الكتاب الثالث
(٣٨٦) ثم قلت: تلك هي القواعد التي ينبغي أن نلتزمها في الأمور الإلهية؛ فلنصرح ببعض القصص، ولنمنع البعض الآخر من أن يصل إلى أسماع رجالنا منذ طفولتهم، إن شئنا أن يشبوا على تقوى الآلهة وتبجيل الآباء ومحبة الناس.
فقال: أعتقد أن هذه كلها مبادئ صالحة.
– ولكن، إن شئنا أن ينشئوا على الشجاعة، أولًا يجب أن نلقنهم إلى جانب تلك التعاليم، دروسًا أخرى تجنبهم رهبة الموت؟ أم تراك تظن أن المرء يظل شجاعًا مع خشيته الموت في كل ساعة؟
– كلا، لست أعتقد ذلك على الإطلاق.
– ولكن أيقتحم صفوف الموت بلا وجل، ويؤثر الموت على الهزيمة والأسر في المعركة، مَن كان يؤمن بأن الجحيم الأدنى حقيقة مخيفة مرعبة؟
– هذا محال.
– وإذن فلا بدَّ من أن نفرض رقابة على رواة هذا النوع من القصص، وأن نطلب إليهم أن يصوروا العالم الآخر بأجمل الصور، بدلًا من تلك الصورة الكالحة الكئيبة التي تشيع بيننا اليوم، ما دام قَصصهم لا ينطوي على نصيب من الحقيقة، ولا يُفيد أناسًا مهمتهم ممارسة الحروب.
– أجل، هذا ضروري من غير شك.
– فلنمحُ إذن أقوالًا عديدة، بادئين بتلك الأبيات القائلة:
وكذلك هذه الأبيات:
وعلينا أن نرجو هوميروس وغيره من الشعراء ألا يغضبوا إذا استبعدنا تلك الأقوال وما شاكلها، لا لأنها تفتقر إلى الجمال الشعري، أو لأنها لا تلقى من الناس آذانًا صاغية، وإنما لأنها كلما ازدادت إيغالًا في الطابَع الشعري، قلَّتْ صلاحيتها لسماع الأطفال والرجال الذين نودُّهم أن يحيَوا أحرارًا، يخشون الأسر أكثر مما يرهبون الموت.
– هذا هو رأيي بالضبط.
– الحق أن لهذا الخوف ما يبرره.
– وإذن فعلينا أن نستبعد هذه الأسماء.
– أجل.
– وأن نستبدل بها في حديثنا وأشعارنا أسماء ابتدعت بروح مخالفة لهذه تمامًا.
– هذا واضح.
– وهل نستبعد كذلك النواح والأنين الذي يقولونه على لسان عظماء الرجال؟
– هذا ضروري، ما دمنا قد اطَّرحنا الأقوال الأخرى.
– ولكن، لنتأمل في بادئ الأمر إن كان العقل يبرر هذا الاستبعاد. إنا لنسلم بأن الحكيم لا يعد الموت الذي يلحق بأي حكيم آخر صديق له أمرًا مخيفًا.
– أجل، إنَّا لنسلم بذلك.
– وإذن، فلن يحزن عليه وكأنه راح ضحية حادث أليم؟
– كلا بالطبع.
– غير أننا نسلم كذلك أنه لو كان مِن الناس مَن يكتفي بذاته بحيث يظل في وحدته سعيدًا، لكان ذلك هو الحكيم، الذي هو أقل الناس حاجة إلى الغير.
– هذا صحيح.
– وإذن، فهو أقل الناس تأثرًا بفقدان ابن أو أخ أو ثروة أو ما شابهها.
– بالتأكيد.
– وعلى ذلك فهو أقلهم نواحًا إن أَلمَّ به حادث كهذا، وهو أقدرهم على تحمُّله برباطة جأش.
– أجل، إن تأثره بمثل هذه الأحداث أقل بكثير من كل من عداه.
(٣٨٨) – وإذن فسنكون على حق لو جنبنا عظماء الرجال ذلك العويل، والنحيب، وتركناه للنساء — ولكن ليس للكريمات منهن أيضًا — ولجبناء الرجال، حتى يشب أولئك الذين نربيهم من أجل حراسة وطنهم على احتقار مثل هذا الضعف والخَوَر.
– هذا عين الصواب.
ذلك بأن شباب مدينتنا لو صدَّقوا، يا أديمانتوس العزيز، هذه الأقوال بدلًا من أن يسخروا منها بوصفها ميوعة لا تليق بالآلهة، فسيكون من الصعب عليهم — وهم بشر على أية حال — أن يعتقدوا بأن هذه الأعمال لا تليق بهم، أو أن يحاولوا كبح جماح أي ميل يثير في نفوسهم مشاعر وأقوالًا كهذه، وإنما سيستسلمون للنحيب والشكوى لأتفه الأسباب بلا خجل.
– تلك بالضبط هي الحقيقة.
– على أن هذا أمر ينبغي ألا يكون، بناء على ما ذكرت من الحُجج، وهي حجج نستطيع أن نرتكن إليها إلى أن يقدم إلينا ما هو خير منها.
– أجل، هذا أمر ينبغي ألا يكون.
– كما ينبغي ألا يغرق حراسنا في الضحك؛ إذ إن الإغراق في الضحك يؤدي عادة إلى رد فعل عنيف في النفس.
– هذا رأيي أيضًا.
– وعلى ذلك فليس لنا أن ندع أحدًا يصور لهم عظماء الرجال ناهيك بالآلهة، (٣٨٩) كما لو كانوا عاجزين عن مقاومة الضحك.
– أجل، إن الآلهة لأرفع من ذلك دون شك.
– أجل، إن كنت أنا مصدر هذا المبدأ، على أية حال، فهذا أمر غير مقبول.
– على أن للحقيقة أيضًا نصيبها في تقديرنا. فلو كانت الأكذوبة، كما قلنا، معدومة الجدوى بالنسبة إلى الآلهة، ولا تفيد إلا البشر بوصفها دواء لهم، فإن وصف هذا الدواء ينبغي أن يقتصر على الأطباء، أما الأفراد فليس لهم به شأن.
– هذا واضح.
– فإذا ما أبيح لأحد أن يكذب، فينبغي ألا يكون ذلك إلا لحكام الدولة. فلهؤلاء وحدهم الحق في خداع الأعداء أو المواطنين إذا اقتضى الصالح العام ذلك. ولكن على الرغم من أننا نبيح الكذب للحكام، فيجب أن نَعُد مَن يكذب مِن الرعايا على حكامه آثمًا، بل أكثر إثمًا من المريض الذي يخدع طبيبه، أو تلميذ المدرسة الذي يُخفي على أستاذه في الرياضة البدنية عيوبه الجسمية، أو الملَّاح الذي لا يدلي لقائد السفينة بحقيقة ما يجري في السفينة وبين ملاحيها، وما يفعله هو وبقية زملائه.
– هذا صحيح كل الصحة.
– وإذن، فلو تبين للحاكم أن هناك من يكذب.
– هذا ضروري، إذا ترتبت على أقواله هذه أفعال ضارة.
– ولكن أترى الاعتدال لازمًا لصغارنا الناشئين؟
– بلا شك.
– على أن الصفات الأساسية للاعتدال هي في نظر معظم الناس إطاعة الحكام وتحكم المرء في رغباته في المأكل والمشرب والحب.
– هذا صحيح.
– أجل.
– كلا.
– إنها أقوال لا تؤدي مطلقًا بالشباب إلى الاعتدال، وإن كانت تهدف إلى إشاعة التسلية بينهم. غير أن ضررها لهم واضح، فما رأيك؟
– إني لأتفق معك في هذا.
– كلا، إني أصر على أنه لا يجوز سماعهم لمثل هذه الأشياء.
إن لك كل الحق في هذا.
– كما ينبغي، من جهة أخرى، ألا ندع الحراس يتلقَّون هدايا أو يحرصون على جمع الأموال.
– كلا بالطبع.
(٣٩١) – لا شك أن هذه صفات لا تستحق المديح.
– لقد أصبت في كل هذا.
– هذا أمر لا سبيل إلى الشك فيه.
– ثم إن لهذه الآراء خطرها على كل مَن يستمع إليها؛ إذ إن المرء سيلتمس ولا شك عذرًا لشروره، إذا اقتنع بأنه إنما يفعل كما يفعل.
– هذا ما ينبغي علينا أن نفعله.
– ولكن ما دمنا نحدد فئات الأفراد لنتبين ما ينبغي أن يقال وما لا ينبغي أن يقال عن كل منها، فلنبحث فيما إذا كنا قد تجاوزنا وتعدينا إحداها. لقد تكلمنا إلى الآن عن الطريقة التي يجدر بها ذكر الآلهة وأنصاف الآلهة والأبطال وسكان العالم الأدنى.
– لا شك أنه بقيت أمامنا فئة.
– أليست هي فئة البشر؟
– بالضبط.
– غير أن موقفنا الآن، أيها الصديق العزيز، لا يسمح لنا بعد بخوض هذه المسألة.
– ولم؟
– ذلك لأننا لو تعرضنا لهذه المسألة، فسوف نجد، على ما يبدو لي، أن الشعراء والناثرين قد اقترفوا أشنع الأخطاء حين أكدوا لنا أن أشرارهم سعداء، وأخيارهم تعساء، وإن للظلم المستتر نفعه، أما العدالة فلا عاقبة لها إلا الغُرم لصاحبها والغُنم للغير. تلك كلها أمور سنحرم عليهم قولها، ونجبرهم على أن يكتبوا عكسها.
– أجل، هذا واجب.
– ولكنك لو سلمت بأنني على حق في هذا، لكان لي أن أؤكد أنك قد وافقت على ما كنا بصدد بحثه منذ البداية.
