الكتاب الخامس
– ذلك إذن هو نوع الدولة والحكومة التي أراها خيرة قويمة، والفرد المناظر لها. (٤٤٩) وبالقياس إلى هذا النوع، تكون الأنماط الأخرى لتكوين الدولة، أو لطبيعة الفرد، أنماطًا ناقصة. ولهذه الدول الفاسدة أنواع أربعة.
– ما هي؟
مركز المرأة
وكنت عندئذٍ بسبيل وصف هذه الأنواع بالترتيب الذي تراءى لي أنها تتسلسل فيه، عندما تقدم بوليمارخوس، الذي كان يجلس بعيدًا عن أديمانتوس، ومد يده، وأمسك بأعلى معطفه من ناحية الكتف، وجذبه إليه، ثم مال إلى الأمام وانحنى إلى جانبه، وأسرَّ إليه بكلمات لم أسمع منها إلا هذه: «أنتركه يستمر وحده، أم ماذا نفعل؟» فقال أديمانتوس بصوتٍ عالٍ: «ليس لنا أن نتركه يفعل ذلك قط.»
فسألت: مَن هذا الذي تودون أن تتركوه؟
فأجاب: أنت.
فسألت: أنا؟ ولمَ؟
فأجبت: ألا ترى هذا صحيحًا يا أديمانتوس؟
فقال: بلى، ولكن كلمة «صحيح» في هذه الحالة. كما في الحالات الأخرى، تحتاج إلى تفسير، حتى نرى على أي نحو يكون هذا الشيوع؛ إذ إن له أنواعًا متعددة فلا تنسَ إذن أن تذكر لنا ذلك النوع الذي تقصده. لقد انتظرنا دهرًا، آملين أن تتحدث أخيرًا عن رأيك في الأحوال التي يتم فيها إنجاب الأطفال وتربيتهم بعد ولادتهم، وكل ما يتعلق بشيوع النساء والأطفال كما اقترحته؛ إذ إننا نعتقد أن للطريقة التي يطبق بها هذا المبدأ أهمية عظمى، (٤٥٠) وخاصة بالنسبة إلى المجتمع. أما الآن، وقد انتقلت إلى نوع آخر من الحكومة دون أن توضح هذه المسائل توضيحًا كافيًا، فقد قررنا، كما سمعت، ألا نتركك تمضي أبعد من ذلك، إلا بعد أن تشرح لنا كل هذه المسائل، كما فعلت في الأخريات.
فقال جلوكون: إنني أيضًا أضم صوتي إلى أصواتكم.
وهتف ثراسيماخوس: لا يكون لديك أي شك، فهذا قرار بإجماع الآراء.
فقلت: إنكم لا تدرون ما تفعلون بمهاجمتكم لي على هذا النحو؛ فها أنتم أولاء تثيرون من جديد مشكلة هائلة في اللحظة نفسها التي بدأت فيها أهيئ نفسي على انتهائي من بحث تركيب هذه الدولة، وكنت سعيدًا حين تركتم هذه الملاحظة العابرة تمر في سلام، وتتبعتم ما قلته لكم حينئذٍ. أما الآن وقد أحييتم هذه المسألة من جديد، فلا أظنكم تعلمون ما ستثيرونه من جدل. أما أنا، فقد تنبأت بذلك من قبل، وتركت هذا الموضوع جانبًا، خشية أن يؤديَ بنا إلى كثير من الصدام.
فقال ثراسيماخوس: عجبًا أتظننا قد أتينا هنا لنتسلى، أم لنسمع جدلًا ونقاشًا؟
فقلت: لقد جئنا لنتناقش دون شك، ولكن ليس إلى ما لا نهاية.
فقال جلوكون: لن يستكثر أي شخص عاقل عمره بأسره على مثل هذه المناقشات. ولكن لا تلقِ بالًا إلينا، وأجب عن أسئلتنا دون تردد، وأعرض علينا آراءك عن شيوع النساء والأطفال بين حراسنا، وعن تربية الأطفال في بداية عمرهم، منذ ولادتهم حتى سن التعليم المنظم؛ إذ يبدو أن هذه التربية على أعظم جانب من الصعوبة. فلتحاول إذن أن تذكر على أي نحو نقوم بها.
فقلت: إنك يا صديقي لا تدرك مدى صعوبة هذا الموضوع. فهو يثير من الشكوك أكثر مما صادفنا حتى الآن، ولن يؤمن أحد بأن من المستطاع تحقيق آرائي، وحتى لو آمن بذلك فسوف يشك في أنها خير الآراء في هذا الصدد؛ لهذا تروني مترددًا في خوض هذا الموضوع، خاشيًا أن تظنوه حديثًا عن نظام خيالي لا يتحقق.
فأجاب: لا تتردد، فإن مستمعيك أناس ليسوا بقصار النظر ولا بالعنيدين ولا متربصين بك شرًّا.
فقلت: يا صديقي المبجل، إنك تقول هذا لتشجعني دون شك.
فقال: أجل.
– ولكن أثر هذا الكلام في هو عكس التشجيع تمامًا. فلو كنت أنا نفسي مقتنعًا بصحة ما سأقول، لكان تشجيعك في موضعه؛ ذلك لأن الحقيقة لو كانت في متناول يد المرء، لكان في وسعه أن يتحدث بكل ثقة واطمئنان أمام مستمعين أذكياء في أهم الموضوعات التي تشغل ذهنه. أما إذا اقترح المرء رأيًا وهو لا يزال في دور الشك والتنقيب، كما أفعل الآن، فإنه يكون عرضة للخطأ والزلل. (٤٥١) وليس معنى ذلك أنني أخشى أن يسخر مني الغير؛ إذ إن هذا خوفٌ صبياني، وإنما أخشى أن أنحرف عن جانب الصواب وأدفع أصدقائي معي إلى الخطأ في موضوعات يؤدي الخطأ فيها إلى أوخم العواقب. وإني لأبتهل إليك يا جلوكون ألا تثور لما سأقول الآن؛ وهو أني أومن بأن ذنب المرء حين يقتل شخصًا دون قصد، أهون من ذنبه حين يخدعه في معنى الجمال والخير والعدل في النُّظم الاجتماعية. فالأجدر بالمرء إذن أن يتحمل هذه المخاطر مع أعدائه لا مع أصدقائه. ومن هنا فإن تشجيعك لا محل له.
فضحك جلوكون وقال: حسنًا يا سقراط. إذا أوقعنا حديثك في خطأ ما، فسوف نعفيك من تهمة تضليلنا، وسنعلن أنك بريء من تهمة قتلنا وخداعنا. فلتطمئن إذن، ولتتحدث.
فقلت: حقيقة إن القاتل حين يُعفى من سوء التدبير والقصد يكون بريئًا في نظر القانون. ومن الطبيعي أن أعامل على هذا النحو.
فقال: وإذن فليس هناك ما يمنعك من أن تتكلم.
فقلت: إذن فعليَّ أن أعود إلى موضوع كان من الواجب أن أعالجه من قبل؛ إذ إنني بعد أن عرضت للرجال وحددت دورهم، يحق لي أن أتحدث عن النساء كذلك، خاصة وقد ألححتم على ذلك.
إنني أرى أن تحديد الشروط التي ينبغي بمقتضاها للرجال الذين يولدون وينشَئون على النحو الذي ذكرناه أن يتملكوا النساء والأطفال وتحديد طرق معاملتهم لهم، هذا التحديد لا يتم على النحو الصحيح إلا إذا التزمنا الطريق نفسه الذي سرنا فيه منذ البداية، وذلك حين أخدنا على عاتقنا أن نكون محاربينا، في خطتنا هذه، وكأنهم كلاب حراسة ترعى القطيع.
– هذا صحيح.
– فلنواصل إذن هذا التشبيه، ونتصورهم يربون وينشَئون على نفس النحو، ولنرَ إن كانت هذه الخطة صالحة أم لا.
– وكيف ذلك؟
– هذا ما أعنيه: أنعتقد نحن أن على إناث كلاب الحراسة أن تسهر كالذكور على حراسة القطيع، وتصطاد معهم وتسهم في كل ما يفعلون، أم أن عليها أن تلتزم بيتها، على أساس أنها لا تصلح إلا لرعاية صغارها بينما ينصرف الذكور وحدهم إلى العمل وإلى حراسة القطيع؟
فقال: إن على الجنسين معًا أن يقوما بكل شيء سويًّا، ولكن ليس لنا أن ننسى ضعف أحدهما وقوة الآخر.
