اللحظة التاريخية لمحاورة الجمهورية
تنطوي دراسة أي نص على ثلاثة عناصر: المؤلف، والعصر الذي عاش فيه،
والكتاب أو النص نفسه. ولمَّا كانت دراستنا هذه تتركز على محاورة
الجمهورية، أي إن الاهتمام الأكبر فيها يَنصبُّ على النص نفسه، فإن
الواجب يقضي علينا بأن نخصص أول فصولها للعنصرَين الأولَين، وهما
الكاتب وعصره؛ إذ إن هذين العنصرَين لا ينفصلان: فقد تأثر أفلاطون —
ككل كاتبٍ عظيم — بعصره وأثَّر فيه، وانعكس ذلك في كتاباته، ولا سيما
«الجمهورية» بوضوح كامل. على أن هدفنا في هذا الفصل ليس التوسع في
تقديم معلومات تاريخية أو «بيوجرافية» عن أفلاطون وعصره، وإنما هو وضع
الإطار الملائم للمحاورة التي نحن بصدد بحثها. ومعنى ذلك أننا سنقتصر
على تقديم العوامل التي كان لها تأثير مباشر في إعطاء هذه المحاورة
طابَعها المميز والتي تُعين القارئ على فَهم هذا الطابَع. وعلى الرغم
من أن أي بحث دقيق لمثل هذه العوامل لا بدَّ أن يكشف عن عددٍ لا حصرَ
له منها، فإننا نستطيع تصنيف هذه الكثرة إلى أربعة عوامل رئيسية،
تضافرت معًا على تحديد الطابَع العام لمحاورة الجمهورية: هي العامل
الفلسفي، والعامل التاريخي السياسي، والعامل العائلي، والعامل
الشخصي.
(١) العامل الفلسفي١
يكاد إجماع مؤرخي الفلسفة اليونانية ينعقد على أن الفكر اليوناني
السابق على عهد أفلاطون كان يسير في تيارَين رئيسيَّين؛ أحدهما
يؤدي إلى فلسفة ذات طابَع صوفي انفعالي، والآخر — على كثرة تشعباته
— ينطوي على أول بذور التفكير العلمي والنزعة التجريبية. فهناك من
جهة ذلك التيار الفيثاغوري، الذي امتد إلى المدرسة الإيلية عند
زينون وبامنيدس. والذي تأثر به سقراط تأثرًا عميقًا — وهناك من جهة
أخرى ذلك التيار المادي الآلي الذي مهَّد له الطبيعیُّون
الأوَّلون، وبلغ قمته في فلسفة ديمقريطس وليوقیبوس. وربما آثَر
البعض التعبير عن هذا التقابل على نحوٍ آخر، فجعلوه تقابلًا في
فكرة التغيُّر الدائم ممثلة في هرقليطس، وبين فلسفة الثبات ممثلة
في بارمنيدس. ولكن سواء أكانت هذه وجهة نظرنا أم تلك، فلا جدالَ في
أن الفلسفة اليونانية، قبل عصر أفلاطون، كانت قد نمت خلال الفترة
الوجيزة التي انقضت منذ ظهورها، وهي فترة لا تتجاوز مائتَي عام،
إلى الحد الذي يسمح لنا بأن نميز فيها تيارَين متضادين واضحين كل
الوضوح.
على أنه إذا كان اتفاق المؤرخين منعقدًا على وجود هذين التيارَين
المتميزَين، فلا يوجد بينهم مثل هذا الاتفاق على تحديد التيار الذي
كان هو الأقوى تأثيرًا في أفلاطون، أو الذي تُعد فلسفة أفلاطون
تتويجًا له. مثال ذلك أن واحدًا من أكبر أساتذة الفلسفة اليونانية
المعاصرين، وهو «بيير ماكسيم شول»، يذهب إلى أن أفلاطون قد تأثَّر
بهذين التيارَين معًا، وعرَف كيف يجمع بينهما. «فلم يعرف العصر
اليوناني القديم رُوحًا قادرة على الجمع — على نحو ما فعل أفلاطون
— بين أدق سمات العلم، وبين الحماسة الصوفية الممتزجة بالخيال.»
٢ ومع ذلك فإن التيار العلمي لم يؤثر في أفلاطون إلا في
اتجاهه الرياضي فحسب، أما العلم التجريبي فكان يُبدي له أشد
الاحتقار، حتى إنه عاب على بعض أصدقائه من علماء الهندسة استعانتهم
في فهم بعض المشكلات الهندسية بأدوات أو أشكال محسوسة، بدلًا من أن
يقتصروا على الأمور غير الملموسة. بل إن كثيرًا من الباحثين — كما
سنرى فيما بعد — يؤكدون أن التراث السقراطي الأفلاطوني كان مسئولًا
إلى حدٍّ بعيد عن وأد الاتجاه العلمي في التفكير اليوناني وهو لم
يزل في مهده، وبالتالي عن تأخير نهضة العلم التجريبي قرابة ألفَي
عام.
وفي اعتقادي أن أقوى المؤثرات الفلسفية في تفكير أفلاطون هو ذلك
التيار الصوفي الانفعالي الذي أشرنا إليه من قبل، مقترنًا بالاتجاه
الذي يدافع عن فكرة الثبات في مقابل التغيُّر، والوحدة في مقابل
الكثرة أو التعدُّد. وهناك شبه اتفاق بين الباحثين على أن هذا
التيار كان يرجع إلى أصول شرقية قديمة، أي إن أفلاطون كان من أقوى
العوامل التي ساعدت على إدخال العناصر الشرقية في الفكر اليوناني،
والخروج من هذا كله بمزيجه الفريد — وبعبارة أخرى، كان أفلاطون
ذاته أكبر شاهد نفي يُكذِّب أسطورة الانبثاق التلقائي للفلسفة
اليونانية، وأقوى دليل على فكرة الاتصال الذي لا ينقطع بين حضارات
الإنسان وعصور تفكيره.
ولقد وصف «سارتون» أهمية هذه المؤثرات الشرقية بقوله: «كانت
المؤثرات الشرقية هي التي دفعت الحضارة اليونانية إلى الظهور
وساعدت على نموها. فالحكمة اليونانية قد تَربَّت في مهد شرقي، وظلت
طَوال نموها تجد عوامل تؤثر فيها عن طريق الدروس التي تتلقاها من
أصدقائها أو أعدائها الأجانب.»
