الكتاب الثاني
(٣٥٧) جلوكون: العدالة شر يُطلب لنتائجه فحسب.
فأجبت: إنني أود حقًّا أن أقنعكم، لو استطعت إلى ذلك سبيلًا.
– إذن، فأنت لم تسلك السبيل الصحيح إلى ذلك، والآن خبرني: كيف تصنف الأشياء التي تسميها خيِّرة؟ أليس منها ما يرغب فيه لذاته، بغض النظر عن نتائجه، كالملذات والمتع البريئة، التي تطرب لها في وقتها، ولا تنجم عنها أية نتائج؟
– إنني لأوافقك على أن ثمة فئة كهذه.
– ألا ترى بعد ذلك أن هناك فئة أخرى من الأشياء التي نعدها خيرًا، كالمعرفة والإبصار، والصحة، لا نرغب فيها لذاتها فحسب، بل لما تستتبعه من نتائج أيضًا؟
– يقينًا.
– أليست هناك أيضًا فئة ثالثة كالرياضة البدنية، ورعاية المرضى، وممارسة الطب، وفنون مربحة أخرى — كلها نافعة وإن تكن تجلب لنا الألم، ومن المحال أن نختارها لِذاتها، وإنما لما ينشأ عنها من نتائج فحسب؟
– هناك حقًّا فئة ثالثة كهذه، ولكن ما الذي ترمي إليه من هذا؟
– أود أن أعلم في أي من هذه الفئات تدرج العدالة؟
(٣٥٨) – في أرفعها، أي في تلك الأشياء الخيرة التي يطلبها المرء لذاتها ولنتائجها في نفس الآن، إن شاء أن يكون سعيدًا.
– ولكن معظم الناس لا يدركون هذه الحقيقة، وإنما يتوهمون أن العدالة تندرج في باب الفئة الأليمة، أي ذلك النوع من الخير الذي نسعى إليه من أجل الكسب أو الشهرة، وإن يكن في ذاته مقيتًا يود المرء لو تجنَّبه.
أعلم أن هذا الرأي الشائع، ولقد رأينا ثراسيماخوس يدافع عنه منذ برهة، عندما ذم العدالة وامتدح الظلم. غير أن غبائي يَحول بيني وبين الاقتناع بهذا الرأي.
فقال: إذن فأصغِ إليَّ كما استمعت إليك، فربما وافقتني على رأیي ذلك لأن ثراسيماخوس قد استسلم قبل الأوان، كأنه حية خلبها صوتك وأفقدها المقاومة. أما أنا فلم أقتنع بشيء مما قيل عن العدالة أو الظلم. فأنا أود أن أعرف طبيعتهما الحقة، والتأثير الذي يُحْدثه كلٌّ منهما بذاته في النفس التي يستقر فيها، بغض النظر عن الجزاءات والنتائج التي قد تترتب عليهما. وعلى ذلك، فهاك ما أنتوي عمله، إذا وافقت؛ فسوف أردد حُجة ثراسيماخوس من جديد، وسأتحدث أولًا عن طبيعة العدالة وأصلها، من وجهة النظر الشائعة، وسأبين بعد ذلك أن كل مَن يمارس العدالة يفعل ذلك قسرًا، ورغمًا عنه، لا اقتناعًا منه بأنها خير. وسأدافع ثالثًا عن ذلك الرأي الشائع؛ إذ إن حياة الظالم مهما قيل عنها، فهي أهنأ من حياة العادل، لو كان رأي الناس على حق. على أن هذا ليس رأيي الخاص يا سقراط، وكل ما في الأمر أنني أحار عندما تصل إلى أسماعي أقوال ثراسيماخوس ومئات غيره. ومن جهة أخرى، فإنني لم أستمع إلى أحد يدافع عن سمو العدالة على الظلم دفاعًا مقنعًا. فأنا أود أن أستمع إلى مَن يمتدح العدالة في ذاتها ولِذاتها، ولا شك عندي في أنك أخلق الناس بأن يُسمعني ما أريد. وعلى ذلك فسوف أثني على حياة الظلم ما وسِعَني ذلك. وتستطيع أن تستدل من منهجي في النقاش على الطريقة التي أريد منك أيضًا أن تثني بها على العدالة وتحمل بها على الظلم. فهل توافقني على هذه الخطة؟
إنني لأرحب بها، بل إني لا أعرف موضوعًا يتوق الشخص ذو العقل الناضج إلى أن يطرقه في حديثه أكثر من هذا الموضوع.
والآن، فإذا شئنا أن نصدر حكمًا صحيحًا عن حياة العادل والظالم، فلا بدَّ من أن نفرق بينهما على أوضح نحو؛ إذ ليس ثمة وسيلة أخرى لذلك، ولكن كيف تتم هذه التفرقة؟ لنجعل الظالم ظالمًا على أتم وجه، وليكن العادل عادلًا كل العدل، ولنمنح كلًّا منهما ما يضمن له حياة كاملة من النوع الذي اختاره لنفسه.
فقلت: مرحى مرحى! لكم جلوت كلا الرجلين، يا جلوكون العزيز، وكأنهما تمثالان يصقلان حتى نحكم أيهما الأفضل.
فقال: إنني أبذل قصارى جهدي. والآن وقد علمنا حال كل منهما، فليس من الصعب أن نَصِف نوع الحياة التي تنتظر كليهما. وهذا ما سأحاول القيام به. ولكن إذا بدأ الوصف الذي سأدلي به أقسى مما يجب، فإني أسألك يا سقراط أن تفترض أن ما سأدلي به من الكلمات ليس بكلماتي، وإنما هي كلمات أنصار الظلم. فهم سينبئوننا أن العادل الذي يظن ظالمًا سيجلد ويصلب ويقيد بالأغلال، وستحرق عيناه، وبعد أن يعاني كل ضروب التعذيب، يوخز بالآلات (٣٦٢) الحادة. عندئذٍ سيدرك أنه كان عليه أن يبدو عادلًا فحسب، لا أن يكون كذلك. وهكذا فإن كلمات أيسخولوس تَصدُق على الظالم أكثر مما تَصدُق على العادل؛ إذ إن الظالم يتعلق بشيء واقعي، ولا يحيا في ظل الأوهام. وهو يود أن يكون ظالمًا حقيقة، لا في الظاهر فحسب:
فهو أولًا يُظن عادلًا، لذا يُسنَد إليه حكم المدينة، ويمكنه أن يختار أية زوجة يريدها، ويصاهر من الأُسَر ما يشاء. وفي وسعه أن يتاجر ويتعامل كما يريد، وهو الرابح على الدوام؛ إذ إنه لا يلوم نفسه على ظلمه في شيء. وهو الظافر على خصومه في كل نزاع خاص أو عام، والغانم على حسابهم. وهكذا يغدو ثريًّا، ومن ثرائه ينفع أصدقاءه ويلحق الضرر بأعدائه، بل إن في وسعه تقديم القرابين ووهب النذور إلى الآلهة بسعة وسخاء، وأن يكرم الآلهة أو أي شخص يود تكريمه على نحو أعظم كثيرًا مما يتسنى للعادل. وإذن فهو الأخلق بأن ينال الحُظوة لدى الآلهة من العادل. وهكذا يقولون، يا سقراط، إن الآلهة والناس يتضافرون على جعل حياة الظالم أسعد من حياة العادل.
أديمانتوس: العدالة لا تُمدح إلا لنتائجها.
ولقد كنت على وشك أن أجيب على جلوكون، عندما انبرى أخوه أديمانتوس قائلًا: لا أظنك تعتقد أن هذا كل ما يمكن أن يقال يا سقراط؟
فسألت: عجبًا! أما زال هناك شيء؟
فأجاب: إن أقوى الحُجج لم تذكر بعد.
فقلت: حسنًا، فلتؤيد أخاك إذن وتعينه إن عجز عن شيء عملًا بالمثل القائل: «ليكن الأخ في عون أخيه»، على الرغم من أنني أُقرُّ بأن جلوكون قد قال ما يكفي لأن يُخرجني من المباراة ويسلبني القدرة على الدفاع عن العدالة.
وغير ذلك من الخيرات التي تفيض عليهم. وما أشبه ذلك برأي هوميروس، حين يتكلم عن ذلك الذي غدت شهرته:
كشهرة ملك نقي الضمير، يسهر، كالإله،
على رعاية العدالة، وتجلب له الأرض السوداء
قمحًا وشعيرًا، وتميل أشجاره بفاكهتها.