– إن حدسك لمصيب.
– وإذن، فالانتهاء إلى رأي عما يجب أن يقال وما يجب ألا يقال عن الناس، هو أمر لا يمكننا تحديده إلا بعد أن نعرف ما العدالة وكيف تفيد صاحبها، سواء أكان يشتهر بها أم لم يكن.
– هذا عين الصواب.
– والآن، حسبنا هذا عن الشعر، ولنتكلم الآن عن الأسلوب، فإذا ما انتهينا منه، نكون قد فرغنا من بحث المادة والشكل معًا.
فقال أديمانتوس: لست أفهم ما تعنيه.
– لا بدَّ لك من فهم هذا الموضوع، وربما ازداد الأمر وضوحًا في نظرك لو عرض على النحو الآتي: إنك لتعلم أن كل الأساطير والأشعار ليست إلا سردًا لأحداث وقعت في الماضي، أو تقع في الحاضر، أو ستقع في المستقبل.
فأجاب: إن الأمر لا يمكن أن يكون على خلاف ذلك.
– والسرد قد يكون مجرد سرد، أو تصوير وتمثيل، أو كليهما معًا.
– ما زلت أطلب منك مزيدًا من التفسير لهذه المسألة.
– أجل.
– هذا صحيح.
– وإذن فحديث الشاعر يكون سردًا حين يقص الحوادث من آنٍ لآخر. أو حين يصف ما يتخللها من وقائع.
– تمامًا.
– أما حين يتكلم بلسان شخص آخر، فإنه يتشبه بتلك الشخصية التي يقدمها إلينا على أنها هي المتحدثة.
– بالتأكيد.
– وهذا التشبه بغيره، سواء في الكلام وفي الحركات، أليس محاكاة لمن يتقمص الشاعر شخصيته؟
– بلا شك.
– وإذن فهوميروس وبقية الشعراء يلجَئون إلى المحاكاة فيما يروونه.
– بالتأكيد.
– لقد فهمت الآن ما تعنيه.
– ولتعلم أيضًا أن للسرد نوعًا آخر على عكس النوع الأول، فيه يحذف الشاعر الكلام الذي يفصل بين الحوار، فلا يتبقى إلا الحوار ذاته فقط.
– إني لأفهم ذلك أيضًا، فتلك هي صورة المأساة الشعرية (التراجيديا).
– لقد فهمت الآن ما أرمي إليه تمامًا. وأعتقد أنك تدرك الآن بوضوح ما لم يكن في وسعي أن أوضحه لك منذ برهة؛ ألا وهو أن الشعر والأساطير قد يكونان في بعض الأحيان للمحاكاة فقط، ومن أمثلة ذلك المأساة والهزلية الشعرية، وقد يكونان سردًا يرويه الشاعر ذاته، كما في المدائح. والنوع الثالث مزيج من الأولين، وهو الذي يتمثل في الملاحم وفي أنواع متعددة أخرى. أتراك تدرك ما أعنيه؟
– أجل، إني لأفهم كل ما قلت.
– وأنت تذكر ما قلناه من أنه قد بقي أمامنا بحث الأسلوب، بعد أن فرغنا من بحث المضمون.
– إنني لأذكر ذلك.
– على أنني حين قلت ذلك، كنت أعني أننا لا بدَّ أن نتفق على رأي في فن المحاكاة، وعما إذا كان لنا أن نسمح للشعراء بأن يلجَئوا إلى المحاكاة في رواية قصصهم، وإذا سمحنا لهم بذلك فهل تكون محاكاتهم كاملة أو جزئية، وإذا كانت جزئية، فما الذي يجوز لهم أن يحاكوه، أم أن من الواجب منع المحاكاة منعًا باتًّا؟
– إن في وسعي أن أتصور ما تهدف إليه، وهو: هل يجوز لنا أن نصرح بالمأساة والهزلية الشعرية في دولتنا، أو نحظرها؟
– هذه خطة سديدة.
– فلننظر الآن يا أديمانتوس فيما إذا كان لحراسنا أن يبرعوا في المحاكاة أم لا. ولكن، ألم يتقرر جواب هذا السؤال في تلك القاعدة التي انتهينا إليها من قبل، ألا وهو أن المرء يستطيع أن يحسن أداء عمل واحد فقط، لا عدة أعمال، وأنه إن حاول الجمع بين عدة حرف، فلن يشتهر بإجادة أي منها؟
– بلا شك.
– وهذا يصدق أيضًا على المحاكاة. فليس في وسع أحد أن يحاكي عدة أشياء بنفس المهارة التي يحاكي بها شيئًا واحدًا.
– كلا بالتأكيد.
(٣٩٥) – وبالأحرى، لن يستطيع الشخص الواحد أن يؤدي وظيفة جديدة في الحياة، ويحاكي في الوقت نفسه عدة أشياء بمهارة. ما دمنا قد رأينا أنه حتى في نوعين متقاربين من المحاكاة، كالمأساة والهزلية الشعرية، لا يستطيع نفس الشاعر أن يمارسها معًا ببراعة. ألم ندخل الاثنين منذ قليل في باب المحاكاة؟
– أجل، وأنت على صواب حين ترى الجمع بينهما بنجاح مستحيلًا.
– وبالمثل لا يستطيع المرء أن يكون شاعرًا قصاصًا وممثلًا ناجحًا في الوقت نفسه؟
– هذا صحيح.
– وكذلك لا يمكنه الجمع بين التمثيل الجدي والهزلي، وأن تكون كل هذه الأشياء داخلة في باب المحاكاة، أليس كذلك؟
– بلى.
– بل إنه ليخيل إليَّ يا أديمانتوس أن الموهبة البشرية موزعة على أجزاء أدق وأصغر حتى من هذه، بحيث يستحيل إجادة محاكاة عدة أشياء، ناهيك بأداء الأفعال التي يُعبِّر عنها المرء في محاكاته.
– هذه هي الحقيقة.
– فإن شئنا إذن أن نتمسك بالمبدأ الذي وضعناه في بادئ الأمر، وهو أن ينصرف حراسنا عن كل المشاغل، ويتفرغوا للسهر على رعاية الحرية في الدولة، وأن يكرسوا كل جهودهم لهذا الغرض ويتجاهلوا كل ما عداه، فمن الواجب ألا يمارسوا أو يحاكوا أي شيء آخر. أما إن كان من الضروري أن يحاكوا شيئًا ما، فلتكن محاكاتهم للصفات التي ينبغي أن يتحلوا بها منذ نعومة أظفارهم، كالشجاعة والاعتدال والتقوى والكرم، وكل ما شابهها من الخلال. ولكن يتعين عليهم ألا يمارسوا أو يحاكوا الوضاعة الأخلاقية أو أية نقيصة أخرى، فلا ينتقلوا من هذه المحاكاة إلى التطبع الفعلي بتلك الرذائل. ولعلك أدركت أن المحاكاة إذا ما بدأت منذ الطفولة ودامت فترة طويلة في الحياة، فإنها تنتهي إلى أن تصبح عادة وتصير طبيعة ثانية تؤثر في الجسم والعقل والرُّوح.
– بالتأكيد.
– وإذن، فلن ندع أولئك الذين نُعنى بهم ونعمل على غرس الفضيلة في نفوسهم، والذين هم قبل كل شيء رجال، لن ندعهم يحاكون امرأة، شابة كانت أم مسنة، تعنف زوجها أو تتطاول على الآلهة غرورًا بنفسها، أو تندب حظها العاثر، وتستسلم للعويل والنحيب. ولا جدال في أننا لن ندعهم يحاكونها وهي مريضة، أو وهي تحب أو تلد طفلًا؟
– كلا، بلا شك.
– كذلك ينبغي ألا يحاكوا العبيد، ذكورًا كانوا أم إناثًا، في أحوال عبوديتهم.
– ولا العبيد أيضًا.
– ومحال أن يحاكوا أشرار الناس وجبناءهم، وهم الذين يسلكون على عكس القواعد التي وضعناها من قبل، والذين يتشاجر بعضهم مع البعض أو يسخر منه، (٣٩٦) أو يأتون سويًّا أعمالًا مخجلة، سواء في سكرتهم وفي صحوهم. ولا كل الأفعال والأقوال التي يحط بها هؤلاء الناس من قدر أنفسهم وغيرهم. وينبغي ألا يعتادوا تقليد لغة المخبولين من الرجال أو النساء أو أفعالهم؛ إذ إن الجنون كالرذيلة، مما يجب معرفته، ولكن ينبغي عدم ممارسته أو محاكاته.
– هذه هي الحقيقة.
– وهل تريدهم أن يحاكوا الحدادين أو غيرهم من الصناع، أو البحارة أو صناع السفن أو غيرهم من أصحاب الحرف.
– وكيف نسمح لهم بذلك وقد حرمنا عليهم أن يضيعوا أوقاتهم في أية حرفة من هذه؟
– كلا. فما دام الجنون محرمًا، فكذلك تحرم محاكاة أفعال المجانين.
