الردع النووي والحد من التسلح
حين أعلنت الملكة إليزابيث — في نهاية السبعينيات — أن «القوة التدميرية الرهيبة للسلاح النووي قد حفظت العالم من حرب عظمى على مدار الأعوام الخمسة والثلاثين المنصرمة» كانت تعكس رأيًا يعتنقه أغلب رجال الدولة إبان حقبة الحرب الباردة، كما اعتنقه العديد من الأكاديميين بالتبعية. ولاحقًا، نظر المؤرخ جون لويس جاديس إلى الحرب الباردة التي امتدت لخمس وأربعين عامًا بوصفها «فترة السلام الطويل»؛ نظرًا لعدم نشوب صراعات مباشرة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي خلالها. وقد ذهب جاديس إلى أن هذا كان إنجازًا غير مسبوق؛ لأنه «قبل تلك الفترة — وخلا استثناءات قليلة — زادت التحسيناتُ في الأسلحة من تكاليف خوض الحروب دون أن تُقلِّل من نزعة خوضها.» بهذا المعنى، إذن، كانت الثورة النووية أشبه بالزلزال العظيم؛ إذ أطلقت سلسلة من موجات الصدمة شقَّتْ طريقَها تدريجيًّا في أرجاء النظام السياسي.
لكن لم يتفقْ جميع المراقبين على هذا الرأي. فقد اقترح البعض أن الأسلحة النووية كانت «لا صلة لها بالأساس» بعملية حفظ السلام؛ لأنه حتى في غياب هذه الأسلحة الجديدة المدمرة كانت أي حرب عالمية جديدة ستصير مكلفة للغاية بما يمنع أي قيادة رشيدة من الانخراط فيها. وقد أقرَّ مسئول وزارة الخارجية السابق ريموند إل جارثوف بأن وجود الأسلحة النووية في أيدي كلتا القوتين العظميين كان له دون شك «تأثير مقيد رادع». وخلص إلى أنه لو أن الأسلحة النووية لم تكن موجودة «فمن المرجح بدرجة كبيرة أنه لم تكن الولايات المتحدة لتهاجم الاتحاد السوفييتي والعكس بالعكس، وكان من المرجح أيضًا — وإن كان بدرجة أقل تأكيدًا — أنه لم تكن أيهما لترتكب أفعالًا حربية من الاستفزاز بدرجة تتسبب في نشوب حرب شاملة بين القوتين العظميين.»
ثمة احتمال ضعيف أن يتفق الجميع مع الافتراض العام القائل بأن القوة المدمرة للأسلحة النووية حافظت على سلام نسبي بين القوتين العظميين. لكنْ ثمة استدراك مهم ينبغي وضعه هنا. ففي عام ١٩٨٥ على سبيل المثال، صرَّحَ اللورد كارينجتون — الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) — برأيه في قيمة الردع قائلًا: «لا أظن وحسب أن الردع قد نجح، بل أعلم هذا يقينًا. فلم تنشب حرب طيلة أربعين عامًا … و[لا] توجد وسيلة أخرى في وقتنا الحالي لحفظ السلام في العالم.» وقد كان يقصد بعبارة «حفظ السلام في العالم» عدم وقوع أي حرب نووية؛ نظرًا لأن الدول غير النووية استمرت في شن الحروب التقليدية بِحُرِّية، وإن كانت الدول النووية لم تُقدِم على الأمر بمثل هذه الحُرِّية.
كانت الحروب التي استُخدِمت فيها الأسلحة التقليدية أمرًا شائعًا خلال الحرب الباردة، وكان بإمكان الدول غير النووية أن تخوضها دون قيود تُذكَر، بينما كانت الدول النووية قادرة على خوض حروب تقليدية، لكنها امتنعت عن محاربة بعضها البعض. وقد كشفت دراساتٌ الحالةَ التي أُجرِيَتْ على صراعات الحرب الباردة عن وجود قاعدتين راسختين غير مكتوبتين؛ الأولى: أنه لا يحق لدولة نووية أن تستخدم القوة العسكرية ضد دولة نووية أخرى، والثانية: أنه حين تستخدم الدولة النووية القوة العسكرية ضد دولة غير نووية فإنه لا يحق لها استخدام الأسلحة النووية ضدها. علاوة على ذلك، لم يكن امتلاك أسلحة نووية يردع الدول غير النووية عن شن الحروب على دول واقعة تحت حماية الدول النووية، وهو ما شهدت عليه الولايات المتحدة في حربيْ كوريا وفيتنام.
تطوُّر الردع النووي
لم يصبح خطر الأسلحة النووية، وإدراك هذا الخطر، كافيَيْن لخلق حالة الردع والجمود التي سادت الحرب الباردة إلا مع حلول العقد الثاني من العصر النووي. وقد اختار يوجين روبينوفيتش — محرر مجلة «نشرة علماء الذرة» — العامَ ١٩٥٦ تاريخًا لمولد «عصر الردع»، وأطلق على هذا العام اسم «العام الأول للردع». كما حدَّدَ آخرون العامَ الأول للردع في الأعوام ١٩٥٤ أو ١٩٥٥ أو ١٩٥٧. وقد اختار قاموس «راندَم هاوس دِكشِناري» (طبعة عام ١٩٨٧) العام ١٩٥٥ بوصفه عام ظهور الردع النووي، وعرَّف الردع بأنه: «توزيع الأسلحة النووية بين الدول بحيث لا تُقْدِم دولة على بدء أي هجوم مخافةَ الردِّ الانتقامي.» أيضًا عُرِفَتْ هذه الحالة باسم «توازن الرعب»، وهو المسمى الذي صار شهيرًا حين ورد على لسان ونستون تشرشل، بَيْدَ أنَّه كان صارخًا لدرجة كبيرة صعَّبَتْ من استيعاب العامة له، أما مصطلح «الردع» فكان أسهل استيعابًا.
مراحل تطوير السلاح النووي
ومع دخول القنابل النووية الحرارية (الهيدروجينية) المشهد واستحداث الصواريخ البالستية طويلة المدى الحاملة للرءوس النووية في أواخر الخمسينيات، اكتسب مفهوم الردع النووي رواجًا واسعًا. ومع توسع الترسانة النووية في ستينيات القرن العشرين، استُخدِمَتْ مصطلحات مثل «سياسة الردع» و«استراتيجية الردع» كتعبيرات لطيفة عوضًا عن «السياسة النووية» (اختصارًا ﻟ «سياسة الأسلحة النووية») و«الاستراتيجية النووية». وتدريجيًّا ألحق المُنظِّرون الاستراتيجيون نعوتًا؛ مثل: «الموثوق به»، و«الفعَّال»، و«المستقر»، و«المتبادل» بمفهوم التوازن النووي أو الردع النووي.
قدَّمَ هؤلاء المُنظِّرون أيضًا تخميناتهم بشأن طرق استخدام الترسانات النووية والتوسع فيها. فمن الممكن أن تحدث «ضربة نووية أولى» حين تعتقد دولة ما أنها تملك من القوة النووية ما يكفي للتغلب على العدو، ومن ثم يتحقق لها النصر. أما مفهوم «الضربة الاستباقية» فهو قريب من هذا المعنى، ويعني شن ضربة نووية حين تتوقع الدولة أن عدوها يُعِدُّ العدة لشن هجمة نووية. ويشير مصطلح «الضربة الانتقامية» أو «الضربة الثانية» إلى قدرة الدولة على امتصاص ضربة نووية أولى والاحتفاظ بما يكفي من الأسلحة النووية كي تُوقِع ضررًا غير مقبول — أو تأمل أنه غير مقبول — بالدولة المعتدية.