ولا تكف أغنامه عن التولد، أو البحر عن تقديم الأسماك إليه.
وإلى جانب هذا كله، فسوف أعرض عليك رأيًا آخر عن العدالة والظلم (٣٦٤) يقول به الشعراء والناس العاديون أيضًا. فالكل يجمعون على امتداح العدالة وضبط النفس، غير أنهم يشكون مما فيهما من مشقة وجهد. أما ملذات الشر والظلم فأهون اكتسابًا، وهي لا تذم إلا لأن العرف جرى على ذلك. كما يقولون إن خيانة الأمانة تفيد أكثر من الأمانة ذاتها. وهم على أُهْبة الاستعداد لأن يسموا الأشرار سعداء، ويكرموهم سرًّا وعلانية إلا إذا كانوا فقراء ضعفاء. غير أن أعجب ما في الأمر ما يقولونه عن الفضيلة والآلهة. فهم يقولون إن الآلهة توزع البؤس والمصائب على الأخيار، والخير والسعادة على الأشرار. كذلك يطرق الكهنة المتسولون أبواب الأغنياء ويقنعونهم بأن الآلهة قد منحتهم سلطة التكفير عن الذنوب التي يرتكبها أي شخص أو أسلافه بالقرابين أو السحر، وبالاحتفالات والطقوس، ويعدونهم بإلحاق الأذى بأعدائهم، سواء أكانوا عادلين أم ظالمين، لقاء أجرٍ زهيد، مؤكدين أن في وسعهم، بفنونهم السحرية وتعاويذهم، أن يدفعوا الآلهة إلى تنفيذ إرادتهم. وهم في كل هذه المزاعم يستندون إلى أقوال الشعراء. فبعضهم يهون الطريق إلى الشر بكلمات هزيود:
وإنه لطريق وَعرٌ صعبُ المنال. وغير هؤلاء يستشهدون بهوميروس على أن الآلهة قد تتأثر بالناس؛ إذ إنه أيضًا يقول:
وتراهم يقدمون إليك حشدًا ضخمًا من الكتب التي كتبها موازايوس وأورفيوس — وهما ابنا القمر والإلهات (وربات الفنون) على قولهم — وفيها يصف هذان طقوسهما، ويقنعون أفرادًا، بل مُدنًا بأسْرها، بأن التوبة والتكفير عن الذنب قد يتم بالقرابين وبتلك المشاهد المسلية التي يسمونها طقوسًا للسلوك، والتي يقولون إنها تفيد الإنسان حيًّا وميتًا. وهذا النوع الأخير هو ما يسمونه بالأسرار، التي تقينا شر الجحيم. أما إذا أهملنا أداءها، فالله وحده يعلم عاقبة هذا الإهمال.
واستطرد قائلًا: فإذا ما سمع الشباب كل هذا يقال عن الفضيلة والرذيلة، وعن رأي الآلهة والناس فيهما، فقل لي يا سقراط العزيز، كيف تتأثر أذهان أولئك الذين يسهل التأثير فيهم، والذين هم كالنحلة تمتص الرحيق من كل زهرة، وما هي النتائج التي يستخلصونها مما يسمعونه عما ينبغي أن تكون عليه شخصيتهم وسلوكهم؛ ليضمنوا لأنفسهم خير حياة ممكنة؟ أغلب الظن أنهم سيقولون لأنفسهم ما قاله بندار:
فالناس يقولون إنني لو كنت عادلًا بحق، دون أن أبدو كذلك، فلن يكون لي من وراء ذلك مغنم، بل إن مآلي بالضرورة إلى الحَيرة والخسران المبين. أما إذا اشتهرت بين الناس بالعدل، وأنا في الحقيقة ظالم، فحينئذٍ تتفتح أمامي أبواب الحياة الرغدة الهنيئة. وإذن فما دام المظهر، كما يقول الحكماء، يطغى على الحقيقة ويتحكم في السعادة، فعليَّ أن أكرس جهودي للمظهر وحده. وسأختبئ وراء صورة الماكر الخداع الذي تحدث عنه أرخيلوخوس أكبر الحكماء. فإن قيل إن إخفاء الشر غالبًا ما يكون عسيرًا، كان جوابي عن ذلك أن كل أمر عظيم عسير. وعلى أية حال فهذا هو الطريق الذي يجب أن يسلكه من شاء أن يكون سعيدًا. ولتحقيق عملية الإخفاء هذه، فهناك أساتذة للبلاغة يعلمون فن الإقناع في المحاكم والمنتديات. وهكذا ننجح في السيطرة على الناس تارة بالإقناع وتارة بالقوة، دون أن ينالنا العقاب. غير أن البعض يقول ذلك مع أن من المحال خداع الآلهة أو إجبارهم على شيء. ولكن ألا يجوز أن الآلهة غير موجودة؟ وإذا كانت موجودة، ألا يجوز أنها لا تعبأ بشئون البشر؟ وفي كلتا الحالتين لا يكون هناك داعٍ للحرص على إخفاء أفعالنا عنها. وحتى لو كانت هناك آلهة. وكانت تهتم بشئوننا، فإن كل ما نعلمه عنها مستمد من الأقوال المأثورة وأساطير الشعراء التي تروي نسب الآلهة. وهؤلاء أنفسهم هم الذين يؤكدون لنا أن من الممكن التأثير في الآلهة، وتحويلهم عن مقاصدهم «بالضحايا والابتهالات الحارة والقرابين». وعلى ذلك فإما أن نقبل القولَين معًا، وإما نقبل أحدهما. فإن قبلنا كلامهم، كان الأجدر بنا أن نكون ظالمين، ونستغل جزءًا مما (٣٦٦) نكتسبه من الظلم في تقديم القرابين؛ إذ إننا لو كنا عادلين، فقد نأمن حقًّا انتقام السماء، ولكُنا سنفقد مزايا الظلم. أما إذا كنَّا ظالمين، فسنحتفظ بتلك المغانم، ونخدم الآلهة بصلواتنا، على الرغم مما ارتكبناه من الآثام، وبهذا نُفلت من العقاب. ولكنك قد تقول إن هناك عالمًا آخر نعاقب فيه نحن أو أبناء أبنائنا على ما ارتكبناه من ظلم. هذا هو ما يخطر بالذهن، ولكنَّ هناك أسرارًا وآلهة للتكفير، لها قدرة هائلة. ذلك هو ما تؤكده أكبر المجتمعات، وما تجزم به شهادة أبناء الآلهة، وهم شعراء تلك المجتمعات وأبناؤهم الذين ينطقون بلسان الوحي الإلهي.
فعلى أي أساس إذن نؤثر العدالة على الظلم الشديد، ما دمنا إذا جمعنا بين الظلم وبين مراعاة المظاهر الخادعة، نستطيع أن ننال ما نتمنى من الآلهة والناس، خلال حياتنا وبعد مماتنا، كما يعتقد عامة الناس ويؤكدون لنا أعظم الثقات؟ فإذا ما تبين لك كل هذا، فقل لي بربك كيف يقبل إنسان وُهب مزيدًا من الذكاء أو قوة الشخصية أو المكانة أو الثروة، أن يمجد العدالة، بل أن يكتم ضحكة السخرية عندما يسمع من يطريها؟ بل إنه إذا وجد من يمكنه تفنيد صحة أقوالي، ومن يقتنع بأن العدالة خير الصفات، فإنه مع ذلك لا يتحامل على الظالم، وإنما هو على أتم استعداد لأن يعفو عنه؛ إذ إنه يعلم كذلك أن المرء لا يكون ظالمًا بإرادته. فقد نجد أحيانًا شخصًا يُبغض الظلم؛ لأن لديه شعورًا إلهيًّا باطنًا ينفر منه، أو لأنه اطلع على علم الحقيقة. ولكن من المحال، فيما عدا ذلك، أن نجد عادلًا باختياره؛ إذ لا يحمل على الظلم إلا من لم يمكنه جبنه أو سنه أو ضعفه من اقتراف الظلم. والدليل القاطع على ذلك أنه ما إن يكتسب القوة اللازمة حتى يغدو أول الظالمين.