فاستطردت: إنك إذن تعني، إن كنت قد أصبت فهمك، أن الرجل الفاضل بالمعنى الصحيح يُعبِّر عن معانيه ويروي ما يود أن يقوله بطريقة مُعيَّنة، وأن هناك طريقة أخرى تختلف عنها كل الاختلاف، هي التي يُعبِّر بها من كانت نشأته وتربيته على نقيض الرجل الخيِّر؟
– وما هاتان الطريقتان؟
– هب أن رجلًا فاضلًا قد أتى خلال حديث يرويه على ذكر قول أو فعل لرجل فاضل آخر، فإنه سيوافق، على ما يبدو لي، على أن يتقمص شخصيته، ولن يستحيَ من هذه المحاكاة، ولا سيما إذا تعلق الأمر بفعل حازم حكيم منسوب إلى من يحاكيه. غير أن ترحيبه بالمحاكاة يقل إن كان من يحاكيه مريضًا أو عاشقًا، أو ثملًا أو مصابًا بأي داء آخر. ولكن إذا ما صادف في حديثه أية شخصية لا تليق به، فلن يحاكيها، بل سيحتقرها، وإذا ما تشبه بها فلن يكون ذلك إلا في لحظة خاطفة، يكون فيها هذا الشخص قد أدى فعلًا نبيلًا. وحتى في أمثال هذه الحالات نراه يخجل من نفسه؛ لأنه لم يعتد أن يحاكيَ هذا النوع من الناس، ولأنه يقاسي من الانحطاط بنفسه إلى هذا الدرك الأسفل.
وهو على أية حال يحتقر المحاكاة ولا يرى فيها إلا مسلاة فحسب.
– من الطبيعي أن يكون هذا موقفه من المحاكاة.
– وهكذا يلجأ إلى طريقة في السرد مماثلة لتلك التي صورناها من قبل حديثنا عن هيوميروس، ويكون عرضه لحديثه مزيجًا من المحاكاة والسرد البحت. غير أن السرد يغلب لديه على المحاكاة. أتوافقني على هذا الرأي؟
– أجل، ذلك هو الأنموذج الذي ينبغي أن يكون عليه كل متحدث.
(٣٩٧) – وعلى ذلك، فكلما ازداد الشر تأصلًا في طبيعة المتحدث، المغاير لمثلنا الأول، ازداد ميلًا إلى المحاكاة. وهو حينئذٍ لا يعتقد أن هناك شيئًا يعلو عليه، ولذا لا يستحي من محاكاة كل شيء أمام أعظم جمعٍ من الناس، فيحاكي كل ما ذكرناه من قبل، كقصف الرعد وهزيم الرياح وأصوات المطر والعجلات والأبواق والمزامير وما عداها من الآلات، بل أصوات الكلاب والخراف والطيور. فحديثه كله ينصب على محاكاة الأصوات والحركات، ونادرًا ما يمتزج ذلك الحديث بالسرد.
– أجل، تلك هي طريقته في الحديث.
– فهذان إذن هما نوعا الحديث اللذان كنت بصدد الكلام عنهما.
– أجل.
– وإنك لتتفق معي على أن الأول بسيط لا يتضمن إلا تنوعًا طفيفًا. فإذا ما أضفى المتحدث على أقواله ما يلائمها من النظم والإيقاع، فسيظل سائرًا على نفس الوتيرة، متبعًا نفس الوزن من النغم؛ إذ إن التغيُّرات طفيفة، وكذلك سيظل الإيقاع على وجه التقريب متماثلًا.
– هذا صحيح.
– أما النوع الآخر فيقتضي، على العكس من ذلك، كل أنواع الأنغام والإيقاع كيما يتناسب أسلوبه مع موسيقاه؛ إذ إن الأسلوب في هذه الحالة يتنوع إلى أبعد حد.
– هذا أيضًا صحيح كل الصحة.
– على أن كل شاعر، وكل متحدث على الإطلاق، يلتزم إما النوع الأول من الأسلوب، وإما النوع الثاني، أو مزيجًا منهما معًا.
– هذا ضروري.
فاستطردت: وإذن، فهل نصرح في دولتنا بهذين النوعين، أم بأحدهما، أم بمزيج منهما؟
– الحق أنني أوثر السرد البسيط الذي يحاكي الفضيلة.
– أجل يا أديمانتوس، ولكن للأسلوب الجامع بين النوعين روعته بدوره. ولتلاحظ أن الأسلوب الذي يروق الأطفال ومربيهم ومعظم الناس هو النوع المضاد لذلك الذي آثرته.
– إنني لا أنكر ذلك.
– على أني أظنك سترد بأن هذا الأسلوب لا يتفق وحكومتنا؛ إذ إن طبيعة البشر فيها ليست مزدوِجة ولا متعددة الأوجه، ما دام لكلٍّ وظيفةٌ واحدة فحسب.
– أجل، إنه لا يتفق مع دولة كهذه.
– ولهذا كان من خصائص دولتنا وحدها أن الحذَّاء فيها حذَّاء فحسب، وليس ملاحًا في الوقت نفسه. وأن الزارع زارع فقط، وليس قاضيًا في الوقت ذاته. وأن الجندي جندي وليس تاجرًا كذلك. وكذا الأمر في الجميع.
– هذا صحيح.
(٣٩٨) – وعلى ذلك فإن ظهر في دولتنا رجل بارع في محاكاة كل شيء، وأراد أن يقدم عرضًا لأشعاره على الناس، فسوف ننحني تبجيلًا له، وكأنه كائن مقدس معجز رفيع؛ إذ إن القانون يحظر ذلك. وهكذا سنرحله، بعد أن نسكب على وجهه العطر ونزين جبينه بالأكاليل، إلى دولة أخرى. إذ إننا نود أن يكون شعراؤنا أكثر خشونة وصرامة، لا يحاكون إلا أسلوب الفضلاء، ولا يسترشدون إلا بالقواعد التي فرضناها منذ البداية، حين شرعنا في وضع برامج تعليم محاربينا.
– أجل، هذا ما سنفعله لو صادفنا شخصًا كهذا.
فقلت: وهكذا ننتهي الآن أيها الصديق، من الكلام عن ذلك القسم من الموسيقى أو التربية الأدبية، المتعلق بالقصص والأساطير، ما دمنا قد عالجنا منه المادة والصورة معًا.
فقال: أظن أننا انتهينا منه بالفعل.
الإيقاعات والأنغام المباحة في التعليم
فاستطردت قائلًا: أما في القسم التالي، فسنعالج طبيعة الغناء والنغم.
– هذا واضح.
– ولا شك أن في وسع أي شخص أن يهتدي في الحال إلى ما يجب قوله عنهما، وعلى أي نحو ينبغي أن يكونا، كيما يلائما القواعد التي وضعناها في أول الأمر.
وهنا ضحك جلوكون قائلًا: أخشى يا سقراط ألا أكون من بين من تنطبق عليهم كلمة «أي شخص» هذه؛ إذ إنني لا أستطيع أن أحدد على التو ما ينبغي أن يكون عليه الغناء والنغم، وإن كنت أستطيع أن أخمن على نحو ما.
فقلت: إن هناك، على أية حال، نقطة نستطيع أن نعرفها بسهولة؛ ألا وهي أن للأغنية أو الأنشودة عناصر ثلاثة: الكلمات، واللحن، والإيقاع.
فقال: إلى هذا الحد أستطيع أجيب بالإيجاب.
– فمن حيث الكلمات، لن يكون هناك أي فرق بين الكلمات التي تلحن وتلك التي لا تلحن، ما دام من الضروري أن تتبع القواعد التي حددناها من قبل، وتخضع لنفس القوانين.
– هذا صحيح.
– وأما عن اللحن والإيقاع، فلا بدَّ أن يخضع للكلمات.
– بلا شك.
– على أننا حين تكلمنا في موضوع الشعر، قلنا إنه ليست بنا حاجة إلى النواح والأنين.
– هذا صحيح.
– فما هي إذن أنواع اللحن النائحة المنتحبة؟ إنك موسيقي وفي وسعك أن تجيب.
– إنه الليدي المختلط والحاد، والليدي الممتلئ أو الخفيض وما شاكلهما.
– حسن! ألا ينبغي استبعاد هذين النوعين من اللحن؟ إن أثرهما لضار على النساء اللاتي يردن التمسك بالرزانة، فما بالك بالرجال؟
– إنها لضارة بلا شك.
– ولنقل بعد هذا إنه ما من شيء يسيء إلى حراسنا كالثمالة والليونة والكسل.
– بلا جدال.
– فما هي الأنغام اللينة أو الثملة؟
– إنها الأيونية والليدية، التي تسمى بالأنغام «المسترخية».
(٣٩٩) – حسن أيها الصديق. فهل ترى لها من نفع للمحاربين؟
– إنني لست خبيرًا بالألحان، غير أني لا أودُّ أن تُعبِّر الموسيقى إلَّا عن الأنغام التي تحاكي رجلًا شجاعًا خاض معمعة أو انغمر في أيِّ عمل عنيف، ثم غلب على أمره، فسار وهو مُثخَن بالجراح مُهدَّد بالموت أو لحِق به أيُّ مكروه، وكان في كل هذه المِحن يتلقَّى ضربات القدر بقلب ثابت وعزم لا يلين. ولتكن هناك أنغام أخرى تحاكي رجلًا مُنهمِكًا في عمل سلمي حر خلا من كل عنف، يستعين على قضاء حاجته بالصلاة والابتهال إلى الله، أو يقنع الناس بالمعرفة والنصيحة، أو العكس من ذلك، ينتصح بآراء الناس أو توسلاتهم أو تعاليمهم، ويبلغ أغراضه بالحكمة، فلا يركبه الغرور لنجاحه، وإنما يتصرف في كل أموره بحكمة واعتدال، ويكيف نفسه تبعًا للظروف. هاتان الطريقتان في التعلم، وهما اللتان تمثل إحداهما الضرورة والأخرى الحرية. وتُعبِّران خيرَ تعبير عن الشجاعة في تحمُّل الشقاء والحكمة والرزانة في أوقات الرخاء، هاتان هما الطريقتان اللتان أود أن نصرح بهما في دولتنا.
– ولكن هاتين الطريقتين، اللتين تود أن تُبقي عليهما، هما بعينيهما الدورية والفريجية، اللتان ذكرتهما منذ قليل.
– وإذن، فلن يكون علينا إلا أن نصنع من أجل أناشيدنا وألحاننا آلات ذوات أوتار متعددة، وتؤدي كل الأنغام.