إلا أن صُنَّاع السياسات والجمهور نادرًا ما رأوا مثل هذه الفروق الواضحة بين الاستراتيجيات. وعليه، فقد ظهر مفهوم الردع لا بوصفه استراتيجية عسكرية ولا استراتيجية سياسية، بل جرى تقبُّلُه وحَسْبُ على أنه أمر واقع. وحين رأت حكومتا الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي أن قُوَّتَيْ دولتيهما العسكريتين قادرتان على امتصاص ضربة نووية أولى مع الحفاظ في الوقت ذاته على قوة تكفي لشن ضربات انتقامية — وهو ما حدث بنهاية عقد الستينيات — صار الردع المتبادل أمرًا واقعًا، حتى إن لم يكن على صورة سياسة رسمية.
ورغم أن الردع المتبادل تحقَّقَ على نحو تدريجي، فإن تصوُّرات القوتين العظميين وسياساتهما شهدت تباينًا كبيرًا منذ مطلع الحرب الباردة. وقد أوجد نظاماهما السياسيان الاجتماعيان — المبنيان على طموحات سياسية واقتصادية وجيوسياسية وأيديولوجية آخذة في الاختلاف — مخاوفَ حقيقيةً بشأن مقاصد كلٍّ منهما ونواياه. وقد تحسَّر ستروب تالبوت في حديثه لمجلة تايم قائلًا: «لأكثر من أربعة عقود ظلَّتِ السياسة الغربية مبنيةً على مُبالغة مُفزِعة لما يمكن أن يفعله الاتحاد السوفييتي لو أراد، ومن ثم ما قد يفعله، ومن ثم ما يجب على الغرب أن يكون مستعدًّا له ردًّا على ذلك.» وقد أدَّى هذا إلى افتراضات متشائمة مبالَغ فيها للغاية بشأن القدرات السوفييتية. في الوقت ذاته، بدأ تغيُّر مُقلِق في الحدوث داخل الولايات المتحدة مع تسلُّل النزعة العسكرية إلى الحياة الأمريكية. وبدأ التشكك حيال السلاح والجيش، ذلك التشكك الذي أرشد المجتمع الأمريكي منذ تأسيسه، في الاختفاء. وصار القادة السياسيون — من الليبراليين والمحافظين على حدٍّ سواء — مغرمين بالقوة العسكرية. وقد أقرَّ السفير السوفييتي في واشنطن أناتولي دوبرينين في مذكراته بأن سياسات موسكو إبان الحرب الباردة كانت محكومة على نحو غير عقلاني بالفكر الأيديولوجي، وأدَّى هذا إلى مواجهة متواصلة. وفي وقت لاحق خلص ميخائيل جورباتشوف إلى أن القوتين العظميين تسمَّرتا في مكانيهما بفعل الخرافات الأيديولوجية.
هذه التوترات الأيديولوجية والسياسية أدَّتْ إلى تبنِّي استراتيجيات مختلفة لتجنُّب أي صدام نووي. وبالتبعية، تعاملت الولايات المتحدة مع مشكلة منع الحرب بالكامل تقريبًا عن طريق القدرات العسكرية. ومن جانبه، تعامل الاتحاد السوفييتي مع مشكلة منع الحرب بالأساس عن طريق الحوافز والمقاصد السياسية. وقد كان للتركيز المختلف للقوتين تأثيرات مهمة على العقيدة والقوات العسكرية لكل منهما.
خلال فترة الحرب الباردة تبنَّى الرؤساء الأمريكان استراتيجيةً نوويةً ثبت في نهاية المطاف أنها كانت متناقضة. على سبيل المثال، كان الرئيس هاري إس ترومان مقتنعًا — من ناحية — بأن الأسلحة النووية لعبت دورًا رئيسًا في الدفاع عن العالم الديمقراطي ضد أعدائه، لكنه من ناحية أخرى كان يخشى أن تؤدي الحرب التي تُستخدَم فيها الأسلحة النووية إلى دمار الولايات المتحدة والحضارة الحديثة. وفي خطاب الوداع الذي ألقاه في يناير ١٩٥٣ قال ترومان إن «بدء حرب نووية أمر من غير المتصور أن يفكر فيه أي رجل عاقل.» وقد صرَّحَ لاحقًا أن «سبب هذا هو أن الحرب النووية تؤثِّر على المدنيين وتقتلهم بالجملة.» وقد كان الرئيس دوايت دي أيزنهاور يرى أن الحرب باستخدام الأسلحة النووية الحرارية «أمر مستحيل من فرط سخافته». لكن رغم إقرار إدارته والإدارات اللاحقة بأن الحرب النووية «أمر غير متصور»، فإن القادة السياسيين وقادة الجيش الأمريكيين واصلوا سعيهم لبناء الترسانات النووية التي قد تعضِّد أهدافهم السياسية الأكثر محدودية.
سَعَتْ إدارة ترومان إلى ربط فكرة الردع بطريقة لفرض سياسة جديدة للاحتواء كان يُقصَد من ورائها منع — وفي النهاية تراجع — التوسع المباشر وغير المباشر للهيمنة والنفوذ السوفييتيين. وقد سَعَت استراتيجية الاحتواء القومية الأساسية للإدارة ليس فقط إلى «وقف أي توسع للقوة السوفييتية»، وإنما أيضًا أن يتم هذا «بكل الوسائل خلا الحرب»؛ وذلك من أجل «الحث على تقهقر سيطرة الكرملين ونفوذه … بغرض إلغاء دافع الكرملين للهيمنة على العالم وإبطاله». وقد أملت واشنطن أن يتسبب احتكارها الذري في التوسع في نظرية الردع (منع أي هجوم نووي على الولايات المتحدة) بحيث تشمل إمكانية «الإجبار» (بمعنى إجبار السوفييت على الانسحاب من أوروبا الشرقية).
لم يكن لتدمير هيروشيما سوى تأثير رادع طفيف على موسكو، إلا أنه حفز الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين على الإصرار على أن تملك روسيا السلاح النووي من أجل الحفاظ على توازن القوى. كما أن ستالين نظر على نحو مختلف إلى التوسع السوفييتي في أوروبا الشرقية؛ إذ رآه بوصفه حاجزًا ضد أي طموحات ألمانية مستقبلية، علاوة على أنه ساعد على استعادة الحدود التاريخية لروسيا.
خلال المراحل المبكرة من الحرب الباردة، بُذلت بعض الجهود من جانب الولايات المتحدة من أجل تطبيق «الإجبار الذري»؛ وذلك في محاولة لاستدراك الموقف. وقد أكَّد الرئيس ترومان في مذكراته أن الاحتكار الذري الأمريكي تسبَّبَ في الضغط على موسكو حتى انسحبت من شمالي أذربيجان في مارس ١٩٤٦. بَيْدَ أن الوثائق اللاحقة أفادت بأن السوفييت لم يتأثروا بتهديداته.
