حرب النجوم
في مستهلِّ الحرب الباردة في أواخر أربعينيات القرن العشرين، آمن المسئولون الأمريكيون بأن محضَ امتلاك الولايات المتحدة الحصري للقنابل الذرية من شأنه أن يردع الاتحاد السوفييتي عن التوسع داخل أوروبا الغربية أو آسيا. وبعد أن طوَّر السوفييت قنابل ذرية وطائرات قادرة على توصيل هذه القنابل عبر القطب الشمالي في أوائل الخمسينيات؛ سرَّعت الولايات المتحدة جهودها الرامية لامتلاك صواريخ قادرة على إسقاط أي قاذفات مُعادية. وقد حثَّ ابتكار الرءوس الحربية النووية الحرارية في أواخر الخمسينيات وتطوير الصواريخ البالستية العابرة للقارات ذات الرءوس النووية في أوائل الستينيات القوتين العظميين على البحث عن منظومات دفاعية صاروخية مضادة للصواريخ البالستية.
وقد وجدت موسكو وواشنطن نفسيهما عالقتين في سباق تسلح هجومي ودفاعي هدَّد استقرار منظومة الردع النووي التي لا تزال في مهدها. وبينما أخذ مفهوم الردع يترسَّخ، أُثيرت مخاوف أولية بشأن ما إذا كانت أي منظومة دفاعٍ صاروخية مضادة للصواريخ ستقدم بالفعل قدرًا كافيًا من «الدفاع»، وما إذا كانت فعالية مثل هذه المنظومة ترقى لتكاليفها. وفي النهاية تغلَّبت السياسة الداخلية الأمريكية — المدفوعة بالمشايعة الحزبية والتهديدات المتعلقة ﺑ «محور الشر» — على المخاوف السابقة بشأن التكاليف والفعالية، وذلك حين أمر الرئيس جورج بوش الابن بنشر منظومة دفاع غير مجربة مضادة للصواريخ عام ٢٠٠٢.
المشاريع الدفاعية الصاروخية الأمريكية الأولية
بدأت البرامج الدفاعية الصاروخية الأمريكية في نوفمبر ١٩٤٤ حين تعاقد الجيش الأمريكي مع شركة جنرال إلكتريك؛ بهدف دراسة طرق حماية القوات الأمريكية من الصواريخ الألمانية «فاو ٢». ولاحقًا، شهدت أبحاث جنرال إلكتريك بصدد الدفاعات الصاروخية البالستية دَفعَة كبيرة بفضل الوثائق الألمانية التي حصلت عليها الولايات المتحدة والعلماء الألمان الذين وصلوا إليها عام ١٩٤٦. وفي غضون ١٢ شهرًا كانت الولايات المتحدة قد جمَّعَت وأطلقت نحو مائة صاروخ من الصواريخ «فاو ٢» بهدف الحصول على بيانات أساسية بشأن مسارات الصواريخ البالستية الهجومية وكيفية دخولها مجددًا إلى الغلاف الجوي. وفي النهاية أدت الأبحاث إلى إنتاج الصاروخ «نايك أجاكس» — الصاروخ المضاد للطائرات التابع للجيش — في عام ١٩٥٣، وإنتاج الصاروخ «نايك هيركليس» بعدها بعام استكمالًا لمنظومة الصواريخ المضادة للطائرات.
تسبَّب تطوران وَقَعَا من جانب الاتحاد السوفييتي في عام ١٩٥٧ في قَضِّ مضاجع الأمريكيين وفي الوقت عَيْنِه شكَّلا تحديًا لعلمائهم من أجل تطوير منظومة مضادة للصواريخ. ففي أغسطس اختبر السوفييت صاروخًا بالستيًّا عابرًا للقارات، ثم في أكتوبر أذهل السوفييت العالم حين أطلقوا سبوتنك ١؛ أول قمر صناعي يدور حول الأرض. أثار هذان الحدثان التساؤلات بشأن مدى عرضة الولايات المتحدة لهجوم نووي مباغت، وهو الانطباع الذي كان الزعماء السوفييت حريصين على تعزيزه؛ حيث أعلنوا أن صواريخهم كانت قادرة على الوصول إلى أي جزء من أجزاء المعمورة. شكَّل الرئيس أيزنهاور لجنة عالية المستوى — برئاسة روان جايثر — أوصت من ضمن ما أوصت به بتطوير منظومة دفاعية صاروخية مضادة للصواريخ البالستية من شأنها أن تحمي قواعد الصواريخ التابعة للقيادة الجوية الاستراتيجية.
لَعِبَت اعتبارات السياسة الداخلية والرغبة في بث الاستقرار في البيئة النووية دورًا كبيرًا في قرارات الأمريكيين والسوفييت حيال الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية في أعقاب الأزمة الكوبية التي وقعت عام ١٩٦٢. فقد حثَّ أعضاء من الكونجرس — استشعارًا منهم للضعف الذي كانت الولايات المتحدة عليه إبان أزمة عام ١٩٦٢ — الرئيسَ على النشر الفوري لمنظومات الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية. في الوقت ذاته استغنى السوفييت عن صواريخهم طويلة المدى ذات الوقود السائل — التي كانت تستغرق وقتًا وعناية كبيرين للتجهيز من أجل الإطلاق — لصالح الصواريخ البالستية العابرة للقارات العاملة بالوقود الصلب، والتي تتسم بقدر أكبر من الاعتمادية وسرعة الإطلاق. وبحلول عام ١٩٦٧ كان الاتحاد السوفييتي يملك ما يُقدَّر ﺑ ٤٧٠ صاروخًا بالستيًّا عابرًا للقارات يعمل بالوقود الصلب، فيما كانت الولايات المتحدة تملك ١١٤٦ صاروخًا من النوع ذاته، وهو ما يشي بأن كلتا القوتين العظميين كانت تملك من الصواريخ أكثر مما يكفي من أجل ردع القوة الأخرى بفاعلية. الاستثناء الوحيد — بالطبع — هو أن يملك أحد الجانبين منظومة دفاعية صاروخية فعالة.
في خطاب الموازنة الذي وجهه في الرابع والعشرين من يناير ١٩٦٧ إلى الكونجرس، أشار الرئيس ليندون جونسون إلى أن تطوير المنظومة الدفاعية الواعدة المضادة للصواريخ البالستية المعروفة باسم «نايك إكس» سوف يستمر، بيد أن هذه المنظومة ليست جاهزة للنشر بعد. كانت المنظومة «نايك إكس» بالأساس منظومة دفاعية مضادة للصواريخ تابعة للجيش، تربط رادارًا متعدد المراحل بصاروخ اعتراضي. لكن بعد ذلك أخبر الجنرال إيرل ويلر — رئيس هيئة الأركان المشتركة — لجنةَ المخصصات التابعة لمجلس النواب أن الولايات المتحدة يجب أن تنشر على الفور منظومة دفاعية صاروخية خفيفة، لكنه أقر أن هيئة الأركان كانت تفضِّل نشر منظومة دفاعية صاروخية ثقيلة مضادة للصواريخ البالستية من أجل حماية «أعلى المناطق المأهولة من حيث الكثافة السكانية». وقد أصر ويلر على أن «المنظومة مايك إكس جاهزة للنشر». وقد رغب أمريكيون بارزون آخرون — من ضمنهم لجنة السياسة الدفاعية الحصيفة — أن يتمَّ نشر منظومة دفاعية صاروخية مضادة للصواريخ البالستية واسعة النطاق لمجابهة التحدي الذي أحدثته منظومة «جالوش» السوفييتية الدفاعية المضادة للصواريخ البالستية لاستقرار الردع.
لكن رغم الضغط الكبير تشكَّك وزير الدفاع الأمريكي روبرت ماكنمارا في مدى فعالية منظومة «نايك إكس»، وخشي من أن تتسبب المنظومات الدفاعية المضادة للصواريخ البالستية في زعزعة الاستقرار، وتعريض التكافؤ النووي الموجود في ذلك الوقت بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي للخطر. وقد حثَّ الرئيس جونسون على المضي في هذا الأمر بتمهل نظرًا لوجود بديلين آخرين أقل تكلفة؛ وهما: (١) تحسين القدرات الدفاعية للولايات المتحدة، و(٢) التشاور مع السوفييت بشأن إمكانية الحد من الأسلحة الاستراتيجية الدفاعية والهجومية.