– هذا واضح.
– ولن نكون بحاجة إلى صناع العود المثلث الأركان، أو إلى سلالمه المعقدة، أو إلى فن أولئك الذين يصنعون غيره من الآلات المتعددة الأوتار والمعقدة التركيب؟
– كلا بالتأكيد.
– وهل نفتح أبواب مدينتنا لصناع المزامير وعازفيها؟ أليس المزمار هو الآلة التي تعزف أكبر قدر ممكن من الأنغام، بل إن الآلات التي تؤدي كل الأنغام ليست في ذاتها إلا تقليدًا للمزمار.
– هذا واضح.
– وإذن، فلن نستعمل في مدينتنا سوى العود والقيثارة، ولن نترك للرعاة سوى مزمار ريفي بسيط.
– تلك بلا شك نتيجة تلزم عما قلناه من قبل.
– وعلى ذلك، فليست هناك من غرابة في إيثارنا أبولو وآلاته على مارسياس وآلاته.
– كلا، ليس ذلك بغريب على الإطلاق.
– فهتفت: عجبًا! إننا بذلك نكون قد طهَّرنا مدينتنا من الترف الذي قلنا من قبل إنه تفشى فيها.
– أجل، وفعلنا ذلك بحكمة.
– حسن، فلنُتم عملية التطهير؛ فبعد الأنغام، يتبقى أمامنا الإيقاع. وعلينا أن (٤٠٠) نخضعه بدوره لنفس المبادئ؛ إذ ليس لنا أن نلجأ إلى إيقاعات متباينة أو أوزان من كل نوع، وإنما ينبغي أن تكون إيقاعاتنا ملائمة لحياة الاعتدال والشجاعة. فإذا ما اهتدينا إليها، كان علينا أن نجعل الأنغام والأوزان ملائمة للكلمات التي تُعبِّر عن هذا النوع من الحياة، لا أن نجعل الكلمات ملائمة لأي نوع من الأنغام والأوزان.
أما الإيقاعات التي تتوافر فيها تلك الشروط، فعليك أنت بيانها، كما فعلت في الأنغام.
– الحق أنني لا أدري ماذا أقول. وكل ما أعلمه هو أن للإيقاع أنواعًا ثلاثة، منها تشتق الأوزان المختلفة، مثلما أن للأنغام أنواعًا أربعة تشتق منها كل الألحان، أما الصفات التي يمثلها كل إيقاع، ونوع الحياة التي يعبر عنها، فهذا ما لا علم لي به.
– بكل تأكيد.
– ولكن ها هي ذي نقطة لن يصعب علينا معالجتها، ألا وهي أن الرشاقة أو انعدامها يتوقفان على جمال الإيقاع أو قبحه.
– بلا شك.
– غير أن الإيقاع الجميل أو القبيح والرديء يتمشيان دائمًا مع الأسلوب الجيد أو الرديء، وكذلك يتمشى الانسجام والنشاز مع الأسلوب عادة؛ إذ إن المبدأ الذي اتبعناه هو أن يخضع اللحن والإيقاع للكلام، لا الكلام لهما.
– حقًّا، لا بدَّ أن يخضعا للكلام.
– ولكن ألا يتوقف الكلام والأسلوب على طبيعة النفس؟
– من غير شك.
– وكل ما ذكرناه من قبل يتوقف على الأسلوب؟
– أجل.
– وإذن، فجمال الأسلوب والانسجام، والرشاقة، والإيقاع الجيد، كل ذلك يتوقف على بساطة النفس، أعني البساطة الحقة، التي تتصف بها روح تجمع بين الخير والجمال، لا تلك البساطة التي لا تُعبِّر إلا عن البله، على الرغم مما قد يضفيه الناس عليها من أسماء رنانة.
– هذا عين الصواب.
– وهلا يتعين على فتياننا أن يقتدوا بهذه الصفات، إن شاءوا أن يؤدوا رسالتهم على أكمل وجه؟
(٤٠١) – أجل، ينبغي عليهم ذلك.
– ولا شك أن تلك الصفات تتبدى في فن التصوير وكل فن إبداعي آخر — كالنسج والتطريز، والعمارة، وكل أنواع الصناعات — كذلك تتبدى في طبيعة مختلف الحيوانات والنباتات، فكلها تتصف إما بالانسجام وإما بالنشاز والتشويه. ولا شك أن الافتقار إلى الرشاقة وإلى الإيقاع والانسجام، يقترن بانحطاط التعبير والتفكير وسوء الطبع، أما الصفات المقابلة، فتتمشى مع الطبائع المضادة، أي الحكمة والفضيلة.
– هذا عين الصواب.
– وإذن، فلن يتعين علينا أن نراقب عمل الشعراء وحدهم، ونحملهم على التعبير في أشعارهم عن مظاهر الصفات الحميدة وحدها، وإلا منعناهم عن ممارسة عملهم في مدينتنا منعًا باتًّا، وإنما الواجب أن نراقب أيضًا بقية الفنانين، ونحرم عليهم محاكاة الرذيلة والتهور والوضاعة والخشونة سواء في تصوير الكائنات الحية، وفي العمارة، وفي كل ضروب الصور. وإلا منعناهم من العمل في مدينتنا إن لم يطيعوا أوامرنا، أو ليس علينا أن نخشى من أن يشب حراسنا بين صور الرذيلة، وكأنهم يشبون في مرعًى فاسد يتناولون فيه كل يوم، بمقادير بسيطة، ولكنها منتظمة، سموم حشائش كثيرة سامة، فتمتلئ نفوسهم تدريجيًّا، دون أن يشعروا، بقدر كبير من الفساد. أولا يجب على العكس من ذلك، أن نسعى إلى الفنانين الذي تهديهم غريزتهم إلى الاقتداء بكل ما هو جميل متناسق، كيما يجني الناشئون، الذين يقيمون في بيئة صالحة، الخير من كل ما يحيط بهم، ويتأثروا بكل الأعمال الطيبة التي تتبدى لأعينهم وآذانهم وكأنها نسيم يجلب معه العافية من مناطق صحية، ويوجههم منذ نعومة أظفارهم، دون وعي منهم، نحو حب الجمال ومحاكاته والسعي إلى الانسجام الكامل معه؟
– لست أرى منهجًا للتنشئة خيرًا من هذا.
فاستطردت قائلًا: ومن هنا كانت الأهمية القصوى للموسيقى في التعليم؛ ذلك لأن الإيقاع والانسجام قادران على التغلغل في النفس والتأثير فيها بعمق، وهما يزينان النفس بما فيهما من جمال، وذلك إذا ما تم تعليمهما كما ينبغي، على حين أنهما يقبحانها إذا أسيء تعليمهما. وفضلًا عن ذلك فالتعليم الموسيقي إذا ما أُحسن أداؤه، يُتيح للنفس أن تكشف مظاهر النقص والقبح فيما يبتدعه الفن وتخلقه الطبيعة، فيتأثر بهذا الكشف بحيث يشيد بما يراه من مظاهر (٤٠٢) الجمال، ويتقبلها في نفسه مسرورًا، فيجعل منها غذاءه، ويغدو رجلًا خيرًا، ويحمل من جهة أخرى على الرذائل، ويمقتها منذ نشأته، قبل أن يستطيع التفكير فيها بعقله. وعندما يكتمل لديه العقل، يدركها ويتعرف عليها كأنها قريبة منه مألوفة لديه؛ إذ إن ما تعلمه من الموسيقى ييسر له التعرف عليها.
فقال: إنني أوافق على أن هذه هي المزايا التي تعود على المرء مِن تعلُّم الموسيقى.
فاستطردت قائلًا: وأنت تعلم أننا عندما نتعلم القراءة، لا نعتقد أننا قد أصبحنا نجيدها إلا عندما نتعلم تمييز الحروف، على قلتها، في جميع تركيباتها، ولا نتجاهل أي حرف منها بحُجة أنه قليل الأهمية، مهما كان من تفاهة اللفظ الذي يوجد فيه، وإنما نتعلم تمييز الحروف أينما كانت؛ إذ إن هذه في نظرنا هي الوسيلة الوحيدة التي تؤدي بنا إلى إجادة القراءة.
– هذا صحيح.
– فإذا ما تبدت صور الحروف على صفحة الماء أو في مرآة، فلن نعرفها إلا إذا كنا قد عرفنا الحروف ذاتها. ما دامت الخبرة والدراسة اللازمة واحدة في الحالتين.
– هذا عين الصواب.
– من الضروري أن يكون الأمر كذلك.
– وعلى ذلك، فإن وجد شخص يجمع بين كرم الخصال في نفسه، وبين ملامح في مظهره تتفق وتنسجم مع هذه الخصال، وتحمل نفس الطابَع، ألا يكون أجمل ما يمكن أن تقع عليه الأنظار؟
– بالطبع.
– ولكن الأجمل هو كذلك الأحب إلى القلوب؟
– بلا جدال.
– وإذن، فإن مَن تعلَّم الموسيقى سيُحب أولئك الذين تحقق لهم هذا الانسجام على خير نحو ممكن، ولكنه لن يحب أبدًا من كان يفتقر إليه.
– كلا، على الأقل إن كان العيب في نفوسهم، أما إن كان العيب جسميًّا فحسب، فلن ينقطع حبه لهم.
– لقد فهمت ما تعنيه، فقد قلت هذا لأنك تحب أو أحببت شخصًا معينًا كذلك الذي تتحدث عنه، ولست ألومك على هذا. ولكن خبرني هل يتفق الإفراط في اللذة مع الاعتدال؟
– كيف يكون ذلك وهو يؤذي النفس بأكثر ما يؤذيها الألم؟
– وهل هو يتفق مع الفضيلة عامة؟
– كلا.