وفي مناقشات سرِّية جَرَتْ خلال الأزمات التي وقعت بين عامَيْ ١٩٥٣ و١٩٥٥ أصرَّ الرئيس الأمريكي دوايت دي أيزنهاور على أن استخدام الأسلحة الذرية «ليس بالأمر المتصور أو المجُدي»، وحين ألمح أيزنهاور إلى استعداده لاستخدام القوتين التقليدية والنووية في حل القضايا المترتبة على الهدنة الكورية، وتلك الخاصة بالهند الصينية والجزر الصينية التي يحكمها القوميون الصينيون، فإنه كان مقتنعًا بأن موسكو لن تتدخل لمساعدة الصين أو تتسبب في تصعيد موقف إقليمي يخاطر بإشعال مواجهة مع الولايات المتحدة التي تملك قوى نووية أكبر حجمًا. وفي محاولة من أيزنهاور لإحداث تأثير ملموس، فقد أطلق برنامج «النظرة الجديدة» الذي قلَّص التمويل الممنوح للجيش والبحرية، وفي الوقت ذاته زاد من الأموال المخصصة للتوسع في القيادة الجوية الاستراتيجية وزيادة الترسانة النووية الأمريكية.
وقد أسهب وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس في مقاله الشهير بمجلة تايم عام ١٩٥٤ بعنوان «سياسة الجرأة» في وصف جهود الإدارة الأمريكية بشأن «الإجبار الذري». وقد ذهب دالاس إلى أنه يجب دعم الحلفاء الإقليميين بواسطة «قوة انتقامية ضخمة». كما ذهب إلى أن «سبيل ردع العدوان هي أن يكون المجتمع الحر مستعدًّا للرد بقوة — وقادرًا على ذلك — وهذا في الأماكن التي يختارها وبالوسائل التي يختارها.» ليس من الواضح أن تكون مثل هذه التهديدات قد غيَّرَتْ من سياسات اتخاذ القرار السوفييتية أو الصينية، لكنها بالتأكيد أقضَّت مضاجعَ الكثيرين من جمهور السياسة الخارجية الذين أشاروا إلى أن الأنظمة الشيوعية الكبرى ليس لها سوى تأثير محدود في العديد من الصراعات المحلية، مثل الصراع في الهند الصينية.
في وقت لاحق، تسبَّبت تطورات ثلاثة في إثارة قلق الشعب الأمريكي، وشكلت تحديًا لسياسات أيزنهاور الدفاعية. ففي الثاني والعشرين من نوفمبر ١٩٥٥، فاجأ السوفييتُ الإدارةَ الأمريكيةَ بتفجير قنبلتهم الهيدروجينية الأولى، وفي أغسطس ١٩٥٧ اختبر السوفييت صاروخًا بالستيًّا عابرًا للقارات، وفي أكتوبر من العام ذاته أذهل السوفييت العالم حين أطلقوا سبوتنك ١، أول قمر صناعي يدور حول الأرض. أقنع القلقُ الشعبيُّ الرئيسَ بتشكيل لجنة برئاسة روان جايثر بهدف تقييم مدى ضعف الأمة. وبالفعل صدر تقرير جايثر بعنوان «الردع والبقاء في العصر النووي» في السابع من نوفمبر ١٩٥٧، وجاء فيه أن السوفييت سيملكون ما يَفُوق عشرة صواريخ بالستية عاملة عابرة للقارات في غضون العام، بينما ستحتاج الولايات المتحدة ما بين عامين إلى ثلاثة أعوام للحاق بالسوفييت، وهو ما سيخلق «فجوة صواريخ». (وسرعان ما أدرك الرئيس جون إف كينيدي أن السوفييت هم من يواجهون «فجوة صواريخ».)
في يوليو ١٩٥٨ عُرِض على الرئيس أيزنهاور سيناريوهان مقلقان: في السيناريو الأول «تمحو» ضربةٌ نووية سوفييتية الحكومةَ الأمريكية وتُدمِّر اقتصادَ الدولة، وفي السيناريو الثاني يُدمِّر السوفييتُ جميعَ قواعد القيادة الجوية الاستراتيجية ويلحقون ضررًا بالغًا بالدولة. سوف يعاني السوفييت جراء الرد الانتقامي الأمريكي أضرارًا بالغة تناهز ثلاثة أضعاف الأضرار الأمريكية، بَيْدَ أن الولايات المتحدة ستتكبَّد خسائر فادحة تصل إلى نحو ٦٥ بالمائة من السكان البالغ عددهم نحو ١٧٨ مليون نسمة. صُدِم أيزنهاور من هذين السيناريوهين، وتغيرت آراؤه جذريًّا — وقد أشار إلى أنه في الحرب الشاملة لا يوجد طرف رابح — ومن ثم أجاز استخدام الأسلحة النووية الحرارية لأغراض الردع وحسب.
الدمار المؤكد المتبادل
في سبتمبر ١٩٦٧ جرى التخلي رسميًّا عن سياسة الانتقام واسع النطاق، وحل محلها إقرار وزير الدفاع روبرت ماكنمارا بأن المخزون النووي السوفييتي كان يقترب من نظيره الأمريكي، وهو ما يخلق موقفًا من «الدمار المؤكد» (أضاف الناقد دونالد برينان كلمة «المتبادل»). لم تلقَ فكرة الدمار المتبادل المؤكد قبولًا لدى القادة العسكريين الأمريكان الذي كانوا يرون في القوة طريقًا لفرض السلام. وقد كتب الجنرال توماس بي باورز عام ١٩٦٥ أن «أول مبدأ من مبادئ الردع هو الحفاظ على قدرة موثوق بها على تحقيق النصر العسكري تحت أي أحوال أو ظروف.» وقد أكد كيرتس ليماي — وهو جنرال ساخط بالقوات الجوية — على أن «فلسفة الردع التي نتبعها حاليًّا استنزفت قدراتنا العسكرية.»
ومع هذا، في ضوء تعرض الميزانيات المخصصة له للخطر، طوَّرَ الجيشُ الأمريكي صيغةً (ثلاثية الجوانب) أمدَّت كل فرع من فروعه بوظيفة استراتيجية؛ فالقوات الجوية تملك القاذفات الاستراتيجية والصواريخ البالستية ذات الرءوس النووية العابرة للقارات، بينما تملك البحرية الصواريخ البالستية المُطلقة من الغواصات، فيما يملك الجيش الصواريخ البالستية فوق متوسطة المدى والمدفعية والألغام النووية، علاوة على المنظومات الدفاعية المضادة للصواريخ. نظريًّا، قلَّلَ الثالوث النووي هذا — على الأقل — من فرص أن يتمكن أي عدو من تدمير جميع القوى النووية التي تملكها الدولة في هجمة أولى، وهو ما يضمن قدرة الولايات المتحدة على توجيه ضربة انتقامية مدمرة.
أساسيات الصواريخ النووية
تُصنَّف الصواريخ النووية وفق المسافة القصوى التي تستطيع أن تَقْطَعها، وهذه المسافة تعتمد على كلٍّ من قوة محرك الصاروخ ووزن الرأس الحربي للصاروخ. ولإضافة المزيد من المسافة إلى مدى الصاروخ، تُصَف الصواريخ فوق بعضها في ترتيب يُعرَف باسم «المراحل».
-
الصواريخ البالستية قصيرة المدى: وتقطع أقل من ١٠٠٠ كيلومتر (٦٢٠ ميلًا تقريبًا).
-
الصواريخ البالستية متوسطة المدى: وتقطع بين ١٠٠٠ كيلومتر و٣٠٠٠ كيلومتر (٦٢٠–١٨٦٠ ميلًا تقريبًا).
-
الصواريخ البالستية فوق متوسطة المدى: وتقطع بين ٣٠٠٠ كيلومتر و٥٥٠٠ كيلومتر (١٨٦٠–٣٤١٠ أميال تقريبًا).