٣ وهو يرى، في حالة أفلاطون على التخصيص، أن صِلاته
ببلاد ما بين النهرَين كانت غير مباشرة، أما بلاد الفرس فلا بدَّ
أنه عرفها؛ لأن اليونان كانت في حالة حربٍ مستمرة معها — ومن
الجائز أن الثنائية التي تتمثل في كتابات أفلاطون المتأخرة ترجع
إلى أصلٍ فارسي. بل إن المؤثرات الهندية ربما كانت قد تحكمت إلى
حدٍّ ما في تفكير أفلاطون، لوجود بعض أوجه الشبه بين فلسفته وبين
تعاليم عقيدة الفيدانتا؛ كالقول مثلًا إن العالَم الظاهر خداع، وإن
العالَم الحقيقي هو غير المنظور. ولكن هذه كلها أمور لا يمكن الجزم
بها، أما الأمر الذي يكاد يكون مؤكدًا، فهو تأثُّر أفلاطون
بالحضارة والفكر المصري القديم. «فقد قام أفلاطون برحلة إلى مصر،
زار فيها الآثار الرائعة، واكتسب معرفة بعلمها وعقيدتها وعاداتها.
واتضح له أن الحضارة المصرية أقدم بكثير من حضارة اليونان، وأعرب
عن رأيه هذا بوضوح في محاورة طيماوس، في صورة حديث بين سولون وبين
كاهن مصري طاعن في السن؛ إذ قال كاهن سایس: يا سولون، يا سولون،
أنتم أيها اليونانيون أطفال دائمًا، فليس ثمة شيء اسمه يوناني
قديم. فسأله سولون: ماذا تعني بقولك هذا؟ فأجاب الكاهن: إنكم
جميعًا صغار في أرواحكم؛ إذ ليس في أرواحكم هذه عقيدة واحدة قديمة
مستمدة من تراث غابر، ولا علم واحد قديم العهد.» ويعلق سارتون على
هذه المحادثة التي وردت في محاورة طيماوس بقوله: «وهكذا عامَل
الكاهن العجوز زائرَه اليوناني الشهير بطريقة مشابهة للطريقة التي
يُعامِل بها المضيفون الأوروبيون اليوم زوَّارَهم الأمريكيين.»
٤
على أن تأثُّر أفلاطون بهذه العناصر الشرقية لم يكن في كل
الأحوال مباشرًا، بل إن القدر الأكبر من هذه المؤثرات قد أتاه من
خلال مذهب أو عقيدة يونانية كانت في واقع الأمر جسرًا هائلًا بين
التفكير الشرقي والتفكير الغربي، هي الفيثاغورية. والمعروف عن
الفيثاغورية أنها فلسفة تجعل للرياضيات مكانة كونية، أي إنها تفسر
العالَم كلَّه تفسيرًا رياضيًّا. وتحول العناصر الرياضية إلى
كِيانات ومبادئ تفسير ميتافيزيقية. ومثل هذا التيار كان له دون شك
تأثيره الواضح في نظرة أفلاطون إلى الرياضيات، بل في نظرته العامة
إلى العالم، وفي نظرية المُثل ذاتها.
غير أن الأمر الذي لا يظهر بمثل هذا الوضوح، هو تأثير
الفيثاغورية، من حيث هي طريقة في الحياة ومذهب في السياسة، في
تفكير أفلاطون وطريقة سلوكه. وإذا أردنا أن نلخص هذا التأثير فلن
نجد في هذا الصدد خيرًا مما كتبه «السير إرنست باركر». فهو يشير
إلى ربط الفيثاغوريين بين فكرة العدالة وبين فلسفتهم الرياضية،
ونظرتهم إليها على أنها نوع من الانسجام، وهي فكرة تَوسَّع فيها
أفلاطون فيما بعد. كذلك وضع بعض الفيثاغوريين في القرن الخامس قبل
الميلاد نظرية مؤدَّاها أن للحكمة حقًّا إلهيًّا في أن تسود وتحكم
— وهي نظرية يجوز أنها أثرت في فكرة الملك الفيلسوف عند أفلاطون.
وهناك روايات عن محاولات قام بها فيثاغورس لكي يخرج فكرته هذه إلى
حيز التنفيذ، وعن جماعة من الفيثاغوريين مؤلَّفة من ثمانمائة فرد،
تدربوا في مدينة «كروتون
Croton»
على الفلسفة بطريقة مشابهة ﻟ «الحراس» عند أفلاطون. وحكموا الدولة
على أساس فلسفتهم. على أن الأمر الذي كان لفيثاغورس فيه تأثيره
الحقيقي في أفلاطون هو أنه كوَّن جمعية أو طائفة، وعلَّم أعضاءها
«طريقًا في الحياة». فهو أول من جعَل من الفلسفة تعاليمَ تُلقَّن
لطائفة من الأتباع. وقد كان لطائفته هذه دَور في الأحداث السياسية،
ويقال إنها كانت تنحاز في السياسة إلى الجانب الأرستقراطي. وكانت
القاعدة التي يفرضها فيثاغورس على أتباعه هي التطهر بممارسة الطب —
أي باتباع نظام صارم في التغذية وفي الرياضة البدنية — وبدراسة
الموسيقى، التي تتضمن عناصر فلسفية ورياضية إلى جانب دراسة
الأنغام. وكذلك كان فيثاغورس يقسم الناس إلى ثلاث طبقات: هم محبو
الحكمة ومحبو الشرف ومحبو الكسب. وفي كل العناصر السابقة نلمس
تأثيرًا واضحًا للفيثاغوريين في أفلاطون؛ إذ إن فكرة تطبيق الفلسفة
في السياسة، وتكوين نظام سياسي تتبع فيه التعاليم الفلسفية،
والتربية عن طريق العناية بالجسم وبالرُّوح — أي الرياضة البدنية
والموسيقى — كل هذه عناصر رئيسية في جمهورية أفلاطون. أما التقسيم
الثلاثي للطبقات، فقد انعكس مباشرة على تقسيم أفلاطون المناظر له،
مما يبرز قول السير إرنست باركر: «يمكن القول إن الإطار والدعامة
الكاملة لمحاورة الجمهورية، اللذين يتوقفان على تحليل الدولة إلى
طبقات ثلاث والنفس إلى أجزاء ثلاثة، كان فيثاغوريًّا.»
٥
(٢) العامل السياسي والتاريخي
كانت أثينا، قبيل الفترة التي عاشها أفلاطون، وأثناء حياته، تمر
بعهد من الصراع الداخلي والخارجي لا يكاد يكون له في تاريخها نظير.
ولا مفر لنا من أن نُلِمَّ بطرَفٍ من هذا الصراع؛ لأنه كان بدوره
إطارًا تحددت في داخله معالم محاورة «الجمهورية»، فضلًا على أن
عناصر كثيرة في هذه المحاورة لا تُفهم إلا من خلال سياق الأحداث
السياسية والتاريخية التي مرت بها اليونان في ذلك العهد.