– وإذن، فهو أكثر اتفاقًا مع العنف والتهور؟
– أكثر مما يتفق مع أي شيء آخر.
– ولكن أفي وسعك أن تنبئني بلذة أعظم وأقوى من لذة الحب؟
– كلا، ليس هناك ما هو أقوى منه.
– وعلى العكس من ذلك، نجد الحب المعتدل حبًّا حكيمًا يتفق مع النظام والجمال؟
– يقينًا.
– وإذن، فمن الواجب أن يصان الحب من الجنون أو التهور المفرط.
– أجل.
– أي إن من الواجب ألا ندعهما يفسدان لذة الحب، أو يكون لهما أي محل في عَلاقات المحب ومحبوبه؟
– كلا يا سقراط، فمن الواجب إبعادها عنه تمامًا.
– وإذن، فالنتيجة في نظري واضحة؛ فعليك أن تفرض في الدولة التي نبنيها قاعدة هي أن على المحب أن يقبل محبوبه ويقترب منه ويمسه وكأنه ولده، مستهدفًا غرضًا شريفًا، وذلك إذا أمكنه اكتساب قلبه. ومن الواجب على وجه العموم ألا يكون في عَلاقته مع ذلك الذي يعني به ما يدع مجالًا للشك في أنها قد تتطرف وتتجاوز هذا الحد، حتى لا يُرمى بسوء التربية وفساد الذوق.
– إنك لعلى حق في هذا.
– أوَلا ترى الآن أن مناقشتنا حول الموسيقى قد بلغت غايتها؟ لقد انتهت — على الأقل — حيثما كان ينبغي لها الانتهاء؛ إذ إن الموسيقى لا بدَّ أن تؤدي في النهاية إلى حب الجمال.
– ذلك هو أيضًا رأيي.
التربية البدنية
– وبعد الموسيقى، علينا أن نربي النشء تربية رياضية.
– بلا شك.
– وإذن، فلا بدَّ من ممارسته الرياضة البدنية بعناية منذ الطفولة، وفيما يلي ذلك من مراحل العمر. وهاك المنهج الذي يتعين علينا، في رأيي، أن نتبعه، فلتختبره معي. ففي اعتقادي أن الجسم، مهما قوي بنيانه، لا يستطيع أن يجعل النفس خيرة، أما النفس الخيرة فتستطيع، بقواها الكامنة، أن تضفي على الجسم كل ما فيها من كمال. فما قولك في هذا؟
– إن رأيي مطابق لرأيك.
– فإذا ما عهدنا إلى النفس، بعد أن نُعنى بها العناية اللازمة، بمهمة وضع قواعد التربية البدنية، مقتصرين على تحديد المبادئ العامة، دون أن نوغل في تفصيلات طويلة، ألا نكون قد أحسنا صنعًا؟
– بالتأكيد.
– ولقد سبق لنا أن حظرنا على الحراس شرب الخمر حتى الثمالة؛ فالحارس هو أبعد الناس عن أن يشرب حتى ينتشي ولا يعود يعلم أين هو.
– لا شك أنه من المضحك أن يكون الحارس في حاجة إلى من يحرسه!
– فلننتقل إلى الغذاء. إن حراسنا رياضيون مكلفون بالقيام بأهم أنواع المصارعة على الإطلاق، أليس هذا رأيك؟
– بلى.
(٤٠٤) – فهل يلائم النظام الحالي للرياضيين حراسنا هؤلاء؟
– ربما.
– ولكنه نظام خمول له خطره على الصحة. أولا تراهم يقضون حياتهم في النوم، وبمجرد ابتعادهم عن النظام المفروض عليهم، يتعرضون لأخطر الأمراض وأشدها فتكًا؟
– أجل، هذا ما لاحظته.
– فلا بدَّ إذن من نظام أدق لرياضيينا المحاربين، الذين ينبغي أن تتوافر لهم يقظة الكلب وسمعه المرهف وبصره الحاد، بحيث لا تتأثر صحتهم بالتقلبات، مهما تغير مشربهم ومأكلهم، وسواء تعرضوا للشمس المحرقة أم للبرد القارس.
– إني لأوافقك على هذا الرأي.
– وإذن، ألا ترى أن خير أنواع الرياضة قريب الشبه بالموسيقى التي كنا نتحدث عنها منذ قليل؟
– ماذا تعني؟
– أعني أننا نؤثر الرياضة البدنية البسيطة المعتدلة، التي يقصد منها الإعداد للحرب قبل كل شيء.
– ولكن كيف يتحقق ذلك؟
– إن هوميروس خير من يرشدنا في هذا الصدد. فأنت تعلم أنه حين تكلم عن غذاء أبطاله في ميدان القتال، لم يجعلهم يتناولون سمكًا، مع قربهم من شاطئ البحر في الهلسبونت، ولا لحمًا مسلوقًا، وإنما لحمًا مشويًّا فحسب، وهو أسهل أنواع اللحوم إعدادًا بالنسبة إلى المحاربين؛ إذ إن اقتصار المرء على استخدام النار أهون بكثير من حمل الأدوات المختلفة معه حيثما ينتقل.
– أجل، بالتأكيد.
– أما التوابل، فأعتقد أن هوميروس لم يأتِ على ذكرها مطلقًا، ولكن ألا تعتقد أن بقية الرياضيين يدركون أن عليهم، من أجل الإبقاء على بنيتهم، الامتناع عن كل هذه التوافه؟
– إنهم ليدركون ذلك ويمتنعون عنها.
– كلا.
– ألا ترى معي أنه ليس من الخير أن يعشق المرء فتاة من كورينثه، إن كان يود المحافظة على بنيته وقوته.
– بلى، أوافقك على ذلك.
– ولا أن يستسلم للذات التي تشتهر بها الحلوى الأثينية.
– كلا، مطلقًا.
– وإذن فمن الممكن أن نشبه هذا الغذاء المقيد، وهذا النظام في الطعام عمومًا باللحن والأنشودة التي تتبدى فيها كل الأنغام وكل الإيقاعات. أولا ترى هذا التشبيه صحيحًا؟
– بلى، بكل تأكيد.
– ففي الموسيقى يؤدى التنوع إلى الفساد، وفي الجسم رأيناه يؤدي إلى المرض، أما البساطة فهي على عكس ذلك، تؤدي في الموسيقى إلى غرس فضيلة الاعتدال في النفس، كما تؤدي بساطة الرياضة إلى بقاء الجسم صحيحًا. أليس كذلك؟
– هذا هو الصواب.
– ولكن إذا ما ساد الفساد وتفشَّى المرض في دولةٍ ما، ألا يؤدي ذلك إلى تشييد (٤٠٥) محاكم متعددة، وهلا يزدهر القضاء والطب حين يبدي الأحرار ذاتهم اهتمامًا بهما وتحمسًا لهما؟
– بالتأكيد.
– فهل تستطيع أن تجد دليلًا أقوى على فساد التربية العامة وانحطاطها من احتياج ذوي الثقافة الرفيعة، لا العامة والصناع وحدهم، إلى الأطباء والقضاة المهرة؟ ألا تظن أنه من المخجل، ومما ينم عن عيب أساسي في التربية، أن يلجأ المرء إلى عدالة يستعيرها من الغير، وأن ينصب من غيره أوصياء عليه وقضاة لحقوقه، ما دامت تعوزه العدالة الشخصية؟
– الحق أن هذه أكثر الأمور مدعاة للخزي والخجل.
– ألا ترى أنه مما يدعو إلى مزيد من الخزي ألا يقنع المرء بقضاء معظم حياته في المحاكم، يرعى شئون قضاياه ويدافع عنها، بل يبلغ به سوء الإدراك حدًّا يجعله يباهي بخروجه على القانون، ويفخر بقدرته على التلون بشتى الطرق، وعلى التهرب بمختلف الوسائل، والتلوي كالغصن اللين من أجل تجنب العقاب، كل ذلك لأغراض تافهة حقيرة؛ إذ إن شخصًا كهذا لا يدرك إلى أي حد يكون من الأجمل والأنفع له، لو نظم حياته بحيث لا يشعر أبدًا بالحاجة إلى قاضٍ خمول؟
– بلى، إن في هذا بالفعل لمزيد من العار.
– بلى، فهذه حقيقة أسماء أمراض جديدة غريبة.
– الحق أن هذا كان دواءً عجيبًا بالنسبة إلى رجل في هذه الحالة.
– كلا، إذا علمت أن العلاج الحالي الذي يتتبع المرض خطوة فخطوة، لم يكن يستعمله تلاميذ أسقلبيوس قبل عصر هيرديكوس قط. أما هيروديكوس فكان معلمًا للألعاب الرياضية، ولمَّا اشتدت عليه العلل، اخترع مزيجًا من الألعاب الرياضية والطب لم يكن له من نفع سوى أنه جلب العذاب لمخترعه أولًا، ثم للكثيرين غيره من بعده.
– وكيف حدث ذلك؟
– لقد أدى به ذلك العلاج إلى الموت البطيء؛ فقد كان داؤه عضالًا، ولم يكن ثمة جدوى من تتبعه خطوة فخطوة؛ إذ كان شفاؤه مستحيلًا. ومع ذلك فقد انصرف عن كل أعبائه الأخرى من أجل العناية بصحته، وهكذا ظل طوال حياته نهبًا للقلق خشية أن يحيد عن النظام الدقيق الذي وضعه لنفسه. وإذا كان قد تمكن، بقوة العلم، من أن يصل إلى الشيخوخة، فإنه قد ظل يحمل عبء حياة أفضل منها الموت.
– يا لها من مكافأة عجيبة على فنه!