-
الصواريخ البالستية العابرة للقارات: وتقطع أكثر من ٥٥٠٠ كيلومتر.
يُشار إلى الصواريخ البالستية قصيرة المدى ومتوسطة المدى باسم صواريخ مسرح العمليات (الصواريخ التعبوية)، فيما تُوصَف الصواريخ البالستية العابرة للقارات بالصواريخ البالستية الاستراتيجية.
-
مرحلة الدفع: وتبدأ مع إطلاق الصاروخ، وتستمر حتى يتوقف محرك الصاروخ عن الاشتعال ودفع الصاروخ بعيدًا عن الأرض. اعتمادًا على نوع الصاروخ تستمر هذه المرحلة ما بين ثلاث وخمس دقائق. وخلال السواد الأعظم من هذا الوقت يطير الصاروخ بسرعة بطيئة نسبيًّا، لكنه قرب نهاية هذه المرحلة يمكن أن تصل الصواريخ العابرة للقارات إلى سرعات تزيد عن ٢٤ ألف كيلومتر في الساعة. يظل الصاروخ قطعة واحدة خلال هذه المرحلة.
-
المرحلة الوسيطة: وتبدأ بعد أن تنتهي الصواريخ الدافعة من الاشتعال، ويكون الصاروخ الأساسي في مسار بالستي (قوسي) نحو هدفه. هذه هي أطول مراحل رحلة الصاروخ، وتستمر إلى نحو ٢٠ دقيقة في حالة الصواريخ العابرة للقارات. وخلال الجزء الأول من المرحلة الوسيطة لا يزال الصاروخ يعلو متجهًا نحو نقطة الذروة، لكن خلال الجزء الثاني يهبط الصاروخ نحو الأرض. وخلال هذه المرحلة تنفصل أي رءوس حربية — وكذلك الرءوس الخداعية — عن الصاروخ الناقل.
-
المرحلة النهائية: وتبدأ حين يعاود الرأس الحربي دخول الغلاف الجوي للأرض، وتستمر إلى أن يصطدم الرأس بهدفه أو ينفجر. تستغرق هذه المرحلة أقل من دقيقة في حالة الرءوس الحربية الاستراتيجية، والتي يمكن أن تتحرك بسرعات تزيد عن ٣٢٠٠ كيلومتر في الساعة.
وقد سعى محللو وزارة الدفاع — بدافع من بُغْضِهم لفكرة التساوي والاكتفاء — إلى العثور على سبيل لتوظيف الأسلحة النووية وكذلك العثور على سبب يدفعهم للتوسع في ترساناتهم. وللحظات قصيرة تدبَّرَ هؤلاء عِدَّةَ أفكار بشأن كيفية شن حرب نووية — كالحرب النووية المحدودة، و«الردع التدريجي»، و«التكافؤ الأساسي»، وإطلاق الأسلحة النووية فور صدور إنذار، والضربات الاستباقية … إلخ — لكنهم سرعان ما كانوا ينبذون كل فكرة من هذه الأفكار. على سبيل المثال، وجدت مجلة إيكونومست اللندنية أن «الردع التدريجي» له عيبان أساسيان؛ الأول: هو «أن السلاح الرادع قد يفقد بعضًا من قدرته على الردع بسبب تغيُّر درجة استخدامه وفقًا لمستوى العدوان الواقع.» والثاني: أنه لو استُخدِم «السلاح الرادع» بطريقة محدودة، فقد لا يُنظَر إلى ضبط النفس بوصفه ضبطًا للنفس.
وبما أن الجيش السوفييتي لم يتلقَّ أيَّ أسلحة نووية حتى عام ١٩٥٤، ولم يكن يملك منظومات التوصيل الكافية لعدة سنوات تالية، لم تعتمد موسكو على الردع النووي. ومن ثم كان النهج السوفييتي لتجنُّب الحرب نهجًا سياسيًّا بالأساس. وعلى النقيض من التركيز الأمريكي على الردع بوصفه جوهر استراتيجية الولايات المتحدة وسياستها، فإن القادة السوفييت المتوالين استجابوا للحقبة النووية من خلال تعديل استراتيجياتهم وسياساتهم، بل وحتى أيديولوجياتهم، من أجل منح الأولوية القصوى لمنع الحرب.
في السنوات التالية مباشرة على الحرب العالمية الثانية لم يكن ستالين يعتقد أن الأمريكيين والبريطانيين ينوون الانخراط في فتوحات عسكرية، وآمَنَ بأنه يستطيع من حين لآخر أن يَفُتَّ في عضد العزم الغربي دون إثارة حرب شاملة. بَيْدَ أنه أخطأ في حساباته حين سمح لكوريا الشمالية بالهجوم على جارتها الجنوبية وحين سعى إلى الضغط على الغرب من أجل الانسحاب من برلين. ومع هذا فخلال هذه السنوات السابقة على الحقبة النووية السوفييتية بَدَت الخطط العسكرية السوفييتية وكأنها خطط دفاعية بالأساس.
وضع خلفاء ستالين الردع ضمن اعتباراتهم منذ منتصف الخمسينيات من الناحية النظرية، ومنذ منتصف الستينيات من ناحية القدرة الحقيقية المؤقتة، وفي أوائل السبعينيات ومنتصفها من ناحية التكافؤ التقريبي. وبعد أن فجَّر السوفييت قنبلتهم الهيدروجينية الأولى كان رئيس الوزراء السوفييتي جورجي مالينكوف أول زعيم سوفييتي يحذر من أن الحرب النووية ستعني نهاية العالم المتحضر. وقد تعرَّض مالينكوف للشجب من جانب خصومه السياسيين — مثل نيكيتا خروشوف — لأنه كرر تحذير أيزنهاور، لكن هؤلاء المنتقدين أنفسهم حين خلفوه في سدة الحكم سرعان ما ردَّدوا الرسالة عَيْنَها.
في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات عمدت موسكو إلى التلويح بأسلحتها النووية، والمفارقة أنها في ذلك الوقت كانت في أضعف موقف نسبي في هذا الصدد. وبدءًا من أزمة السويس عام ١٩٥٦ وصولًا إلى أزمة الصواريخ الكوبية في أكتوبر ١٩٦٢ حاول خروشوف أن يقلب الضعف السوفييتي إلى قوة رادعة، بل إلى قوة سياسية، عن طريق التضخيم الصارخ المخادع لقدراته النووية. وحين قرر خروشوف نشر الصواريخ البالستية السوفييتية متوسطة المدى وفوق متوسطة المدى، وأسلحة نووية تكتيكية، وقاذفات متوسطة المدى قادرة على حمل رءوس نووية سرًّا في كوبا — حيث ستكون مُوجَّهة من أجل ضرب السواد الأعظم من القارة الأمريكية في غضون دقائق — كان هدفه دعم قوة الردع السوفييتية. وقد اختلف الباحثون منذ ذلك الوقت وإلى اليوم حول ما إذا كان خروشوف ينتوي استخدام قوة الردع هذه على نحو هجومي أم دفاعي. وما إن اكتُشفت عملية نشر الصواريخ هذه حتى استجاب الرئيس جون إف كينيدي للتحدي عن طريق فرض حصار بحري على جزيرة كوبا والتهديد بعمل عسكري ما لم تُزَل الصواريخ والقاذفات. وبعد أسبوع على هذا الموقف المتأزِّم — وُضِعَتْ خلاله قوات القيادة الجوية الاستراتيجية في حالة استنفار — وافَقَ الزعيم السوفييتي على إزالة الصواريخ، وبعدها بشهر وافَقَ على إزالة القاذفات. وبعد هذا الفشل الذريع توقفت موسكو عن محاولة تحقيق مكاسب سياسية استنادًا على ترسانتها النووية الهامشية. بل إنه حتى أثناء بناء الاتحاد السوفييتي لقوته النووية الحقيقية في الستينيات والسبعينيات، ومع وصوله لنقطة التكافؤ في الثمانينيات — وهو ما عزَّزَ قدرته على الردع النووي — فإنه لم يحاول مجددًا تعويض التوازن النووي بالقوة، أو حتى بالتهديد باستخدام القوة.