فقلت: وهل من الممكن أن نعهد إلى حيوان بنفس عمل حيوان آخر إن لم نغذه ونتعهده بنفس الطريقة؟
– هذا محال.
– فإذا ما فرضنا على النساء نفس مهام الرجال، فعلينا أيضًا أن نعلمهن نفس التعليم.
(٤٥٢) – أجل.
– وإذن فمن الضروري أن يأخذ النساء بنصيب من هذين الفرعين من التعليم، ومن فن الحرب، وأن يعاملن نفس معاملة الرجال.
– هذا ما يؤدي إليه كلامك.
– ولكن ربما كانت في هذه الاقتراحات أمور تبدو غريبة إذا خرجت إلى حيز التنفيذ، وذلك لمخالفتها للمألوف.
– قد يكون الأمر كذلك بالفعل.
– فماذا تراه أغرب ما فيها؟ لا شك أنه قيام النساء بالتدريب وهن عاريات تمامًا مع الرجال في حلبة الرياضة، ولا أعني بذلك الصغيرات منهن فحسب، وإنما أعني المتقدمات منهن في السن أيضًا، كالشيوخ الذين يميلون إلى رياضة أبدانهم، مع انكماش أجسامهم وقبح منظرها.
– أجل، إن هذا ليبدو غريبًا حقًّا إذا تأملناه من خلال العرف السائد.
– ولكن، ما دمنا قد بدأنا بعرض آرائنا، فليس لنا أن نخشى سخرية الساخرين، الذين ينتقدون ما نريد إدخاله من التجديد، لا في موضوع تربية النساء بدنيًّا فحسب، بل وفي تربيتهن الموسيقية والذهنية. وتعويدهن حمل السلاح وركوب الخيل.
– الحق معك.
– حسن، وما دمنا بسبيل الإفصاح عن آرائنا، فلنبدأ بأغرب ما في هذا النظام، ولنبتهل إلى الساخرين أن يكفوا عن سخريتهم، وأن يكونوا جادين، وأن يذكروا أن الإغريق منذ زمن غير بعيد، شأنهم شأن معظم البرابرة اليوم، كانوا يجدون من المخجل ومن المضحك أن يرى الرجال بعضهم بعضًا وهم عراة، وأنه عندما بدأ الكريتيون ومن بعدهم الاسبرطيون يتدربون على رياضة أبدانهم، وجدت دعابات ذلك العهد مجالًا كبيرًا في تلك البدع. أليس هذا رأيك؟
– بلى.
– ولكنهم حين أدركوا أن الأفضل لهم، في أدائهم لهذه التدريبات، أن يكونوا عراة، من أن يخفوا جزءًا من الجسم، لم يعد العري يبدو أمام أعينهم أمرًا مضحكًا، بعد أن كشف لهم العقل عما هو أصلح لهم. ومن هذا المثل يتبين لنا أن التافه وحده هو الذي يسخر من شيء غير منحط، وأن من يحاول الضحك ساخرًا بشيء غير الحمق والرذيلة، إنما يرمي إلى هدف آخر غير الخير.
– هذا عين الصواب.
(٤٥٣) – وأول ما ينبغي أن نتفق عليه، هو مسألة إمكان تحقيق أفكارنا أو استحالته. ومن الواجب أن تعرض هذه المسألة أمام الجميع، الهازل منهم والجاد، لنرى إن كانت الطبيعة البشرية للمرأة تسمح لها بمشاركة الرجال في أعمالهم، أم أنها عاجزة عن القيام بأي عمل من هذه الأعمال، أو هي تستطيع القيام ببعضها ولا تستطيع القيام بالبعض الآخر، وتحت أي هذه الفئات تندرج مهمة الخدمة العسكرية. أليس لنا أن نأمل، إذا ما بدأنا مثل هذه البداية الطيبة، أن نصل إلى نتيجة لها قيمتها؟
– بالتأكيد.
– فهل تود أن نناقش أقوال المعترضين بأن نضع أنفسنا مكانهم، حتى لا يقال عنا إننا استولينا على المواقع لخلوها من المدافعين؟
– لا شيء يمنعنا من ذلك.
– فلنتكلم إذن بلسانهم قائلين: «ليس ثمة داعٍ، يا سقراط وجلوكون، لأن يعارضكما غيركما في هذه الآراء. فلقد أقررتما بنفسيكما حين بدأتما تشيدان هذه الدولة، بأن من الضروري أن يؤديَ كلٌّ مهنةً واحدة فحسب، هي تلك التي تتفق وطبيعته.»
إني لأسلم بأننا قد أقررنا بذلك، فهذا أمر واجب.
«فهل هناك مَن ينكر أن بين طبيعة الرجل وطبيعة المرأة فرقًا هائلًا؟»
لا أحد ينكر ذلك.
«وإن، فلا بدَّ من اختلاف العمل الذي يعهد به إلى كلٍّ منهما وفقًا لطبيعته.»
لا شك في هذا.
«فكيف إذن يتسنى لك أن تتخلص من التخبط والتناقض، وقد ادعيت الآن أن على الرجال والنساء أن يؤدوا نفس الأعمال، على الرغم من الفارق الهائل بين طبيعتيهما؟»
(ذلك هو اعتراضهم) فهل لديك أيها الصديق العزيز ما ترد به؟
فقال: إن الرد العاجل ليس بالأمر الهين، وكل ما في وسعي الآن هو أن أناشدك أن تتولى أنت الرد عنا، أيًّا كان ذلك الرد.
فقلت: الحق أن هذه وغيرها، يا جلوكون، صعاب تبدت لي منذ أمد بعيد، ومن هنا كان خوفي وترددي في خوض مسألة القانون الذي ينظم امتلاك النساء والأطفال وتعليمهما.
– والواقع أن الأمر لا يبدو هينًا.
– كلا، بالتأكيد، ولكن هذا هو ما يتعين علينا عمله. إن وقوع الإنسان في حوض صغير، أو في بحر كبير، لا يغير شيئًا من واقع الأمر، وهو أنَّ عليه أنْ يسبح.
– بلا شك.
– أجل، هذا ضروري.
– فلنرَ إذن إن كان ثمة وسيلة للخروج من هذا المأزق، إننا نتفق بالفعل على أن من الضروري أن تتولى الطبائع المختلفة مهام مختلفة، وأن طبيعة المرأة، من جهة أخرى، مختلفة عن طبيعة الرجل، ومع ذلك فنحن نصر على أن تقوم هاتان الطبيعتان المختلفتان بنفس الأعمال. أليس هذا هو ما نلام عليه؟
– هو ذاك.
(٤٥٤) – الحق أن لممارسة الجدل، يا جلوكون، تأثيرًا فريدًا في الناس.
– لمَ؟
– لأنهم كثيرًا ما يدخلون دون وعي في مناقشات يتخيلون أنها مجادلات عقلية، مع أنها ليست إلا ثرثرة، وذلك لعجزهم عن أن يدرسوا موضوعهم بتقسيمه تبعًا لفروعه المختلفة، ولتعلقهم بالألفاظ في محاولتهم إيقاع محدثهم في التناقض. فعملهم ليس نقاشًا، وإنما ثرثرة.
– الحق أن هذا أمر مألوف لدى الكثير من الناس. ولكن ألهذا عَلاقة بنا في بحثنا لمشكلتنا الحالية؟
– يقينًا؛ لأني أخشى أن نتردى نحن أيضًا في خلاف لفظي.
– وكيف ذلك؟
– ذلك لأننا نتمسك باللفظ، ونؤكد بإصرار تام — شأن الثرثار بحق — أنه ليس للطبائع المختلفة أن تتولى نفس العمل، دون أن نقوم بأية محاولة نختبر بها نوع هذا الاختلاف أو الاتفاق في الطبائع، وإلى أي موضوع ننسبه، وذلك حين وكلنا إلى الطبائع المختلفة أعمالًا مختلفة، وإلى الطبائع المتماثلة أعمالًا متماثلة.
– الحق أننا لم نختبر ذلك.
فاستطردت قائلًا: وإذن، فكأننا بذلك نتساءل عما إذا كان للصُّلع ولذوي الشعر من الرجال نفس الطبيعة أم أن الطبيعتين مختلفتان، فإذا أدركنا اختلاف طبيعتيهما، فإننا نمنع إحدى الفئتين من ممارسة مهنة صنع الأحذية إذا كانت الأخرى تمارسها.