أما علة هذا كله، فهي ما بيناه، أنا وجلوكون، في مستهل كلامنا معك يا سقراط، من أننا لا نجد، من بين جميع الداعين إلى العدالة — منذ الأبطال الغابرين الذين حفظت لنا أخبارهم وسيرهم، حتى رجالنا المعاصرين — من لا يحمل على الظلم أو يطري العدالة إلا وفي ذهنه ما يجلبانه من مغانم وتمجيد وتكريم. فلم يسبق لأحد أن وصف، شعرًا أو نثرًا. طبيعتهما الحقة الكامنة في النفس، والتي لا تطلع عليها عيون البشر ولا الآلهة، ولا بين أحد أن العدالة أشرف ما تنطوي عليه نفوسنا، والظلم أرذلها. فلو كانت تلك هي القاعدة العامة، ولو (٣٦٧) كنتم قد أقنعتمونا بهذا منذ نعومة أظفارنا، لما حرَص كلٌّ منا على أن ينهى غيره عن الشر، وإنما لغدا كل منا رقيبًا على نفسه، خشية أن يغرس في نفسه أعظم الآثام لو ارتكب الشر.
هذا، يا سقراط، هو الرأي الذي يقول به ثراسيماخوس، وكثيرون غيره دون شك، عن العدل والظلم، وربما كانت لديهم تعبيرات أقوى من هذه، بحيث يقلبون، في رأيي، طبيعتهما رأسًا على عقب. أما أنا فأعترف صراحة بأني ما كنت بهذا العنف إلا لكي أستمع منك إلى تفنيد لهذه الآراء. وأنا لا أريد منك أن تقتصر على إثبات أن العدل أفضل من الظلم، وإنما أود أن توضح أثر كل منهما في صاحبه، وأن تنظر إليهما في ذاتهما، ولا تلقي بالًا، كما سألك جلوكون، إلى ما يجلبانه من الشهرة؛ إذ إنك لو أدخلت في حسابك الشهرة الصادقة في كلتا الحالتين، وأضفت إليها الشهرة الزائفة، لقلنا إنك لا تطري العدالة، وإنما التظاهر بها، وإنك لا تذم الظلم، وإنما مظهره، ولاقتنعنا بأنك إنما تحضنا على إخفاء الظلم، وأنك حقيقة تتفق مع ثراسيماخوس في اعتقاده بأن للظلم في ذاته نفعًا وغُنمًا، وإن يكن ضارًّا بالضعيف. ولكن ما دمت قد سلمت بأن العدالة تنتمي إلى أعلى فئات الخير، أعني الفئة التي تطلب لذاتها إلى جانب ما لها من نتائج — كالسمع والبصر والمعرفة والصحة وأي خير تكون قيمته أصيلة كامنة، ولا تتوقف على مجرد الظن الشائع. ما دمت قد سلمت بهذا كله، فإني أسألك ألا تضع نُصب عينيك في إطرائك العدالة إلا أمرًا واحدًا، هو الخير الذي تجلبه لصاحبها، ولا تذم الظلم إلا على أساس ما يجلبه الظلم بذاته لصاحبه من الضرر. أما تعداد المغانم والمغارم فلتسقطه من حسابك؛ ذلك لأنني قد أقبل من غيرك هذه الطريقة في النقاش، التي تُمتدح فيها العدالة ويُذم الظلم على أساس السمعة والجزاء، أما أنت، يا من قضيت حياتك في بحث هذه المسألة، فإني أنتظر منك ما هو أفضل من ذلك، ما لم تؤكد لي أنت ذاتك غير ذلك. وإذن فلن يكفيني أن تثبت لنا أن العدل أفضل من الظلم، وإنما أود أن تبين كيف يكون أحدهما خيرًا والآخر شرًّا، بفضل ما له على صاحبه من تأثير باطن، سواء رأته الآلهة والناس أم لم تره.
(٣٦٨) سقراط: البحث عن العدالة في إطار أكبر — بداية تكوين الدولة
ومن المؤكد أنني كنت دائمًا أعجب بعبقرية جلوكون وأديمانتوس. غير أن طربي لسماع هذه الكلمات لم يكن يوصف.
إن الوصف لينطبق عليكما تمامًا. فلا بدَّ أن فيكما نفحة إلهية، إذا دافعتما عن سيادة الظلم، مع عدم اقتناعكما هذا. وإني لواثق من أنكما لستما مقتنعين بذلك، بناء على ما أعرفه من خلقكما، أما لو كنت قد حكمت على أساس ما قلتماه لانتابني الشك في ذلك، على أنني كلما ازددت بكما ثقة ازدادت صعوبة وصولي إلى رد عليكما، فأنا من جهة أحس بأنني عاجز عن أداء هذه المهمة، بعدما تبين لي من عدم رضائكما عن الإجابة التي أدليت إلى ثراسيماخوس، والتي اعتقدت فيها أنني أثبت أن العدالة خير من الظلم. ولكن من المستحيل عليَّ، من جهة أخرى، أن أرفض تقديم العون ما دام فيَّ نفَس يتردد ولسان ينطق. فأنا أخشى أن يكون في وقوفي مكتوف اليدين، في الوقت الذي تذم فيه العدالة، إثم وجريرة. وإذن فقد وجب عليَّ أن أدافع عنها قدر استطاعتي.
وهنا توسل إليَّ جلوكون وبقية الجماعة أن أبذل قُصارى جهدي ولا أدع المسألة دون أن أواصل بحثها، وأحاول كشف الطبيعة الحقيقية للعدل والظلم، وحقيقة الفوائد التي يجلبها كلٌّ منهما، وهنا أخبرتهم بما أعتقده حقًّا، فقلت: إن لهذا البحث صعوبته وخطورته، وهو يتطلب حرصًا وتبصُّرًا عظيمًا. وما دمنا نفتقر إلى مثل هذا التبصر، فأعتقد أنه يَحسُن بنا أن نسير في بحثنا على مثل هذا النهج؛ فهب أن شخصًا قصير النظر طلب إليه أن يقرأ حروفًا صغيرة عن بُعد، ثم أنبأه شخص آخر بأن من الممكن الاهتداء إلى نفس هذه الحروف في مكان آخر بحجم أكبر، فلا شك في أنها تكون فرصة رائعة له لكي يبدأ بقراءة الحروف الكبيرة وينتقل منها إلى الصغيرة، ليرى إن كانت مماثلة للأولى أم لا.
فقال أديمانتوس: حسنًا جدًّا، ولكن كيف تطبق هذا المثل على مشكلتنا؟
فقلت: سأخبرك الآن. إن العدالة، وهي موضوع بحثنا، إن كانت توجد في الفرد بوصفها فضيلة له، فإنها توجد أيضًا في الدولة.
فأجاب: هذا صحيح.
– أليست الدولة أكبر من الفرد؟
– بلى.
– إذن ففي الصورة الكبيرة للعدالة يكون من الأسهل علينا إدراكها. لذا أقترح أن نبحث عن طبيعة العدالة أولًا كما تتبدى في الدولة، ثم نبحثها بعد ذلك في الفرد، فننتقل بذلك من الأكبر إلى الأصغر، ونقارن بين الاثنين.
(٣٦٩) فقال: هذه خطة رائعة.
– فلنتخيل إذن دولة تنمو وتتكون أمامنا. عندئذٍ يمكنك أن تشاهد العدل والظلم وهما ينموان فيها.
– هذا حق.
– فإذا ما أتممنا ذلك، كان من الأسهل علينا كشف ما نبحث عنه.
– أجل، هذا أسهل بكثير.
– فهل نحاول إذن القيام بهذه المهمة؟ إن هذه، في رأيي، ليست بالمهمة الهينة. فلنفكر إذن قبل الإقدام عليها.
فقال أديمانتوس: لقد فكرنا في الأمر. فلتفعل كما تقول.
فقلت: في اعتقادي أن الدولة تنشأ عن عجز الفرد عن الاكتفاء بذاته وحاجته إلى أشياء لا حصر لها. أترى أن هناك أصلًا آخر للدولة؟
– لا يمكن أن يوجد سوى ذلك الأصل.
– إذن فما دامت حاجاتنا عديدة، وما دام من الضروري وجود أشخاص عديدين للوفاء بها، فإن المرء يستعين بشخص من أجل غرض من أغراضه، وبغيره من أجل تحقيق غرض آخر، وهكذا. وعندما يتجمع أولئك الشركاء الذين يساعد بعضهم بعضًا في إقليم واحد نسمي مجموع السكان دولة.