يُشِير القَدْرُ اليسير المعروف عن التخطيط الحربي السوفييتي (والأمريكي) خلال الحرب الباردة إلى سعي القوات المسلحة لفرض هيمنتها في حالة ما إذا فشل الردع. ففي عام ١٩٥٥ أحدث المارشال بافل روتميستروف تحولًا في العقيدة النووية السوفييتية من أجل منع أي هجوم مفاجئ من شل قدرة السوفييت على شن ضربة انتقامية؛ وذلك عن طريق التصديق على شن ضربة استباقية (وجاء هذا التحول بعد خمس سنوات على تبني إدارة ترومان للمفهوم عَيْنِه) عند رصد أي هجوم نووي معادٍ وشيك. وقد شدَّد روتميستروف — في تلك الحقبة التي كانت الهيمنة فيها للقاذفات — على فكرة أن الضربة الاستباقية ليست بأي حال من الأحوال غطاءً لهجوم مفاجئ أو حرب وقائية قائلًا: «إن واجب القوات المسلحة السوفييتية هو عدم السماح بأي هجوم مفاجئ من جانب العدو على بلادنا، وفي حالة إقدام العدو على الهجوم فإن واجب قواتنا ليس فقط درء الهجوم بنجاح، بل أيضًا أن تُوجِّه للعدو ضربات مباغتة متزامنة مع الهجوم أو حتى تَسْبِقه، على أن تكون هذه الضربات ذات قوة طاغية ساحقة.» وفي الستينيات حلَّ محل هذه العقيدة الاستباقية عقيدة أخرى تقضي بإطلاق الصواريخ حال التعرض لهجوم. وفي الثمانينيات جرى تبني عقيدة إطلاق الصواريخ كردٍّ انتقامي على أي هجوم.
وفي واشنطن، استمر النقاش طيلة فترة الحرب الباردة حول ما إذا كان السوفييت مستعدين حقًّا لتقبل فكرة الردع أم كانوا يطورون الأسلحة والاستراتيجيات من أجل تجاوز الردع «الدفاعي». بيد أن الزعماء السوفييت لم ينظروا إلى الردع الأمريكي بوصفه ردعًا حميدًا أو دفاعيًّا (كما كانت تنظر له واشنطن)، وإنما رأوا أن الردع الأمريكي هجومي، وأنه مصدر تهديد وترهيب.
مع استعراضنا لعملية الردع ثمة سؤال يطرح نفسه: ما مقدار الردع الكافي؟ صرَّحَ دينيس هالي — السياسي المنتمي لحزب العمال البريطاني ووزير الخارجية بحكومة الظل في أوائل الثمانينيات — بأن ٥ بالمائة فقط من الرءوس النووية الموجودة كانت ضرورية في الواقع لردع موسكو، أما نسبة اﻟ ٩٥ بالمائة المتبقية فكان الهدف منها طمأنة العامة. وفي عددها الصادر في مايو ١٩٩٢ وجَّهت مجلة «نشرة علماء الذرة» لمجموعة من المتخصصين في الشأن النووي السؤال التالي: ما الذي يجب فعله بالأسلحة النووية؟ وقد أراد جميعهم تخفيض أعداد الأسلحة الموجودة بالترسانات النووية الحالية «تخفيضًا كبيرًا»، واتفق أغلبهم على أن الدول عليها أن تحافظ على «أقل قدر [مطلوب] من أجل الردع». وقد رأى أغلبهم أن عدد الأسلحة الذي يُحبَّذ الاحتفاظ به يبلغ نحو ١٠٠ سلاح فقط. لكن من الواضح أن أغلب الجهد الذي بذلته الدول تحت مسمى ردع عدو مرتقب كان في الحقيقة يهدف إلى طمأنة شعوب هذه الدول وحلفائها.
عام ١٩٩٦ خلصت «لجنة كانبيرا المعنية بالتخلص من الأسلحة النووية» — وهي لجنة دولية مكونة من أفراد بارزين أقامتها الحكومة الأسترالية — إلى نتيجة مفادها أن «الأسلحة النووية [لا تزال] تمثِّل تهديدًا لا يُحتمَل للبشر أجمعين وبيئتهم، ومع هذا فعشرات الآلاف من هذه الأسلحة لا تزال موجودة في ترسانات بُنِيَتْ في وقت ساد فيه عداء عميق على نحو استثنائي. لقد ولَّى هذا الوقت وانقضى، ومع هذا تتواصل التأكيدات على الحاجة لهذه الأسلحة.» وحتى في عام ٢٠٠٧، بعد أن جرى قدر من التخفيض في الترسانات النووية، ظلت روسيا تمتلك أسلحة نووية تستطيع قوتها التدميرية القضاء على البشرية ٢٩ مرة، فيما تمتلك الولايات المتحدة من الأسلحة ما يكفي للقضاء على البشرية ١٨ مرة.
إن انتهاء الحرب الباردة على نحو سلمي عوضًا عن نشوب حرب نووية إنما جاء نتيجة للحظ السعيد والحصافة المتبادلة. وفي غياب أي جهود جادة لحل الخلافات السياسية بين القوتين العظميين، فإن المفاوضات المستمرة بشأن اتفاقات الحد من التسلح الموجه للاستخدام العسكري — التي ضمت العديد من المشروعات الأخرى المتعلقة بالأسلحة والممارسات بخلاف تلك المذكورة أعلاه — ساعدت على نحو عظيم في إقناع موسكو وواشنطن — رغم الخطاب الاستفزازي المستخدم كثيرًا — بالتزام الحرص. لكن هل يمكن لهذا الحظ السعيد والحصافة المتبادلة أن يستمرَّا في حقبة ما بعد الحرب الباردة.
الاستقرار النووي والحد من التسلح
من المتعارف عليه أن سباقات التسلح جاءت نتيجة تعارض أهداف السياسات الخارجية، وأنها سوف تخبو مع قلة التوترات السياسية الدولية. بيد أن هذه المقولة ذات الأساس التاريخي فقدت الكثير من قيمتها في عقد الستينيات، حين قلبت الصواريخ البالستية العابرة للقارات ذات الرءوس النووية هذه الفرضية رأسًا على عقب. فبدلًا من أن تدعم القوةُ العسكرية السياسةَ الخارجية، باتت إدارة الأسلحة النووية أحد الأهداف الرئيسية للسياسة الخارجية. إن مفاوضات الحد من التسلح التي تلت عام ١٩٤٥ كثيرًا ما كان يُنظَر لها على أنها مناقشات سرية غير ذات جدوى، بيد أنها في الواقع لعبت دورًا مهمًّا، وإن كان كثيرًا ما جرى التغاضي عنه. فخلال الحرب الباردة صارت مفاوضات الحد من التسلح القناة الرئيسية للعلاقات السوفييتية الأمريكية، وحتى في أوقات التوتر واصلت هذه المفاوضاتُ طريقَها المتعثر بشكل أو بآخر.