– لقد كان يستحق مثل هذه المكافأة؛ إذ إنه لم يدرك أن أسقلبيوس، إذا لم يكن قد أرشد خلفاءه إلى تلك الطريقة في العلاج، فلم يكن ذلك منه عن جهل أو قلة دراية، وإنما لأنه كان يعلم أن لكل امرئ، في أية دولة يحسن قادتها حكمها، مهمته المحددة التي يتعين عليه القيام بها، وأنه ليس لأي فرد من الفراغ ما يمكنه من أن يقضي حياته مريضًا يرعاه الأطباء. ونحن نرى الآن أن هذا يصدق على الصناع، ولكن من الغريب أننا لا نرى كيف يصدق أيضًا على الأغنياء الذين نفترض أنهم سعداء.
– ماذا تعني؟
فقلت: عندما يمرض نجار، فإنه يطلب إلى الطبيب دواء يؤدي به إلى القيء أو إلى تفريغ ما به من ألم، أو نوعًا من الكي أو الجراحة التي تخلصه منه. أما إذا فرض عليه نظام صحي طويل الأمد، وأرغم على ارتداء الأغطية الصوفية على رأسه، وما شابه ذلك، فسيقول حتمًا إنه ليس لديه من الوقت ما يسمح له بأن يكون مريضًا، وإنه لا يري أي جدوى في حياة لا يتفرغ فيها إلا لمرضه، ويتجاهل خلالها العمل الذي يتعين عليه أداؤه، وهكذا ينصرف عن هذا الطبيب، ويعود إلى حياته المعتادة، فيستعيد ما فقده من صحته. ويحيا لعمله ولمهنته. أما إذا لم يكن له من متانة البنيان ما يعينه على المقاومة، فسيخلصه الموت من جميع متاعبه.
– ذلك حقًّا هو الدواء الملائم لمن كان من هذه الطبقة.
(٤٠٧) فسألت: ولمَ؟ أليس ذلك راجعًا إلى أن لديه مهنة يتعين عليه ممارستها إذا أراد أن يعيش؟
– هذا واضح.
– أما الغني، ففي وسعنا أن نقول عنه إنه لا يجد عملًا يعجز عن الحياة لو انصرف عنه.
– أجل، يمكننا أن نقول ذلك بالتأكيد.
– ألم تستمع إلى قول «فوكوليدس»: «على المرء أن يمارس الفضيلة بعد أن يجد ما يصون رمقه»؟
– في رأيي، إن هذا واجب حتى قبل أن يجد ما يصون به هذا الرمق.
– وإذن فنحن لن نعارض فوكوليدس في هذا القول، ولكن علينا أن نبحث إن كانت ممارسة الفضيلة هي العمل الذي يتعين على الغني أن يقوم به، بحيث إن حياته لا تكون لها جدوى بدونها، أم أن جنون العناية بالأمراض، الذي يعوق النجار وكل صانع غيره من التفرغ لصناعته، يعوق الغني بدوره عن اتباع تعاليم فوكوليدس.
– أجل، وإني لأذهب إلى القول بأنه ما من شيء يعوقه سوى تلك العناية المفرطة بجسمه، وهي العناية التي تتجاوز نطاق التمرينات اللازمة لصحة البدن؛ إذ إنها تؤدي إلى عجزه في إدارة شئون بيته، وفي الحملات الحربية، وفي أي منصب يتولاه.
– غير أن ضررها الأكبر هو إعاقتها لكل دراسة وتفكير وتأمل باطن؛ إذ يظل المرء على الدوام في خشية من أوجاع الرأس وآلامه، ويتهم حياة الفكر بأنها هي السبب. ومن هنا كانت هذه الحياة، في جميع مظاهرها، عقبة كأداء في وجه ممارسة الفضيلة وإظهارها؛ إذ إنها تؤدي إلى اعتقاد المرء دائمًا بأنه سقيم فلا تنقطع شكواه من صحته.
فقال: هذا أمر لا مفر منه.
– وعلى ذلك، ففي وسعنا أن نؤكد أن علم أسقلبيوس بهذه الحقيقة هو الذي أدى به إلى أن يقتصر على الاهتمام بأولئك الذين يتمتعون بصحة جيدة، بفضل متانة بنيانهم واتباعهم نظامًا سليمًا في الحياة، فلا يصابون إلا بأمراض عارضة. فعلاجه كان يتجه إلى هؤلاء وحدهم، ومن هنا كان يعالجهم بعقاقير وجراحات، دون أن يغير نظامهم الصحي المعتاد، كي لا ينقص من فعاليتهم بوصفهم مواطنين في الدولة. أما أولئك الذين قضت طبيعتهم الكامنة أن تتحكم فيهم العلل، فلم يشأ أن يطيل حياتهم التعسة عن طريق اتباعهم لنظام بطيء من التغذية والتصريف، أو أن يدعهم ينجبون نسلًا له مثل تركيبهم؛ ذلك لأنه كان يعتقد أن من العبث علاج إنسان لا يمكنه أن يحيا تلك الحياة التي حددتها الطبيعة؛ لأن هذا ليس من صالحه ولا من صالح الدولة في شيء.
– إنك لتجعل من أسقلبيوس سياسيًّا.
– لا شك في أنه كان كذلك، ولو ألقيت نظرة على أبنائه لوجدتهم في الوقت (٤٠٨) نفسه الذي كانوا يقاتلون فيه أمام طروادة، يمارسون الطب على نحو ما قلت. ألا تذكر، عندما أصيب منيلاوس بسهم من بندراوس، أنهم:
وذلك دون أن يصفوا له، ولا لأوريفيليوس، ما ينبغي عليهما تناوله أو تعاطيه فيما بعد؛ إذ كانوا واثقين من أن الدواء البسيط يكفي لشفاء المحاربين الذين كانوا قبل أن يجرحوا أصحاء يحيون حياة سليمة، حتى لو تعاطوا في تلك اللحظة الشراب الذي تحدثنا عنه؟ أما من كان بطبيعته عليلًا سقيمًا، فإن إطالة حياته، في رأيهم، لا تفيد غيره، وفن الطب لم يخلق لأمثاله، فليس من الواجب رعايته وعلاجه، حتى لو كان يفوق ميداس ثراء.
– الواقع أن تصويرك لأبناء أسقلبيوس يجعلهم حكماء إلى أبعد حد.
– وهذه هي النظرة الواجبة إليهم. ومع ذلك، فإن شعراء التراجيديا، ومعهم بندار، لا يوافقونني على هذا الرأي. فهم يذكرون أن أسقلبيوس كان من أبناء أبولو، وأنه عمل على علاج ثري يعاني سكرات الموت طمعًا في بعض الذهب، ولهذا السبب فقد نزلت به الصاعقة. أما نحن فنأبى — نظرًا إلى ما أوردناه من الأسباب — أن نصدقهم في هذين الزعمين، فلو كان حقًّا من أبناء الآلهة لما طمع في كسب شحيح. ولو كان قد طمع في ذلك الكسب بحق، لما كان من أبناء الآلهة.
فقال: هذا عين الصواب، ولكن خبرني عن رأيك فيما سأقول يا سقراط؛ ألسنا بحاجة إلى أطباء مهرة في مدينتنا؟ فإن كانت لنا حاجة إليهم، فلتعلم أن أمهر الأطباء هم أكثرهم خبرة في علاج الأصحاء والمرضى على السواء، كما أن أعدل القضاة هم أولئك الذين مارسوا القضاء في حالات منوعة متعددة.
– إني لأتفق معك في أننا بحاجة إلى أطباء مهرة وقضاة عادلين، ولكن أتعلم من هم الذين ينطبق عليهم، في رأيي، هذا الوصف؟
– سأعلم ذلك إن أنبأتني به.
– سأحاول، ولكنك جمعت في سؤال واحد بين شيئين متباينين.
– كيف؟
– لنتكلم أولًا عن الأطباء. إن أمهرهم هم أولئك الذين يبدءون فنهم من وقت مبكر، ويجمعون — إلى درايتهم بفنهم — أكبرَ قدرٍ من الخبرة بالعلل الجسمية، والذين يمرون هم أنفسهم بكل الأمراض؛ لأن بنيانهم ضعيف؛ ذلك لأنهم، في رأيي، لا يشفون أجسام المرضى بأجسامهم هم، وإلا لكان من المحرم عليهم أن تعتل صحتهم أو أن يمرضوا. وإنما هم يعالجون الجسم بالنفس، والنفس لا يمكنها علاج أية علة إن لم تكن هي ذاتها قد عانت هذه العلة.
– هذا صحيح.
– أما القاضي، أيها الصديق، فإنما يعالج النفس بالنفس. ومن هنا لم يكن من الخير أن تخالط نفسه منذ حداثتها نفوس الأشرار، ولا أن تمر هي ذاتها بتجربة كل الشرور والآثام حتى تستطيع أن تتصور آثام الغير على نحو صحيح، مثلما يشخص الطبيب الأمراض بناء على تجربته الخاصة. وإنما لا بدَّ أن تكون قد شبت منذ حداثتها على البراءة والبعد عن كل رذيلة، إن شئنا أن يكون حكمها على ما هو عادل صحيحًا، بفضل تجاربها النزيهة الخاصة. ومن هنا كان طيبو القلب ساذَجين في حداثتهم، يسهل انخداعهم بحيل الخبثاء، فهم لا يجدون في أنفسهم نظائر لعقلية الأشرار المعوجين.
– أجل، إن في هذا نقصًا كبيرًا.
– وعلى ذلك، لا يمكن أن يكون القاضي الصالح شابًّا، وإنما ينبغي أن يكون شيخًا، عُرف عنه الظلم خلال تجاربه الطويلة، على ألا يكون قد عرفه عن طريق ممارسته للرذيلة في نفسه، وإنما ينبغي أن يكون قد عرفها، بخبرته الطويلة، من حيث هي رذيلة غريبة عنه، توجد في نفوس الآخرين، وأن يدرك ما تنطوي عليه من شر عن طريق الدراسة لا الممارسة.