– هذا صحيح.
– فإذا أعطى أحدهم الآخر لقاء ما يأخذه منه، فإنهم يقومون بهذه المبادلة لأنهم مقتنعون بأن فيها نفعًا لهم.
– هذا عين الصواب.
– فلنبدأ إذن بإرساء أسس الدولة في ذهننا. ولا شك أن الأساس الحقيقي هو الحاجة.
– يقينًا.
– على أن أول الحاجات وأعظمها هي المأكل لأنه شرط الحياة والوجود.
– بالتأكيد.
– وثانيها المسكن، وثالثها الملبس وما شابهه.
– هذا صحيح.
– والآن، فلنر كيف يمكن أن تفي مدينتنا بتلك الحاجات المتعددة، ألا ينبغي أن يكون أحد الناس زارعًا، والآخر نساجًا، ولعلنا نضيف إلى ذلك حذَّاء، وصانعًا آخر للوفاء بحاجاتنا المادية؟
– هذا عين الصواب.
– وإذن فأصغر دولة لا بدَّ أن تتضمن أربعة رجال أو خمسة؟
– هذا واضح.
– وكيف يمضون في عملهم، هل يجلب كل منهم نتائج عمله للمجموعة بأسرها، أعني هل ينتج الزارع مثلًا من أجل أربعة، ويعمل أربعة أمثال العمل الذي (٣٧٠) يحتاج إليه ليزود نفسه وغيره بالمأكل، أم إنه لا يعبأ بالآخرين ولا ينتج من أجلهم، وينتج الطعام لنفسه وحده في ربع الوقت، على حين يشغل الأرباع الثلاثة الباقية في بناء بيت أو حياكة رداء أو صناعة زوج من الأحذية، بحيث يوفر على نفسه عناء العمل من أجل الباقين، ويكتفي بما يحتاج إليه فحسب؟
فقال أديمانتوس: ربما كانت الطريقة الأولى هي الأنسب.
فأجبت: قد يكون الأمر كذلك بالفعل. ولقد أوحت إليَّ إجاباتك بفكرة، هي أننا لسنا جميعًا سواء، وإنما تتباين طبائعنا وتوجد بيننا فروق كامنة تجعل كلًّا منا صالحًا لعمل معين. ألا ترى ذلك؟
– بلى.
– أوترى أن المرء يؤدي عملًا أفضل لو كانت له مهام عديدة، أم إذا تفرغ لعمل واحد؟
– عندما يكون له عمل واحد.
– ولا شك أيضًا أن العمل يفسد إن لم يؤدَّ في الوقت المناسب؟
– بلا شك.
– ذلك لأن العمل لن ينتظر حتى يفرغ له عامله، وإنما على العامل أن يتابع ما يعمله، ويجعل منه هدفه الأول.
– هذا ضروري.
– وإذن فمن ذلك نستدل على أن إنتاج كل شيء يكون أوفر وأسهل وأجود إذا ما أدى كل فرد شيئًا واحدًا هو الشيء الذي يصلح له بطبيعته، في الوقت المناسب، وترك جانبًا كل ما عداه من الأمور.
– بلا شك.
– إذن فسيلزمنا أكثر من أربعة مواطنين لتلبية كل ما ذكرناه من الحاجات؛ إذ لا يستطيع الزارع أن يصنع محراثه ومِنجله، أو غيرها من أدوات الزراعة، إن أراد أن تكون هذه أدوات جيدة. كذلك لا يستطيع البناء أن يصنع أدواته التي يحتاج إلى الكثير منها. ومثل هذا ينطبق على النسَّاج والحذَّاء.
– هذا صحيح.
– إذن فسوف يُسهم النجارون والحدادون وغيرهم من الصناع في دولتنا الصغيرة، وبهذا تبدأ هذه في النمو.
– هذا صحيح.
– ومع ذلك فلن تكون دولتنا كبيرة بالقدر الكافي حتى لو أضفنا رعاة البقر والأغنام وغيرها، لكي يجد زراعنا ثيرانًا تحرث، وبناءُونا وزراعنا ماشية تجر، وسراجونا ونساجونا صوفًا وجلدًا.
– هذا صحيح، ولكن مثل هذه الدولة لن تكون صغيرة أيضًا.
– ولنتحدث بعد ذلك عن موقع المدينة. فمن المحال أن نؤسس هذه المدينة في مكان لا نحتاج فيه إلى استيراد شيء.
– هذا محال بالفعل.
– وإذن فلا بدَّ من وجود فئة أخرى من المواطنين يجلبون ما يلزمها من المدن الأخرى؟
– هذا ضروري.
(٣٧١) – ولكن إذا ما راح هذا التاجر إلى البلد الآخر وهو خالي الوفاض دون أن يأخذ معه شيئًا مما يحتاج إليه أولئك الذين سيلبون مطالبه، فلا شك في أنه سيعود خالي الوفاض أيضًا.
– بالتأكيد.
– وإذن فلا بدَّ ألا تقتصر الدولة على إنتاج ما يكفيها في الداخل فحسب، بل يجب أن يبلغ إنتاجها في الكم والكيف حدًّا يكفي معه لتلبية حاجات أولئك الذين يمدونها بحاجاتها.
– هذا صحيح.
– وإذن فلا بدَّ من مزيد من الزراع والصناع؟
– هذا ضروري.
– ولا بدَّ أيضًا من الموردين والمصدرين، الذين يسمون بالتجار؟
– أجل.
– إذن فسنكون في حاجة إلى تجار؟
– أجل.
– ولكي تنقل التجارة عبر البحر، فلا بدَّ من كثير من الملاحين المهرة؟
– أجل، يلزمنا الكثيرون.
– ولكن كيف يتبادل المواطنون منتجاتهم داخل المدينة ذاتها؟ إنك لتذكر أن هذا التبادل ذاته كان هدفنا الرئيسي، عندما كونَّا منهم مجتمعًا وأسسنا لهم دولة.
– لا شك أن ذلك سيكون بالبيع والشراء.
– إذن فسيكونون في حاجة إلى سوق، وعملة من النقد لتحديد قيمة المنتجات المتبادلة؟
– يقينًا.
– ولكن هب أن عاملًا أو صانعًا يجلب سلعته إلى السوق، لم يصل ذات يوم في الموعد الذي وصل فيه أولئك الذين يحتاجون إلى سلعته، أتراه يكف عن عمله ويقعد في السوق ملومًا محسورًا؟
– كلا، فهناك أناس يتكفلون، حين يعلمون بهذه الحاجة التي تقتضي منهم التدخل، بالقيام بعملية التوسط والبيع. وهؤلاء، في الدول ذات التنظيم المحكم، هم عادة أضعف الناس صحة وأعجزهم عن كل عمل آخر. فعملهم ينحصر في البقاء داخل السوق، وفي دفع النقود ثمنًا لسلع مَن يريدون البيع، ثم تسلُّم النقود ممن يريدون الشراء.
– وإذن، فنتيجة لهذه الحاجة، لا بدَّ أن يكون في دولتنا وسطاء للبيع والشراء، على حين نطلق اسم التجار على أولئك الذين ينتقلون من بلد إلى آخر؟
– بالضبط.
– وفي اعتقادي أن هناك فئة أخرى ممن يعملون في الدولة، فئة لا يكاد يسمح لها مستواها العقلي بالاندماج في الجماعة، غير أنها قادرة بفضل قوتها الجسمية الهائلة على أشق الأعمال. فأفرادها يبيعون قوتهم الجسمية، ويتلقَّون أجرًا عن جهودهم، ومن هنا أظن أنهم يسمون بالأجيرين، أليس كذلك؟
– بلى.
– وإذن، فهؤلاء الأجيرون عنصر مفيد في مدينتنا؟
– أعتقد ذلك.
– فهلا ترى الآن، يا أديمانتوس، أن دولتنا قد توسعت حتى اكتمل بناؤها؟
– ربما.
– وإذن، فأين العدالة والظلم فيها، ومن أي النواحي التي اختبرناها ينشآن؟
– لست أتبين ذلك بوضوح يا سقراط، ولكنه ربما كان في تبادل الناس بعضهم مع البعض هذه الأشياء. ولا يبدو لي أنهما يتمثلان في أي شيء آخر.