حظيت سياسات الحد من التسلح ونزع السلاح خلال الحرب الباردة بدعم كبير لعدة أسباب: منها تحسين أمن الدولة، وتقليل الإنفاق العسكري، والتأثير في الرأي العام الدولي، والفوز بأفضلية سياسية حزبية داخل البلاد. إلا أن السبب الطاغي الذي دفع القوى العظمى للانخراط في مفاوضات ممتدة أدت إلى العديد من الاتفاقات كان ضرورة الحفاظ على بيئة دولية مستقرة إبان الحقبة النووية.
كانت جهود برنارد باروخ غير المكللة بالنجاح التي هدفت إلى التعامل مع الأسلحة النووية مع تدشين لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية في يونيو ١٩٤٦ (والتي ناقشناها في الفصل الثالث) بدايةً لما صار لاحقًا مئات — إن لم يكن آلاف — المناقشات ثنائية الأطراف ومتعددة الأطراف بشأن إجراءات الحد من التسلح على امتداد أربعة عقود تالية. إن إصرار واشنطن المتواصل منذ ذلك الوقت على إجراء عمليات التفتيش التدخلي من أجل التحقق من الالتزام بالمعاهدات — وهو ما رأته موسكو بوصفه عملية تجسس رسمية — لعب دورًا بارزًا في وصول المساعي المستقبلية للحد من التسلح إلى طريق مسدود. وقد ذهب بعض المنتقدين — ولهم مبرراتهم المعقولة في ذلك — إلى أن قضايا التحقق من الالتزام بالمعاهدات احتلَّت مكانة أكبر مما ينبغي في مفاوضات الحد من التسلح، كما ذهبوا إلى أن مطالب الولايات المتحدة كانت مصممة عن عمد بحيث إما تُعِيق تقدُّمَ هذه المفاوضات أو تُحسِّن فُرصَها كثيرًا في جمع معلومات عامة إذا تم الموافقة عليها.
تحوَّلت أنشطة الحد من التسلح صوب أهداف فنية أكثر محدودية في عقد الخمسينيات، وذلك مع إثارة الغبار الذري المشع المتساقط بفعل التجارب النووية في الغلاف الجوي جهودًا عالمية هادفة لوقف هذه التجارب. وقد طلب الرئيس أيزنهاور من الخبراء الفنيين أن يطوروا نظامًا للتحقق، وهي خطوة كان لها نتائج غير متوقعة بعيدة المدى؛ نظرًا لأن الخبراء عادة ما يُعَقِّدون القضايا التي يعملون عليها حتى تصير مستعصية على الحل. وبعد أن طوَّر الخبراء سبلًا للتمييز بين الزلازل وبين جميع أنواع التفجيرات النووية التي تتم تحت الأرض تقريبًا، واصلوا عملهم سعيًا لتقليل نسبة الخطأ المنخفضة بالفعل. وقد صار من المستحيل التفاوض على حظر شامل للتجارب النووية؛ لأن المنتقدين ذهبوا إلى أنه ليس بوسع المرء أن يكون واثقًا ثقة تامة من عدم حدوث أي خرق. وفي واقع الأمر تسبَّب هذا التأكيد المبالغ فيه على التفاصيل الفنية في جعل مسألة التحقق من حظر التجارب أكثر صعوبة على نحو متزايد؛ لأن نظام التحقق الذي طالب به السياسيون الأمريكيون شديدو التركيز على الأنشطة الزلزالية — التي تتسبب فيها التجارب النووية — كان في نظر السوفييت شديد التدخل لدرجة لا يمكن قبولها.
بينما نجح أيزنهاور في الحصول على وقف مؤقت للتجارب النووية وحسب، دخل كينيدي فترته الرئاسية وهو عازم على التفاوض حول حظر شامل للتجارب النووية. وحين ذهب السفير دبليو أفريل هاريمان في يوليو ١٩٦٣ إلى موسكو لإتمام حظر التجارب النووية — وهو ما جاء كأحد النتائج المترتبة على حل أزمة الصواريخ الكوبية — اصطحب معه مستشاريه العلميين، بيد أنه تعمَّد إقصاءهم عن فريق التفاوض، مؤكدًا أن مفاوضات الحد من التسلح هي بالأساس شأن سياسي. وكما أوضح في وقت لاحق، فإن «دور الخبير أن يوضح كل الصعوبات والمخاطر … لكن دور الزعماء السياسيين أن يقرروا ما إذا كان من الممكن للمكاسب السياسية والنفسية وغيرها أن توازن هذه المخاطر حال وجودها.» لكن بحلول ذلك الوقت كان من المؤكد أن إتمام معاهدة شاملة كهذه أمر بعيد المنال. فبالإضافة إلى تعذُّر حصول مثل هذه المعاهدة الشاملة على موافقة مجلس الشيوخ الأمريكي، كثيرًا ما كرر خروشوف اعتراضاته على ما تقتضيه هذه المعاهدة من عمليات تفتيش داخل مواقع التجارب النووية؛ إذ لم يكن الاتحاد السوفييتي ليُقْدِم على «فتح أبوابه لجواسيس حلف شمال الأطلسي».
إلا أن خروشوف أشار إلى أنه مستعد لعقد معاهدة محدودة — أو جزئية — لحظر التجارب النووية. وبناءً عليه، وبعد عشرة أيام من المفاوضات الشاقة التي تابعها وأشرف عليها الرئيس كينيدي بنفسه، تَمَّ التوقيع بالأحرف الأولى على «معاهدة حظر تجارب الأسلحة النووية في الجو وفي الفضاء الخارجي وتحت سطح الماء» — ما يُعرَف بمعاهدة الحظر الجزئي للتجارب النووية — في موسكو من جانب رئيسَيْ فريقي التفاوض، وذلك في الخامس والعشرين من يوليو ١٩٦٣.
حين حقق الاتحاد السوفييتي تكافؤًا تقريبيًّا في الأسلحة الاستراتيجية في أواخر الستينيات، دعا صقور الحرب الباردة الأمريكيون واشنطن إلى بذل جهود مكثفة من أجل تحقيق التفوق العسكري. في الوقت ذاته، ذهب مناصرو الحد من التسلح — سواءٌ الموجودون داخل الإدارة الأمريكية أو خارجها — إلى أن القيود التي تَمَّ التفاوض عليها بشأن سباق التسلح كان من المرجَّح أن تؤدِّي إلى الأمن على المدى الطويل أكثر مما سيكون عليه الحال لو جاهد كل طرف من أجل الحصول على مزية عسكرية مؤقتة. وقد أكَّد الفيزيائي والدبلوماسي هربرت يورك على ذلك قائلًا إن «المشكلة التي طرحتها معضلة الزيادة المطردة في القوة العسكرية والنقصان المطرد في الأمن القومي لكلا الطرفين ليس لها حل فني» بل الأمر بحاجة إلى حلٍّ سياسي.