– لا شك أن قاضيًا كهذا هو القاضي الأمثل حقًّا.
– هذا عين الصواب.
– وإذن، فليس هذا الرجل هو القاضي الذي نبحث عنه، القاضي الخير الحكيم، بل إن النوع الآخر هو الذي نريده؛ ذلك لأن الرذيلة لا يمكن أن تعرف نفسها، وتعرف الفضيلة معها، أما الفضيلة فإنها تصل على مر الزمان، بمعونة التعليم الذي يصقل النفس، إلى معرفة ذاتها ومعرفة الرذيلة. وعلى ذلك فإني أرى أن الفاضل، لا الشرير، هو الأجدر بأن يكون قاضيًا حكيمًا.
– ذلك رأيي أيضًا.
– وعلى ذلك، فسوف نقيم الطب والقضاء في دولتنا على نحو ما ذكرت، حتى يُعنى الأطباء والقضاة بالمواطنين من ذوي الطبائع الجسمية أو النفسية (٤١٠) السليمة، أما من عداهم، فسندع منهم أولئك الذين اعتل جسمهم يموتون، وسيقضي المواطنون أنفسهم على أولئك الذين اعوجت نفوسهم وانحرفت طبائعهم.
– الحق أن ذلك خير ما نفعله من أجل أولئك التعساء ومن أجل الدولة.
– أما عن الشباب، فمن الواضح أنهم سيحرصون على ألا يقفوا في موقف من يحتاج إلى قضاة، إن كانوا قد نشئوا على تلك الموسيقى المعتدلة التي تعودهم، كما قلنا، على الاعتدال وضبط النفس.
– بلا شك.
– ألا يتوصل الشاب الذي درس الموسيقى، ومارس الرياضة البدنية، إذا ما اتبع نفس المبادئ، إلى الاستغناء عن الطب إذا شاء، إلا في الأحوال الضرورية؟
– أعتقد ذلك.
– وهكذا فإنه، في كل ما يمارسه ويؤديه من أعمال، يحرص على أن ينمي قواه الأخلاقية، أكثر من تنميته لقواه الجسمية في أعمالهم ونظام حياتهم.
– بالضبط.
– فهل تعتقد يا جلوكون أن التربية التي تقوم على الموسيقى والرياضة البدنية هدفها، كما شاع الاعتقاد، تنمية الجسم بالثانية وتهذيب النفس بالأولى؟
– فأي هدف آخر تظنها تسعى إليه؟
من الجائز جدًّا أن يكون هدف الاثنتين معًا هو النفس.
– وكيف يتأتى ذلك؟
– ألم تلاحظ طبيعة أولئك الذين يكرسون أنفسهم للرياضة البدنية دون العناية بالموسيقى، وأولئك الذين يفعلون عكس ذلك؟
– ما الذي تعنيه؟
– أعني قسوة الأولين وغلظتهم وخشونتهم، وطراوة الآخرين ورخاوتهم.
– أجل، لقد لاحظت أن أولئك الذين يقتصرون على الرياضة البدنية وحدها، يكتسبون منها قسوة مفرطة، وأن أولئك الذين لا يُعنَون إلا بالموسيقى وحدها تكون فيهم نعومة غير مستحبة.
– ومع ذلك فإن تلك القسوة إنما تنشأ عن العنصر الغضبي في طبيعتنا، وهو العنصر الذي يمكن تحويله، إن أحسن قياده، إلى شجاعة، على حين أنه يؤدي، لو بلغ حد الإفراط، إلى خشونة فظة لا تعالج.
– هذا ما أعتقده.
– أما النعومة فتأتي من الاستعداد الفلسفي الذي يزداد طراوة لو أُرخي له العنان، على حين أنه يظل رقيقًا منظمًا لو أُحسن قياده.
– بالضبط.
– على أننا قد سلَّمنا بأن هذين الحافزين الطبيعيين يجتمعان في شبابنا المحارب.
– أجل، لقد سلمنا بذلك.
– فلا بدَّ إذن من التوفيق بينهما.
– بلا شك.
(٤١١) – وانسجامهما يؤدي إلى أن تصير النفس معقولة وشجاعة في نفس الآن.
– بالتأكيد.
– أما تنافرهما فيجعلها تجمع بين الجبن والقسوة.
– أجل بالتأكيد.
– هذا بالضبط ما يحدث.
– فإذا ما كانت الطبيعة قد وهبته، منذ ميلاده، نفسًا رقيقة، فسوف يطرأ عليه هذا التغيير بسهولة. أما إذا كانت نفسه قد فطرت على الشجاعة، فسرعان ما يثور قلبه ويفور، ويتملكه الهياج لأتفه الأسباب، وهكذا يغدو، من بعد شجاعته، عنيفًا غاضبًا ثائرًا.
– هذا صحيح.
– ومن جهة أخرى، فإنه إذا وجه عنايته إلى الرياضة البدنية، دون أن يعبأ بالموسيقى وبالفلسفة، فسيملؤه الشعور بقوته كبرياء وشجاعة، وتتضاعف شجاعته بالقياس إلى ما كان عليه.
– أجل، بكل تأكيد.
– ولكن لو لم يكن له من شاغل سوى الرياضة البدنية، دون أدنى تهذيب بالفن أو الخيال، فلن يغنيه ميله إلى المعرفة — إن وجد — شيئًا، بل سيضيف ذلك الميل تدريجيًّا، ما دام لا يتذوق أي علم، ولا يسهم في أي بحث أو مناقشة أو يشترك في ضرب من ضروب الموسيقى. وهكذا يغدو أشبه بالأصم الأعمى؛ لأنه باقتصاره على حواسه الخشنة لا يعلم كيف يوقظ ذلك الميل أو يهذبه.
– ذلك بالضبط ما حدث.
– وهكذا ينتهي الأمر بمثل هذا الشخص إلى أن يغدو عدوًّا للثقافة، كارهًا للفنون بالضرورة، وهو لا يلجأ إلى الحُجة للإقناع، وإنما يبلغ أغراضه في كل الأحوال بالعنف والقسوة، وكأنه وحش مفترس، ويظل يعيش في جهله وفظاظته، وقد عدم تمامًا حاسة الرقة والتهذيب.
– هذا عين الصواب.
– تمامًا.
– وعلى ذلك، ففي وسعنا أن نقول عمن يمزج الرياضة والموسيقى على أجمل نسبة ممكنة، ويطبقهما في نفسه بأدق قدر من الاتفاق، إنه أمهر الموسيقيين وأبرعهم في الانسجام، وإنه أبرع كثيرًا من ذلك الذي يلائم بين أوتار الآلات الموسيقية.
– في وسعنا أن نقول ذلك بحق يا سقراط.
– وإذن، فسنكون بحاجة، في مدينتنا، إلى حاكم يعلم كيف ينظم هذا المزاج، إن شئنا أن نبقى على دستورنا.
– أجل، إن هذا لضروري، ولا بدَّ أن يكون على أكبر قدر من الخبرة.
اختيار الحكام
– وإذن فقد اتفقنا. والآن، فما الذي تبقى علينا أن نحدده؟ أليس هو بحث من يجب أن يحكموا من بين حراسنا، الذين نشئوا على هذا النحو، ومن الذين يجب عليهم أن يطيعوا؟
– دون شكٍّ.
– من الواضح أن الشيوخ يجب أن يحكموا وأن على الشبان أن يطيعوا.
– أجل، هذا واضح.
– ولا بدَّ أن يكون هؤلاء خير الشيوخ.
– هذا أيضًا واضح.
– ولكن أليس خير الفلاحين هم أصلحهم لأعمال الزراعة؟
– بلى.
– وما دام على حكامنا أن يكونوا خير الحراس، أولا يجب أن يكونوا أصلح الناس للمحافظة على المدينة؟
– بلى.
– ألا يجب أن يتوافر لديهم، من أجل ذلك، ذكاء ومقدرة خاصة، وكذلك عناية كبرى بمصالح الدولة؟
– هذا صحيح.
– غير أن خير ما يُعنى به المرء هو ما يحبه.
– بلا شك.
– على أن أكثر ما يحبه المرء هو ما يقتنع بأن صالحه يتفق مع نفعه الخاص، وما نعتقد أن في نجاحه نجاحًا خاصًّا له، وفي إخفاقه إخفاقًا خاصًّا له.
– هذا صحيح.
– وإذن فسنختار من بين جميع الحراس، أولئك الذين يبدون لنا، بعد اختبارهم، أكثر حماسة للقيام طَوال حياتهم بما يرونه نافعًا للدولة، ويأبون أن يفعلوا، بأي ثمن، ما يتعارض والصالح العام.
– هؤلاء هم الحكام الصالحون بحق.
– وهكذا يبدو لي من الضروري أن نتتبعهم في مختلف أعمارهم لنتأكد من حرصهم على مراعاة تلك القاعدة، ومن أن أي وعد أو أي وعيد لن يجعلهم يتخلون أو يتغافلون عن ذلك المبدأ، وهو إيثار ما هو أنفع للدولة.
– ما الذي تعنيه بهذا التخلي؟
(٤١٣) – سأوضح لك الأمر: إني أعتقد أن نفوسنا تتخلى عن الرأي إما طوعًا أو كرهًا. فهي تتخلى عنه طوعًا إن كان باطلًا أو كنا مخدوعين فيه، وكرهًا إن كان صحيحًا.
– إني لأفهم أن نتخلى عن الأمر طوعًا، أما أن نتخلى عنه كرهًا، فهذا ما أطلب منك مزيدًا من الإيضاح فيه.