فعلى الصعيد الداخلي، كانت أثينا قد تحولت في القرن الخامس قبل
الميلاد إلى مدينة لها كل مقومات الدولة، ولكن على نطاق ضيق
بالطبع. إذ كانت فترة الحياة القبلية قد انتهت، وحل محلها وعي مدني
سياسي لدى المواطنين، الذين كان لكل منهم دوره في الحياة السياسية
للمدينة. وكانت الأحوال الاقتصادية قد نهضت إلى حدٍّ يسمح بتجاوز
حياة الرعي والزراعة البُدائية التي سادت في عهد هوميروس، وتعقد
بناء الدولة بحيث كان فيها جهاز كامل من المشتغلين بالأمور
السياسية والإدارية، وأصبح للتجارة والمعاملات التجارية دَور هام
في حياة المجتمع، كما كانت هناك صناعة تشتمل على حِرف يدوية
متقدمة، وعلى التعدين. وبالاختصار، فقد كانت أثينا دولة اختفت فيها
مظاهر الحياة البُدائية البسيطة التي كانت تتميز بها في عصر
هوميروس.
وقد بلغ هذا الاتجاه قمته في عصر «بركليز»: فقد كان ذلك عصرًا
خلَّاقًا في ميادين الفنون جميعًا، كالعمارة والشعر والدراما.
وكذلك في ميدان البحث العلمي والدراسات التاريخية، وقبل هؤلاء
جميعًا، في ميدان الفكر الفلسفي. وكان النظام الديمقراطي السائد في
ذلك العصر تجربة رائعة بحق، فقد كان الحكم بالتمثيل المباشر الذي
يتم بالاقتراع، وكان للمواطنين العاديين الدَّور الرئيسي فيه،
وكذلك في مناصب القضاء والإدارة. ومن هنا كان لبركليز أن يفخر بأنه
جعل من أثينا مدرسة لليونان.
٦
ومع ذلك يبدو أن روح التمدين والحضارة قد طغت، في أثينا، على
الرُّوح العسكرية التي كانت قد بلغت قمتها في الحرب ضد الفرس خلال
القرن السابق. وفي الوقت ذاته كانت مدينة اسبرطة تدعم نظمها
العسكرية وتركز جهودها في الميدان الحربي، فكان طبيعيًّا أن يُكتب
لها النصر على أثينا في تلك الحرب الطويلة (الحرب البلوبنيزية)
التي قامت بينهما في أواخر القرن الخامس (من عام ٤٣١ إلى ٤٠٤).
ولقد كان انهيار أثينا أمام قوة اسبرطة كارثة كبرى شهِدها أفلاطون
وهو في الثالثة والعشرين من عمره، وعاناها قبل ذلك طَوال أيام
طفولته وشبابه. وكان لهذه الكارثة تأثير كبير في تشكيل عقلية
أفلاطون، وفي تحديد اتجاهاته التي تمثلت بوضوح في محاورة
الجمهورية.
فقد أفقدته تلك الحرب الثقة في الديمقراطية. ولم يكن الانهيار
العسكري للنظام الديمقراطي هو وحده السبب في تحامل أفلاطون عليه،
بل إن فترة الحرب ذاتها قد شهِدت صراعًا داخليًّا بين القوى
الديمقراطية والقوى الأليجاركية، أي بين الأغنياء والفقراء،
وانحازت أسرة أفلاطون — كما سنرى فيما بعد — إلى صف الأُليجاركية
انحيازًا واضحًا، وكان من أفرادها من تزعَّم انقلابات داخلية أطاحت
بالنظام الديمقراطي وأحلت محله «حكم الثلاثين». غير أن تصرفات
هؤلاء الثلاثين سرعان ما جعلت مساوئ النظام الديمقراطي السابق
تتوارى إلى جانب الطغيان الجديد. وعلى الرغم من أن أفلاطون ذاته قد
أعرب عن خيبة أمله في الحكام الجدد، فإن ارتباطاته بهم كانت أقوى
من أن تسمح له بالدفاع من جديد عن الديمقراطية، أو بمهاجمة
الأليجاركية من حيث هي نظام في الحكم. وهكذا ظل هذان العنصران —
كراهية الديمقراطية والميل إلى الأرستقراطية أو الأليجاركية —
ملازمَين لتفكيره على الدوام، وكانا واضحَين في محاورة الجمهورية
كل الوضوح.
على أن أهم نتائج هزيمة أثينا في الحرب البلوبنيزية، بالنسبة إلى
أفلاطون، كانت إعجابه بالنظام السائد في الدولة المنتصرة، وهي
اسبرطة. ولا بدَّ لنا من أن نتحدث بشيء من التفصيل عن هذا النظام؛
إذ إن كثيرًا من عناصره قد تكررت بحذافيرها في المدينة المُثلى كما
رسم أفلاطون ملامحها في هذه المحاورة.
كانت اسبرطة متخلفة عن أثينا في ميدان الحياة الثقافية إلى حدٍّ
كبير، ولكنها كانت متفوقة عليها عسكريًّا. وأغلب الظن أن احتفاظها
بعناصر بُدائية كثيرة هو الذي أملى عليها فرض نظام عسكري على
المواطنين، يكفل جعلهم محاربين أشدَّاء يدافعون عن مجتمعهم ضد أي
عدوان خارجي. وترتب على ذلك أنه على الرغم من التخلف الثقافي
الكبير الذي كانت اسبرطة تعاني منه، فقد كان يسودها نظام تربوي
دقيق وصارم، تشرف عليه الدولة، التي كانت وظيفتها الرئيسية في
الواقع هي تنظيم شئون الحرب وتربية المحاربين. ويصف «باركر» هذا
النظام فيقول: «وكان الطفل يؤخذ من والدَيه في سن السابعة، ويُعهَد
بتعليمه إلى موظف في الدولة. ولم يَكُن للأسرة في اسبرطة رأي في
تعليم أفرادها، بل كانت الدولة هي كل شيء. وكان الشباب يوضعون في
«بيوت»، تحت إشراف «رائد»، ويُدرَّبون تدريبًا رياضيًّا عنيفًا،
يُعدُّهم للحرب. وكانت النساء، شأنهن شأن الرجال، يخضعن — ولكن
بدرجة أقل — لمقتضيات النظام الصارم؛ فكانت حياة الأسرة خاضعة
لمطالبه، ولم يكن للبيت العائلي مكان في أسرة يُحال فيها بين الزوج
والزوجة وبين أية حياة زوجية مشتركة، ويترك الأبناء آباءهم بمجرد
انقضاء فترة الطفولة المبكرة. كذلك فإن نظام الملكية في اسبرطة،
شأنه شأن الأسرة، كان يلائم حاجات النظام العسكري. فقد كان
المواطنون طائفة أرستقراطية، تعيش على إقطاعيات زراعية يشتغل فيها
سكان خاضعون لهم، على حين كان المواطنون متحررين من الأعباء
الاقتصادية، ومن هنا كان في استطاعتهم أن يعطوا كل وقتهم للتدريب
الذي تفرضه الدولة.»
