهر سبتمبر ودعا فيه إلى تصويت مبكر. وحين تلقَّى باروخ في نوفمبر الإذنَ بفرض التصويت بنهاية العام، كانت خطة باروخ قد رُفِضَتْ بالكامل تقريبًا، وصارت سُمْعتُه عرضة لهجمات شرسة من جانب السوفييت في الأمم المتحدة.
الحرب الباردة تدخل الصورة
في الثالث عشر من نوفمبر، في أول اجتماع عام للجنة الأمم المتحدة المعنِيَّة بالطاقة الذرية، كانت نتيجةُ التصويت على ضرورة تسليم اللجنة نتائجها وتوصياتها إلى مجلس الأمن قبل الحادي والثلاثين من ديسمبر ١٩٤٦ موافقةَ عشر دول مقابل امتناع دولتين (الاتحاد السوفييتي وبولندا) عن التصويت. ورغم تحركات السوفييت الهادفة للتأخير، اقترب باروخ من هدفه المتمثِّل في عمل تصويت مبكِّر على خطته. وفي الخامس من ديسمبر اقترح باروخ — الذي تعزَّز موقفه بفضل الدعم الذي تلقَّاه من البيت الأبيض — أن يتمَّ تبنِّي الخطة التي تحمل اسمه كتوصية إلى مجلس الأمن، بَيْدَ أنه لم يُصِرَّ على التصويت في ذلك اليوم. وفي العشرين من ديسمبر رفضت لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية مُقترحًا سوفييتيًّا بتأجيل التصويت لمدة أسبوع، فيما اقترح الوفد البولندي إحالة خطة باروخ إلى اللجنة السياسية والاجتماعية التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة. عند هذه النقطة، رفض جروميكو الاستمرار في المشاركة، واستمر على هذا الموقف حتى نهاية العام.
بعدها بعدَّة أيام، وفي السادس والعشرين من ديسمبر، أقرَّت اللجنة الثانية تقريرَها عن الضمانات، ورفعَتْه إلى اللجنة العاملة، التي ناقشت في اليوم التالي خطة باروخ فقرة بفقرة. كانت هناك نقطة خلاف وحيدة: حق النقض. وافقت المجموعة على نقل الأمر إلى لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية الكاملة مع رسالة إحالة تشرح الخلاف المتبقِّي، وملحوظة تفيد بعدم مشاركة السوفييت. وفي الاجتماع الأخير للجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية، والذي جرى في الثلاثين من ديسمبر، وافقت المجموعة على مقترح باروخ الخاص بتبنِّي تقرير اللجنة العاملة وتقديمه إلى مجلس الأمن اليوم التالي. كانت الموافقة بالأغلبية، لكن دون موافقة السوفييت، وهو ما أفضى إلى ما سمَّاه سيناتور كونيتيكَت المستقبلي جوزيف آي ليبرمان، «نصرًا زائفًا» للولايات المتحدة.
استقال باروخ، كما كان متفقًا عليه — بُعَيْدَ التصويت — تاركًا مكانه لمندوب الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، وارن أوستن، وهو ما يُفترَض به تقوية المركز الأمريكي من خلال الجمع بين منصبَي المفاوض والمندوب في شخص واحد. ناقش مجلس الأمن التقرير دون نجاح كبير حتى مارس ١٩٤٧، حين أصدر قرارًا بإحالة المناقشات مرة ثانية إلى لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية. قدَّمَتْ لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية تقريرَها الثاني في سبتمبر، وتضمَّنَت المداولاتُ اثنيْ عشر تعديلًا سوفييتيًّا على التقرير الأول للجنة، رُفِضَتْ جميعها. لم يناقش مجلس الأمن التقرير الثاني للجنة، واستمرَّت اللجنة في عملها خلال ربيع عام ١٩٤٨. خلص التقرير الثالث للجنة إلى أن المجموعة وصلت إلى طريق مسدود، وطلب من مجلس الأمن تعليق المداولات. وفي صيف عام ١٩٤٨ استخدم السوفييت حق النقض ضد قرار بمجلس الأمن يقضي بالموافقة على كل تقارير لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية، بينما وافق قرار غير مُلزِم صادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة على الخطة التي أقرَّتْها الأغلبية، على أمل أن تجد لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية يومًا ما سبيلًا لوضع الأسلحة النووية تحت السيطرة. لكن الأمل تبدَّدَ على ما يبدو في نوفمبر ١٩٤٩ حين وافقت الجمعية العامة على تعليق أعمال لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية.
حين قدَّم برنارد باروخ مقترحَ الولايات المتحدة المبدئيَّ للتعامل مع الأسلحة الذرية مع بدء عمل لجنة الأمم المتحدة المعنيَّة بالطاقة الذرية في يونيو ١٩٤٦، فَتَحَ البابَ أمام مئات — إن لم يكن آلاف — المناقشات ثنائية الأطراف ومتعددة الأطراف بشأن إجراءات السيطرة على التسلح على مدار العقود الستة التالية. كانت خطة باروخ تهدف إلى إنشاء «هيئة دولية للتطوير الذري»؛ من أجل السيطرة على جميع الأنشطة المرتبطة بالطاقة الذرية، بداية من المواد الخام إلى التطبيقات العسكرية، والتفتيش على جميع الاستخدامات الأخرى. وقد عارض المندوب السوفييتي، ومندوبو دول أخرى، المقترحَ الأمريكيَّ؛ نظرًا لأن الولايات المتحدة لم تتخلَّ عن ترسانتها النووية، في الوقت الذي تنتظر فيه من الدول الأخرى أن تتخلى عن تطوير ترساناتها. ولم يكونوا مخطئين تمامًا. فقد أكَّد باروخ في ديسمبر ١٩٤٦ على أن «أمريكا تستطيع الحصول على ما تريد لو أنها أصرَّتْ على ذلك، ففي نهاية المطاف نحن من نملك القنبلة الذرية وليسوا هم، وسيستمر الوضع كذلك لفترة طويلة قادمة.» بيد أنه كان مخطئًا في كلتا النقطتين؛ إذ رفض السوفييت خُطَّتَه، وسرعان ما أنتجوا قنابلهم الذرية (انظر الفصل الرابع).
لخَّص المؤرخ بارتون بيرنشتاين الموقفَ بقوله: «لم تكن الولايات المتحدة ولا الاتحاد السوفييتي مستعدَّيْن في عام ١٩٤٥ أو عام ١٩٤٦ لتقبُّل المخاطر التي يطلبها الطرف الآخر من أجل الوصول لاتفاق. وبهذا المعنى، كان الطريق المسدود الذي وصلت إليه مناقشات موضوع الطاقة الذرية رمزًا لانعدام الثقة المتبادل الذي شابَ العلاقاتِ السوفييتية الأمريكية.» وقد لَعِبَ إصرارُ واشنطن المتواصلُ — بداية بخطة باروخ — على فرض أنظمة التفتيش التدخلي من أجل التحقق من الالتزام بالمعاهدات — والذي رآه الاتحاد السوفييتي تجسسًا واضحًا — دورًا بارزًا في جعل المساعي المستقبلية للسيطرة على التسلح تَصِل إلى طريق مسدود. وليس لنا أن نندهش لو سار الأمر على نحو مختلف في «صراع من أجل روح البشرية ذاتها» حسب الكلمات التي تحدَّث بها الرئيس السابق جورج دبليو بوش بعد ذلك بسنوات عدَّة في سياق مختلف وإن كان ذا صلة.