تحدَّث نيكسون في خطابه الافتتاحي الذي ألقاه عام ١٩٦٩ عن «عصر جديد من المفاوضات» تسعى فيه الدول كافة — خاصة القوى العظمى — «إلى تقليل عبء التسلح» وفي الوقت ذاته إلى تجديد «هيكل السلام». ورأى نيكسون أن هذا يمكن تحقيقه من خلال برنامج «للتواصل» أو الوفاق. وقد كان هو ومستشار الأمن القومي في إدارته، هنري كيسنجر، مستعدين للمضيِّ إلى أبعد مما مضت إليه الإدارة السابقة في مناقشة الحد من الأسلحة الاستراتيجية وقضايا التجارة مع الاتحاد السوفييتي، لكنهما انتظرا من الكرملين أن يتعامل بالمثل عن طريق المساعدة في حل الصراعات القائمة في أفريقيا والشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا.
وفي نوفمبر ١٩٦٩ بدأ وفدا القوتين العظميين محادثات ثنائية بشأن الحد من منظومات التسلح الاستراتيجية الدفاعية والهجومية، وتحديدًا الصواريخ البالستية العابرة للقارات والصواريخ البالستية المُطلقة من الغواصات. استمرت هذه المفاوضات — على نحو متقطِّع — وأسفرت عن معاهدتين للحد من الأسلحة الاستراتيجية (سولت ١ و٢)، واتفاق الحد من الصواريخ النووية فوق متوسطة المدى (وهي المعاهدة الوحيدة التي قللت فعليًّا من عدد الأسلحة النووية الهجومية خلال الحرب الباردة)، ومحادثات تخفيض الأسلحة الاستراتيجية (ستارت ١) التي اختُتمت أخيرًا في عام ١٩٩١.
تكوَّنت اتفاقات معاهدة سولت ١ التي وُقِّعت في مايو ١٩٧٢ من «معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية»، التي فرضت على كل طرف الاكتفاء بموقعين فقط، و«اتفاق مؤقت» (١٩٧٢–١٩٧٧) بشأن المنظومات الاستراتيجية، واتفاق سياسي على «المبادئ الأساسية». كانت الحدود التي فرضها الاتفاق المؤقت على المنظومات الاستراتيجية في الواقع أعلى مما هو موجود وقتها في كلتا الدولتين، بيد أنه وضع سقفًا على النشر المستقبلي لهذه المنظومات. بغرض التغلب على منظومات الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية، كانت الولايات المتحدة قد طوَّرت في العام ١٩٦٧ الناقلات العائدة ذات الرءوس المتعددة فردية التوجيه، وهذه التقنية كانت تسمح بتحميل رءوس حربية متعددة على صاروخ واحد، بحيث يكون كل رأس منها قادرًا على ضرب هدف مختلف. كان بمقدور الوفدين أن يتفقا على وقف برامج الناقلات العائدة ذات الرءوس المتعددة فردية التوجيه خلال مباحثات سولت ١، لكن البنتاجون وبعض المعارضين بالكونجرس حذروا كيسنجر من «العودة باتفاق يحظر الناقلات المتعددة». بعدها بثلاث سنوات، حين نشرت موسكو عددًا معتبرًا من الناقلات المتعددة الخاصة بها، دفع البنتاجون ثمن إصراره قصير النظر على امتلاك أفضلية وقتية؛ ذلك أن نشر الناقلات المتعددة جعل الضربات الاستباقية أكثر احتمالًا لتحقيق نتائج واعدة في مواقف الأزمات؛ لأن الصواريخ البالستية العابرة للقارات المملوكة لكل طرف صارت عرضة للخطر.
وقَّع الكرملين بالأحرف الأولى على اتفاق «المبادئ الرئيسية للعلاقات»، ورغم أن هذا الاتفاق تعرَّض للتجاهل من طرف القيادة الأمريكية فإن المسئولين السوفييت اعتبروه «إعلانًا سياسيًّا مهمًّا». وقد كانوا يأملون أن يكون هذا الاتفاق — كما يذكر دوبرينين — أساسًا ﻟ «عملية سياسية جديدة من الوفاق في العلاقات»؛ لأنه كان يقر بالعقيدة السوفييتية المعنية بالتعايش السلمي ويعترف ﺑ «مبدأ المساواة بوصفه أساسًا لأمن كلا البلدين». آمنت موسكو أن القوتين العظميين يمكنهما التعاون في حلِّ خلافاتهما الأساسية رغم وجود مشكلات «صغيرة» في العالم الثالث، لكن الولايات المتحدة رأت أن الوفاق يعني أن على الاتحاد السوفييتي والصين وكوبا أن يلتزموا بسياسة «كف الأيدي» في العالم الثالث. لكن الفشل في رسم حدود الوفاق وفي الحصول على قبول عام على الفكرة أدى إلى وَأْد الفكرة. وقد عارض صقور الإدارة الأمريكية بقوة أي محاولات لتحسين العلاقات مع الاتحاد السوفييتي.
اتفق الرئيس الأمريكي جيرالد فورد والزعيم السوفييتي ليونيد بريجينيف «من حيث المبدأ» في فلاديفوستوك في نوفمبر ١٩٧٤ على أن تقتصر كل دولة على ما مجموعه ٢٤٠٠ من الصواريخ البالستية العابرة للقارات والصواريخ البالستية المُطلقة من الغواصات والقاذفات طويلة المدى، على أن يملك ١٣٢٠ من هذه الصواريخ رءوسًا حربية متعددة، لكنهما لم يُتمَّا معاهدة سولت ٢. ثم في أبريل ١٩٧٩ — وبعد التعثر في المفاوضات في البداية — وافق الرئيس جيمي كارتر أخيرًا على معاهدة سولت ٢ البالغ طولها ٧٨ صفحة، والتي اقتربت بشدة مما أُطلِق عليه مبادئ فلاديفوستوك، لكنها أيضًا حدَّت من الصواريخ الجوالة «جو-أرض»، وشملت قائمة ممتدة من القيود النوعية. بيد أن كارتر فشل في حمل مجلس الشيوخ الأمريكي على التصديق على المعاهدة.
لم يدعم رونالد ريجان قط أي معاهدة للحد من التسلح، وذلك حتى وقت لقائه بالزعيم السوفييتي ميخائيل جورباتشوف. فقد عارض ريجان معاهدةَ الحظر الجزئي للتجارب النووية المبرمة عام ١٩٦٣، ومعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية لعام ١٩٦٨، ومعاهدة سولت ١ لعام ١٩٧٢، واتفاقات الحد من الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية، كما أدان معاهدة سولت ٢ واصفًا إياها بأنها «معيبة على نحو قاتل». علاوة على ذلك، في بواكير فترته الرئاسية الأولى، أوقف ريجان المفاوضات الهادفة للوصول إلى معاهدة حظر شامل للتجارب النووية، وأوقف التزام الولايات المتحدة بمعاهدة سولت ٢ في مايو ١٩٨٦. وعلى النقيض مما يراه المدافعون عن ريجان، كانت تنازلات جورباتشوف ضرورية للغاية من أجل إتمام اتفاقات الحد من التسلح خلال فترتيْ رئاسة ريجان.