٧
ولا حاجة بنا إلى إجراء مقارنة بين هذه العناصر التي تميزت بها
الحياة في اسبرطة، وبين العناصر المناظرة لها في الدولة المُثلى
عند أفلاطون، كما ترسم محاورة «الجمهورية» ملامحها العامة؛ إذ إن
التشابه بين الطرفَين أوضح من أن يحتاج إلى إشارة خاصة. فالأقلية
الحاكمة عند أفلاطون لا تتمتع بدَورها بملكية خاصة، والنشاط
التجاري والصناعي والحرفي عنده يُترك لطبقة المحكومين، على حين
تكتفي طبقة الحكام بمزاولة النشاط العسكري من جهة، والنشاط الفلسفي
من جهة أخرى (وهذا النشاط الأخير لم يكن له بالطبع وجود واضح في
اسبرطة، ولكنه كان ضروريًّا عند أفلاطون، الذي كان أثينيًّا قبل كل
شيء) ونظام تربية الأطفال والشباب، والحياة المشتركة للبالغين،
والمساواة بين الجنسَين، كل هذه أمور تبدو غريبةً غير مألوفة في
محاورة «الجمهورية»، ولكنها كانت ترجع إلى قواعدَ ونُظمٍ مارسها
الاسبرطيون منذ عهد بعيد.
ولقد اعتقد أفلاطون أن نظام التربية هذا الذي كان متبعًا في
اسبرطة، قد فرضته الدولة أو أحد الحكام بتشريع معين — وهو تشريع
معروف باسم تشريع «لوكورجوس
Lycurgus» — ومن هنا أراد في مدينته الفاضلة أن يضع
قانونًا أو تشريعًا مماثلًا، وأن يفرض نُظم التربية التي دعا إليها
بقانون. ولكن «ييجر» يؤكد أن هذا التشريع لم يُفرض في اسبرطة دفعةً
واحدة على الإطلاق، وإنما كان تطورًا بطيئًا للتراث الاسبرطي، نشأ
عن الظروف الخاصة التي مرت بها هذه المدينة طَوال تاريخها. فلم
يفرض أحد على الاسبرطيين نظام الحياة المشتركة في المعسكرات،
والأكل على موائد مشتركة، والتعليم المشترك بين الجنسَين والانقسام
الحاد بين السادة الأحرار وبين أرباب الصناعة والزراع.
٨ ولم يُطبَّق أي مبدأ من هذه المبادئ، في اسبرطة، بوصفه
تحقيقًا لمثَلٍ فلسفيٍّ أعلى، فإذا كان أفلاطون قد دعا في
«الجمهورية» إلى وضع مثل هذا النظام في التربية نتيجةً لتشريع
تفرضه الدولة، أو تطبيقًا لمبادئ فلسفية نظرية معينة، وإذا كان قد
قال برأيه هذا قياسًا على ما كان حادثًا في اسبرطة، فلا شك في أنه
كان في ذلك واهمًا؛ إذ إن نظام الحياة والتربية السائد في اسبرطة
كان نظامًا تلقائيًّا أملَته ظروف معينة مرَّ بها المجتمع نفسه
تدريجيًّا، ولم يضعه لهذا المجتمع حاكم أو فيلسوف. وأغلب الظن أن
أي نظام ينطوي على تغيير أساسي في حياة الناس، ويُفرض بتشريع مفاجئ
أو بنظرية فلسفية شاملة، لا بدَّ أن يكون مصيره الإخفاق.
(٣) العامل العائلي
لست أشكُّ في أن القارئ، بعد أن تَبيَّن له عمق التشابه بين
الدولة المُثلى كما دعا إليها أفلاطون، وبين النُّظم التي كانت
مُطبَّقة بالفعل في اسبرطة، قد تملَّكه العجَب، وأخذ يتساءل: كيف
يجوز لفيلسوف من مستوى أفلاطون أن يتأثر بدولة أجنبية إلى هذا
الحد، على أساس تفوقها العسكري وحده؟ وكيف يتحمس لها إلى هذا الحد،
مع أنها قد هزمَت بلده وأذلَّت مواطنيه؟ مثل هذا السؤال، في رأيي،
له ما يبرره تمامًا. فلا يكفي أبدًا أن تكون اسبرطة قد هزمت أثينا
لكي يجعل أفلاطون نفسه داعية لنُظُمها في بلده، بل إن الأمر كان
ينبغي أن يكون على عكس ذلك؛ لسببَين: أولهما أن معيار السمو
الحقيقي في نظره، بوصفه فيلسوفًا، هو علو المكانة، لا في الميدان
الحربي، بل في ميدان الفكر والثقافة، وهو أمر كانت أثينا تتفوق فيه
تفوقًا لا نظير له. وثانيهما أن الإعجاب بالدولة الغازية ينطوي
ضمنًا على نوع من الخيانة للوطن، تتمثل في الدعوة إلى تطبيق مبادئ
الغزاة عليه. فكيف إذن تعلَّق أفلاطون بالمُثُل العليا الاسبرطية
على الرغم من كل هذه الظروف؟ لا شك في أن هناك عاملًا آخر كان له
دَور هام في هذا الصدد. وهذا العامل هو ارتباطات أفلاطون
العائلية.
ينتسب أفلاطون، من ناحية أبيه «أريستون» إلى كودروس
Codrus آخر ملوك أثينا. كذلك تنتمي أمه
«بركتیوني»
Perictione إلى أسرة
عريقة تغنَّى بأمجادها المشرع اليوناني العظيم سلون، الذي كان
بدوره منتميًا إليها. ولقد كان أفلاطون بدَوره حريصًا على تمجيد
أسرته؛ إذ إن المتحدثَين الرئيسيَّين مع سقراط، في محاورة
الجمهورية، أعني جلوكون وأديمانتوس، هما أخواه. كذلك ألَّف
محاورتَين أطلق على إحداهما اسم خاله «خارميدس
Charmides» وعلى الأخرى اسم
«كریتياس
Critias» وهو عم أمه.
ولقد كانت أسرة أفلاطون والطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها، لا
تُخفي سخطها على الدستور الديمقراطي الذي كان سائدًا في أثينا خلال
الفترة التي نشأ فيها أفلاطون. وكان بعض أقاربه، ولا سيما خارميدس
وكریتياس، من بين المتحدثين باسم الحزب الأرستقراطي.