– قد تكون على حق. وعلى أية حال، فالأجدر بنا أن نختبر تلك المسألة عن كثب، دون أن نتهرب من بحثها.
(٣٧٢) الدولة المترفة.
فلنتأمل أولًا على أي نحو سيعيش أولئك الناس بعد أن نظمنا حياتهم على هذا النحو. ألا ينتجون قمحًا ونبيذًا، ويصنعون ملابس وأحذية، ويبنون بيوتًا؟ ألا يشتغلون في الصيف وهم أنصاف عراة، دون أحذية، ويلبسوا في الشتاء ما يكفيهم من الملابس والأحذية؟ إنهم سيصنعون، من أجل طعامهم، دقيقًا وشعيرًا يخبزونهما ويصنعون منهما شطائر وأرغفة، يجلسون لأكلها إلى جانب قطعة من جذع شجرة أو أغصان مورقة نظيفة، ويضطجعون على أسِرَّة مما يقطعونه من أخشاب، فُرشت بالقش أو أعواد الريحان. وهم يولمون مع أطفالهم الولائم، فيحتسون النبيذ وقد اكتست رءوسهم من الأزهار تيجانًا، ويسبحون في أغانيهم بحمد الآلهة. وهكذا يحيَون سويًّا حياة هنيئة، مع حرصهم على أن يتحكموا في عدد أطفالهم حسب مواردهم، خشية إملاق أو خوفًا من الحرب.
وهنا اعترض جلوكون قائلًا: ولكنك قد أطعمت هؤلاء الناس خبزًا جافًّا فحسب.
فأجبت: هذا صحيح، لقد نسيت الأطباق الحافلة، ولكن لا شك أنه سيكون لديهم الملح والزيتون والجبن، وسيطبخون الجذور والخضر كما يفعل ملاحونا اليوم، أما الفاكهة فسيكون لهم منها التين والكمثرى والبندق، كما يقومون بصنع النبيذ ويشربون منه باعتدال. وبمثل هذا الغذاء تمضي حياتهم في سلام، وتصح أبدانهم ويصلون إلى الشيخوخة، فيورثون هذه الحياة لأبنائهم.
فقال: إنك لو كنت تنظم مدينة من الخنازير، لما جعلتهم يعيشون على نحوٍ يخالف ذلك.
فسألت: فماذا تود إذن أن تمنحهم إياه؟
– مُتع الحياة المألوفة. فلزام علينا، إن شئنا أن نجعلهم في رغد من العيش، أن نجلسهم على أرائك، ونطعمهم على مناضد، ونقدم إليهم من الطعام والحلوى ما نعرفه اليوم.
– حسن. جدًّا! لقد فهمت الآن. فموضوع بحثنا ليس إذن مسألة قيام الدولة، وإنما قيام الدولة المترفة. وربما لم يكن في هذا البحث ضرر؛ إذ إن تأمل دولة كهذه يجعل من الأسهل علينا إدراك نشأة العدل والظلم، على أني أعتقد أن التركيب الذي رسمته للدولة هو التركيب الصحيح السليم. أما إذا شئت أن ترى دولة (٣٧٣) بلغت قمة الترف، فليس لدي على ذلك اعتراض؛ إذ إنني أعتقد أن هناك مَن لا يرضون عن هذه الحياة البسيطة، وإنما يودون إضافة الأرائك والمناضد وغيرها من الأثاث، والحلوى والعطور والبخور والشطائر، وكل الأنواع الممكنة من هذه الكماليات. فهم لا يرون أن الضروريات تنحصر فيما أوضحته من مساكن وملابس وأحذية، وإنما يضيفون إليها اللوحات المرسومة وكل أنواع الزخارف، واقتناء الحلي والعاج وكل غالٍ نفيس، أليس كذلك؟
– بلى.
– وإذن، فلنوسع دولتنا، ما دامت الصورة الأولى الصحيحة لم تَعُد كافية. ففي هذه الحالة تحتشد المدينة وتمتلئ بعدد وافر من الناس لا يدعو إلى وجودهم فيها سوى الحاجات السطحية، ومن أمثالهم مختلف أنواع القناصة والصيادين، والمقلدون الذين يختص بعضهم بالأشكال والألوان، وبعضهم بالموسيقى، وهم الشعراء ومن يصاحبهم من المغنين، ومن الممثلين والراقصين ومنظمي المسارح، وصناع مختلف الأدوات، وخاصة أدوات الزينة للنساء. وسنُضطر إلى زيادة عدد الخدم، ولا أخالك تظن أننا لن نكون بحاجة إلى معلمين ومرضعات ومربيات، ووصيفات وحلاقين وطباخين ورعاة للحيوان، وهم الذين لم نكن بحاجة إليهم في دولتنا السابقة، وإنما أصبحوا الآن لازمين لتربية مختلف أنواع الحيوانات لمن شاء أكلها. أليس كذلك؟
– بلا جدال.
– ولكن الحياة على هذا النحو تجعل وجود الأطباء ألزم كثيرًا من ذي قبل؟
– أجل، ألزم بكثير.
– ثم تصبح الأرض التي كانت تكفي لإطعام ساكنيها، أضيق وأقل من أن تكفيهم.
ألا ترى ذلك؟
– هذا صحيح.
– وعندئذٍ، ألن نُضطر إلى أن نتعدى على أرض جيراننا، أن شئنا أن يكون لنا من الأرض ما يكفي للزرع والرعي؟ كذلك، ألن يُضطر جيراننا بدورهم إلى التعدي على أرضنا، ما داموا قد استسلموا بعد عبورهم حدود الضرورة، لشهوة التملك الجامحة؟
– هذا أمر لا مفر منه يا سقراط.
– وإذن، فسوف نشن الحرب يا جلوكون، وإلا فماذا تظننا فاعلين؟
– لا مفر لنا من ذلك.
فقلت: وإذن، فلو نحَّينا جانبًا موضوع ضرر الحرب أو نفعها، ففي وسعنا أن نؤكد أننا قد اهتدينا إلى أصل الحرب في ذلك الميل الذي هو أصل كل بلايا الدول والأفراد.
– هذا عين الحق.
– وهكذا يتعين علينا، يا صديقي، أن نوسع نطاق الدولة إلى حد بعيد، بإضافة (٣٧٤) جيش كامل يخرج لملاقاة الأعداء ويذود عن ممتلكات الدولة ضد كل معتدٍ، ويستولي على ما يمتلكه الأعداء.
– ولِمَ ذلك؟ ألا يستطيع المواطنون أن يتولَّوا ذلك بأنفسهم؟
– كلا، وذلك إذا ما كان المبدأ الذي اتفقنا عليه حين أسسنا الدولة صحيحًا. فلعلك تذكر أننا اتفقنا على أنه من المحال على فرد واحد أن يجيد عدة حِرَف في آنٍ واحد.
– هذا صحيح.
– ولكن أليست الحرب فنًّا وحرفة؟
– بلى.
– وهي فن يتطلب من الانتباه ما تتطلبه حرفة الحذَّاء على الأقل؟
– بلا شك.
غير أننا لم نسمح للحذَّاء بأن يكون زارعًا أو نسَّاجًا أو بنَّاء، وإنما جعلناه يقتصر على صنع الأحذية كيما يتقن صنعته. كذلك جعلنا لكل صانع آخر حرفة واحدة، هي التي أتقنها ومارسها طَوال حياته، فاستبعدنا عنه كل حرفة أخرى، بحيث إنه لم يعد يدخر وسعًا للوصول في حرفته إلى حد الكمال. فإن كان الأمر كذلك، ألا ترى أن من أعظم الأمور أهمية أن تُمارس الحرب كما ينبغي؟ وهل تظن أن من السهل ممارسة هذه المهنة بحيث يستطيع الزارع أو الحذَّاء أو أي صانع آخر أن يكون محاربًا في نفس الوقت، على حين أن المرء لا يجيد لعب النرد إلا إذا تدرَّب عليها منذ طفولته، ولم يقتصر على اللعب في أوقات فراغه؟ وهل يكفي أن يتناول المرء رمحًا أو أي سلاح آخر كيما يصبح في الحال جنديًّا مدربًا في أي فرع من فروع الجيش، على حين نحن نعلم عن يقين أننا مهما تناولنا من أدوات في أي فن آخر، فلن نصبح صنَّاعًا أو رياضيين؛ إذ إن الأداة لن تجديَ شيئًا لمن لم يكتسب معرفة بكل فن ولم يتلقَّ التدريب الضروري فيه.