في اللقاء القصير الذي انعقد في يونيو ١٩٦٧ في جلاسبورو بنيوجيرسي بين الرئيس ليندون جونسون والزعيم السوفييتي أليكسي كوسيجين، أكد كوسيجين على أن المنظومات الدفاعية الصاروخية السوفييتية المعتزمة «لا تقتل الناس، وإنما تحميهم». علاوة على ذلك فقد أكَّد على أن «الدفاع أمر أخلاقي، بينما الهجوم غير أخلاقي». ومن قبيل المفارقة أنه بعد ثلاثة عقود ونصف العقد ذهب كلٌّ من جيمس إم ليندساي ومايكل إي أوهانلون إلى أن «سياسة الأمن القومي التي تترك عن عمدٍ الشعبَ الأمريكيَّ عرضةً لأي هجوم رغم قدرة التكنولوجيا على حمايتهم منه إنما هي سياسة غير أخلاقية وغير مقبولة. فتَرْك الأمة من غير دفاع لا يتناقض على نحوٍ صارِخٍ مع المنطق السليم وحسب، وإنما يمكن أن يُحجِّم الدور الأمريكي في العالم.»
آمَنَ مناصرو الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية أنه من دون هذه المنظومات الدفاعية فإن الحكومات المعادية للولايات المتحدة التي تملك صواريخ بالستية ذات رءوس نووية، قد تعتقد أنه بمقدورها تهديد المصالح الأمريكية الممتدة حول العالم؛ ومن ثم تردع واشنطن عن اتخاذ إجراءات لحماية هذه المصالح. أيضًا، دون وجود منظومة دفاعية صاروخية ملائمة قد يتشكَّك حلفاء الولايات المتحدة في مدى استعدادها للوفاء بتعهداتها الأمنية؛ ومن ثم يقل نفوذها العالمي. ولاحقًا، ارتفعت المخاوف داخل الولايات المتحدة من أن تتمكن جماعات إرهابية من الحصول على صواريخ بالستية ذات رءوس نووية تستهدف بها مدنًا أمريكية.
على النقيض، تشكَّك معارضو برامج الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية في التكاليف المرتفعة ومدى فعالية المنظومات الدفاعية الصاروخية الأمريكية المضادة للصواريخ البالستية. كما أبدوا قلقهم أيضًا بشأن ما ستتسبَّب فيه مثل هذه المنظومات المضادة للصواريخ من عدم استقرار للعلاقات مع الحلفاء والخصوم على السواء. هل ستخشى الدول المعادية من أن الولايات المتحدة — حال آمنت واشنطن أن الولايات المتحدة منيعة على أي رد انتقامي — قد تتباهى بترسانتها النووية كوسيلة للضغط عليها من أجل الإذعان لرغبات واشنطن وإلا سيتعيَّن عليها مواجهة عواقب وخيمة؟ هل ستجعل المنظومات الدفاعية الصاروخية الأمريكية أي دولة معادية مُجبَرة على أن تضرب الضربة الأولى — في بداية أي أزمة — بكل قوتها؟ هل هذه المنظومات — في واقع الأمر — ستعيق الجهود الرامية للحد من الأسلحة الاستراتيجية؟ هل ستتمثل الخطوة التالية في وضع الأسلحة النووية في الفضاء؟ هل ستتسبَّب المنظومات الدفاعية الصاروخية الأمريكية في بدء سباق التسلح بالأسلحة النووية الاستراتيجية مجددًا؟
وبهذا ذهب معارضو برامج الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية إلى أنه لو تسببت منظومة دفاعية صاروخية تغطي البلاد بأسرها في جعل العدو يفكر في شن ضربة أولى، أو في الحث على سباق تسلح في الفضاء الخارجي، أو في انتشار الصواريخ البالستية وأسلحة الدمار الشامل، فسيقل كثيرًا مقدار ما يتمتع به الأمريكيون من أمن. وقد حثَّ هؤلاء على نحو متكرر على عدم التضحية بأنشطة الحد من الأسلحة الاستراتيجية لصالح البحث المكلف المشكوك في جدواه عن حلول تكنولوجية، أو تبديد هذه الجهود في مغامرات أحادية الجانب.
المشاريع الدفاعية الصاروخية السوفييتية
حفز الاحتكار الأمريكي للقنابل النووية في أواخر الأربعينيات — وامتلاك الولايات المتحدة للقاذفات القادرة على توصيل هذه القنابل — الاتحادَ السوفييتيَّ على التركيز على المنظومات الدفاعية. وفي عام ١٩٤٧ بدأ السوفييت في تجريب صواريخ مضادة للطائرات مبنية على نماذج الصواريخ الألمانية المستخدمة في الحرب العالمية الثانية. وفي النهاية — في الخامس والعشرين من مايو ١٩٥٣ — نجح الصاروخ السوفييتي «في ٣٠٠» ومنظومة التوجيه الراداري في إسقاط قاذفة من طراز «تي يو ٤» بدون طيار. وبعدها بستة أشهر بدأ تشييد منظومة دفاعية صاروخية مضادة للطائرات (تحت اسم «إس ٥») حول موسكو من أجل حماية المدينة مما يصل إلى ألف قاذفة هجومية، وفي ١٩٥٦ هُيِّئَت الحلقة الدفاعية لتلقِّي أول المنظومات السوفييتية الدفاعية المضادة للصواريخ البالستية (المسماة «إيه ٣٥» أو «جالوش») بحلول نوفمبر ١٩٦٧. بيد أن الاختبارات الخاصة بالصواريخ الاعتراضية «إس ٣٥٠» المستخدمة في هذه المنظومة أشارت إلى أنه لن يواكب الناقلات العائدة ذات الرءوس المتعددة فردية التوجيه التي طورتها الولايات المتحدة حديثًا. فكل صاروخ أمريكي بالستي عابر للقارات من هذا النوع (يُشار له باسم «الناقلة») يستطيع الآن حمل العديد من الصواريخ الخداعية الزائفة إضافة إلى ثلاثة أو أكثر من الرءوس الحربية النووية.
في الوقت ذاته قرَّر السوفييت عام ١٩٧٤ تطويرَ منظومة الدفاع الصاروخية «إيه ١٣٥» لتحل محل المنظومة «إيه ٣٥». كانت المنظومة «إيه ١٣٥» قد صُممت لاعتراض إما صاروخ واحد من الصواريخ البالستية العابرة للقارات أو صاروخ متعدد، وكان من المقرر أن تكون ذات قدرة دفاعية مزدوجة. الطبقة الأولى من هذه الصواريخ الاعتراضية المنطلقة من منصات المنظومة «إيه ٣٥٠» من شأنها أن تهاجم الصواريخ البالستية العابرة للقارات وهي خارج الغلاف الجوي، أما الطبقة الثانية من منصات إطلاق المنظومة «إيه ٣٥٠» فمن شأنها أن تتعامل مع الصواريخ البالستية العابرة للقارات وهي داخل الغلاف الجوي. واجهت منظومة الطبقة الأولى صعوبة في تحديد مواضع الرءوس الحربية والتمييز بين الخداعي منها والفعلي، وهي أعقد مشكلة تواجه أي منظومة صاروخية مضادة للصواريخ البالستية. وفي أعقاب الاختبارات الناجحة لمنظومة الطبقة المزدوجة في ساري شاجان في عامَيْ ١٩٧٥ و١٩٧٦، أمر وزير الدفاع بتشييد سبعة مواقع للمنظومة «إيه ١٣٥» حول موسكو، بداية من منظومة الرادار متعددة الاستخدامات التي تحمل اسم «دون ٢ إن» في ١٩٧٨ والمئات من صوامع الصواريخ المعززة التي بدأت في عام ١٩٨١ واكتملت في نوفمبر ١٩٨٧. إلا أن المنظومة «إيه ١٣٥» لم تعمل على نحو كامل إلا في حدود عام ١٩٩٧.
لا تزال ثقة الروس قليلة في قدرة منظومات الصواريخ المضادة للصواريخ العابرة للقارات على منع اختراق أي من هذه الصواريخ البالستية لأراضيهم. وبالتبعية فقد ركَّز الروس منذ نهاية الحرب الباردة على تحسين صواريخهم البالستية العابرة للقارات وتزويدها بالرءوس الخداعية للتغلب على أي من المنظومات الأمريكية المضادة للصواريخ البالستية.
تسبَّب التطوير غير المقيد من طرف الولايات المتحدة للصواريخ الجوالة ذات الرءوس النووية — والتي يمكن إطلاقها من القاذفات أو الغواصات — في مواجهة الاتحاد السوفييتي لتهديدات جديدة. فبعد الإطلاق تستطيع الصواريخ الأمريكية الجوالة الطيران على ارتفاعات منخفضة، وهو ما يمكنها من دخول الأراضي السوفييتية دون أن تُرصَد من جانب الرادارات السوفييتية الحالية، ويمكنها أيضًا من اختراق العمق السوفييتي وتدمير الصواريخ البالستية العابرة للقارات وهي في صوامعها.