٩ (أو الأليجاركي). وأدَّى انتصار اسبرطة وإذلالها
لأثينا إلى اعتلاء هذا الحزب الأرستقراطي منصة الحكم (وكان ذلك في
نظر الكثيرين عملًا من أعمال الخيانة) فأساء أفراده استغلال سلطتهم
إلى أبعد حد، وتكوَّنت منهم حكومة «الثلاثين»، التي يرأسها كریتياس
نفسه، والتي ارتكبت من الفظائع ما جعل خصوم الديمقراطية أنفسهم
يترحمون على عهدها، وهكذا أصبح كریتياس من الشخصيات المكروهة بحق
في التاريخ اليوناني. وقد انتهت حياته، وكذلك حياة خارميدس، بنفس
العنف الذي اتخذا منه منهجًا لسياستهما؛ إذ قُتلا عند نهاية الحرب
الأهلية (في عام ٤٠٣).
ولقد اعترف أفلاطون ذاته — رغم إعجابه بأقربائه هؤلاء — بأن
سياستهم كانت مُخيِّبة للآمال، وبأنه رفض الاشتراك معهم في إدارة
شئون الدولة عندما طلبوا إليه ذلك. ومع ذلك فلا بدَّ أن أفلاطون قد
حزن على أصدقائه وأقربائه هؤلاء عند مقتلهم، وازداد سخطًا على
الحكومة الديمقراطية التي حلت محلهم بعد أن انقلب نظام حكمهم على
النحو الذي أشرنا إليه من قبل.
١٠
وإذن فقد كان لدى أفلاطون ارتباطات حقيقية بمجموعة من أكبر
الطغاة الذين حكموا أثينا ونشروا فيها الرعب على أثر انتهاء الحرب
البلوبنيزية. بل لقد كان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بتلك الشخصية
الغريبة التي كان لها دَور كبير في أحداث تلك الفترة — شخصية
«القبيادس Alcibiades» (الذي
سميت باسمه محاورة أخرى، وكان من الشخصيات الهامة في محاورة
«المأدبة»). فقد كان القبيادس مزيجًا فريدًا من الذكاء والدهاء
والانتهازية، استطاع أن يصل إلى قمة الحكم في بلاده، ويرأس جيوشها،
ويتفاوض سرًّا في الوقت ذاته مع أعدائها، حتى عُدَّت خيانته من أهم
أسباب الهزيمة.
كل هؤلاء إذن كانوا أصدقاء أفلاطون وخلصاءه في فترة شبابه، وقد
مجَّدهم في بعض المحاورات الأولى التي تختفي فيها فظائعهم وراء
قناع من الرقة والهدوء والذكاء، أفلح أفلاطون — ببراعته الفنية —
في إخفاء وجوههم الحقيقية وراءه. ومن الجائز جدًّا أن الرابطة التي
كانت تجمع بينهم هي تتلمذهم جميعًا على سقراط. ولسنا نود أن نتحدث
طويلًا عن سقراط، وما انتهى إليه أمره نتيجة لاتصاله بهؤلاء
الشباب، ولكن من الجائز جدًّا أن الديمقراطية، التي عادت إلى الحكم
بعد القضاء على الطغاة، وعلى كریتياس وخارميدس بوجه خاص، لم تغتفر
لسقراط أنه كان أستاذًا ومعلمًا وموجهًا لهذه المجموعة من الطغاة
والخونة. وعندما اتهمته الديمقراطية التي عادت إلى الحكم بعد
القضاء على الانقلاب الأليجاركي، بتهمة إفساد عقول الشباب، وتولى
«أنيتوس Anytus» نفسه (الذي عاد
من منفاه إلى الحكم بعد هزيمة «الثلاثين») توجيه هذا الاتهام إلى
سقراط، كان من الواضح أن المقصود ﺑ «الشباب» في هذه الحالة ليس أي
شباب على الإطلاق، وإنما أولئك الذين عانت منهم أثينا الأمرَّين،
والذين كان لديهم من الثروة والفراغ ما يُتيح لهم قضاء أكبر وقت في
صحبة فيلسوف أثينا الكبير، صحيح أن هؤلاء لم يكونوا وحدهم تلاميذ
سقراط، ولكن لا بدَّ أنهم، بحكم ظروفهم الخاصة، كانوا أقدرَ الجميع
على الاستمتاع بصحبة الفيلسوف والاشتراك في محاوراته التي لا
تنتهي. أما أنصار الديمقراطية، وهم في الغالب من الفقراء، فمن أين
يأتون بالفراغ الذي يُتيح لهم ممارسة الفلسفة؟
هذا، على الأرجح، هو السبب الحقيقي في إدانة الديمقراطية
الأثينية لسقراط — وهو بطبيعة الحال سبب يختلف تمامًا عن تلك
الصورة التي قدَّمها إلينا أفلاطون في محاوراته، والتي يتجلَّى
فيها سقراط شهيدًا للحكمة المتزنة الهادئة، يقف في ثبات إزاء
غوغائية الديمقراطيين الهوجاء. ذلك لأن موت سقراط يبدو في رواية
أفلاطون، عملًا أخرق لم يكن له داعٍ، على حين أنه تبعًا لهذا
التفسير يغدو أمرًا له مقدماته وأسبابه الضرورية. ومن الجائز جدًّا
أن سقراط لم يكن هو المسئول عن تصرفات كریتياس وخارميدس والقبيادس،
ولكن الارتباط بينه وبينهم قد جنى عليه. وعلى أية حال فقد أخد بعض
مؤرخي الفلسفة ممن لا يقبلون تفسير موت سقراط بأنه تَصرُّف أخرق
لنظام ديمقراطي لا يقدر الحكمة أو الفلسفة، بتفسير قريب من هذا،
ورأوا أن هذه هي الوسيلة الوحيدة لكي تكون واقعة الحكم بإعدام
سقراط في ظل الديمقراطية الأثينية أمرًا يقبله العقل.
١١
وعلى أية حال فقد كان موت سقراط على يد الديمقراطية الأثينية،
بالإضافة إلى مقتل قریبين له وعدد من أصدقائه المقربين إليه، من
أهم العوامل التي أدَّت إلى توسيع الهُوَّة بين تفكيره وبين القيم
الديمقراطية الأثينية، وتقوية الجذور الأليجاركية التي كانت متأصلة
فيه من قبل بحكم انتمائه إلى أسرة أرستقراطية. فهل يكون من
المستغرب بعد هذا أن يقترب مثَله الأعلى في التربية والسياسة إلى
هذا الحد من النُّظم السائدة في اسبرطة؟
(٤) تجارب أفلاطون الشخصية
عاش أفلاطون، منذ ولادته (في ٤٢٨ / ٧) حتى وفاته في سن الثمانين
عام (٣٤٨ / ٧) حياة نشطة حافلة بالأحداث، ومليئة بالإنتاج أيضًا.
