أقداح وأحلام
أنا ما أزال وفي يدي قَدَحي
يا ليلُ أين تفرَّق الشربُ
ما زلتُ أشربها وأشربها
حتى ترنَّح أفقك الرحبُ
الشرقُ عُفِّر بالضباب فما
يبدو فأين سَناك يا غربُ؟
ما للنجوم غرقنَ مِن سأمٍ
في ضوئهنَّ وكادت الشُّهُبُ؟
أنا ما أزال وفي يدي قدحي
ياليل أين تفرَّق الشرب؟
•••
الحانُ بالشهوات مُصطخِبٌ
حتى يكاد بهنَّ ينهارُ
وكأنَّ مصباحَيه من ضَرَجٍ
كَفَّان مدَّهما لِيَ العارُ
كفَّان؟! بل ثغران قد صُبِغَا
بدمٍ تدفَّقَ منه تيَّارُ
كأسان ملؤهما طلًى عُصِرَتْ
مِن مُهجتَين رماهما الحبُّ
أو مِخلبان عليهما مِزَقٌ
حمراءُ تزعم أنَّها قلبُ
•••
يا ليلُ، أين تطوف بي قدمي؟
في أيِّ مُنعَطَفٍ من الظُّلَمِ؟
تلك الطريقُ أكادُ أعرفها
بالأمس عتَّمَ طيفها حُلُمي
هي غِمدُ خنجرك الرهيب وقد
جَرَّدْتَهُ ومسحتَ عنهُ دَمِي
تلك الطريقُ على جوانبها
تتمزَّقُ الخطوات أو تكبو
تتثاءَبُ الأجسادُ جائعةً
فيها كما يتثاءبُ الذِّئبُ
•••
حسناءُ يُلهب عُريها ظمئي
فأكاد أشرب ذلك العُريا
وأكاد أَحطِمه فتَحطِمني
عينان جائعتان كالدنيا
غَرسَتْ يد الحمى على فمِها
زَهرًا بلا شجرٍ فلا سَقيا
إنْ فتَّحته بحرِّها شَفةٌ
ظمأى يُعربد فوقها نَدْبُ
رقَصَ اللهيبُ على كمائمه
ومشى الطِّلاءُ يهزُّهُ الوَثْبُ
•••
عينٌ يُرنِّح هُدبَهَا نَفَسي
وفمٌ يُقطِّع هَمسَه الداءُ
ويدٌ على كتفي مُجلجلةٌ
واخجلتاه! أتلك حوَّاءُ؟!
لا كنتُ آدمَها ولا لَفحَتْ
فردوسيَ الخمريَّ صَحراءُ
صوتُ النعاس يَرِنُّ في أُفُقي
فتذوبُ ناعسةً له السُّحْبُ
وانثال من سهَري على سهَري
يَنبوعُه المُتثائبُ الرَّطْبُ
•••
يا نومُ بين جوانحي أملٌ
لم أَدرِ، قَبلَكَ، أنه أَملُ
مثلُ الفراشةِ بات يَحبِسُها
دَوْحٌ بذائب طلِّهِ خَضِلُ
لولا خفوقُ جناحها غَفلَتْ
بِيضُ الأزاهرِ عنهُ والمُقَلُ
أنا من ظلالكَ بين أوديةٍ
عذراءَ كلُّ مهادها عُشْبُ
هام الضَّباب على رفارِفها
طلَّ الوِشاحُ كنَجمةٍ تخبو
•••
ماذا أراه؟! أطيفُها مَسحَتْ
عنه الترابَ أناملُ الغَسَقِ؟
هو يا فؤادي غيرها رِفةً
هو من دمائكَ أنت من حُرقي!
هو ما نَحِنُّ إليه بادلني
حبي وفتِّح بالسَّنا أُفُقي
فإذا لَثمتُ فغيرَ خادعةٍ
باتت لكُلِّ مخادعٍ تصبو
أفكان سُورًا قام بينهما
— بين الخيانة والهوى — هُدْبُ؟
•••
خَفقَت ذوائبها على شَفَتي
وَسْنى فأسكرَ عِطرُها نفَسي
نَهرٌ من الأطياب أَرْشفَني
ريحًا تُريبُ مجامرَ الغَلَسِ
فكأنَّ نايًا ضمَّخَتْهُ يدا
آذارَ غرَّدَ ليلةَ العُرُسِ
فغَفا وما زالت مَلاحِنُه
مِلءَ الفضاءِ يُعيدها الحبُّ
أو أن سَوْسَنَةً يُراقِصُها
رَجْعُ الغِناء بشَعرِها تَربو
•••
يا جسمَ طيفكِ أنتِ يا شَبَحًا
من ذِكرياتيَ يا هوًى خَدَعَا
لعناتي الحَنِقَاتُ ما بَرِحتْ
تعتادُ خِدْركِ والظلامَ معًا
خَفقَتْ بأجنحةِ الغُراب على
عينَيكِ تنشر حولكِ الفَزَعَا
الصُّبحُ صُبحكِ ضِحك شامتةٍ
والليلُ ليلكِ مَضجعٌ يَنبُو
وإِذا هلكتِ غدًا فلا تُجدي
قَبرًا ومزَّق صَدرَكِ الذئبُ؟
•••
والبومُ يملأُ عُشَّهُ نُتَفًا
من شَعركِ المتعفِّر النَّخِرِ
ويعود ثغركِ للذباب لقًى
ويداكِ مُثقلتان بالحجزِ
لا تدفعان أذاه عن شفةٍ
بالأمسِ أخرس لغوُها وتري
وليُسقَ من دمكِ الخبيث غدًا
دَوحٌ تُعشِّشُ فوقه الغُرْبُ
تأوي الصلال إلى جوانبه
غَرثى ويَعوي تحته الكلبُ!
١٤ / ١٢ / ١٩٤٦