– إن هذا ليكون أمرًا مضحكًا بحق.
– ولكن، لمَ كان مضحكًا؟ أليس ذلك لأننا حين وضعنا قاعدتنا لم نكن نرمي إلى قرار اتفاق الطبائع واختلافها بمعناه المطلق، وإننا لم نكن نعني إلا ذلك النوع من الاختلاف والاتفاق، الذي يرتبط بالأعمال والوظائف ذاتها؟ لهذا قلنا إن الرجل والمرأة تكون لهما طبيعة واحدة، إذا كان لكل منهما موهبة ممارسة الطب، أليس كذلك؟
– بلى.
أما الرجل الموهوب في الطب، والرجل الموهوب في النجارة، فلهما طبيعتان مختلفتان؟
– بالتأكيد.
– وعلى ذلك، فإن رأينا أن الذكور يختلفون عن الإناث في قدرتهم على صناعة معينة أو عمل خاص، فلنقل إن علينا أن نعهد بهذا العمل إلى أحد الجنسين فحسب. أما إذا رأينا أن الاختلاف لا يرجع إلا إلى أن المرأة تلد والرجل ينجب، فليس معنى ذلك أن المرأة تختلف عن الرجل في المسألة التي نعرض لها، وسنظل نُصر على رأينا أن على الحراس ونسائهم أن يتولَّوا نفس الأعمال.
– ويكون لنا الحق في هذا الإصرار.
(٤٥٥) – فلنطلب الآن إلى من يعارضنا أن يذكر لنا ما هي الوظيفة أو العمل الذي يوجد في الحياة المدنية، والذي تختلف في أدائه طبيعة الرجل والمرأة وتتباين قدرتهما.
– عليه حقًّا أن يذكر لنا ذلك.
– ربما رد علينا، كما ذكرت أنت نفسك منذ قليل، قائلًا إنه ليس من السهل الإدلاء سريعًا بجوابٍ شافٍ، وأن الأمر يغدو هينًا إذا ما أمعنا التفكير فيه.
– هذا جائز.
– فهل تود أن نرجو معارضنا أن يتتبع رأينا، فربما أمكننا أن نثبت له أنه ليس في إدارة الدولة من مهمة تختص بها المرأة وحدها؟
– إني لأوافقك على ذلك.
– سنوجه إليه كلامنا متسائلين: ألم تكن تعني من قولك إن شخصًا ما قد وهب القدرة على شيء معين، وآخر لم يوهب مثل هذه القدرة، إن الأول يتعلمها بسهولة، والآخر بصعوبة، وإن في وسع الأول، بعد تعليم بسيط أن يبلغ بكشوفه حدًّا أبعد كثيرًا مما تعلمه، على حين أن الآخر لا يستطيع، بعد كثير من التعليم والتدريب، أن يحفظ ما تعلمه؟ أليس الجسم لدى الأول عبدًا طيعًا للروح، ولدى الثاني عقبة في طريقها؟ أهناك علامة غير هذه، نميز بها في كل حالة الموهوب من غير الموهوب؟
فقال جلوكون: سيجيب بأن من المحال الإتيان بأية علامة أخرى.
– فهل تعرف مهنة بشرية لا يتفوق الرجال في كل مظاهرها على النساء؟ دعنا لا نضيع وقتنا بالتحدث عن النسيج وصناعة الفطائر والأطعمة، التي تجيدها النساء ويستحيل أن يغلبن فيها.
– حقًّا إن أحد الجنسين يتفوق كثيرًا على الآخر في كل حرفة، على وجه التقريب، ولا شك في أن كثيرًا من النساء يفقن كثيرًا من الرجال في أمور متعددة، أما إذا نظرنا إلى المسألة بوجه عام فالأمر كما تقول.
– وعلى ذلك، فليس في إدارة الدولة، أيها الصديق، من عمل يختص به النساء وحدهن من حيث هن نساء، ولا الرجال وحدهم من حيث هم رجال. ولكن لما كانت الملكات قد انقسمت بين الجنسين، فإن المرأة قادرة بطبيعتها على كل الوظائف، وكذلك الرجل، وإن تكن المرأة في كل شيء أدني قدرة من الرجل.
– هذا صحيح.
– فهل يعني ذلك أن نعهد بكل شيء إلى الرجال من دون النساء؟
– كلا بالطبع.
– إن الأجدر بنا في رأيي أن نقول إن هناك نساء موهوبات في الطب وغيرهن لم يوهبن منه شيئًا، ونساء وهبن القدرة على الموسيقى وغيرهن لم يوهبنها.
– بلا شك.
(٤٥٦) – أليست هناك أيضًا نساء وهبن القدرة على الرياضة البدنية والحرب، وغيرهن لا يملن إلى هذه ولا إلى تلك؟
– أعتقد ذلك.
– ونساء محبات للحكمة، وغيرهن يُبغضنها؟ ونساء يتصفن بالشجاعة، وأخريات بالجبن؟
– أجل.
– فهناك إذن نساء جديرات بالاشتغال بحراسة الدولة، وأخريات غير جديرات بذلك؛ إذ إن الصفات السابقة هي تلك التي اخترنا على أساسها حراسنا من الذكور.
– أجل، إنها هي.
– ففي المرأة إذن، كما في الرجل، طبيعة تتلاءم مع حراسة الدولة، وكل ما في الأمر أن هذه الطبيعة لديها أضعف مما هي لدى الرجل.
– هذا واضح.
– فعلينا إذن أن نختار هذا النوع من النساء ليشاركن هذا النوع من الرجال حياة الحراس وواجباتهم؛ لأن قدرتهن تؤهلهن لذلك، ولأنهن يتشابهن في طبائعهن مع أولئك الرجال.
– لا بدَّ أن نفعل ذلك.
– أليس لنا أن نعهد إلى الطبائع المتشابهة بنفس الوظائف؟
– بلى.
– ها نحن أولاء إذن قد عدنا في نهاية الأمر إلى نقطة بدايتنا، وأدركنا أنه ليس مما يتعارض مع الطبيعة أن نربي الحراس النساء على الموسيقى وعلى الرياضة البدنية.
– هذا صحيح.
– وعلى ذلك، فليست القاعدة التي وضعناها خيالية أو مستحيلة التحقيق، ما دامت متفقة مع الطبيعة، بل إن القاعدة المتبعة اليوم، هي حقًّا المضادة للطبيعة.
– يبدو لي ذلك.
– حسن، لقد أخذنا على عاتقنا أن نبحث إن كانت قواعدنا هذه ممكنة التحقيق، وإن كانت هي الأصلح في الوقت ذاته.
– أجل.
– أما أن من الممكن تحقيقها، فهذا ما اتفقنا عليه الآن.
– هذا صحيح.
وعلينا الآن أن نتبين إن كانت هي الأصلح.
– هذا أمر طبيعي.
– ألا تنفع التربية التي يتلقاها الرجل للنساء كذلك، إن كنا نود أن نربي حارسات للمدينة، ما دامت التربية موجهة إلى نفس الطبيعة؟
– بلا شك.
– والآن، أود أن أعرف منك شيئًا.
– ما هو؟
– ما هو رأيك الخاص في الرجال. أتظن أن بعضهم خير أو شر من البعض الآخر، أم أنهم جميعًا متشابهون؟
– كلا، ليسوا متشابهين.
– فلننظر في الدولة التي شيدناها، ولنتساءل أيهم، في رأيك، خير من الباقين؛ أهُم الحراس، الذين يشبون على ما فرضناه عليهم من تعليم، أم الحذَّاءون الذين هذبتهم حرفة صناعة الأحذية؟
– يا له من سؤال!
فأجبت: لقد فهمت. وإذن فالمحاربون هم أفضل المواطنين جميعًا.
– أفضلهم بكثير.
– وكذلك المحاربات أفضل من بقية النساء جميعًا.
– أجل.
– ولكن، أهناك ما هو أنفع للدولة من تنشئة أفضل نوع من الرجال والنساء؟
– كلا، ليس هناك ما هو أنفع من ذلك.
– ولكن هذه النتيجة لا تتحقق في الرجال والنساء إلا باتباع النظام الذي (٤٥٧) حددناه للتعليم الموسيقي ورياضة البدن.
– هذا صحيح.
– ومن هذا نستنتج أن النظام الذي اقترحناه ليس ممكن التحقيق فحسب، بل هو أيضًا الأفضل للدولة.
– أجل.
– بالتأكيد.