لحماية صوامع الصواريخ العابرة للقارات علاوة على القطاعات الإدارية والصناعية من الصواريخ الجوالة، سعى العلماء السوفييت بين عاميْ ١٩٧٥ و١٩٨٠ لتطوير منظومة دفاعية لمسرح العمليات توظِّف منظومة صواريخ أرض-جو موحدة متعددة القنوات؛ المسماة بالمنظومة «سام ٣٠٠». تستطيع المنظومة «إس ٣٠٠ في» حماية الوحدات الأرضية للجيش السوفييتي، بينما تستطيع المنظومة «إس ٣٠٠ إف» الدفاعَ عن السفن البحرية، فيما تحمي المنظومة «إس ٣٠٠ بي» قوات الدفاع الجوي. كانت معدات ومنصات الإطلاق الخاصة بالمنظومة «إس ٣٠٠ بي» تُحمَل على منصات مقطورة متحركة مربوطة بكابلات، وكان يُطلَق عليها الاسم «إس ٣٠٠ بي تي». وفي عام ١٩٨٠ نُشِرَت المنظومة «إس ٣٠٠ بي تي» التي تستخدم صواريخ أرض-جو من طراز «٥ في ٥٥» حول موسكو لمساعدة المنظومة «إيه ١٣٥». ظلت المنظومة «إس ٣٠٠ بي تي» في موقعها حتى عام ١٩٨٥، حين حلَّت محلَّها المنظومة المحدثة «إس إس ٣٠٠ بي إم» المحمولة على قاطرات ذاتية الدفع مصممة لاجتياز أي منطقة ومتصلة اتصالًا لاسلكيًّا بمراكز القيادة والتحكم.
في عاميْ ٢٠٠٥ و٢٠٠٦ بدأت القوات الجوية الروسية في الاستغناء عن منظومات «إس ٣٠٠ بي» واستخدام منظومات الصواريخ أرض-جو التي تحمل الاسم «إس ٤٠٠» («إس إيه ٢٠ ترايمف» حسب تسمية حلف شمال الأطلسي) المزودة بصاروخ اعتراضي طويل المدى من طراز «٤٨ إن ٦ دي إم» مصمم من أجل تدمير الطائرات والصواريخ الجوالة والصواريخ البالستية قصيرة المدى ومتوسطة المدى، وذلك في مدًى يصل إلى ٤٠٠ كيلومتر (٢٥٠ ميلًا). كانت المنظومة «إس ٤٠٠» تَزيد بمرتين ونصف مقدارَ ما كانت تتمتع به المنظومة «إس ٣٠٠ بي» من مدى وبمرتين مقدارَ منظومة «باتريوت أدفانسد كيبابِليتي ٣» الأمريكية. وستُجهَّز المنظومة بصواريخ اعتراضية خفيفة الوزن من طراز «٩ إم ٩٦» مداها يصل إلى ١٢٠ كيلومترًا (٧٥ ميلًا) لاعتراض الأهداف التي تطير على ارتفاعات منخفضة. وكما أوردت دورية «جينز ميسايلز آند روكتس» بعد ذلك فإنه في نهاية المطاف ستُزوَّد جميع الأفواج الخمسة والثلاثين بالمنظومة الجديدة، والتي سيتم استخدامها لحماية المراكز السكانية الكبيرة علاوة على التجمعات الصناعية والعسكرية.
عمدت موسكو إلى تسويق المنظومة «إس ٤٠٠» بكل قوة عبر أنحاء آسيا وأوروبا والشرق الأوسط. وبين عاميْ ٢٠٠٣ و٢٠٠٤ أنفقت الصين نحو ٥٠٠ مليون دولار على منظومات «إس ٤٠٠» مستقبلية. بالإضافة لذلك، عرضت روسيا المنظومةَ «إس ٤٠٠» على الإمارات العربية المتحدة، وثمة تكهنات بأن إيران — تلك القوة النووية المحتملة — تسعى حاليًّا إلى الحصول على صواريخ المنظومة «إس ٤٠٠». وما إن أكملت المنظومة «إس ٤٠٠» اختباراتها النهائية ودخلت مرحلة الإنتاج، كان من المتوقع أن تَصِير من أعلى المنظومات الدفاعية الصاروخية طلبًا على مستوى العالم. لكن كما أثبتت منظومات الصواريخ باتريوت الأمريكية في حربَي الخليج، لا تزال المنظومات الأمريكية والروسية تعاني من نقاط ضعف ولا يمكنها أن تضمن منع جميع الصواريخ الجوالة أو الصواريخ قصيرة المدى التي قد يُطلِقها العدو.
أول نشر أمريكي لمنظومات الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية
في سبتمبر ١٩٦٧ وافقت إدارة جونسون الرازحة تحت ضغوط ثقيلة على نشر «خط رفيع» من المنظومة الدفاعية المضادة للصواريخ البالستية «نايك إكس» من أجل حماية الولايات المتحدة من تهديد الصواريخ النووية الصينية الأقل فاعلية، بيد أنها أوضحت أن المنظومة المقترحة — التي تحمل اسم «سنتينال» — لن تحمي الولايات المتحدة فعليًّا من أي هجوم سوفييتي بالصواريخ البالستية العابرة للقارات. وعن طريق استهداف الصين، تركت المنظومة الدفاعية المقترحة البابَ مفتوحًا أمام السوفييت كيْ يتدبروا بجدية تخفيض منظومات الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية والصواريخ البالستية العابرة للقارات أو الحد منهما. وقد وقع عبء التنفيذ الفعلي لعملية النشر على عاتق إدارة الرئيس نيكسون.
بُعَيْدَ تنصيبه، أعلن نيكسون في الرابع عشر من مارس ١٩٦٩ أنه: «بعد دراسة طويلة لكل الخيارات المتاحة، خَلصتُ إلى أن برنامج «سنتينال» الذي جرى تبنيه سابقًا ينبغي أن يخضع لتعديل جذري.» إن منظومة الصواريخ الجديدة المضادة للصواريخ البالستية «لن توفر الدفاع عن مدننا؛ لأنني وجدت أنه ما من سبيل يمكننا من الدفاع على نحو لائق عن مدننا دون تكبد خسائر غير مقبولة في الأنفس.» وعليه، وافق نيكسون في عام ١٩٧٠ على منظومة جديدة باسم «سيف جارد»؛ وذلك بهدف حماية ما يصل إلى اثنيْ عشر موقعًا من مواقع الصواريخ مينيتمان ٣ البالستية العابرة للقارات — في كلٍّ من قاعدة مالستروم الجوية بمونتانا، وقاعدة جراند فوركس الجوية في نورث داكوتا — من أجل الحفاظ على قدر معقول من الردع.
اختار نيكسون ألا يذكر التحسين الذي طرأ على منظومة «سيف جارد»، والذي زاد من عدد صواريخ الاعتراض المضادة بهدف حماية مواقع الصواريخ مينيتمان ٣ البالستية العابرة للقارات، وغيَّرَ من نطاق رادار برنامج «سنتينال» بحيث صار يُغطِّي جميع أراضي البر الرئيسي للولايات المتحدة. وقد أشار كيسنجر في مذكراته إلى أن التغطية الرادارية الممتدة من شأنها أن تُوجِد «قاعدة أفضل للتوسع السريع» في دفاعات مواقع الصواريخ البالستية العابرة للقارات إذا ما كانت هناك حاجة إليها في المستقبل. (وقد توقَّع العلماء السوفييت على نحو صائب أن تكون البيانات المحذوفة بشأن مدى التغطية الرادارية جزءًا من خطة «سيف جارد».)
بسبب مواطن القصور الفنية بمنظومة «سيف جارد»، صوَّت مجلس النواب في الثاني من أكتوبر ١٩٧٥ لوقف العمل في الموقع الوحيد المضاد للصواريخ البالستية الذي جرى العمل به (بدلًا من المواقع الاثنيْ عَشَرَ المخطط للعمل بها) في جراند فوركس بنورث داكوتا، بعد إنفاق ستة مليارات دولار به، وذلك بعد نحو أربعة أشهر من بدئه العمل. وقد جاء هذا الفعل بعد إدراك أن الرادارات الكبيرة متعددة المراحل لمنظومة «سيف جارد» تمثِّل هدفًا سهلًا للصواريخ السوفييتية، كما أنه عند انفجار الرءوس الحربية النووية المحمولة على الصاروخين الاعتراضيين «سبارتان» و«سبرنت» كانت الانفجارات تتسبَّب في عمى منظومة الرادار.
معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية ١٩٧٢
بدأت أولى الخطوات نحو المفاوضات الأمريكية السوفييتية بشأن المنظومات الدفاعية الصاروخية في عام ١٩٦٤، حين استكشف ويليام فوستر — المدير الأمريكي لوكالة تحديد الأسلحة ونزع السلاح — إمكانيةَ عقد مفاوضات لحظر المنظومات الصاروخية المضادة للصواريخ البالستية أو الحد منها مع أناتولي دوبرينين سفير الاتحاد السوفييتي لدى الولايات المتحدة. حسب رواية دوبرينين فإن موسكو لم تستجب لهذه المقترحات الأمريكية المبدئية؛ لأن أعضاء المكتب السياسي لم يتمكَّنوا من الاتفاق حول إجراء التفاوض مع واشنطن من عدمه. وفي العاشر من أغسطس ١٩٦٨، وافق الكرملين أخيرًا على البدء في مناقشات الحد أو التخلص من الأسلحة الاستراتيجية الدفاعية والهجومية. لكن للأسف حادت هذه المباحثات المخطط لها عن مسارها في الرابع والعشرين من أغسطس، حين تدخَّل السوفييت في تشيكوسلوفاكيا.
في المناقشات الخاصة بالأسلحة الاستراتيجية التي بدأت في هلسنكي بفنلندا في السابع عشر من نوفمبر ١٩٦٩، عرض الوفد الأمريكي مخاوفه — سواء على نحو رسمي أو خاص — من أن المنظومات الدفاعية الصاروخية المضادة للصواريخ البالستية تهدِّد استقرار الردع القائم وقتها. وفي بداية المباحثات أشار السوفييت إلى استعدادهم لإبقاء عمليات نشر الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية «في حدود منخفضة من الناحيتين العددية والجغرافية». وفي مواجهة عدد من القضايا المستعصية على الحل فيما يخص القوات الاستراتيجية الهجومية، تَمَّ الاتفاق في النهاية في عام ١٩٧١ على محاولة الوصول إلى اتفاقات منفصلة.
بمصطلح «التطوير» نعني تلك المرحلة من تطور منظومة الأسلحة التي تعقب مرحلة الأبحاث (وفي مرحلة الأبحاث نضمِّن أنشطة التصميم المفاهيمي والاختبار المعملي) والتي تسبق مرحلة الاختبار الشامل. إن مرحلة التطوير — رغم تداخلها كثيرًا مع مرحلة الأبحاث — عادة ما ترتبط ببناء نموذج أولي أو أكثر لمنظومة الأسلحة أو مكوناتها الأساسية واختباره. ومن منظورنا فإنه من المنطقي والعملي بالكامل أن نمنع — بهذا المعنى — تطويرَ تلك المنظومات التي يكون اختبارها ونشرها محظورًا.
ودون علم من جانبه، قدَّم براون بهذا تعريفًا سيُستخدَم في أوائل الثمانينيات من جانب معارضي منظومة «حرب النجوم» — التي تبنَّاها الرئيس رونالد ريجان — في إعادة تأويل معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية لعام ١٩٧٢.
وبحلول خريف عام ١٩٧١، وافق الوفدان الأمريكي والسوفييتي — في جنيف — على العناصر الأساسية للبند الخامس من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية، والذي يقضي بما يلي: «على كلِّ طرفٍ التعهُّدُ بألا يطور أو يختبر أو ينشر منظومات صواريخ مضادة للصواريخ البالستية أو مكوناتها تكون ذات قاعدة بحرية أو جوية أو فضائية أو أرضية متحركة.» وقد تم تعريف المنظومات ذات القواعد الأرضية الثابتة في البند الثاني على أنها «منظومة لاعتراض الصواريخ البالستية الاستراتيجية أو عناصرها في مسار طائر، تتكون حاليًّا من» الصواريخ الاعتراضية ومنصات الإطلاق والرادارات المضادة للصواريخ البالستية. وقد أشار التعبير «تتكون حاليًّا من» إلى أن المعاهدة قُصِد منها أن تغطي كل المنظومات، الحالي منها والمستقبلي.
… وافق الطرفان على أنه في حال بناء أي منظومات صواريخ مضادة للصواريخ على أي مبادئ فيزيائية أخرى وتتضمن مكونات قادرة على الحلول محل الصواريخ الاعتراضية أو منصات الإطلاق أو الرادارات المضادة للصواريخ البالستية في المستقبل، فإن قيودًا خاصة على هذه المنظومات ومكوناتها ستكون خاضعة للنقاش … والاتفاق.
فرضت معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية على كل طرف الاكتفاء بموقعين فقط من مواقع هذه الصواريخ (خُفِّضَتْ لاحقًا إلى موقع واحد فقط) يفصلهما ما لا يقل عن ١٣٠٠ كيلومتر (٨٠٠ ميل)؛ وذلك لمنعهما من التداخل. وبالتبعية اقتصر كل موقع من الموقعين المسموح بهما على مناطق محددة ولا يستطيع أن يُقدِّم سوى تغطية محدودة. وقد حظرت المعاهدة بوضوح إنشاء أي منظومة دفاعية صاروخية مضادة للصواريخ البالستية بطول البلاد. وفي موسكو — في الثاني والعشرين من مايو ١٩٧٢ — تَمَّ الانتهاء من بنود اتفاق معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية والتوقيع عليها.
مقترح «حرب النجوم» لريجان
في أعقاب استعراض شامل أجراه مجلس علوم الدفاع التابع للبنتاجون، خلص البيت الأبيض في أكتوبر ١٩٨١ إلى أن «تكنولوجيا الصواريخ البالستية التي تملكها الولايات المتحدة لم [تكن] على المستوى» الذي يمكنها من أن توفر «دفاعًا ضد الصواريخ السوفييتية». ووفقًا لكاتب سيرة حياة ريجان، لو كانون، فإن هذه النتيجة لم تقلل من «رؤية الرئيس الخاصة بالمحرقة النووية واقتناعه الراسخ العميق بأن الأسلحة التي من الممكن أن تسبب هذا الجحيم على الأرض ينبغي الخلاص منها.» علاوة على ذلك، كان ريجان معارضًا من الجانب الأخلاقي لعقيدة الردع الأمريكية «الدمار المؤكد»، البالغة من العمر عشرين عامًا.
وفي أوائل عام ١٩٨٣ كان الرئيس ريجان يجهِّز خطابًا يدعم فيه زيادة أخرى في ميزانية وزارة الدفاع للعام المالي ١٩٨٤، هذه الزيادة التي كانت تعارضها حركة شعبية تدعو لنزع السلاح النووي. رفض ريجان المسودة الأولى للخطاب لأنها كانت تُعيد تكرار مبررات سابقة. وبدلًا من ترديد أفكار قديمة، حَثَّ ريجان مستشار الأمن القومي روبرت سي ماكفارلين على تطوير شيء جديد لإبطال الرسالة الخاصة بمناصري فكرة نزع السلاح النووي. كشفت استطلاعات الرأي الجماهيرية في عام ١٩٨٢ ويناير عام ١٩٨٣ عن أن ٦٦ بالمائة من الأمريكيين كانوا يرون أن ريجان لم يكن يؤدي كما ينبغي من ناحية تشجيع الحد من التسلح، ودعم ٧٠ بالمائة منهم تجميد عمليات إنتاج السلاح النووي كخطوة أولى على طريق التخلص من جميع الرءوس الحربية النووية. وكان من المرتب عقد جلسة نقاشية بالكونجرس في نهاية مارس ١٩٨٣ بشأن تجميد إنتاج الأسلحة النووية، وهو ما هدد الزيادات في الإنفاق العسكري.
كان كلٌّ من السيناتور مالكوم والوب (العضو الجمهوري بمجلس الشيوخ عن ولاية وايومنج) والجنرال دانيال أو جراهام (المتقاعد) والفيزيائي إدوارد تيلر من مختبرات ليفرمور لورانس بجامعة كاليفورنيا يضغطون على البنتاجون والكونجرس من عام ١٩٧٩ إلى ١٩٨٢ من أجل زيادة تمويل مشروعات الدفاع الصاروخي. وقد سعوا إلى الحصول على دعم مفاهيم مثل أجهزة الليزر ذات القاعدة الكيميائية أو النووية، والمحطات الحربية الفضائية التي تدور حول الأرض وتستخدم الليزر، والطائرات الفضائية المحسنة. وفي فبراير ١٩٨١ أخبر وزير الدفاع كاسبر واينبرجر لجنةَ القوات المسلحة التابعة لمجلس الشيوخ بأن الولايات المتحدة قد تكون قادرة على «نشر [الصواريخ] إم إكس في صوامع ثابتة تحميها منظومات صواريخ مضادة للصواريخ البالستية.» ومع ذلك لم يكن أي من هؤلاء المناصرين للمنظومات المضادة للصواريخ البالستية مشتركًا على نحو مباشر في الإعداد لخطاب ريجان الذي ألقاه في مارس ١٩٨٣.