– الحق معك، ولو كان الأمر على خلاف ذلك، لكانت تلك الأدوات تكلف المرء ثمنًا أبهظ مما ينبغي؟
– بلا شك.
– ولكن ألا يلزم لهذا الفن أيضًا صفات طبيعية فطرية في المحارب؟
– يقينًا.
– وإذن فعلينا، إن استطعنا، أن نختار أولئك الذين تؤهلهم طبيعتهم وقدرتهم الفطرية ليكونوا حراسًا للدولة.
– هذا واجب علينا دون شك.
– الحق أن المهمة لن تكون هينة، ومع ذلك فلنستجمع شجاعتنا ولنبذل كل ما في طاقتنا.
(٣٧٥) – هذا ضروري.
– حسن. أترى، فيما يتعلق بالحراسة، فروقًا بين طبيعة كلب أصيل، وبين فتًى عريق المولد؟
– ماذا تعني؟
– أعني أن كليهما لا بدَّ أن تتوافر له قوة ملاحظة الأعداء، وسرعة الانقضاض عليهم، والقدرة على العراك إذا ما هوجم.
– لا شك أنه بحاجة إلى كل هذه الصفات.
– وهو بحاجة إلى الشجاعة أيضًا ليجيد القتال.
– بلا شك.
– ولكن، أيستطيع فرس أو كلب أو أي حيوان أن يكون شجاعًا ما لم يكن غضوبًا متحمسًا؟ ألم تلاحظ أن الحماسة لا تُغلب ولا تُقهر، إنها إذا تملكت نفسًا فلن تخشى شيئًا أو تلين لشيء؟
فقال: لقد لاحظت ذلك بالفعل.
– وهكذا ترى بوضوح الصفات المطلوبة في الحارس.
– أجل.
– وتدرك كذلك أن الصفة النفسية هي الحماسة الفياضة.
– نعم.
– ولكن مَن كانت لهم هذه الصفات، ألا يكونون عدوانيين في سلوكهم، بعضهم نحو بعض، ونحو كل مخلوق آخر؟
– الحق أنه ليس من السهل عليهم أن يتغلبوا على هذا الشعور.
– ومع ذلك، فمن المحتم عليهم أن يُظهروا الوداعة مع مواطنيهم، والشراسة مع أعدائهم، وإلا ألقوا بأنفسهم إلى التهلكة، دون أن ينتظروا حتى يُهلكهم الآخرون.
– هذا حق.
– ولكن ما العمل؟ وأين لنا أن نجد طبيعة تجمع بين اللين والشدة؟ إن الوداعة والشراسة لتتنافران وتتناقضان.
– أجل، هذا واضح.
– ومع ذلك، فلو افتقر الحارس إلى أحدهما، لما عاد صالحًا لعمله، على أن الجمع بينهما يبدو محالًا، وهكذا يبدو أن من المستحيل أن نهتدي إلى حارس صالح.
– أخشى أن يكون الأمر كذلك.
– ماذا تعني؟
وهنا تملكتني الحيرة لحظة، غير أني عندما استعرضت في ذهني ما قلناه، واصلت كلامي قائلًا: لقد حق علينا أن ننتهيَ إلى هذا التردد يا صديقي؛ إذ إننا قد ابتعدنا عن المثل الذي وضعناه لأنفسنا.
– ماذا تعني؟
– أعني أنه توجد بحق طبائع تجمع بين هذه الصفات المتناقضة، التي بدا الجمع بينها مستحيلًا.
– وكيف يكون ذلك؟
– إن ذلك ليتبدَّى في حيوانات متعددة وبخاصة في ذلك الذي كنا نقارنه بحراسنا، فأنت تعلم ولا شك أن طبيعة الكلاب الأصيلة هي أن تكون على أعظم قدر من الوداعة بالنسبة إلى مَنْ ألفَتهم ومن عرَفتهم، وأن تكون على عكس ذلك بالنسبة إلى مَن لا تعرفهم؟
– أجل، أعلم ذلك.
– إذن، فحل المشكلة ممكن، ولن نكون مخالفين للطبيعة إذا سعينا إلى الاهتداء إلى حارس تتوافر له هذه الصفات.
– ذلك لا يبدو مستحيلًا.
– ولكن ألا يبدو أن من أردناه حارسًا، ما زال يفتقر إلى صفة معينة حتى يبلغ الكمال في حراسته، وهي أن يجمع إلى الحماسة الفياضة، صفات الفيلسوف؟
(٣٧٦) – إنني لا أفهم ما تعنيه.
– إن الصفة التي أتحدث عنها يمكن الاهتداء إليها لدى الكلب أيضًا، وهي صفة تستحق التقدير فيه.
– أية صفة تعني؟
– أعني أن الكلب يثور كلما رأى غريبًا، وإن لم ينله منه أي أذى، على حين أنه يرحب بمن يعرفه، حتى لو لم يتلقَّ منه أي خير. ألم تلاحظ ذلك من قبل؟
– الحق أنني لم أوجه انتباهي إلى هذا الأمر مطلقًا، ولكن من المؤكد أن الكلب يسلك كما تقول.
– ولا جدال في أن هذه صفة طيبة، بل هي صفة الفيلسوف بحق.
– كيف ذلك؟
– ذلك لأنه لا يميز صديقه من عدوه إلا على أساس المعرفة أو عدم المعرفة وحدهما، وأظنك ترى أن حيوانًا يميز ما يحبه مما يكرهه بمقياس المعرفة والجهل، لا بدَّ أن يكون من محبي المعرفة والعلم.
– لا يمكن أن يكون الأمر على خلاف ذلك.
– حسن! ولا شك أن محبة المعرفة ومحبة الحكمة، أي الفلسفة، شيء واحد؟
– إنهما حقًّا شيء واحد.
– فلنسلم إذن، ونحن على ثقة من صحة ما نقول، بأن وداعة المرء مع أصدقائه ومعارفه تقتضي أن يكون بطبيعته فيلسوفًا محبًّا للحكمة.
– أجل، يمكننا أن نؤكد ذلك ونحن مطمئنون.
– وإذن، فمن أردناه أن يكون حارسًا صالحًا لدولتنا، لا بدَّ أن يجمع بين الفلسفة والحماسة والاندفاع والقوة.
– بلا شك.
تعليم الحراس: استبعاد الأساطير من المدارس
– تلك إذن صفات حارسنا. ولكن كيف نعلم مثل هؤلاء الرجال ونربيهم؟
لا شك أن بحث هذه المسألة يُلقي ضوءًا على المشكلة الكبرى التي هي في نهاية الأمر غايتنا المنشودة، أعني كيف تنشأ العدالة والظلم في الدولة. ولا بدَّ من معرفتها حتى لا نكون قد أغفلنا نقطة هامة، ولكن دون أن نُطيل النقاش أكثر مما ينبغي.
وعندئذٍ تكلم جلوكون فقال: أجل، أعتقد أن بحث هذه المسألة يفيدنا في الوصول إلى هدفنا.
– وإذن، فليس لنا، يا عزيزي أديمانتوس، أن نتخلى عن هذا البحث، مهما بدا لنا شاقًّا طويلًا.
– كلَّا.
– هيا بنا إذن، لنطلق لخيالنا العِنان، ولنُمضِ ساعة فراغنا في رواية هذه القصة؛ قصة تعليم الحراس.
– هذا ما يتعين علينا أن نفعله.
ولكن كيف نعلمهم؟ أهناك خير من التعليم الموروث الذي جرت عليه عادة العصور الغابرة، وهو الرياضة للبدن والموسيقى للنفس؟
– الحق أن الاثنين معًا لازمان.
– فهل نبدأ التعليم بالموسيقى، ومن بعده الرياضة البدنية؟
– هذا طبيعي.
– وإذا ما تكلمنا عن الموسيقى، فهل تراها تنطوي أيضًا على الأدب أم لا؟
– إنها لتنطوي عليه بالفعل.
– ولكن في الأدب ما هو صادق وما هو كاذب.
(٣٧٧) – أجل.
– وعندئذٍ سيشتمل تعليمنا لهم على النوعين من الأدب، ويبدأ بالكاذب؟
– لست أفهم ما ترمي إليه.