إلغاء الأسرة بين الحراس
– ها نحن أولاء قد اجتزنا أولى العقبات في الموضوع الذي نبحثه، وأعني به أحكام القانون الخاص بالنساء. فنحن لم نكن فقط على صواب حين قلنا إن كل الأعمال يجب أن تقسم بين الحراس والحارسات، بل لقد أثبتت محادثتنا أيضًا أن هذه القاعدة ممكنة التحقيق ومفيدة.
– الحق أنك اجتزت الآن عقبة كأداء.
فاستطردت قائلًا: ستعترف بأنها ليست كأداء، إذا ما استمعت إلى تلك التي تليها.
– فلنتحدث إذن، ولتعرضها علينا.
– إنها تتعلق بالقانون الذي يترتب على القانون الحالي وعلى القوانين السابقة عليه.
– وما هو؟
– هو أن نساء محاربينا يجب أن يكن مشاعًا للجميع. فليس لواحدة منهن أن تقيم تحت سقف واحد مع رجل بعينه منهم. وليكن الأطفال أيضًا مشاعًا، بحيث لا يعرف الأب ابنه ولا الابن أباه.
– الحق أن إقرار هذا القانون أصعب من إقرار سابقه، وكذلك إثبات إمكان تحقيقه ومدى ما يُرجى منه من فائدة.
فقلت: أما من حيث فائدته، فلا أظن أحدًا يذكر ما في القول بشيوع النساء والأطفال من نفع جزيل، إن أمكن تحقيقه، وإنما تكون الصعوبة الكبرى في بحث إمكان هذا الاقتراح.
– الحق أن الأمرين معًا يثيران اعتراضات عديدة.
– إنك تجمعهما سويًّا، أما أنا فأود أن أتخلص من أحدهما، إذا وافقت على أن الاقتراح مفيد، وأود أن أقصر البحث على مسألة إمكان أو استحالة تنفيذه.
– إني أراك تسعى إلى المراوغة، ولكن عليك أن تبرهن على المسألتين معًا.
(٤٥٨) فأجبت: لا مفر لي من تحمُّل هذه المشقة. ولكني أطلب إليك أن تسدي إليَّ جميلًا، هو أن تدعني أسرح في الخيال قليلًا، كما يفعل أولئك الكسالى الذين اعتادوا أن يسبحوا في أحلام اليقظة كلما ساروا على انفراد. فهؤلاء الناس لا يبحثون في الوسيلة المؤدية إلى تحقيق أية رغبة من رغباتهم، بل لا يعبئون بهذا الأمر قط، وإنما يخشون أن يصيبهم العناء إذا بحثوا في إمكان تحقيق ما يصبون إليه أو استحالته. فهم يتصورونه متحققًا، وبهذا وحده يُخيَّل إليهم أنهم قد امتلكوا كل شيء فتراهم يعددون ما سيفعلونه عندما تتحقق رغباتهم، ويزيدون بذلك أنفسهم خمولًا فوق خمولها الطبيعي. وها أنا ذا أحذو حذوهم، وأساير نفسي في ضعفها، فأرجئ مسألة إمكان تحقيق هذا الاقتراح إلى ما بعد، وأفترض الآن أنه ممكن، فأبحث، إذا سمحت لي، في كيفية تنظيم الحكام لطريقة تنفيذه، وأُبين كيف أن تحقيقه يجلب للدولة والحراس فوائد لا نظير لها. هذا ما سأحاول بحثه معك أولًا، أما الباقي، فسنبحثه فيما بعد، إن وافقت على ذلك.
– إنني أوافقك، فلتبدأ بحثك.
فاستطردت قائلًا: إنني لأعتقد أنه إذا كان حكامنا جديرين بهذا الاسم، وإذا كان معاونوهم من الحراس مشابهين لهم، فسينفذ هؤلاء الأخيرون ما يؤمرون به عن طيب خاطر، كما أن الأولين سيراعون في أوامرهم قوانين الدولة، أو يتبعون روحها في المسائل التي نترك تقديرها لهم.
– هذا طبيعي.
– فإن كنت مشرعًا، فعليك أن تختار للرجال الذين انتقيتهم أقرب النساء إلى طبيعتهم، ثم تجمع بين هؤلاء وأولئك، فيكون للجنسين معًا نفس المسكن ونفس الطعام، ما دام من المحظور على أحد أن يملك شيئًا لنفسه، ويعيشون سويًّا، ويختلطون معًا في الرياضة البدنية وفي بقية التدريبات، ويشعرون برابطة قوية تجمع بينهم بالطبيعة. أليس من الضروري أن يحدث هذا؟
فقال: ربما لم تكن هذه ضرورة هندسية، ولكنها ضرورة قامت على الحب، وهي بالنسبة إلى البشر أقوى وأقدر على الجمع بينهم من الضرورة الأولى.
فقلت: هذا صحيح، ولكن ترك الاجتماع بين الأزواج، أو أي عمل آخر مشترك بينهم، يتم اتفاقًا دون نظام، هو أمر لا تقره الشرائع ولا يسمح به الحكام في أي مجتمع يحيا مواطنوه حياة فاضلة.
– الحق أن هذا لن يكون أمرًا مستحبًّا.
– فمن الواضح إذن أننا نود أن تكون الزيجات أقدس ما يمكن أن تكون، وهذه القداسة تتوافر في الزيجات التي تجلب أفضل النتائج.
– هذا رأيي تمامًا.
(٤٥٩) – فكيف نحصل على أفضل النتائج؟ ذلك ما لا يتعين عليك إجابته يا جلوكون؛ إذ إنني أرى في بيتك عديدًا من كلاب الصيد والطيور الأصيلة، ولا بدَّ أنك لاحظت شيئًا في مسألة التزاوج والتناسل بينها.
– وما هو؟
– ألا يوجد، بين هذه الحيوانات ذاتها، ما هو خير من الباقين، وإن تكن كلها أصيلة؟
– بالطبع.
– فهل تسمح بأن يتناسل الجميع دون تمييز، أم أنك تحرص على أن يتناسل أصلحها فحسب؟
– الأصلح.
– وأيها تفضل لهذا الغرض: الأصغر، أم الأكبر، أم الناضجين؟
– أفضل الناضجين.
– وإن لم توجه مثل هذه العناية إلى تناسل طيورك وكلابك، فإن نوعها سيتدهور كثيرًا، أليس كذلك؟
– بلى.
– وهل الأمر على خلاف ذلك في حالة الخيل وغيرها من الحيوانات؟
– محال أن يتغير.
– يا إلهي! إننا سنحتاج إلى مهارة فائقة في حكامنا، إن كان هذا يصدق على جنس البشر أيضًا.
– إنه لكذلك قطعًا، ولكن لمَ كان يتعين أن تتوافر فيهم هذه المهارة؟
– هذا صحيح، ولكن ما الذي ترمي إليه من كل ذلك؟
– يبدو لي أن الحكام سيضطرون إلى أن يلجَئوا كثيرًا إلى الكذب والخداع من أجل نفع تابعيهم. ولقد قلنا من قبل إن هذا النوع من الكذب نافع بوصفه دواء.
– إن لنا كل الحق في أن نقول ذلك.
– وهكذا يبدو أن هذا المبدأ السليم سيلعب في الزواج وفي إنجاب الأطفال دورًا ليس بالهيِّن.
– وكيف ذلك؟
– من الضروري، تبعًا للمبادئ التي أقررناها، أن يتزاوج هذا النوع الرفيع من الجنسين على أوسع نطاق ممكن، وأن يتزاوج النوع الأدنى على أضيق نطاق ممكن. ولا بدَّ من تربية أطفال الأولين، لا الآخرين، إن كنا نود أن نحتفظ للقطيع بأصالته. ومن الناحية الأخرى، فعلى الحكام أن يدركوا وحدهم سر هذا الإجراء، كيما يتجنبوا على قدر استطاعتهم كل خلاف داخل قطيع الحراس.
– هذا عين الصواب.
– هذا حسن.
– يبدو لي أن عليهم اختراع نوع من القرعة المدبرة، التي يظن معها الأعضاء الأقل شأنًا أن السبب في نتيجة الاقتراح هو سوء حظهم لا تدبير الحكام.
– تمامًا.
– وفضلًا عن ذلك، فإن الشبان الذين يبلون بلاء حسنًا في الحروب وغيرها من المهام، يمنحون مكافآت وامتيازات منها زيادة عدد مرات معاشرتهم للنساء؛ إذ إن تلك في الوقت ذاته ذريعة معقولة للحصول منهم على أكبر عدد ممكن من الأطفال.