وفي الحادي عشر من فبراير ١٩٨٣ ناقش ريجان وهيئة الأركان المشتركة قائمةَ البنتاجون التي تحتوي على خمسة خيارات للتعامل مع الأسلحة الاستراتيجية الحالية. واحدة من هذه النقاط كانت المنظومة الدفاعية الصاروخية التي اقترحها رئيس العمليات البحرية الأميرال جيمس واتكينز الذي ذهب إلى أن من شأن المنظومة الدفاعية الصاروخية الاستراتيجية الجريئة أن «تنقل المعارك بعيدًا عن شواطئنا وسمائنا». هذه المعارك ستكون «أخلاقية» ومقبولة لدى الشعب الأمريكي؛ لأن من شأن المنظومة الدفاعية الصاروخية أن تحمي الأمريكيين «وليس فقط أن تنتقم لهم» بعد وقوع هجوم سوفييتي. واختتم واتكينز بقوله إنه يبدو من الواقعي أن نمتلك برنامجًا طويل المدى «لتطوير منظومة من شأنها أن تدرأ أي هجوم بالصواريخ». انجذب ريجان لفكرة واتكينز الخاصة بفكرة منظومة الدفاع الصاروخية بوصفها سبيلًا للتخفيف من مَقْته الشخصي لحقيقة الردع النووي.
في تلك الأثناء، كان ماكفارلين والمستشار العلمي للرئيس، جورج كيوورث الثاني، يعدَّان مسودة خطاب ريجان المقرر إلقاؤه في الثالث والعشرين من مارس. عارض كيوورث في البداية إدراج خطة الدفاع الصاروخي، لكنه سحب اعتراضه في تردد بعد أن أعلمه ماكفارلين بأن إدراج منظومة الدفاع الصاروخي المقترحة كان قرارًا سياسيًّا لا علميًّا.
دعوني أطلعكم على رؤية للمستقبل تحمل لنا الأمل. إننا نشرع في برنامج لمواجهة التهديد العسكري السوفييتي المروع بإجراءات دفاعية … ماذا لو استطاعت الشعوب الحرة العيش في أمان في ظل معرفتهم أن أمنهم لا يرتكن إلى التهديد بالانتقام الأمريكي الفوري كرادع للهجوم السوفييتي؟ وماذا لو أننا قادرون على اعتراض وتدمير الصواريخ الاستراتيجية البالستية قبل أن تصل إلى أراضينا أو أراضي حلفائنا؟
أدعو المجتمع العلمي في هذا البلد، ذلك المجتمع الذي منحنا الأسلحة النووية … إلى أن يمنحنا الوسائل التي نجعل بها هذه الأسلحة عقيمة وبائدة. والليلة، وبما يتفق والتزاماتنا بمعاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية … سأتخذ خطوة أولى مهمة، وآمُر بالبدء في جهود مكثفة شاملة لرسم معالم برنامج طويل الأمد للأبحاث والتطوير من أجل البدء في تحقيق هدفنا النهائي المتمثل في التخلص من التهديد الذي تطرحه الصواريخ النووية الاستراتيجية.
حمل مقترح الرئيس اسمًا رسميًّا هو «مبادرة الدفاع الاستراتيجي» في يناير ١٩٨٤، بينما أطلق عليه المنتقدون اسم «حرب النجوم».
كانت ردود الفعل على مقترح ريجان متباينة دون شك. فقد عارض وكيل وزارة الدفاع ريتشارد ديلاور — الذي كان يتبنى تمويل أبحاث الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية — مقترحَ ريجان واصفًا إياه بأنه «محاكاة سياسية ساخرة غير ناضجة». أما روبرت مايكل — النائب عن إلينوي، وزعيم الأقلية بمجلس النواب — فحين حاصره أحد الصحفيين بالأسئلة ردَّ قائلًا إن الخطاب ربما كان «مبالغًا فيه بشكل ما». وقد أشار الموضوع الرئيسي لمجلة تايم بعد الخطاب إلى أن مقترح ريجان كان أقرب إلى «رؤية آتية من عالم ألعاب الفيديو»، وعلى غلاف المجلة وُضعت صورة ريجان أمام خلفية من أسلحة فضائية على نحو أشبه بقصص باك روجرز الخيالية المصورة التي تدور أحداثها في القرن الخامس والعشرين. لكن في غضون أسبوع اختفى مقترح ريجان بشأن الدفاع الصاروخي من الأخبار؛ لأنه لم يَعُد ذا جاذبية كبيرة، وتحوَّل الاهتمام الجماهيري إلى قضايا أكثر إلحاحًا. وفي الواقع، خلال حملة إعادة الانتخاب عام ١٩٨٤ لم يأتِ ريجان على ذكر الدفاع الصاروخي، رغم أن المرشح الديمقراطي والتر مونديل شجب هذا المقترح واصفًا إياه بأنه خدعة خطيرة تُكلِّف دافعي الضرائب الأمريكيين مليارات الدولارات، وتُسرِّع من سباق التسلح بينما لا تُقدِّم أي حماية فعلية للشعب الأمريكي.
تعاملت وزارة الدفاع مع مقترح مبادرة الدفاع الاستراتيجي بجدية، وشكلت فريقين من الخبراء في ربيع عام ١٩٨٣ — مجموعة فليتشر ومجموعة هوفمان — من أجل دراسة الأنظمة الدفاعية الصاروخية الممكنة. وقد ترأَّس جيمس سي فليتشر — المدير السابق لناسا — فريقًا مكونًا من ٦٥ عضوًا — ٥٣ منهم لهم مصلحة مادية مباشرة في أبحاث مبادرة الدفاع الاستراتيجي — وطلب من الفريق التخطيط لمنظومة الدفاع الصاروخي. وفي بواكير عام ١٩٨٤ أوصى الفريق بأن كل الجوانب البحثية لمبادرة الدفاع الاستراتيجي يجب تسريعها للوصول إلى قرار بشأن نشر منظومة دفاع صاروخي في أوائل التسعينيات.
اقترح فريق فليتشر منظومة دفاعية صاروخية اعتراضية متعددة الطبقات. تضمَّنت الطبقة الأولى أجهزة استشعار لاستكشاف الصواريخ البالستية العابرة للقارات التي تغادر صوامعها والإطلاق الفوري للصواريخ الاعتراضية لمهاجمة صواريخ العدو وهي لا تزال في مرحلة الدفع الأولى. الطبقة الثانية من الصواريخ الاعتراضية الأمريكية ستسعى إلى تدمير الرءوس الحربية المعادية في المرحلة التالية على مرحلة الدفع؛ أي مرحلة النقل. أما الطبقة الثالثة من الصواريخ الاعتراضية فستبحث عن أي رءوس حربية نشرها العدو خلال مرحلة منتصف المسار قبل أن تدخل إلى الغلاف الجوي. وأخيرًا ستقوم طبقة رابعة من الصواريخ الاعتراضية بتمييز الرءوس الحربية من الرءوس الخداعية والحطام خلال المرحلة الختامية، وتدمر ما تبقى من رءوس حربية.
من شأن تدمير الصواريخ البالستية العابرة للقارات التي يطلقها العدو — وهي لا تزال في مرحلة الدفع التي تستمر من ثلاث إلى خمس دقائق — أن يوفر أفضل الفرص لتقليل عدد الرءوس الحربية الواردة. وبعد انقضاء مرحلة الدفع، سيواصل الصاروخ (ويُسمَّى في هذه المرحلة الصاروخ الناقل) حَمْلَ الرءوس الحربية الحقيقية والخداعية. تستغرق مرحلة ما بعد الدفع من ست إلى عشر دقائق للوصول إلى أقصى ارتفاع لها، ويبلغ نحو ٧٥٠ ميلًا فوق سطح الأرض، وخلال هذه المرحلة ستحاول طبقة ثانية من صواريخ الاعتراض الأمريكية أن تدمِّر الصواريخ الناقلة. هذا هو ثاني أفضل وقت لاعتراض الرءوس الحربية النووية. عند وصول الصاروخ الناقل لأقصى ارتفاع له يعمد إلى تعديل مساره وإطلاق ما يصل إلى عشرة رءوس حربية، إضافة إلى عدد كبير من الرءوس الخداعية، وجميعها ستبدأ الهبوط نحو أهدافها المختارة على الأرض.