وليس يعنينا من تفاصيل حياته — التي كان لا بدَّ من التحدث عن كثير
منها في سياق الكلام عن العوامل الثلاثة السابقة — إلا ما كان له
تأثير مباشر في أفكاره، وبخاصة تلك التي تضمنتها محاورة
الجمهورية.
فقد شعر أفلاطون — كما قلنا من قبل — بكراهية شديدة للنظام
الديمقراطي الأثيني، وكان قد أحسَّ بخيبة الأمل لِما لحق هذا الحكم
من إخفاق ذريع. وكان موت أستاذه سقراط ضربة شديدة لآماله، ظهر
تأثيرها واضحًا في لهجة المرارة التي تحدَّث بها عن تلك الفترة في
رسالتها السابعة (التي يكاد الباحثون في الوقت الحالي يُجمعون على
صحة نسبتها إلى أفلاطون). ومن الجائز أن آخر الروابط التي كانت
تجمعه بأثينا قد حُلت بعد إعدام سقراط، كما أن من الجائز أنه
اضطُرَّ إلى الهرب من أثينا حتى لا تلاحقه الحكومة الديمقراطية
وتدينه بوصفه عضوًا في الجماعة الأليجاركية المعادية لها. وعلى أية
حال فقد بدأت مرحلة جديدة من حياة أفلاطون في عام ٣٩٩، عندما قام
بأسفار دامت اثنَي عشر عامًا، فزار «ميغارا»، حيث أقام مع بعض
التلاميذ الآخرين لسقراط فترة من الزمن، كما زار مصر وأخذ عن
كهنتها العلوم الرياضية والفلكية، ثم ارتحل إلى قورينا Cyrene، حيث عرَف الرياضي «ثيودورس»
ودرس عليه الفلك والموسيقى، وانتهى به المطاف، في هذه الفترة، إلى
جنوب إيطاليا، حيث كانت توجد طائفة فيثاغورية قديمة تعيش في مدينة
«تارنتوم Tarentum»، التي اتخذت
منها الفيثاغورية مركزًا لنشاطها بعد المذبحة التي اغتيل فيها
زعماؤها في المقر الأصلي للطائفة (وهو مدينة «كروتون»).
ولقد كان الحاكم في «تارنتوم» هو الرياضي الفيثاغوري المشهور
«أرخوطاس Archytas»، الذي كان في
واقع الأمر حاكمًا ومعلمًا وقائدًا عسكريًّا في الوقت ذاته، ولا
جدال في أن أفلاطون قد وجد في «أرخوطاس» أنموذجًا تحققت فيه فكرة
أثيرة لديه، وهي الجمع بين قوة العلوم والسلطة السياسية. ومن جهة
أخرى فقد رحَّب أرخوطاس بأفلاطون وقدَّم له كل ما يطلبه من
مساعدات.
ولقد كان منافس أرخوطاس في صقلية هو «دیونیزوس»، الذي كان
محاربًا محترفًا يستعين بالجيوش المرتزقة، ويهدد جنوب إيطاليا
والبلاد المتحالفة معها، وفي الوقت الذي نزل فيه أفلاطون ضيفًا على
أرخوطاس، حوالي عام ٣٨٧ق.م.، كانت هناك محاولات لإيجاد صلح أو
تحالف بين دیونیزوس وأرخوطاس، فأوفد الأول رسولًا له إلى
«تارنتوم»، هو «دیون»، أحد أقربائه الشبَّان. وعندما تعرَّف
أفلاطون إلى هذا الأمير الشاب في بلاط أرخوطاس، توسَّم فيه
استعدادًا لتقبُّل الآراء الفلسفية، وللجمع بين العلم والسياسة في
آنٍ واحد. وهكذا فإن «دیون» عندما دعا أفلاطون إلى سراقوزة، ليطبق
تعاليمه في السياسة والتربية هناك، لم يتردد أفلاطون في انتهاز هذه
الفرصة التي كان يحلم بها منذ وقت طويل؛ فرصة تربية أمير فيلسوف.
والواقع أن ظروفه السابقة لم تترك له مجالًا للتردد، لقد كان
الطريق مسدودًا أمامه في أثينا، مع أنه — كما قال في الرسالة
السابعة — لم ينقطع عن التفكير في الطريقة التي يمكن بها إصلاح
أوضاع الحكم وتنظيم أمور الدولة، وكان طَوال الوقت يتحيَّن الفرصة
المناسبة للعمل. ويبدو أن قرابته الوثيقة لعدد كبير من الشخصيات
السياسية قد خلق لديه منذ البداية شعورًا بأنه ليس مفكرًا نظريًّا
فحسب، بل إنه صاحب رسالة وداعية إلى مبادئ معينة ينبغي عليه أن
يكرس حياته للعمل على تطبيقها.
وليس من الممكن أن نجزم إن كان أفلاطون، عند رحيله إلى صقلية،
كان ينوي تطبيق مشروعاته في التربية الفلسفية والحكم على ديون، أم
على الحاكم الفعلي، وهو دیونیزوس. فبعض الكتاب يرون أنه كان يهدف
إلى التأثير في ديونیزوس نفسه، أي أن يفرض آراءه عن طريق الحاكم
المطلق، إذا استطاع إقناعه بفلسفته الخاصة.
١٢ غير أن الرأي الأرجح هو أن أفلاطون كان يستهدف ديون،
وهو شقيق زوجة ديونیزوس. فإذا صح هذا فإن معناه أن أفلاطون كان في
قرارة نفسه يعطف على أية محاولة كان يبذلها ديون لإزاحة ديونیزوس
عن السلطة.
ولقد كان ديونیزوس في بداية حياته شخصية مغمورة، ولكنه استطاع
الوصول إلى الحكم بمساعدة بعض الشخصيات القوية، وأحاط نفسه بجيش
قوي يحميه. وقد تمكن من توسيع ملكه، فأسس مستعمرات عديدة على شاطئ
بحر أيونيه، ووصلت ممتلكاته إلى كورسيكا، وتحالف مع الغاليين. غير
أنه كان يفتقر إلى الثقافة ولا يُقيم لها وزنًا. وكان ديون يأمُل
أن تساعده تعاليم أفلاطون على أن يظل هو المستشار الأول لديونیزوس،
ويوجهه في الاتجاه الذي يشاء. ومع ذلك فإن ديونیزوس لم يتأثر بهذه
التعاليم، فكان من الطبيعي أن يطلق عليه أفلاطون اسم «الطاغية». بل
إن من المتفق عليه بين الشرَّاح أن وصف الطاغية في الكتاب التاسع
من «الجمهورية» قد استلهم من شخصية ديونیزوس هذا، كان حاكمًا
عظيمًا؛ إذ إن من الكتاب مَن يرَون أن ديونیزوس هذا كان حاكمًا
عظيمًا، وأن صفة «الطغيان» كانت صفة يطلقها أفلاطون على كل حاكم ذي
اتجاه شعبي. أو كل سياسي لا يعترف بالأوضاع الثابتة المستقرة،
ويسعى إلى تغيير النُّظم القائمة.