– هذا صحيح.
– أما الأطفال، فعندما يولدون، يعهد بهم إلى هيئة تتولى شئونهم، تتكون إما من رجال أو من نساء، وإما من الجنسين معًا، ما دامت المهام العامة مشتركة بين الرجال والنساء.
– حسن.
– أجل، إذا أردنا المحافظة على نسل الحراس.
– وعليهم أن يعنوا بتغذية الأطفال، وينقلوا الأمهات إلى دور الحضانة عندما تمتلئ أثداؤهن باللبن، مع اتخاذ كل التدابير الكفيلة بألا تتعرف الأمهات على أطفالهن. فإن لم يكن في وسع الأمهات أن يرضعن، فلا بدَّ من إيجاد مرضعات. ومن الواجب تحديد الوقت الذي تقوم فيه الأمهات بالرضاعة بحيث لا يقمن بالسهر على الأطفال؛ لأن هذه وغيرها من الأعمال من شأن المربيات والخدم.
– إن هذه التدابير من شأنها أن تجعل الأمومة أمرًا هيِّنًا بالنسبة إلى نساء الحراس.
– هكذا ينبغي أن تكون، ولكن لنواصل بحث موضوعنا. لقد قلنا إن إنجاب الأطفال يجب أن يتم بواسطة أناس ناضجين.
– هذا صحيح.
– ألا تظن معي أن المدة المعتادة لهذا النضوج هي عشرون عامًا للمرأة وثلاثون للرجل؟
– أي الأعوام تعني؟
– أعني أن للمرأة أن تنجب للدولة أطفالًا منذ سن العشرين حتى الأربعين، أما الرجل، فبعد أن يجتاز «أشد فترات العمر حماسة للسباق»، يظل ينجب أطفالًا حتى الخامسة والخمسين.
(٤٦١) – الحق أن هذه هي الفترة التي تبلغ فيها القوى الجسمية والذهنية، عند الجنسين، أقصى مداها.
– فإذا حاول رجل أن ينجب أطفالًا للدولة قبل هذه السن أو بعدها، فسنتهمه بأنه آثم في حق الدين والعدل؛ إذ إنه، لو أفلح في إخفاء ميلاد أطفاله، فمعنى ذلك أنه يأتي للدولة بأطفال لم يقترن مولدهم ببركات القرابين والصلوات التي يقوم بها الكهنة والكاهنات وكل هيئة دينية في الدولة لكل زواج، مبتهلين أن تنجب الصفوة المختارة من الناس أبناء خيرًا منهم، وأن ينجب النافعون للدولة أطفالًا أنفع لها منهم. أما هذا الذي يفعله أولئك، ففيه مخالفة وإباحية شنيعة.
– هذا حسن.
– وينطبق نفس الحكم على الرجل الذي بلغ سن النضوج، حين يحاول أن ينجب من امرأة بلغت نفس السن دون أن يكون الحاكم قد جمع بينهما؛ إذ إن الطفل الذي يهباه للدولة في مثل هذه الظروف، دون أن يكون القانون أو الدين قد باركهما، لا يكون بالنسبة إلينا إلا لقيطًا.
– هذا عين الصواب.
– فإذا تجاوز الرجل أو المرأة سن الإنجاب للدولة. فأرى أن نترك للرجال حرية الاختلاط بمن يشاءون من النساء، فيما عدا بناته. وبنات بناته، أو أمه أو جدته، ونترك للنساء نفس الحرية، مع استثناء الأبناء والآباء والأحفاد والأجداد. ولكنا إذ نترك لهم تلك الحرية، ينبغي أن ننبههم إلى أن يحرصوا كل الحرص على ألا ينجبوا للدولة أي طفل، فإذا لم تفلح احتياطاتهم، فليضعوا في أذهانهم أن يتخلصوا منه؛ لأن الدولة لن تستطيع أن تربي طفلًا كهذا.
– تلك تدابير حكيمة. ولكن على أي نحو يميزون آباءهم وبناتهم وغيرهم من الأقارب الذين ذكرتهم؟
– لن يستطيعوا تمييزهم قط. وإنما ينبغي أن ينظر الرجل، منذ الوقت الذي يبدأ فيه زواجه، إلى كل الأطفال الذين يولدون في الشهر السابع أو العاشر، الذكور منهم على أنهم أبناؤه، والإناث على أنهن بناته، وعلى هؤلاء الأطفال أن يدعوه بالأب، وعليه أن يعد أبناء هؤلاء أحفادًا له، كما يعدونه هُم جَدًّا لهم، وامرأته جَدَّة لهم. كذلك ينبغي أن ينظروا إلى الأطفال الذين يولدون في الفترة التي ينجب فيها آباؤهم وأمهاتهم على أنهم أشقاء وشقيقات لهم، وبهذا يمتنعون فيما بينهم، كما ذكرت، عن كل اختلاط جنسي. ومع ذلك فإن القانون يسمح بزواج الأخ من الأخت، إذا شاء الاقتراع ذلك، وإذا ما أيدته نبوءة دلف.
– هذا عين الصواب.
– على هذا النحو، أو ما يشابهه، سيكون شيوع النساء والأطفال بين الحراس في الدولة. وعلينا الآن أن نثبت في حوارنا إن كانت هذه الطريقة ستتفق مع بقية أركان دستورها، وتمثل أسمى قواعده، أليس كذلك؟
(٤٦٢) – بلى.
– أليس علينا، لكي نصل إلى اتفاق، أن نتساءل ما هو أعظم خير يجب على المشرع أن يضعه نصب عينيه في سن قوانينه التي تكفل النظام في الدولة، وما هو أكبر شر يحرص على تجنبه فيها، وكذلك إن كانت اقتراحاتنا تتمشى مع ذلك الخير وتبتعد عن ذلك الشر؟
– هذا ضروري ولا شك.
– أليس شر ما في الدولة هو ما يمزق وحدتها ويفرقها أشتاتًا، وأفضل خير فيها هو ما يجمع شملها ويوحدها؟
– لا بدَّ أن يكون الأمر كذلك.
– ولكن أليس ما يجمع بين الناس هو اشتراكهم في المسرات والآلام، عندما يشعر كل المواطنين، على قدر المستطاع، بنفس القدر من الأفراح لما يصيبهم من نجاح، أو الأحزان لما يصيبهم من إخفاق؟
– هو كذلك بالتأكيد.
– وبالعكس، أليس ما يفرق وحدتهم هو الأنانية في الأفراح والأحزان، عندما يمتلئ البعض فرحًا والبعض الآخر حزنًا من جراء حادث يقع للدولة، أو لأفراد فيها؟
– بلا شك.
– هذه الفرقة بين الناس إنما ترجع إلى أنهم، في المجتمع، لا يستخدمون كلمات «ملكي»، و«ليس ملكي» و«لغيري»، «ليس لغيري»، بالنسبة إلى أشياء واحدة.
– تمامًا.
– وعلى ذلك فأصلح الدول هي تلك التي يستخدم فيها أكبر عدد من المواطنين هذه الكلمات بمعنى واحد، وبالنسبة إلى نفس الأشياء.
– إنها هي الأصلح بالفعل.
– مثل هذه الدولة أشبه ما تكون بفرد واحد. فعندما يشعر المرء منا بألم في إصبعه مثلًا، فإن المجموع الذي يكونه الجسم والنفس، والذي يخضع لمبدأ واحد يحكمه، يشعر بنفس الألم، ويتألم الكل مع العضو الجريح، ومن هنا نقول إن الإنسان يحس ألمًا في إصبعه، وكذلك نقول عن كل عضو آخر في الإنسان: إن الإنسان كله هو الذي يتألم، أو يسر إذا تم له الشفاء.
فقال: إن الأمر لكذلك بالفعل. ولأقل ردًّا على سؤالك إن خير حكم في الدولة هو الذي يقترب كل الاقتراب من أنموذج الفرد.
– فإذا وقع لمواطن واحد أمر، خيرًا كان أم شرًّا، فإن دولة كهذه هي التي تسارع إلى القول إن هذا الأمر وقع لجزء منها، وتطرب أو تتألم معه.
– هذا ما ينبغي أن يكون، إن كان تنظيم الدولة سليمًا.
– فعلينا الآن أن نعود إلى دولتنا، ونرى إن كانت النتائج التي انتهينا إليها في حديثنا تنطبق عليها بوجه خاص، أو تنطبق بصورة أكمل على دولة أخرى.