ستبدأ الطبقة الثالثة من الدفاع الصاروخي عملها خلال مرحلة منتصف المسار التي تلي إطلاق الناقلة للرءوس الحربية الحقيقية والخداعية، وتسبق دخول هذه الرءوس مرة ثانية إلى الغلاف الجوي للأرض. هذه الطبقة تمنح منظومة الدفاع الصاروخي الأمريكية أكبر قدر من الوقت المتاح — ما يصل إلى ٢٠ دقيقة — من أجل تحديد موقع الرءوس المتجهة صوب أهدافها وتدميرها. بيد أن الصواريخ الاعتراضية الأمريكية قد تَحِيد عن الرءوس الحربية الحقيقية بسبب الرءوس الخداعية أو الحطام الذي قد تخال الصواريخ الاعتراضية أنه رءوس حربية معادية.
تبدأ مرحلة الدفاع الصاروخي الأخيرة حين تعاود الرءوس الحربية الحقيقية والخداعية دخولَ الغلاف الجوي على ارتفاع نحو ٦٠ ميلًا فوق سطح الأرض. وخلال هذه المرحلة تكون أمام الصواريخ الاعتراضية أجزاء من العشرة من الثانية لضرب الرءوس الحربية قبل أن تصل إلى أهدافها. المزية الوحيدة التي تمتلكها الصواريخ الدفاعية في هذه المرحلة هي أن غلاف الرءوس الحربية الحقيقية يسخن بفعل الاحتكاك مع الغلاف الجوي، أما الرءوس الخداعية — الأخف وزنًا — فتبرد بعد انفصالها عن الرءوس الحربية.
كي تكون منظومة الدفاع الصاروخي مؤهلة للنشر ينبغي أن تفي بثلاث مهام؛ أولًا: يجب أن تكون المنظومة قادرة على رصد الأهداف المعادية وتحديدها، بمعنى التمييز بين الصواريخ الدافعة للصواريخ البالستية والرءوس الحربية والرءوس الخداعية والحطام. ثانيًا: يجب أن تكون أجهزة التعقب الخاصة بالمنظومة قادرة على تحديد ورسم مسار الهدف من أجل إرشاد الصواريخ الاعتراضية نحو أهدافها. وأخيرًا: يجب أن تكون المنظومة الدفاعية قادرة على تقييم الضرر الذي أحدثته الأسلحة الدفاعية من أجل التأكد من تدمير الصواريخ الدافعة أو الصاروخ الناقل أو الرأس الحربي. وهذا أمر ضروري حتى يتمكن المدافعون من تحديد ما إذا كان عليهم إطلاق المزيد من الصواريخ الاعتراضية أم لا.
من الجلي أن مثل هذه المنظومة الدفاعية الصاروخية البالستية مثَّلتْ تحديًا كبيرًا للعلماء والفنيين الذين كان عليهم إجراء الأبحاث اللازمة لتطوير الأجزاء المعقدة للمنظومة واختبارها. أيضًا تطلَّبت المنظومة زيادة كبيرة في ميزانية وزارة الدفاع، أكبر كثيرًا من التقديرات المقدمة في البداية من جانب إدارة ريجان.
في تلك الأثناء، كان بول نيتز — الدبلوماسي المشارك في مفاوضات الحد من التسلح — قد قدَّم صيغة ثلاثية الجوانب تحتاج أيُّ منظومة لمبادرة الدفاع الاستراتيجي للوفاء بها قبل أن يُؤخَذ أمر نشرها في الاعتبار. وقد نصت «معايير نيتز» كما عُرفت وقتها على أن المنظومة المضادة للصواريخ يجب أن تكون: (١) فعالة. (٢) قادرة على الصمود في وجه هجوم مباشر. (٣) فعالة اقتصاديًّا على نحو حدِّي، بمعنى أن تتكلف زيادة دفاعك أقل مما يتكلف العدو لزيادة هجومه عليها. وقد جرى تبنِّي صيغة نيتز على صورة توجيه صادر عن الأمن القومي حمل الرقم ١٧٢ في الثلاثين من مايو ١٩٨٥، وهو ما دفع البعض داخل البنتاجون إلى الخوف من أن التركيز على الفعالية الاقتصادية من شأنه أن يقضي على البرنامج. بينما تشكك آخرون — مثل روبرت ماكنمارا — في التزام إدارة ريجان بالشقِّ الاقتصادي من هذه المعايير.
في الوقت ذاته، عمل فريق لدراسة الاستراتيجية الأمنية المستقبلية — ١٧ من بين أعضائه الأربعة والعشرين أُوكِل إليهم مستقبلًا تنفيذ عقود تابعة لمبادرة الدفاع الاستراتيجي — برئاسة فريد إس هوفمان على تقييم الدفاعات الاستراتيجية للبلاد. وفي بواكير عام ١٩٨٤ قدمت دراسة هوفمان تقييمًا أكثر واقعية للإطار الزمني الخاص بمبادرة الدفاع الاستراتيجي. وبدلًا من أن يتوقع فريق هوفمان نشر الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية في أوائل التسعينيات، فقد خلص الفريق إلى أن منظومة الدفاع المثالية قد «تستغرق وقتًا طويلًا، وقد يتَّضِح تعذُّر الحصول عليها بالمعنى الفعلي في مواجهة الجهود السوفييتية للرد على تلك المنظومة الدفاعية.»
لأكثر من عقد، ظل يُنظَر إلى التفسير التقليدي لمعاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية على أنه يمنع أي تطوير للمنظومة المضادة للصواريخ البالستية ذات القاعدة الفضائية أو اختبارها. لكن في أكتوبر ١٩٨٥ أقنع نيتز وزير الخارجية الأمريكي جورج شولتز بقبول تفسير «واسع» لمعاهدة عام ١٩٧٢ من شأنه أن يسمح ببحث أسلحة ذات قاعدة فضائية وتطويرها. بينما سعى بعض المتشددين داخل الإدارة الأمريكية — الذين كانوا يرغبون في إلغاء المعاهدة من الأساس — بدلًا من ذلك إلى توسيع التفسير الجديد على نحو أكبر بحيث يسمح باختبار الأسلحة.
وفي السادس من أكتوبر، أخبر مستشار الأمن القومي روبرت ماكفارلين برنامجَ «لقاء مع الصحافة» الحواريَّ على شبكة الإذاعة الوطنية أن معاهدة عام ١٩٧٢ تسمح ببحث المنظومة الدفاعية الصاروخية التي تتضمَّن «مفاهيم فيزيائية جديدة» وتطويرها. وقد زعم أيضًا أن المعاهدة تسمح باختبار الأنظمة والتكنولوجيات غير المعتادة، وهو ما يَعني على الأرجح أشعة الليزر وحزم الجسيمات.
وقد زعم أبراهام دي سافاير — المستشار القانوني لوزارة الخارجية — أن سجل المفاوضات السري لمعاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية وبنود المعاهدة توضح أن لغة المعاهدة غامضة، وأن سجل تصديق مجلس الشيوخ على المعاهدة يدعم التفسير الواسع للمعاهدة. كما زعم سافاير — دون تقديم ما يدعم قوله — أن الاتحاد السوفييتي لم يقبل قط بأي حظر على المنظومات المتحركة للصواريخ المضادة للصواريخ أو على التكنولوجيات غير المعتادة. (في النهاية اضطر سافاير إلى الإقرار بأن سجلات عملية التصديق لم تدعم التفسير الواسع، وألقى بلائمة هذا الخطأ على «المحامين صغار السن» العاملين داخل فريقه المعاون.)
أثارت محاولات إدارة ريجان لتوسيع تفسير معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية لعام ١٩٧٢ خلافًا تنفيذيًّا تشريعيًّا كبيرًا. وقد حذر السيناتور سام نان (العضو الديمقراطي بمجلس الشيوخ عن ولاية جورجيا) الرئيسَ من أن أي أفعال تنتهك التفسير التقليدي للمعاهدة من شأنها التسبب في «مواجهة دستورية ذات أبعاد عميقة»، كما أطلق السيناتور سلسلة من الدراسات عن التفسير المعاد خلصت إلى أن منطق سافاير القانوني كان «خاطئًا بشدة». وقد دعم نان — بمشاركة السيناتور كارل ليفين (العضو الديمقراطي بمجلس الشيوخ عن ولاية ميشيجان) — تعديلًا لقانون إقرار الدفاع الوطني يحظر أي اختبار تابع لمبادرة الدفاع الاستراتيجي يتعارض مع التفسير التقليدي لمعاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية. وبعد جدال حزبي حاد ومماطلة سياسية ممتدة من جانب الجمهوريين، تمت الموافقة على نسخة معدلة من صياغة نان-ليفين في أواخر عام ١٩٨٧.