– أين الصعوبة في هذا؟ ألا تتفق معي على أن المرء لا يتخلى عما هو خير إلا مكرهًا، على حين أنه يتخلى عن الشر طائعًا؟ وهلا ترى أن انخداع المرء بصدد الحقيقة شر، بينما أن وصوله إلى الحقيقة خير؟ وأليس مما يوصل إلى الحقيقة أن تكون للمرء آراء صائبة؟
– إنك لعلى صواب في هذا، وإني لأعتقد أن المرء لا يحرم من الرأي الصائب إلا كرهًا.
– ألا ترى أن المرء لا يتخلى عنه إلا إذا كان مهددًا، أو مسلوب الإرادة أو مغتصبًا؟
– ما زلت عاجزًا عن إدراك مرماك.
– يبدو أنني أتكلم بأسلوب شعراء التراجيديا! إنني أطلق اسم الاغتصاب على الحالة التي يجبر المرء فيها على التخلي عن رأيه أو ينساه؛ إذ إن المجادلة في الحالة الأولى، والزمان في الحالة الثانية، يسلب المرء رأيه دون أن يشعر بذلك، أتفهمني الآن؟
– أجل.
– كما أن المرء يكون مهددًا إذا اضطره الحزن والألم إلى تغيير رأيه.
– إني لأفهم ذلك أيضًا، وأدرك صحة قولك.
– ويكون مسلوب الإرادة، كما أظنك ستوافقني، عندما يتغير رأيه لأن اللذة تخدره، أو لأن الألم يرهبه.
– أجل، فالواقع إن كل خداع إنما هو سلب للإرادة.
– وعلى ذلك فلا بدَّ أن ننتقي، من بين حراسنا، أشدهم إخلاصًا بهذا المبدأ الأساسي، وهو أن يرعى المرء في كل ما يفعل صالح الدولة وحدها. وعلينا أن نختبرهم منذ طفولتهم، بأن نعهد إليهم بالأعمال التي تعرضهم لنسيان هذا المبدأ أو تؤدي بهم إلى الخطأ، ثم ننتقي منهم مَن يظل يتمسك به، ومن يصعب إغراؤه، بينما نستبعد من لم يكن كذلك. أوليس هذا ما ينبغي عمله؟
– بلى.
– كذلك ينبغي أن نعرضهم لأعمال مرهقة ومعارك شاقة، ونلاحظ مدى وجود نفس الصفات فيهم.
– الحق معك في هذا.
– وينبغي أن يمروا بعد ذلك بتجربة ثالثة، هي أن نغريهم بالسلطة والنفوذ، ونلاحظهم وهم يتسابقون فيما بينهم. وكما يقود المرء الحصان القوي وسط الجلبة والضوضاء ليرى إن كان جبانًا، فكذلك ينبغي أن نُلقيَ بمحاربينا في صغرهم وسط أشياء مخيفة ثم نغمرهم بالملذات، ونعجم عودهم خلال ذلك باختبار أقسى من ذلك الذي يختبر به المرء الذهب بالنار، لنعلم إن كانوا يقاومون المغريات ويظلون على استقامتهم في كل الظروف، وإن كانوا حراسًا صالحين لأنفسهم وللموسيقى التي تعلموا دروسها، وإن كانوا يحتفظون في كل سلوك لهم بما في الموسيقى من إيقاع وتوافق. مثل هؤلاء الحراس هم أنفع الناس لأنفسهم ولوطنهم. فإذا ما وجدنا منهم شخصًا اجتاز، دون أن تشوبه (٤١٤) شائبة، كل ما وضعناه له من اختبارات متتابعة في طفولته وشبابه ورجولته فلننصبه حارسًا يرعى شئون الدولة، ولنكلله بألقاب الشرف طَوال حياته وبعد مماته، ونُخلِّد ذكراه بأفخم القبور والنصب التذكارية. أما من لم يكن منهم كذلك، فسوف نستبعده حتمًا. تلك يا جلوكون، في صورة عامة ودون الدخول في التفاصيل، هي الوسيلة التي أرى من الواجب اتباعها من أجل اختيار الحكام والحراس.
– يبدو لي أيضًا أن هذه خير وسيلة تتبع.
– ولكن إن شئنا أن نتكلم بدقة، فالأصح أن نطلق اسم الحراس على أولئك الذين يأخذون على عاتقهم أن يفعلوا ما من شأنه ألا يكون لأعداء الدولة في الخارج المقدرة على إلحاق الضرر بها، ولا لأتباعها في الداخل الرغبة في ذلك، وأن نطلق اسم المساعدين أو منفذي قرارات الحكام على الشبان الذين كنا من قبل نسميهم حراسًا.
– هذا صحيح.
– صفات الحراس وأسلوب حمايتهم.
والآن، فلقد تحدثنا منذ قليل عن الأكذوبة الضرورية. ولكن كيف نتصرف بحيث نجعل الحكام أنفسهم، ثم بقية المواطنين إن استطعنا، يصدقون أكذوبة مفيدة؟
– أية أكذوبة تعني؟
– يبدو لي أنك تلجأ إلى حيل مختلفة حتى لا تُعبِّر مباشرة عن فكرتك.
– سترى عندما أتم حديثي أنني على حق في ترددي.
– لتتكلم دون أن تخشى شيئًا.
– سأفعل، وإن لم أكن أدري من أين لي الشجاعة الكافية والتعبيرات الملائمة لهذا العمل. إني سأحاول أن أقنع الحكام ذاتهم، والجنود أولًا ثم بقية المواطنين، أن كل تعليم وتهذيب تلقوه منا، واعتقدوا أنهم يستشعرون آثاره ويحسون بها في أنفسهم، ليس إلا حُلمًا. وأنهم في الواقع لم يربوا ويعلموا إلا في باطن الأرض، هم وكل أسلحتهم وعتادهم، وأن أمهم الأرض بعد أن صاغتهم وكونتهم، قد بعثت بهم إلى النور، وأن عليهم الآن أن ينظروا إلى الأرض التي يسكنونها وكأنها أمهم ومربيتهم، وأن يذودوا عنها إن هاجمها أحد، ويعدوا بقية المواطنين أخوة، خرجوا من بطن الأرض نفسها.
– لقد أدركت الآن أنك كنت على حق في ترددك طوال هذا الوقت في ذكر هذه الأكذوبة.
– لست أعرف أية وسيلة تصلح للجيل الحالي، غير أن في وسع المرء أن يدفع أبناءه إلى تصديقها، ومن بعدها ذريتهم ورجال المستقبل.
– الحق أننا لو اقتصرنا في فعلنا على هذا، لكانت تلك خير وسيلة لدفعهم إلى الإخلاص للمدينة ولإخوانهم المواطنين؛ إذ إنني أخمن ما تفكر فيه.
والآن، فلنترك مسألة نجاح قصتنا هذه للأجيال التي تتوارثها واحدًا من الآخر. وعلينا أن نسلح أبناء الأرض هؤلاء وندعهم يسيرون تحت قيادة زعمائهم. ليختاروا أصلح مكان في مدينتنا لإقامة معسكراتهم بحيث يكفل لهم هذا المكان السيطرة على المواطنين من الداخل، إن كان فيهم من يثور على القانون، وصد الهجمات من الخارج، إن كان العدو على أهبة الاستعداد لينقض كما ينقض الذئب على القطيع. وعندما يختارون معسكرهم، ويقيمون الصلوات والتضحيات التي تتناسب معه، عليهم أن يقيموا خيامهم. فما رأيك في هذا؟
– إن رأيي كما ستقول.
– أرى أن تكون هذه خيامًا تقيهم البرد القارس والحر اللافح، أليس كذلك؟
– بلا شك، إنك تعني أنهم سيقيمون فيها؟
– أجل، ولكني أعني أنهم سيعيشون فيها حياة الجنود، لا حياة رجال الأعمال.
(٤١٦) – وما الفرق في رأيك بين الاثنين؟
سأحاول أن أوضحه لك: ليس أضر ولا أبعث على الخجل بالنسبة إلى الراعي من أن يربي ويغذي، من أجل حماية قطعانه، كلابًا تدفعهم شراستهم أو جوعهم أو أية عادة سيئة أخرى تعودوها إلى التعرض بالأذى للماشية، فيتحولون من كلاب إلى ما يشبه الذئاب.
– هذا شيء ضار ولا شك.
– وإذن فمن الواجب اتخاذ كل التدابير التي تحول دون سلوك حراسنا على هذا النحو إزاء مواطنيهم، بحيث يسيئون استخدام قدرتهم، ويغدون سادة شرسين بدلًا من أن يكونوا حماة يقظين.
– أجل، علينا أن نحول دون ذلك بكل وسيلة.
– ولكن أنجح الوسائل لتحصينهم ضد المغريات هي أن يكون تعليمنا لهم سليمًا.
– ولكن ألم يكن تعليمهم السابق سليمًا؟
– ليس لدينا من الأسباب ما يكفي لتأكيد ذلك يا عزيزي جلوكون، وغاية ما نستطيع أن نؤكده هو، كما قلت منذ برهة، أن التعليم السليم، أيًّا كان، هو أفضل سبيل إلى جعلهم يعاملون بعضهم بعضًا، ويعاملون مَن يتولَّون رعايتهم، بالحسنى.
– الحق معك في هذا.
– وإلى جانب هذا التعليم، فإن أي تفكير سليم يقضي بأن نختار لهم من المساكن والمقتنيات ما يضمن أنهم لن يحيدوا عن الكمال بوصفهم حراسًا، وما يعصمهم من إساءة معاملة بقية المواطنين.
– هذا بالفعل أمر يحتمه التفكير السليم.
فقال جلوكون: هذا واجب حتمًا.