– فلنبحث هذه المسألة إذن.
(٤٦٣) – أليس في بقية الدول، كما في دولتنا، حكام ورعايا؟
– بلى.
– ألا يطلق عليهم جميعًا اسم المواطنين؟
– بلا شك.
– ولكن، إلى جانب اسم المواطنين هذا، ماذا يطلق الشعب في الدول الأخرى على حكامه؟
– إنه يطلق عليهم اسم السادة في معظم هذه الدول. أما في الديمقراطيات، فيسميهم حكومة فحسب.
– وأي اسم يطلقه الشعب في دولتنا على حكامه، إلى جانب اسم المواطنين؟
– إنهم في نظره حماة وراعون له.
– وكيف ينظر هؤلاء إلى الشعب؟
– إنهم ينظرون إليه على أن أفراده هم دافعو أجوره ومقدمو غذائه.
– وكيف يعامل حكام الدول الأخرى شعوبهم؟
– كالعبيد.
– وكيف يتعامل الحكام فيما بينهم؟
– كزملاء في السيطرة.
– وفي دولتنا؟
– كحراس لقطيع واحد.
– ألا يحدث في الدول الأخرى أن يعامل حاكم زميلًا له معاملة الصديق، وآخر معاملة العدو؟
– هذا ما يحدث في كثير من الأحيان.
– عندئذٍ يعتقد ويقول إن مصالح صديقه هي مصالحه، أما مصالح الآخرين فليست من شأنه.
– أجل.
– ولكن، أهناك من بين حراسك من يمكنه أن ينظر إلى أحد زملائه أو يعامله على أنه غريب عنه؟
– هذا محال، ما دام يؤمن بأن كل من يراهم أخوة له أو أخوات وآباء أو أمهات، وأبناء أو بنات، وأحفاد أو أجداد.
فقلت: هذا حق، ولكن هل تود أن يقتصر الأمر على استخدام أسماء الأقارب هذه، أم أنك تود أيضًا أن يسلك المواطنون بأسرهم وكأنهم أسرة حقيقية، وأن يبدو لآبائهم كل ما يأمر به قانون الأبوة من تبجيل ورعاية وخضوع لأولئك الذين بعثونا إلى الوجود، وإلا لما كان لهم أن ينتظروا خيرًا من الآلهة، ولا من الناس؛ إذ إنهم لو سلكوا على نحو مخالف لما طلبناه منهم، لكانوا في ذلك منحازين إلى جانب الإثم والظلم. أليست هذه في رأيك هي القواعد التي يتعين على كل المواطنين أن يرددوها على مسامع الأطفال، حتى يسلكوا بمقتضاها إزاء أولئك الذين ننبئهم بأنهم آباؤهم أو أقرباؤهم على أي نحو آخر؟
فقال: الحق أن هذه هي القواعد؛ لأنه من التناقض أن يرددوا بألسنتهم دائمًا أسماء الأقارب هذه، دون أن يطبقوها على سلوكهم.
– ففي دولتنا يتمثل ما قلناه من قبل أكثر مما يتمثل في أية دولة أخرى؛ إذ إنه لو أصاب مواطنيها خير أو شر، فسيقول كل فرد آخر: إن شئونه وذاته تسير على ما يرام، أو على غير ما يرام، وبذلك يستخدمون جميعًا هذه الكلمات بمعنًى واحد، وبالنسبة إلى نفس الأشياء.
– هذا صحيح كل الصحة.
(٤٦٤) – ألم نضف إلى ذلك أن تلك الطريقة في التفكير وفي الحديث من شأنها أن تؤدي إلى اشتراك الجميع في نفس اللذات والآلام؟
– أجل، وكنا على حق في ذلك.
– وإذن، ففي دولتنا، أكثر من أية دولة أخرى، سيشارك المواطنون في نفس الشئون التي يسمونها شئونهم العامة، وهذه المشاركة تؤدي إلى اشتراك كامل في الآلام والأفراح.
– هذا صحيح.
– فإلامَ ننسب هذه النتيجة، إن لم يكن إلى دستورنا العام، وإلى شيوع النساء والأطفال بين حراسنا بوجه خاص؟
– هذا أمر مؤكد.
– ولكنا قد سلمنا بأن وحدة المشاعر هذه هي أعظم خير يصيب الدولة، عندما شبهنا الدولة التي أحسن تنظيمها بجسم يشاطر بأسره كل عضو فيه ملذاته وآلامه.
– أجل، وكنا على حق في ذلك.
– وإذن فقد ثبت لنا أن شيوع النساء والأطفال بين الحراس هو أصل الخير العظيم.
– هذا أمر مؤكد.
– ولأضف إلى ذلك أن كلامنا هذا يتمشى مع ما قلناه من قبل، من أن على محاربينا ألا يقتنوا بيوتًا ولا أراضي ولا أي شيء يمتلكونه وحدهم، وإنما هم يتلقون من الباقين غذاءهم مكافأة لهم على خدماتهم. فيتقاسمونه فيما بينهم، وعلى هذا النحو وحده يكونون حراسًا بالمعنى الصحيح.
– هذا صحيح.
– ولنتساءل مرة أخرى: هل يشك أحد في أن القواعد التي وضعناها من قبل، وتلك التي تضعها الآن، تسهم في جعلهم حراسًا بمعنى الكلمة، فتحول بينهم وبين بذر بذور الشقاق في الدولة بإصرارهم على استخدام كلمة «ملكي»، لا بالنسبة إلى شيء واحد، بل كل بالنسبة إلى شيء معين، بحيث يحاول كلٌ على حدة أن يغتصب ما يمكنه أن يحصل عليه ليضعه في بيت خاص به، يضم امرأته وأطفاله هو وحده فيكون هؤلاء جميعًا مصدر أفراح وأحزان خاصة به وحده؛ لأنهم لا ينتسبون إلا إليه. أما إذا اعتقدوا، على عكس ذلك، أن مصالحهم مشتركة بينهم جميعًا، فسيتجهون جميعًا إلى نفس الهدف، ويحسون بنفس المشاعر من آلام ومسرات، بقدر ما يكون هذا الوفاق ممكنًا.
– هذا صحيح كل الصحة.
– وعندما لا يعود لأي واحد من الممتلكات إلا شخصه، ويصبح كل ما عدا ذلك مشاعًا بين الجميع، ألن تختفي القضايا والاتهامات المتبادلة بدورها، ويتخلصوا من كل الخلافات التي تنجم عن المال وعن الروابط العائلية؟
– إنهم ليتخلصون منها حتمًا.
– فلن تكون لديهم إذن قضايا مدنية أو جنائية. فإذا ما هاجمهم أشخاص في مثل أعمارهم، فسيكون من حقهم أن يدافعوا عن أنفسهم، وسنعلن أن هذا أمر مشروع، فيكون من المحتم عليهم، بناء على ذلك، أن يحتفظوا بأبدانهم سليمة صالحة.
– هذا حسن.
(٤٦٥) – ولهذا القانون حسنة أخرى، هي أنه إذا اختلف شخص مع آخر وشفى غليله بنفسه، كما قلت، فإن الاحتمال أقل في أن يسفر الشجار عن نتائج وخيمة.
– يقينًا.
– أما الأكبر سنًّا، فسوف نمنحه سلطة التحكم فيمَنْ هم أصغر منه، ومعاقبتهم.
– هذا واضح.
– ومن الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى إحجام صغار السن عن إهانة مَنْ هم أكبر منهم سنًّا، أو التعدي عليهم بالضرب، ما لم يكن ذلك بأمر من الحكام، أو عن التعرض لهم بأي نوع من الأذى؛ فهناك حارسان كافيان لنهيه عن ذلك: هما الرهبة والتبجيل؛ إذ يمنعه التبجيل من أن يمس شخصًا قد يكون أباه، وتنبئه الرهبة بأن الآخرين سيهبُّون للدفاع عمن هاجمه؛ إذ إنهم قد يكونون أبناءه، أو إخوته، أو آباءه.
– هذا ما يحدث في مثل هذه الحالة.
– وهكذا فإن قوانيننا تكفل استتباب الأمن بين محاربينا.
– إنه لأمن تام.
– فإذا لم يعرف الشقاق إليهم سبيلًا، فليس لنا أن نخشى من أن يدب الشقاق بين بقية سكان المدينة والحكام، أو فيما بين هؤلاء السكان أنفسهم.
– كلا بالتأكيد.