سيطر الجمهوريون على مجلسَي النواب والشيوخ في عام ١٩٩٤، وقد عَزَوْا هذا الانتصار إلى «ميثاقهم مع الشعب الأمريكي» الذي كان يعكس ضمن قضايا أخرى إلى أي عمق صار الالتزام بنشر منظومة دفاعية صاروخية على مستوى البلاد متغلغلًا في الأيديولوجية السياسية للحزب. وقد دعا الحزب إلى نشر «منظومة دفاعية صاروخية اقتصادية عاملة مضادة للصواريخ البالستية» في أقرب ما يمكن من أجل حماية الولايات المتحدة «من تهديدات الصواريخ البالستية (على سبيل المثال، عمليات الإطلاق العرضية أو غير المصرح بها لهذه الصواريخ أو الهجمات الآتية من دول من العالم الثالث) …» علاوة على ذلك أكد الميثاق على أن معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية كانت «أثرًا عتيقًا من آثار الحرب الباردة لا يَفِي بالاحتياجات المستقبلية للولايات المتحدة … وأنه من الواجب الأخلاقي أن يتم التوسع في الدفاعات الاستراتيجية الأمريكية وألا ترضخ إدارة كلينتون لمطالب الروس بأن يظل الأمريكيون دون دفاع في وجه العدوان النووي المحتمل …» وخلال السنوات التالية سعى المشرعون الجمهوريون — دون نجاح — إلى فرض نشر منظومة دفاعية صاروخية على مستوى البلاد.
عيَّنَ الجمهوريون لجنةً مستقلة في نوفمبر ١٩٩٦ من أجل «تقييم تهديد الصواريخ البالستية». وقد أكَّد الملخص التنفيذي للجنة التي وُضِعت تحت رئاسة ديفيد رامسفيلد — الذي سيصير مستقبلًا وزيرًا للدفاع — على أن: «الدول المزودة حديثًا بصواريخ بالستية [كوريا الشمالية وإيران والعراق] … ستكون قادرة على إيقاع دمار كبير بالولايات المتحدة في غضون خمس سنوات من اتخاذ قرار بامتلاك مثل هذه القدرات (عشر سنوات في حالة العراق).» وقد زعم أن كوريا الشمالية وإيران — اللتين رأت اللجنة أنهما تطوران أسلحة دمار شامل — وضعتا «أولوية كبيرة لتهديد الأراضي الأمريكية، وكل دولة من الدولتين تطوِّر حاليًّا قدرات صاروخية بالستية متقدمة بهدف تهديد الأراضي الأمريكية على نحو مباشر».
لكن جريج ثيلمان — العضو السابق بمكتب الاستخبارات والأبحاث التابع لوزارة الخارجية — يرى أن «رأي رامسفيلد بشأن الصواريخ البالستية كثيرًا ما تجاهل الآراء المدروسة بعناية للمتخصصين [الاستخباراتيين] لصالح السيناريوهات الأكثر تشاؤمًا التي افترضت وجود تهديد وشيك للولايات المتحدة وحثَّت على الاستجابة بصورة عسكرية، لا دبلوماسية.» ولم يكن هذا بالأمر المفاجئ.
جورج بوش الابن ونشر الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية
تعهَّدَ جورج دبليو بوش (جورج بوش الابن) — بعد وقت قصير من اعتلائه سدة الرئاسة في يناير ٢٠٠١ — بالوفاء بالوعد الذي قدَّمَه في حملته الانتخابية الخاص بالسعي على نحو نَشِط إلى نشر منظومة دفاعية صاروخية بطول البلاد. وبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية أصرَّ بوش على أن المنظومة الدفاعية الصاروخية كانت أمرًا ضروريًّا لأمن الولايات المتحدة. ولإزالة أي قيود على عمليات بحث الدفعات الصاروخية وتطويرها واختبارها؛ أعلن بوش في الثالث عشر من ديسمبر ٢٠٠١ أن الولايات المتحدة قد منحت موسكو إشعارًا بنيِّتها الانسحاب بعد ستة أشهر من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية لعام ١٩٧٢.
بعدها بعام — في ديسمبر ٢٠٠٢ — أمر الرئيس بوش وزارة الدفاع بنشر العناصر الأولية لمنظومة دفاعية صاروخية استراتيجية. تضمَّنت عمليةُ النشر المتواضعة عشرين صاروخًا اعتراضيًّا دفاعيًّا لمنتصف المسار ذات قاعدة أرضية وعشرين صاروخًا اعتراضيًّا دفاعيًّا تابعًا للنظام أيجيس المضاد للصواريخ البالستية ذات قاعدة بحرية محمولة على ثلاث سفن. أيضًا تضمَّنت المنظومةُ كميةً غير محددة من صواريخ باتريوت بي إيه سي ٣ ومنظومةً رادارية محدَّثة للمساعدة في تحديد مواقع الأهداف المحتملة. كان الهدف من الصواريخ باتريوت بي إيه سي ٣ والصواريخ الاعتراضية ذات القاعدة البحرية حماية الولايات المتحدة من الصواريخ البالستية قصيرة المدى ومتوسطة المدى، أما الصواريخ الاعتراضية الدفاعية العشرون لمنتصف المسار — يُوضَع ستة عشر منها في ألاسكا وأربعة في قاعدة فاندنبرج الجوية — فقد كانت الوحيدة المصممة للحماية من الصواريخ البالستية طويلة المدى. وقد تفهَّمَ المراقبون المطَّلعون جيدًا أن اختبارات الاعتراض الخاصة بالصواريخ الاعتراضية لمنتصف المسار البدائية كانت مصممة بعناية بحيث تطرح تحديات متواضعة، وحتى «الناجح» من هذه الصواريخ لم يعمل في بيئة تقارب الظروف الفعلية. وبدا أنه يتعيَّن الانتظار لسنوات حتى الحصول على منظومة صاروخية مضادة للصواريخ البالستية يمكن الاعتماد عليها.
اعتبارات أخرى
من ضمن العديد من الاعتبارات المتبقية المثيرة للنقاش ثمة ثلاثة أسئلة تستحق المزيد من التعليق؛ وهي: (١) هل ستوفر المنظومة الدفاعية الصاروخية الدفاع الأمثل ضد الدول المارقة والإرهابيين؟ (٢) هل المشايعة الحزبية السياسية التي وقفت خلف قرار نشر المنظومة صارت التزامًا مبنيًّا على الإيمان؟ (٣) كم ستتكلف الدفاعات الصاروخية؟
يتفق أغلب الأمريكيين على أن امتلاك دفاع صاروخي فعَّال أمر مستحسن، لكن العديد من المتشككين قلقون من أن النشر المتهور لمنظومات غير مثبت فعاليتها، وبتكاليف كبيرة، يمكن أن يجعلنا نعجز عن تحقيق غطاء الحماية المنشود. وقد رأى العديد من المحللين أنه في ضوء الترسانة النووية الضخمة التي تتمتع بها الولايات المتحدة وقدرتها العظيمة على ضرب أي مكان حول العالم بهذه الأسلحة، فإنه ما من دولة ستسمح بإطلاق أي صواريخ بالستية من أراضيها؛ لأن مثل هذا العمل العدائي من شأنه أن يؤدي إلى رد انتقامي أمريكي وتدمير الدولة المعتدية.
ويرى هؤلاء المتخصصون أن التهديد الأكثر ترجيحًا أن تتعرض له الولايات المتحدة إنما يتمثل في أن يستعين إرهابيون أجانب — إذا ما اختاروا استخدام سلاح للدمار الشامل — بسفينة أو شاحنة من أجل حمل هذا السلاح إلى داخل الولايات المتحدة، وليس صاروخًا بالستيًّا طويل المدى؛ ذلك أن هذه الصواريخ من المعقد بناؤها ونشرها وإطلاقها بدقة. وعلى هذا فإن أعظم تهديد يواجه الولايات المتحدة — حسب كلمات أحد المعلقين — ليس من جانب الدول المارقة، وإنما الأفراد المارقين الذين لا يعملون انطلاقًا من دولة بعينها.
منذ خطاب ريجان الحماسي الذي أعلن فيه عن مبادرة الدفاع الاستراتيجي، من الممكن إرجاع المناقشات الحامية والمطالبات بالنشر الفوري لدرع صاروخي إلى البيئة السياسية المحلية. فالجمهوريون المعروفون ﺑ «المحافظين» صاروا يطالبون على نحو متزايد بإلغاء معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية لعام ١٩٧٢ ونشر منظومة مضادة للصواريخ. وهذا الالتزام صار أشبه بالعقيدة، وظهر في الوثائق الرسمية للحزب، ولم يقبل بأي تنازلات تقريبًا. علاوة على ذلك، لم تكترث مطالبات الجمهوريين بنشر هذه المنظومة بالإجراءات المثبتة صحتها على مَرِّ فترة من الزمن والخاصة بنشر منظومات الأسلحة، أو بالمخاوف المتعلقة بمواطن القصور التكنولوجية التي تشوب المنظومات المضادة للصواريخ، أو للتكاليف المادية، أو لتأثير نشر هذه المنظومات على الاعتبارات الأوسع للسياسة الخارجية.