– ألا تعلم أننا نبدأ تربية الأطفال برواية القصص الخيالية التي لا تعدو أن تكون من قبيل الأكاذيب، وإن كان لها من الصدق نصيب ضئيل. وتلك القصص هي ما يروى لهم قبل إلحاقهم بالمدارس.
– هذا صحيح.
– وهذا ما كنت أعنيه حين قلت إن علينا أن نبدأ بالموسيقى قبل الرياضة البدنية.
– هذا حق.
– وأنت تعلم أيضًا أن البداية هي أهم جانب في كل عمل، ولا سيما إذا تعلَّق الأمر بكائن صغير رقيق؛ إذ إن ذلك هو العهد الذي تتكون فيه الشخصية وينطبع ما نود إحداثه فيه من التأثيرات.
– بلا شك.
– فهل ندع أطفالنا إذن يعيرون أسماعهم لأية أقصوصة يروجها أي شخص، وتتلقى أذهانهم آراء هي في الأغلب مضادة تمامًا لما نريدهم أن يكونوا عليه حين يشبون؟
– كلا، ينبغي ألا نسمح لهم بذلك.
– وإذن فأول ما يتعين علينا هو أن نراقب مبتكري القصص الخيالية، فإن كانت صالحة قبلناها، وإن كانت فاسدة رفضناها. وعلينا بعد ذلك أن نكلف الأمهات والمرضعات بألا يروين للأطفال إلا ما سمحنا به، وإن يعنين بتشكيل أذهانهم بهذه الحكايات خيرًا مما يعنين بتكوين أجسامهم بأيديهن. أما تلك الأقاصيص الشائعة الآن، فمعظمها ينبغي استبعاده.
– أيها تعني؟
– إن في وسعنا أن نحكم على الأقاصيص الصغيرة بما نراه في الكبيرة؛ إذ إن للطائفتين نفس الطابَع، ونفس الأثر.
– أجل، غير أني ما زلت لا أفهم أية أقاصيص كبرى تعني.
– أعني تلك التي رواها هوميروس وهزيود وغيرهما من الشعراء وهم أعظم رواة القصص الكاذب الذي لا يزال شائعًا بين الناس.
– ولكن أي قصص تعني، وما الذي تعيبه عليه؟
– إن أول ما أعيبه عليه هو كذبه، بل كذبه الآثم الشرير.
– وأين يظهر ذلك الكذب؟
– في تمثيل الآلهة والأبطال بطريقة باطلة، وكأن مصورًا يرسم صورًا مشوهة لا يوجد بينها وبين موضوعها ظل من الشبه.
– أجل، هذا أمر يستحق أن يعاب عليهم، ولكن أي قصص تقصد؟
– أجل.
– إن هذه الأقاصيص لفاسدة حقًّا.
– ومن الواجب ألا نرددها في دولتنا يا أديمانتوس. فينبغي ألا يقال للناشئ إنه حين يقترف أكبر الآثام، وحين لا يدخر وسعًا في الثأر من أبيه إن كان ظالمًا، فإنه في ذلك لا يفعل شيئًا خارجًا عن المألوف، وإنما يقتدي بما سبق أن فعله أول الآلهة وأعظمها.
– إنني لأتفق معك في كل هذا، فتلك القصص لا يصح ترديدها على الإطلاق.
– كذلك ينبغي ألا نقول أبدًا إن الآلهة تشن الحرب على الآلهة، وأنها تنصب الفخاخ وتحيك المؤامرات بعضها للبعض، فتلك قصص كاذبة يجب ألا تقال لحراس المستقبل إذا ما كنا نريدهم أن ينظروا إلى مقاتلة بعضهم بعضًا على أنها عار ينبغي تجنبه. وعلينا أن نحذر من رواية معارك العمالقة والحروب العديدة التي شنها الآلهة والأبطال على أصدقائهم وأقربائهم. أو أن نُخلِّد تلك المعارك في صورنا ونقوشنا، وإنما ينبغي أن ننبئهم، إذا أمكن أن نجعلهم يصدقوننا، بأن الصراع والقتال شر، وأنه لم يحدث حتى الآن أي صراع بين المواطنين. وهذا هو ما يتعين على المسنين من الرجال والنساء أن يبدءوا بتلقينه لأطفالهم. فإذا ما شبوا، فعلى الشعراء أن يؤلفوا لهم قصصًا تتسم بهذا الطابَع ذاته. أما أن يقصوا عليهم كيف أن ابن هيرا قيدها بالأغلال، وأن زوس قد طرد ابنه هفايستوس في مناسبة أخرى لأنه حاول أن يصد عن أمه ضربات زوجها، وأن الآلهة قد أطلقت لنفسها العِنان في كل المعارك التي صورها خيال هوميروس، فذلك ما لا ينبغي أن نسمح به في جمهوريتنا، سواء أكان المفروض أن لهذا القَصص معنًى أسطوريًّا أم لم يكن؛ ذلك لأن الطفل لا يستطيع أن يميز الأسطوري من الواقعي. ولا شك أن كل ما يتلقاه ذهنه في هذه السن ينطبع فيه بعمق لا تمحوه الأيام، ولذا كان من أعظم الأمور أهمية أن تكون أولى القصص التي تطرق أسماع الأطفال أمثلة سامية للأفكار الفاضلة.
– إنك محق فيما تقول. ولكن إذا ما خطر لأحد أن يسأل أين نهتدي إلى تلك الأمثلة، وما هو القصص الذي تقصد، فبماذا تجيب؟
(٣٧٩) – إننا لسنا الآن شعراء يا أديمانتوس، لا أنت ولا أنا، وإنما نحن ننشئ دولة. ومهمة منشئ الدولة هي أن يصوغ القوالب العامة التي يجب أن يصب فيها الشعراء أقاصيصهم، ويضع لهم الحدود التي ينبغي أن نلتزمها في الكلام عن الآلهة.
– إليك رأیي: يجب أن يمثل الإله دائمًا كما هو، أيًّا كان نوع الشعر، أعني سواء أكان شعرًا غنائيًّا أم شعرًا ملحميًّا أم شعرًا مسرحيًّا.
– هذا صحيح.
– ولكن أليس الله في ذاته خيرًا، وأليست هذه هي الصفة التي يجب أن يمثل عليها؟
– بلا شك.
– غير أن ما هو خير لا يمكن أن يكون ضارًّا؟
– كلا بالطبع.
– وما ليس بضار، لا يضر؟
– كلا بالطبع.
– وما يضر لا يجلب شرًّا؟
– هذا محال.
– وما لا يجلب شرًّا لا يمكن أن يكون علة أي شر؟
– وكيف يكون كذلك؟
– ولكن أليس الخير نافعًا؟
– بلى.
– فهو إذن مصدر كل ما يوجد من نفع؟
– أجل.
– ومعنى ذلك أن ما هو خير ليس علة كل شيء، وإنما هو علة الأشياء الخيرة لا الشريرة؟
– لا شكَّ في هذا.
– وعلى ذلك فالله ما دام خيرًا، فهو ليس علة كل شيء، كما يشيع بين الناس، وإنما هو علة أشياء قليلة فحسب، على حين أنه ليس علة معظم ما يحدث للناس؛ إذ إن الخير في حياة البشر قليل والشر فيها كثير. فالخير ليس له من مصدر سوى الله، أما الشر فلنبحث له عن مصدر غيره.
– إن قولك ليبدو لي صحيحًا كل الصحة.
– وإذن، فليس لنا أن نقترف في حق الآلهة، استنادًا إلى هوميروس أو أي شاعر آخر، أخطاء كتلك التي يقول فيها:
ومثل قوله إن من وهبه زوس مزيجًا من الاثنين:
«يناله الخير تارة، ويلحقه الشر تارة أخرى.»
أما من لا يتجرع إلا كأس الشر صافيًا، فإن:
«الجوع الأليم يلحقه في رحاب الأرض الإلهية.»
وكذلك حين يقول:
فأجاب: إني لأتفق معك في هذا، وأنا على أتم استعداد لرفع صوتي مؤيدًا إصدار قانون بهذا المعنى.
– فليكن هذا إذن أول القوانين التي نَسنُّها بشأن الآلهة، وأولى القواعد التي يجب اتباعها فيما يرويه الناس من أقوال، وفيما يؤلفه الشعراء من أقاصيص، وأعني بهذه القاعدة أن الله ليس علة لكل شيء، وإنما علة الخير فحسب.