– أما الشرور البسيطة فسيتخلصون منها، فلست أرى ما يحملني على الإفاضة في وصفها؛ فهم لا يشعرون بالحسد الذي ينظر به الفقراء إلى الأغنياء، ولن يتعرضوا للمتاعب والآلام التي تجلبها تربية الأطفال والحرص على جمع المال للإنفاق الضروري على الخدم، والذي يؤدي إما إلى الاستدانة، وإما إلى التهرب من الديون، أو إلى تكديس المال بأي ثمن، من أجل تسليمه إلى الزوجات والخدم لينفقوه، وغير ذلك من المتاعب المتعددة، التي تستوجبها كل هذه المسائل، وهي متاعب أوضح وأحط وأتفه من أن نطيل الحديث عنها.
– أجل، إنها لمتاعب مألوفة تمامًا.
– فإذا ما تخلص محاربونا من كل هذه المتاعب، فستكون حياتهم أسعد من حياة الأبطال المنتصرين في الألعاب الأوليمبية.
– وكيف ذلك؟
– ذلك لأن هؤلاء المنتصرين لا يستمتعون إلا بقدر ضئيل مما يستمتع به محاربونا؛ إذ إن انتصار محاربينا أروع، وترحيب الشعب بهم أعظم: فهم بنصرهم إنما ينقذون الدولة بأسرها، والجائزة التي ينالونها أثمن؛ إذ تتكفل الدولة بكل حاجاتهم وحاجات أبنائهم، وتظل تغدق عليهم أنواع التكريم طَوالَ حياتهم، وتواريهم بعد مماتهم في قبور تليق بمكانتهم.
– ذلك هو التكريم المجيد حقًّا.
– إني لأذكر ذلك.
– فلنعد الآن إلى الحياة التي يحياها حراسنا. فإذا ما اتضح لنا بحق أنها أجمل وأسعد من حياة أبطال الألعاب الأولمبية، أتظن أن من الممكن مقارنتها بحياة الحذَّائين أو غيرهم من الصناع والعمال؟
– إنها لا تقارن بها على الإطلاق.
فقال: لو استشارني لأشرت عليه بأن يقنع بحياته كما هي.
– وإذن فأنت توافق على أن تشترك النساء مع الرجال في كل شيء، كما قلنا من قبل، أعني في شئون التربية والأطفال وحراسة بقية المواطنين، وأن على النساء، سواء ظللن في المدينة، أم ذهبن إلى الحرب، أن يسهمن في حراسة الدولة، ويشتركن مع الرجال، كما تفعل إناث الكلاب حين تشارك ذكورها في الصيد والحراسة، وأن يتقاسمن معهم كل شيء؟ أتوافق على أن يفعلن كل هذا بقدر ما في وسعهن، وألا يتجاوزن النظام الذي وضعته الطبيعة بين الرجل والمرأة، وذلك في الأمور التي خلقت للجنسين القدرة على التعاون فيها؟
– أوافق على ذلك.
مسالك المحاربين وقواعد الحرب
– وإذن، فلم يبقَ أمامنا إلا أن نبحث إن كان من الممكن أن نجعل بين البشر تلك الوحدة الجامعة التي نلمسها لدى بقية الحيوانات، وما هي الوسائل المؤدية إلى ذلك.
– لقد نبهتني إلى ذلك، وكنت على وشك أن أحدثك فيه.
– أما عن الحرب، فأظن أن طريقتهم فيها واضحة.
– كيف؟
– إن الرجال والنساء سيذهبون إلى ميدان القتال معًا، بل سيصبحون معهم من يستطيع ذلك من أبنائهم، حتى يتعلم هؤلاء هذه الحرفة، شأنها شأن أية حرفة أخرى، بأن يلاحظوا ما يتعين عليهم أن يقوموا به عندما يشبون. وليس لهؤلاء الأطفال أن يكتفوا بالمشاهدة، بل إن عليهم أن يكونوا رسلًا ومساعدين في (٤٦٦) كل ما يتعلق بالحرب، وأن يقوموا بخدمة آبائهم وأمهاتهم. ألم تلاحظ ما يحدث في بقية المهن، وكم من المرات يخدم ابن صانع الفخار أباه ويلاحظه وهو يعمل، قبل أن يتمكن هو ذاته من صنع الفخار بنفسه؟
– لقد لاحظت ذلك بالفعل.
– فهل يكون حراسنا أقل حرصًا من صناع الفخار على تربية أبنائهم بجعلهم يشاهدونهم ويكتسبون خبرة في عملهم؟
– هذا محال بالطبع.
– وفضلًا عن ذلك، فإن شجاعة كل حيوان في قتاله تزداد إن كان صغاره إلى جانبه.
فقال: هذا صحيح، ولكن الخطر ليس ضئيلًا يا سقراط في حالة الهزيمة، وهي حالة ليست نادرة في الحروب. فإذا ما جر الآباء أبناءهم معهم إلى الهلاك، لأصبحت الدولة عاجزة عن تعويض الخسارة.
فقلت: إن ما تقوله هو الحق، ولكن أتظن أولًا أن من الواجب أن نرتب الأمور بحيث لا نعرضهم للخطر؟
– كلا، ليس هذا ما أقصده على الإطلاق.
– فإذا كانت هناك حالة يتعين فيها مواجهة الخطر، أليست هي تلك التي يخرج منها المرء أحسن مما كان إذا سار كل شيء على ما يرام؟
– أجل، بكل تأكيد.
– وهل تظن أننا نصل إلى نفع قليل لا يستحق ما يتعرض له المرء من خطر، إذا ما مكنا أولئك الذين سيكونون محاربين في يوم ما، من أن يشاهدوا الحرب منذ طفولتهم؟
– كلا، فالحق أن النفع جزيل من وجهة النظر التي نتحدث عنها.
– وإذن، فلا بدَّ من أن نرتب الأمور بحيث يشاهد الأطفال الحرب مع الحرص على سلامتهم، وهذا خير حل ممكن، أليس كذلك؟
– بلى.
– ألا يكون آباؤهم، أولًا، على أكبر قدر من بعد النظر، بحيث يمكنهم أن يعرفوا مقدمًا الحملات الخطرة والحملات التي لا خطر فيها؟
– هذا معقول.
– وبذلك يصحبونهم إلى الحملات غير الخطرة ويحرصون على إبعادهم عن الحملات الخطيرة.
– تمامًا.
– كما أنهم لن يختاروا للإشراف عليهم أقل المحاربين قدرة على ذلك، وإنما يختارون أولئك الذين تسمح لهم خبرتهم وسنهم بأن يكونوا خير مرشدين وأصلح موجهين.
– هذا ما يجدر بهم فعله.
– وعلى الرغم من كل ذلك، فلا بدَّ من أن نعترف بأن الأمور كثيرًا ما تسير على غير ما نتوقع.
– بالتأكيد.
– فلكي نقيهم مثل هذه المفاجآت، يتعين علينا، أيها الصديق، أن نمنحهم أجنحة منذ طفولتهم كي يمكنهم، إذا دعت الضرورة، أن يفروا طائرين.
فتساءل: ماذا تعني؟
– أعني أن من الضروري أن نعلمهم ركوب الخيل في أول فرصة ممكنة، فإذا تعلموا الفروسية، اصطحبناهم ليشاهدوا الحرب لا على خيل شرسة جامحة، بل على أسرع الخيل وأسلسها قيادة. فتلك خير طريقة ينجون بها بأنفسهم وقت الشدة، مسرعين وراء مرشديهم الكبار.
– إن فكرتك لتبدو لي رائعة حقًّا.
(٤٦٨) فاستطردت قائلًا: وفي الحرب، كيف ننظم عَلاقات الجند بعضهم ببعض، وصلاتهم بالعدو؟ فلترَ إن كانت فكرتي صائبة.
– وما هي؟
– إذا هرب أحد الجنود من الصفوف وألقى سلاحه، أو اقترف أي فعل مشابه من أفعال الخيانة، ألا ينبغي أن ننزله إلى مرتبة العمال؟
– لا بدَّ من ذلك.
– وإذا استسلم أحدهم حيًّا للأعداء، ألا يجدر بنا أن نهديه إلى أولئك الذين أسروه، ونترك لهم حرية التصرف في غنيمتهم؟
– يقينًا.
– أما ذلك الذي يفوق الباقين شجاعة، ألا ترى أن على الشباب والأطفال أن يضعوا فوق رأسه الأكاليل، كلٌّ بدوره، في ميدان القتال؟
– هذا رأيي.