الاعتبار الثالث هو أن عمليات البحث والتطوير السابقة تكلفت نحو ١٢٠ مليار دولار، وستستمر التكلفة في الارتفاع في ظل قرار نشر تكنولوجيا غير مجربة. وقد أوضح الجنرال رونالد كاديش — رئيس وكالة الدفاع الصاروخي — عدمَ اكتراث الإدارة بالتكاليف الخاصة، بما يُعَدُّ في نظر الكثيرين عملية نشر سابقة على أوانها حين اقترح «الاختبار ثم الإصلاح ثم الاختبار ثم الإصلاح ثم الاختبار». ورغم أن هذا هو المعتاد في المرحلة التجريبية، فإنه يصير أكثر تكلفة بكثير حين تُنشر الوحدات «العاملة» في مواقعها.
وقد تشكَّك ديوان المحاسبة الأمريكي في تقرير له صدر في يونيو ٢٠٠٣ في حكمة ضغط البنتاجون لنشر منظومة محدودة للدفاع الصاروخي على حساب تجاهل المسلك المجرب لتطوير منظومات الأسلحة، وكذلك لاستخدام سياسة «الاختبار ثم الإصلاح». وبالتبعية حذَّر ديوان المحاسبة الأمريكي من أن الإدارة الأمريكية كانت تخاطر بنشر منظومة مضادة للصواريخ تتسم بأنها مكلفة وغير فعَّالة.
قدَّرت وكالة الدفاع الصاروخي أن عملية النشر ستتكلف نحو ٥٠ مليار دولار إضافية. بيد أن ديوان المحاسبة الأمريكي أكَّد على أن هذا المبلغ مرتبط فقط بتكاليف عمليتي البحث والتطوير، وأنه لا يشتمل على تكاليف الإنتاج والتشغيل والصيانة التي قدَّر البنتاجون سابقًا أنها ستتكلف نحو ١٥٠ مليار دولار. وقد حثَّ ديوان المحاسبة الأمريكي البنتاجون على التفكير في إعداد تقديرات شاملة لتكاليف منظومة الدفاع الصاروخي، وأنه ينبغي للبنتاجون وضع ميزانية لمواجهة أوجه الإنفاق هذه. وسيتسبب عدم القيام بهذا في إجبار وزارة الدفاع على استخدام الأموال المخصصة لبرامج تسليح أخرى من أجل الوفاء بتكاليف بناء منظومة الدفاع الصاروخي ونشرها.
إن التنبؤ بتكاليف منظومة دفاعية صاروخية متعددة الطبقات لهو مهمة شاقة. ومع ذلك فقد جمعت منظمة «الاقتصاديون المتحدون من أجل تخفيض السلاح» غير الحكومية التقديرات التي وضعها البنتاجون لكل العناصر الخاصة بالمراحل المتعددة لمشاريع إدارة بوش، بما فيها تشغيل المنظومة لمدة عشرين عامًا، ووجدت أن الإجمالي يصل إلى تريليون دولار، وقد يصل إلى تريليون ونصف التريليون دولار. بل إنه في عالم تتغير فيه البيئة النووية الاستراتيجية العالمية على نحو سريع قد لا يكون هذا الرقم كافيًا.
المشروع | التاريخ | الأبحاث والهدف |
---|---|---|
ثامبر | ١٩٤٤ | بحث تابع للجيش يسعى إلى الحماية من الصواريخ من النوع «فاو ٢»، أدى إلى مشروع اعتراض الدوافع الصاروخية البالستية، وأُلغِيَ عام ١٩٦١. |
نايك | ١٩٤٥ | الجيش يطلق بحثًا من أجل الدفاع المضاد للطائرات. |
جابا | ١٩٤٧ | القوات الجوية تسعى إلى بناء «طائرات أرض جو بدون طيار»، أُدمج عام ١٩٤٩ مع برنامج «ثامبر» بهدف إصابة وتدمير الصواريخ البالستية. |
بامبلبي | ١٩٤٧ | البحرية تسعى إلى بناء صواريخ سطح-جو، أدى إلى برنامج «تالوس». |
نايك أجاكس | ١٩٥٣ | صاروخ مضاد للطائرات من تطوير الجيش. |
نايك هيركليس | ١٩٥٤ | منظومة مضادة للطائرات تابعة للجيش. |
ويزارد | ١٩٥٥ | صاروخ مضاد للصواريخ البالستية من تطوير القوات الجوية، في النهاية تحول إلى صاروخ هجومي. |
نايك زيوس | ١٩٥٦ | منظومة مضادة للصواريخ البالستية تابعة للجيش، يربط صاروخ الاعتراض برادار. |
تالوس | ١٩٥٨ | صار في النهاية برنامج بولاريس للصواريخ البالستية المنطلقة من الغواصات. |
نايك زيوس | ١٩٦٠ | الجيش يحث على نشر هذه المنظومة من أجل حماية القواعد العسكرية، أدت إلى المنظومة «نايك إكس». |
نايك إكس | ١٩٦٣ | إضافة الرادار متعدد المراحل والصاروخ سبرنت إلى المنظومة. |
سنتينال | ١٩٦٨ | تقرر نشر المنظومة «نايك إكس»، التي حملت الاسم الرسمي «سنتينال»، في أرجاء البلاد للحماية من الصواريخ الصينية. |
سنتينال | ١٩٦٩ | تغيرت تسميتها إلى المنظومة «سيف جارد»، وتقرر نشرها في صوامع الصواريخ البالستية العابرة للقارات في كل من داكوتا ومونتانا. |
سيف جارد | ١٩٧٥ | المنظومة «سيف جارد» تدخل الخدمة. |
سيف جارد | ١٩٧٦ | الكونجرس يأمر بوقف عمل المنظومة «سيف جارد». |
المشروع | التاريخ | الأبحاث والهدف |
---|---|---|
موسكو | ||
إيه ٢٥ | ١٩٥٣ | دفاع مضاد للقاذفات يستخدم صواريخ سطح-جو من طراز «في ٣٠٠». |
إيه ٣٥ | ١٩٥٨ | بدء العمل بالمنظومة «جالوش»،* المخطط لها أن تحمي الاتحاد السوفييتي من الصواريخ البالستية العابرة للقارات باستخدام الصواريخ «في ١٠٠٠»، وذلك بحلول عام ١٩٦٧. |
١٩٦٢ | إضافة الصواريخ الاعتراضية «إس ٣٥٠» للعمل خارج الغلاف الجوي، بيد أنها تفشل في اعتراض الناقلات العائدة ذات الرءوس المتعددة فردية التوجيه. | |
١٩٦٧ | توقف العمل بالمنظومة «جالوش»؛ بسبب عدم الفعالية في الاختبارات، وموسكو تُحمى فقط عن طريق المنظومة «ألدان» المكونة من الطائرات المقاتلة «تي يو ١٢٦». | |
١٩٧٥ | تحديث المنظومة «إيه ٣٥٠»؛ لتتمكن من اعتراض الناقلات العائدة ذات الرءوس المتعددة فردية التوجيه. | |
إيه ١٣٥ | ١٩٧٨ | تحديث المنظومة على نحو تدريجي. |
١٩٨٠ | الصواريخ «٥ في ٥٥» توفر الحماية للوحدات الجوية الدفاعية. | |
١٩٩٢ | حلت محل المنظومة «إيه ٣٥». | |
لينينجراد | ||
١٩٦١ | استخدام الصواريخ الاعتراضية «إس ٥٠٠» (جريفين)* ذات منصات إطلاق «سام» أحادية المرحلة، جرى التوقف عن استخدامها عام ١٩٦٣. | |
١٩٦٣ | الصواريخ الاعتراضية «إس ٢٠٠» (جامون)* ذات منصات إطلاق «سام» ثنائية المرحلة. | |
١٩٧٠ | الصواريخ «إس ٢٠٠ في فولجا» تزيد من مداها وتضيف إلى قوة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية. | |
١٩٧٤ | الصواريخ «إس ٢٠٠ دي فيجا»، التخلي عن النسخة المحدثة من الصواريخ «إس ٢٠٠ في» بعد تعديل معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية لعام ١٩٧٢ بحيث تسمح بموقع واحد فقط لكل طرف. |