– إني مقتنع تمامًا بذلك.
– فلننتقل إلى القاعدة الثانية. أتظن الله ساحرًا ينصب لنا الفخاخ ويتبدى على صور متعددة، بحيث يظهر هو ذاته تارة متخذًا مختلف الأشكال، وتارة أخرى لا تظهر منه إلا أشباح خادعة واهمة؟ أليس الأحرى بنا أن نعتقد أنه كائن بسيط، لا يبدل أبدًا صورته الثابتة؟
– لن أستطيع أن أجيب عن سؤالك إلا بعد مزيد من التفكير.
– حسن، فلنبحث المشكلة على هذا النحو: إذا بدل كائن صورته، أليس من الضروري أن يكون هو ذاته الذي غير صورته، أو أن شيئًا آخر قد بدلها؟
– لا بدَّ أن يكون الأمر كما قلت.
– غير أن الأشياء في أحسن أحوالها تكون هي الأقل تعرضًا للتغير أو التحول نتيجة لتأثير شيء خارجي، أعني مثلًا أن أصح الأجسام وأقواها هو أقلها تأثرًا بأنواع اللحوم والمشروبات وبالمجهود، وأن أصلب النباتات أقلها تأثرًا بالرياح أو بحرارة الشمس أو بغيرها من التغيُّرات الطارئة.
– بلا شك.
(٣٨١) – فإن كنا بصدد النفس، أفلا تلاحظ أن أشجع النفوس وأحكمها هي أقلها انفعالًا واضطرابًا بفعل الأحداث الخارجية؟
– بلى.
– وإن المبدأ نفسه، على ما أعتقد، لينطبق على كل الأشياء المركبة. من أوانٍ وبيوت وثياب، فأكثرها متانة وأجودها صنعة هي أقلها تعرضًا للتغير والفساد بفعل الزمان وغيره من الظروف.
– هذا صحيح.
– وإذن فكل موجود كامل، سواء أتاه الكمال من الطبيعة أم من الصناعة أم من كلتيهما معًا، هو أقل الأشياء تعرضًا لما يطرأ عليه من الخارج من تغيرات.
– إنه لكذلك.
– ولكن لا شك أن الله، وكل ما يتصل به مطلق الكمال.
– هذا طبيعي.
– وهو لذلك أبعد الأشياء عن أن يتخذ صورًا عديدة بفعل عوامل خارجية.
– إنه لأبعدها عن ذلك ولا شك.
– ولكن، ألا يمكنه أن يغير ذاته ويحورها؟
– بلى، من غير شك، لو صح أنه يتغير على الإطلاق.
– ولكن هل سيغير ذاته، في هذه الحالة، إلى ما هو أكمل منها وأجمل، أم إلى ما هو أردأ وأقبح؟
– إن صح أنه يتغير على الإطلاق، فإن تغيره سيكون إلى ما هو أردأ بالضرورة؛ إذ لا نستطيع أن نقول إن الله يفتقر إلى أية مرتبة من مراتب الجمال والفضيلة.
– أصبت يا أديمانتوس. ولكن إن كان الأمر كذلك، أتظن أن أي كائن، إلهًا كان أم بشرًا، يرتضي لنفسه أن يخفض من قدره ويحط من مكانته؟
– هذا محال.
– وإذن فمن المحال أن يرضى الله بأن يتغير. ولمَّا كان المفروض أن كل إله أكمل وأجمل صورة ممكنة، فإنه يظل إلى الأبد محتفظًا بصورته الخاصة.
– يبدو لي أن هذا الأمر ضروري.
– فليحذرن ذلك بالفعل.
– ولكن إن لم تكن الآلهة تتغير في ذاتها، فربما كان في وسعها، بنوع من الخداع والسحر، أن توهمنا بأنها تتبدَّى على صور متعددة.
– ربما.
– عجبًا! أيكذب إله بالقول أو بالفعل، فيبدي لنا عوضًا عنه شبحًا؟
(٣٨٢) – لست أدري.
– ألا تدري أن الأكذوبة الحقيقية، إن جاز هذا التعبير، بغيضة إلى الآلهة والناس على السواء؟
– ماذا تعني؟
– لم أفهمك بعد.
– ذلك لأنك تأخذ كلماتي بمعنًى مُعقَّد إلى حد ما. ولكن كل ما أود أن أقوله هو أن الخداع إنما هو استقرار الجهل في نفس الشخص المخدوع، أي في أسمى أجزائه. فإن كان موضوع تلك الأكذوبة هو أرفع الموضوعات، كان ذلك أبغض الأمور إلى البشر.
– أجل، ليس أبغض إلى قلوبهم من هذا.
– وهذا الجهل في نفس المخدوع يمكن أن يُسمى، كما قلت منذ برهة، بالكذب الحقيقي؛ إذ إن الكذب الملفوظ ليس إلا تقليدًا وصورة خافتة لحالة في النفس أسبق منه، وليس كذبًا خالصًا. ألست على حق في ذلك؟
– هذا عين الصواب.
– وإذن فالأكذوبة الحقيقية بغيضة، لا إلى الآلهة فحسب، بل إلى البشر أيضًا.
– أما الأكذوبة الملفوظة، فقد تكون في بعض الأحيان نافعة، لا بغيضة. ومن أمثلة ذلك الكذب على الأعداء، أو حين يوشك أولئك الذين نعدهم أصدقاءنا على أن يرتكبوا عملًا طائشًا مدفوعين بالغضب أو بسوء الفهم. وعندئذٍ تكون للأكذوبة فائدتها، وتعد نوعًا من العلاج أو الوقاية. كذلك يكون للكذب فائدته في تأليف الأساطير التي كنا بصدد الكلام عنها، وذلك عندما نحاول، نتيجة لجهلنا بالوقائع الصحيحة في الماضي، أن نقرب الأكذوبة من الحقيقة بقدر ما في وسعنا، وبذلك تكون لها قيمتها وفائدتها.
– أجل، إني لأسلم بذلك.
– ولكن أتنطبق إحدى هذه الحالات على الله؟ أهو يجهل الماضي حتى يبتدع بخياله قَصصًا كاذبًا؟
– هذا محال.
– وإذن فلا مكان للأكاذيب الشعرية عند الله؟
– أبدًا.
– أم ترى أن خشية الأعداء هي التي تدفعه إلى الكذب؟
– هذا غير مقبول.
– فهل يكذب إذن بسبب غضب أصدقائه وجنونهم؟
– إن من يبلغ به الغضب حد الجنون لا يكون صديقًا للآلهة.
– وإذن، فليس من سبب يدعو الله أن يكون من الكاذبين.
– كلا، ليس هناك أي سبب.
– وعلى ذلك فكل ما هو إلهي مقدس يتعارض تمامًا مع الكذب؟
– أجل، كل التعارض.
– وإذن، فالله بسيط بساطة تامة، صادق في أفعاله وأقواله، لا يبدل ذاته أو يخدع أحدًا، لا بالأشباح ولا بالكلام، ولا بأمارات أو علامات يبعثها في الناس في منامهم أو يقظتهم.
(٣٨٣) فقال: إنك لتُعبِّر بذلك عن كل ما أودُّ أن أقوله.
فاستطردت: فأنت إذن متفق معي على أن القاعدة الثابتة التي يجب أن نلتزمها فيما نقوله أو نكتبه عن الأمور الإلهية هي ألا نصور الآلهة على أنها سحرة تبدل من صورها، أو تخدع البشر على أي نحو.
– إني لأتفق معك في ذلك.
تلك هي الطريقة التي تثير غضبنا في الكلام عن الآلهة، وهي التي لن نسمح بترديدها على الإطلاق، ولن ندع مربي الأطفال يستغلونها في تربية الصغار، إن شئنا أن يشب حراسنا على التقوى، ويتشبهوا بالآلهة بقدر ما تسمح به قوى الإنسان القاصرة.
– إني لأتفق معك تمامًا على هذه القواعد، وأعدك بأن أتخذها مبادئ لي أسير على نهجها.
وهي أسطورة بُدائية عن قيام كرونوس بشق السماء (أورانوس) والأرض Gala، وهما ولداه، وتمزيقه لأبيه، وقد انتقم زيوس، ابن كرونوس، بدوره من أبيه الذي حاول القضاء على أبنائه. وكانت القصة تُستخدم في تبرير حقوق الأبناء لوالديهم.