وفي مايو ١٩٨٢ أعلن ريجان عن خطة تهدف إلى «تقليلٍ مرحليٍّ عملي» للأسلحة الاستراتيجية. لكن رغم تحمس الجماهير لهذا الإعلان فإن المحللين وصفوا خطة ستارت ١ المبدئية بأنها غير قابلة للتفاوض؛ لأنها كانت تفرض على الاتحاد السوفييتي تفكيكَ أفضل أسلحته الاستراتيجية في الوقت الذي تحتفظ فيه الولايات المتحدة بغالبية صواريخها من طراز «مينيتمان»، وتنشر مائة من الصواريخ التجريبية الجديدة الضخمة، وتنشر صواريخها الجوالة الجديدة، وتحدِّث أساطيلها من الغواصات والقاذفات. وقد واجهتْ محاولاتُ تعديل الخطة خلال السنوات الأربع التالية خلافاتٍ لا نهاية لها بين الوكالات الحكومية الأمريكية، وهو ما دفع أحد كبار أعضاء مجلس الأمن القومي إلى أن يقول: «حتى لو لم يكن للسوفييت وجود، فربما لا نستطيع إتمام معاهدة ستارت بسبب الخلافات الموجودة في جانبنا.» كما شكا مسئول أمريكي آخر رفيع المستوى من أنه حتى لو «جاء السوفييت إلينا وقالوا لنا: «فقط اكتبوا المعاهدة وسنوقِّع عليها.» فلن نستطيع إتمامها.»
بينما بدأ الرئيس ريجان الإعدادَ لحملة إعادة انتخابه في يناير ١٩٨٤، كان يواجه معضلة مزدوجة الأوجه؛ إذ كان عليه أن يخفِّف التوتر القائم مع موسكو، ويتفادى انتقادات المعارضين للأسلحة النووية، سواءٌ داخل البلاد أو خارجها، ويهدئ الأعضاء المتشددين داخل مجلس الشيوخ والمتحمسين لعقاب الاتحاد السوفييتي بسبب بعض الخروقات المزعومة لاتفاقات الحد من التسلح. وقد نصح ويليام كاسي — مدير المخابرات المركزية — ريجان بأن تدريبات حلف شمال الأطلسي المسماة «آبُل آرتشر» — والتي كانت تحاكي إجراءات الاستجابة النووية — قد أقلقت مسئولي الاستخبارات السوفييتية، الذين ظنوا أنها قد تكون مقدمة لهجوم نووي. وجد ريجان صعوبة في تصديق أن موسكو قد تكون خائفة بحق من هجوم أمريكي، لكن في السادس عشر من يناير تحدَّث ريجان عن «تقليل خطر الحرب، وخاصة الحرب النووية»، وذلك من خلال الحد من التسلح، بينما أثار الشكوك حول مدى التزام السوفييت بالمعاهدات وحالات الخرق الممكنة للمعاهدات السابقة. وكانت النتيجة أن مناشدة ريجان السلمية للروس، والمتبوعة بكيل اتهامات خرق المعاهدات لهم، أمدته — وهو الحاكم السابق لولاية كاليفورنيا — ببطاقات رابحة في حملة إعادة الانتخاب لعام ١٩٨٤ كان من العسير على منافسيه الديمقراطيين أن يتغلَّبُوا عليها.
بعد ذلك زعمت مجموعةٌ من التقارير المرفوعة للكونجرس الأمريكي وقوعَ خروقات عدة من طرف السوفييت (واستجاب السوفييت بقائمتهم التي شملت أمثلة لتهرب الأمريكيين من التزاماتهم)، لكن أغلبها كان يصعب الفصل في مدى صحته. ومع ذلك كانت موسكو مذنبة في خرقين كبيرين؛ أولهما: بشأن موقع غير مكتمل للرادار، وهو ما يُعَدُّ خرقًا لبنود معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية، والثاني: مشروع تجريبي يخص الحرب البيولوجية (لم يُكتشَف بالأساس إلا بعد انتهاء الحرب الباردة)، وهو ما يُعَدُّ خرقًا لاتفاقية الحرب البيولوجية.
وفي قمة ريكيافيك في أكتوبر ١٩٨٦، اقترح ريجان التخلص من جميع الصواريخ البالستية في غضون عشر سنوات. وسرعان ما قدَّم الزعيم السوفييتي ميخائيل جورباتشوف اقتراحًا معارضًا يقضي بالتخلص من جميع الصواريخ البالستية السوفييتية والأمريكية في غضون عشر سنوات، بالإضافة إلى اقتصار «مبادرة الدفاع الاستراتيجي» — خطة ريجان للدفاع الصاروخي التي أطلق عليها الإعلام اسم «حرب النجوم» (انظر الفصل التالي) — على مرحلة تجريبية لمدة عقد. وحين رفض ريجان القبول بأي تقييد لمشروع حرب النجوم، سُحِبتْ هذه المقترحات الجذرية لتخفيض التسلح من على الطاولة، وهو ما جاء على هوى القادة العسكريين الأمريكيين وأعضاء منظمة حلف شمال الأطلسي، وكذلك — دون شك — القادة العسكريين السوفييت.
ومع هذا فقد تحقَّق تقدم كبير في قمة ريكيافيك، وذلك حين وافق جورباتشوف على المطالب الأمريكية المتعلقة بعمليات التفتيش بالمواقع. في إطار معاهدتي الحظر الجزئي للتجارب النووية وسولت ١، كانت واشنطن قد ارتضت أن تتمَّ عمليات التحقق من خلال وسائل فنية خاصة بها؛ من خلال عمليات الاستطلاع بالأقمار الصناعية، وعمليات المراقبة الإلكترونية، وغيرها من أساليب جمع المعلومات الخاصة بها. لكن بعد قمة ريكيافيك، صار السوفييت هم من يصرون على التفتيش التدخُّلي، لكن البنتاجون ووكالات الاستخبارات بدأت تراجع نفسها حين أدركت أنها لا تريد السماح للسوفييت بالتجول في المواقع الدفاعية الأمريكية. وقد أقر وزير الدفاع الأمريكي فرانك كارلوتشي قائلًا: «لقد اتَّضح أن التفتيش أكثر تعقيدًا مما كنا نخاله. والجانب الآخر من العملة أنه يجب تطبيقه علينا. وكلما فكرنا في الأمر، صار أكثر صعوبة.»
بُعَيْدَ قمَّة ريكيافيك، فاجأ جورباتشوف حلف زعماء شمال الأطلسي والولايات المتحدة مجددًا بقبوله «الخيار الصفري» الذي اقترحته الولايات المتحدة من أجل عقد اتفاق بشأن الصواريخ فوق متوسطة المدى، والذي استلزم أن يقوم السوفييت بتخفيض غير متكافئ في عدد الصواريخ، بما في ذلك الصواريخ السوفييتية في آسيا. وفي الثامن من ديسمبر ١٩٨٧ وقَّع جورباتشوف وريجان معاهدة الحدِّ من الصواريخ فوق متوسطة المدى التي ضمت أول تخفيضات في الصواريخ النووية ونظامًا معقدًا من التفتيش الأمريكي السوفييتي على المواقع النووية. وبعد انتهاء الحرب الباردة وقَّع الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب والزعيم الروسي ميخائيل جورباتشوف معاهدة ستارت ١ المعقدة البالغ عدد صفحاتها ٧٥٠ صفحة، وتَمَّ ذلك في العاشر من يوليو ١٩٩١. كانت هذه أول اتفاقية دعت إلى تخفيضات ذات وزن في الأسلحة الاستراتيجية؛ إذ اقتضت أن تتخلَّص كلُّ قوة من القوتين العظميين من نحو ٥٠ بالمائة من الرءوس الحربية النووية المحمولة على صواريخ بالستية. وقد تقرَّر أن تَسري المعاهدة لمدة خمسة عشر عامًا على أن يتجدَّد العمل بها بعد ذلك. كانت تلك لحظة تاريخية في تاريخ الحد من الأسلحة النووية.