١٣
وعلى أية حال، فإن رحلة أفلاطون هذه قد باءت بالإخفاق، ولم يستطع
ديونیزوس أن يتقبل تعاليم أفلاطون، ويقال إنه قد حدثت بينهما مشادة
كلامية اتهمه أفلاطون خلالها بالاستبداد،
١٤ فطرده هذا من صقلية، بعد أن كان قد أوشك على
قتله.
ومضى عشرون عامًا قبل أن يفكر أفلاطون في القيام برحلة أخرى إلى
صقلية. في هذه الأثناء كان أفلاطون قد أَلِف محاورة الجمهورية.
وأنشأ الأكاديمية. وعندما مات ديونیزوس، وتولى بعده ابنه ديونیزوس
الثاني العرش، وكان عندئذٍ شابًّا في السادسة والعشرين، يفتقر إلى
الثقافة، وجد ديون أن الفرصة سانحة للتأثير في الملك الشاب وتلقينه
تعاليم أفلاطون، وسرعان ما عاد أفلاطون إلى صقلية ليحقق هذا الهدف،
ومع ذلك فإن العَلاقات لم تلبث أن ساءت بين أفلاطون وديون من جهة،
وبين ديونیزوس الثاني من جهة أخرى؛ إذ اتهمهما هذا الأخير بالتآمر
عليه والسعي إلى خلعه عن العرش، وانتهى به الأمر إلى نفي ديون إلى
إيطاليا، وترحيل أفلاطون من بعده، على الرغم من أن خروج أفلاطون من
صقلية في هذه المرة لم يكن مقترنًا بالعنف، بل كان مصحوبًا بوعود
«كاذبة» بإعادة ديون مرة أخرى إلى البلاد.
وعلى أية حال فقد أخَد ديون، في منفاه، يعمل على جمع العناصر
المعادية لديونيزوس، وطاف بالمدن اليونانية يُجنِّد أكبرَ عددٍ
ممكن من الرجال لحملة كان يُزمِع شنَّها على ديونیزوس في صقلية.
وكان أكبر أعوان ديون في ذلك هم تلاميذ أفلاطون في الأكاديمية.
وقام أفلاطون برحلته الثالثة والأخيرة إلى صقلية لكي يمهد الطريق
لصديقه ديون، ويساعده على تحقيق أهدافه، ويحمل ديونیزوس الثاني على
استدعائه من منفاه. ولكن ديونیزوس لم يستمع إليه، ورفض استدعاء
ديون، وشعر أفلاطون بحرج موقفه، فغادر صقلية للمرة الأخيرة دون أن
ينجح في تحقيق شيء من أهدافه.
ولكن، إذا كان هذا هو آخر عهد أفلاطون بصقلية، فإن للقصة بقيةً
تستحق أن تُذكر؛ لأن لها عَلاقة مباشرة بتعاليم أفلاطون. فقد نفَّذ
ديون خُطته، وتمكن من أن يهزم ديونیزوس بمساعدة أعوانه من خريجي
أكاديمية أفلاطون، وسرعان ما تحول هو ذاته إلى طاغية، فقتل عددًا
من أخلص أعوانه، ولم يمضِ وقت طويل حتى تآمر عليه تلميذ آخر من
تلاميذ أفلاطون، هو كاليبوس
Callippus، وقتله بعد أن كان موضع ثقته الكاملة. (وقد قُتل
كالیبوس بدَوره على يد سياسي كان مِن قبلُ فيلسوفًا فيثاغوريًّا).
وتعود أهمية هذه الحوادث إلى الضوء الذي تُلقيه على طبيعة التعاليم
التي كانت تُلقَّن في الأكاديمية؛ فمما لا شك فيه أن هذه التعاليم
لم تكن فلسفية خالصة، بل كان للسياسة دور كبير فيها، وهي على أية
حال لم تكن مثاليةً بالقدر الذي يوحي به اسم أفلاطون والأكاديمية،
بدليل مجموعة حوادث الغدر والتآمر والقتل التي تحدثنا عنها من قبل،
والتي لا تعدو أن تكون جزءًا من سجل سياسي غير مشرف لكثير من
تلاميذ أفلاطون وأعضاء أكاديميته.
وهكذا فإن حياة أفلاطون العملية، التي بدأت بصحبة عدد من طغاة
النظام الأليجاركي في أثينا، كان بعضهم من أقاربه، قد أُسدل عليها
الستار بمجموعة من الانقلابات والمؤامرات التي قام بها عدد من
تلاميذه المتشربين بتعاليمه، كانوا بدورهم طغاةً مستبدين. وبعبارة
أخرى فإن تعاليم سقراط وأفلاطون، عندما وضعت موضع التطبيق، أنتجت
حكامًا لا يقلون طغيانًا عن أولئك الذين ظهرت هذه التعاليم أصلًا
لمحاربتهم. وإذا كانت النماذج السابقة تمثل القادة أو الحكام الذين
تشبَّعوا بآراء أفلاطون، ألا يكون من حقنا أن نشك في القيمة
العملية للشروط التي وضعها أفلاطون لاختبار قادة الدولة وحكامها؟
أليس هذا دليلًا قاطعًا على أن الواقع العملي قد أثبت خطأ كثير من
أفكار أفلاطون النظرية في نظم حكم الدولة؟ إننا لا نريد أن نستبق
الكلام عن نظريات أفلاطون السياسية، ولكن من المؤكد أن هذه الأحداث
العنيفة التي ارتبطت بالشخصيات القريبة إلى قلب أفلاطون وعقله،
والتي أتيحت لها فرصة الحكم، تدل على إخفاق عملي تام لهذه
النظريات. وتشكك المرء في قيمة «حكم الفلاسفة»، وهو الهدف الأكبر
لفلسفة أفلاطون السياسية.
(٥) الموقع الزمني لمحاورة الجمهورية
كان لا بدَّ، من أجل إيضاح معالم اللحظة التاريخية لجمهورية
أفلاطون، من الحديث بشيء من التفصيل عن العوامل الأربعة السابقة،
التي تكون إطارًا لا تُفهم هذه المحاورة إلا من خلاله، وتُقدِّم
تفسيرًا لعناصر كثيرة في محاورة الجمهورية، تبدو غريبة أو شاذة إذا
لم توضع داخل هذا الإطار. على أن الحديث عن اللحظة التاريخية
للمحاورة لا يكتمل إلا بتحديد الموقع الزمني لمحاورة الجمهورية
ذاتها، من حيث التاريخ المحتمل لتأليفها، وترتيبها بين سائر
المحاورات.
يفترض بعض الشرَّاح وجود أكثر من طبعة واحدة لمحاورة الجمهورية:
الأولى حوالي عام ٣٩٠ق.م.، والثانية — هي أكثر استفاضة وتوسعًا —
حوالي عام ٣٧٠. ولا شك في أن هناك عواملَ كثيرة دعت إلى القول بهذا
الفرض، منها تشعُّب موضوعات المحاورة واختلاف طريقة معالجتها،
والانتقال الذي يبدو مفاجئًا من موضوع إلى آخر، مما يشجع على
الاعتقاد بأن بعض الأجزاء قد كُتب في تاريخ متقدم، وبعضها الآخر في
تاريخ لاحق. والأمر المرجح هو أن محاورة كبيرة كهذه لا يمكن أن
تكون قد كتبت في وقت قصير، أو دفعة واحدة، غير أن القول بوجود طبعة
متقدمة وطبعة متأخرة لا يستند إلى أدلة قوية، وكل ما يمكن التسليم
به هو أن كتابة المحاورة ربما كانت قد استغرقت عدة سنوات، ومن
الجائز جدًّا أنها عاصرت محاورات أخرى كان أفلاطون يكتبها في نفس
الآن. ولمَّا كان التحديد الدقيق للسنوات التي استغرقتها كتابة
المحاورة يكاد يكون مستحيلًا، فإن كل ما يمكن عمله هو تحديد تاريخ
متوسط لكتابة المحاورة، يستند على أقوى القرائن الموجودة.
يرى «تيلور Taylor» أن محاورة
الجمهورية قد أُلفت قبل إنشاء الأكاديمية في عام ٣٨٨ / ٧. وحُجة
تيلور في ذلك أن أفلاطون ذكر في الرسالة السابعة، عندما وصف حالته
الذهنية وقت قيامه بأول رحلة إلى صقلية، أن الإنسانية لن تتخلص من
آلامها ما لم يمسك الفلاسفة بزمام السياسة، أو يتحول الحكام
السياسيون إلى فلاسفة. وفي رأي تيلور أن هذا القول إشارة إلى عبارة
أفلاطون المشهورة في محاورة الجمهورية (٤٧٣)، التي يردد فيها نفس
هذه الكلمات تقريبًا. ولمَّا كان أفلاطون قد وُلد حوالَي عام ٤٢٨،
وقد ذكر أنه كان في الأربعين من عمره عند قيامه برحلته الأولى هذه،
فإن نتيجة ذلك هي أن «الجمهورية» قد كُتبت قبل عام ٣٨٨.
على أن من الواضح أن مجرد كلام أفلاطون عن فكرة تولي الفلاسفة
للحكم، وتأكيده أن هذه الفكرة كانت في ذهنه عند رحيله إلى صقلية
لأول مرة، ليس دليلًا على أنه كان قد سجَّل هذا الكلام في محاورة
بالفعل. فمن الجائز جدًّا أن الفكرة كانت مختمرة في ذهنه منذ عهد
بعيد، وأنه أوردها في المحاورة في وقت متأخر. ويضيف «روس
Ross» قرائن أخرى تُكذِّب هذا الرأي: منها
أن محاورة «المأدبة»، التي يعترف الجميع بأنها قد سبقت الجمهورية،
تنطوي على إشارة إلى حادث لم يقع إلا في عام ٣٨٥ أو ٣٨٤، أي بعد
التاريخ الذي حدده «تيلور». كذلك فإن هناك قرائن قوية على أن وصف
أفلاطون للطاغية في الكتاب التاسع من الجمهورية، يعكس التجارب التي
مرَّ بها أفلاطون في بلاط ديونیزوس،
١٥ ومعنى ذلك أن المحاورة قد أُلفت فيما بين رحلته الأولى
ورحلته الثانية. والتاريخ المُرجَّح لها هو ما بين عام ٣٨٠ وعام
٣٧٠. أي إن من المحتمل أن تكون قد كُتبت في أية سنة، أو مجموعة من
السنوات، بين هذين التاريخَين.
أما موقعها بالنسبة إلى المحاورات الأفلاطونية الأخرى، فإن من
المعترف به أنه موقع وسط. فهي بالطبع تالية للمحاورات السقراطية
الأولى. وكذلك لمجموعة المحاورات التي تتناول موضوعات أخلاقية،
والتي كانت تمثل الطابَع الغالب على كتابات أفلاطون في النصف الأول
من عهد تأليفه، كما أنها سابقة على مجموعة المحاورات المتأخرة التي
كان يغلب عليها الطابَع الميتافيزيقي. ومعنى ذلك أن المحاورة ذات
موقع مركزي بالنسبة إلى إنتاج أفلاطون كله، وكذلك بالنسبة إلى
حياته ذاتها؛ لأنه ألَّفها في فترة نضجه، وفي عهد بلغت فيه قدراته
العقلية أوجَها. وبالفعل نجد في المحاورة جميع العناصر التي
تضمَّنتها بقية المحاورات؛ ففيها أبحاث أخلاقية مُطوَّلة تُلخِّص
المناقشات الأخلاقية التي تضمنتها محاورات مثل «أوطيفرون» و«لاخيس»
و«خارميدس». وفيها من فيدون وفيدروس أساطير خلود النفس، وفيها من
«المأدبة» فكرة حب الفلسفة أو الحكمة. وهي تنطوي على تحليلات لفكرة
اللذة، ولفكرة الخير، ستظهر فيما بعد في محاورة «فيلابوس»، وعلى
إيضاح للعَلاقة بين العلم والفلسفة بوصفها اتحادًا يجمع بين الواحد
والكثير، على النحو الذي سيعرضه التفصيل في محاورة «السفسطائي».
وتنطوي الأسطورة التي تختم بها المحاورة على استباق للكونيات التي
تتضمنها محاورة «طيماوس»، كما أن فكرة التنظيم الاجتماعي والتربوي
والسياسي للدولة تتكرر بطبيعة الحال في محاورة «القوانين».
١٦ وبالاختصار، فإن المحاورة تُلخِّص أفكار أفلاطون
السابقة، وتشير مقدمًا إلى آرائه اللاحقة، فضلًا عما تتضمنه من
عناصر لا نجد لها نظيرًا في محاورة أخرى، كل ذلك في مركب فريد جمع
بين البحث في الأخلاق والميتافيزيقا والسياسة والتربية في وحدة
شاملة.