– ثم يصافحونه بعد ذلك؟
– أجل.
– ولكن، هناك شيء أعتقد أنه لن يحظى بموافقتك.
– وما هو؟
– هو أن يتبادل القبلات معهم جميعًا.
فقال: إني، على العكس من ذلك، أوافق على هذا كل الموافقة. وأود أن أضيف إلى هذه القاعدة أن كل مَنْ معه ينبغي ألا يأبى عليه قبلة خلال المعركة إن شاء، وبهذا نضمن أنه إذا كان أحد المحاربين مفتونًا بشاب أو فتاة، فسيزداد حماسة لإحراز النصر.
فقلت: هذا عظيم، ولا تنسَ أننا قد ذكرنا من قبل أن المواطنين الشجعان سيمنحون فرصًا للزواج تفوق فرص الآخرين، وأننا سنختار لهم نساء كثيرات مشابهات لهم، لينجبوا أكبر عدد ممكن من الأطفال.
– هذا ما قلناه بالفعل.
– هذا حسن جدًّا.
– وإذن، فسنتبع، في هذه النقطة على الأقل، نصيحة هوميروس، أي إننا نحن بدورنا، سواء في أعياد التضحية وفيما يماثلها من الحفلات سنمجد الشجعان لشجاعتهم، لا بالأناشيد والأوسمة التي تحدثنا عنها فقط، بل بمنحهم أرفع مراتب الشرف، وبتقديم اللحوم والكئوس المترعة إليهم، وبذلك نزيدهم قوة على قوتهم، ونعبر في الوقت ذاته عن إعجابنا العظيم بكل شجاع وشجاعة.
– هذا خير ما يقال.
– وها هي ذي مسألة أخرى: ألن تقول عن أولئك الذين استشهدوا في القتال بعد أن أظهروا شجاعة فائقة إنهم ينتمون إلى جنس الذهب؟
– بلا أدنى شك.
– سنؤمن بذلك ولا شك.
– هذا ما سنفعله.
– ومنذ أن ندفنهم نظل نرعى قبورهم ونبجلها كما لو كانوا أرواحًا ملائكية بحق، وسنقدم نفس هذه التكريمات لأولئك الذين يموتون بالشيخوخة أو بغيرها، بعد أن يكونوا قد امتازوا في حياتهم بفضيلة رفيعة.
– هذا هو العدل.
– والآن، فماذا يكون سلوك جنودنا إزاء الأعداء؟
– في أي شيء؟
– أولًا: فيما يتعلق بالعبودية، أترى من العدل أن تنزل مدينة يونانية إلى مرتبة العبيد؟ أليس علينا أن ننهاهم عن ذلك، على قدر استطاعتنا، حتى بالنسبة إلى بقية الدول، وأن نعودهم احترام الجنس اليوناني، وهو إجراء يكفل لنا تجنب الوقوع عبيدًا في أيدي البرابرة.
– هذا ما يتعين علينا أن نتجنبه بكل وسيلة.
– وعلى ذلك، فلن يكون لنا نحن عبيد إغريق، وسننصح بقية اليونانيين بأن يحذوا حذونا.
– الحق أن هذا رأيي، فإن استمعوا إلى نصحنا، فسيوجهون قواهم نحو البرابرة، وسيكفون عن كل حرب فيما بينهم.
فأضفت: والآن، أتوافق على سلب الموتى بعد النصر أي شيء ما عدا أسلحتهم؟ أليست هذه للجبان حُجة يتذرع بها حتى لا يتقدم لمواجهة العدو، وإنما يظل منحنيًا فوق جثة وكأنه يؤدي واجبًا لا مفر منه؟ الواقع أن هذا النهب طالما أودى بجيوش عديدة.
– هذا مؤكد.
– ألا ترى أن من الجشع المرذول أن ينهب المرء ميتًا؟ إن في معاملة الجثة كأنها عدو وضاعة نفس لا تليق إلا بالنساء؛ إذ إن العدو الحقيقي، وهو الرُّوح، قد تلاشى، ولم يترك مكانه سوى الأداة التي كان يحارب بها. وما أشبه من يفعلون ذلك بالكلاب التي تهجم على الحجر الذي ضربها، دون أن تمس من ألقاه.
– ليس هناك أي فارق بينهما بالفعل.
– فعلينا إذن أن نكف عن نهب الموتى، وندع للعدو فرصة سحب جثثهم.
– أجل، هذا ما يجب فعله حقًّا.
– وعلينا ألا نحمل أسلحتنا إلى المعابد، لنعلقها على الجدران، وأخص بالذكر (٤٧٠) الأسلحة اليونانية، إن كنا نحرص على إبداء ولائنا لبقية اليونانيين. وعلينا أن نحرص بوجه خاص على ألا ندنس معبدًا بجلب غنائم إليه من شعبنا، ما لم تقرر النبوءة غير ذلك.
– هذا عين الصواب.
– وماذا يكون سلوك الجنود إزاء العدو، من حيث تخريب الأرض وحرق البيوت الإغريقية؟
– إنني أود أن أستمع إلى رأيك أنت.
– إن رأيي هو ألا يقع تخريب ولا حرق، وأن يقتصر الأمر على الاستيلاء على محصول السنة. أتود أن أذكر لك السبب؟
– يقينًا.
– إنه ليبدو لي أن وجود كلمتَين تُعبِّران عن الحرب والنزاع المحلي يعني أن هناك اختلافًا في الطبيعة بين الاثنين. أعني الصراع بين أناس من نفس البلد والجنس، والصراع مع أناس غرباء. فالعداء بين الأقارب يسمى نزاعًا محليًّا، وبين الأجانب يسمى حربًا.
– هذه التفرقة دقيقة كل الدقة.
– هذا صحيح.
– فإن قاتل اليونانيون البرابرة، أو البرابرة اليونانيين، فعندئذٍ نقول: إن بين الفريقين حربًا، وإنهما بطبيعتهما أعداء، وإن هذه العداوة تستحق اسم الحرب. أما إذا قاتل اليونانيون بعضهم بعضًا، فلنقل إن القرابة بين الفريقين لم تنعدم، ولكن اليونان في هذه الحالة تبدو مصابة بداء الانشقاق على نفسها بحيث يكون اسم النزاع المحلي هذا هو ما ينطبق على هذه العداوة.
– إني لأوافق على ذلك. فأفكاري في هذا الشأن هي أفكارك.
– فلنتأمل الأمور إذن في ضوء هذا التعريف الذي اتفقنا عليه. فحيثما يشب نزاع وتنقسم الدولة، ويعمد أحد الفريقين إلى تخريب حقول الفريق الآخر وهدم بيوته، عندئذٍ تستطيع أن تتصور إلى أي حد يكون ذلك أمرًا مرذولًا. فليس ثمة جماعة محبة لوطنها تجرؤ على تمزيق الأرض التي هي أمها ومصدر غذائها، وإنما المعقول أن يكتفي الغزاة بالاستيلاء على محصول المهزومين، وعليهم أن يذكروا أنهم سيصلون يومًا إلى وفاق، ولن يظلوا في حرب دائمة.
– الحق أن هذه الطريقة في التفكير أقرب إلى الإنسانية من سابقتها.
– ولكن ألن تكون الدولة التي تريد تشييدها دولة يونانية؟
– هذا ضروري.
– ألن يكون مواطنوها خيرين متمدينين؟
– بالطبع.
– ألن يكونوا محبين لليونان، يشعرون بانتسابهم إليها ويشاركون بقية اليونانيين دينهم؟
– يقينًا.
(٤٧١) – وعلى ذلك، فإنهم إذا اختلفوا مع يونانيين، فإن خصومتهم هذه لن تكون إلا نزاعًا محليًّا، ما دامت تنشب بين أقرباء، ولن يطلقوا عليها اسم الحرب؟
– بلى.
– وهكذا فإنهم يمضون في خلافهم واضعين نصب أعينهم أنهم سينتهون يومًا ما إلى الوفاق.
– بالتأكيد.
– ولذا تراهم يحاولون أن يبثوا في خصومهم فضيلة التعقل، ولا يمضون في عقابهم إلى حد استعبادهم أو إفنائهم، وإنما ينظرون إليهم على أنهم أصدقاء يمكن إصلاحهم، لا على أنهم أعداء.
– إنه لكذلك بالفعل.
– ولمَّا كانوا يونانيين، فهم لن يخربوا بلاد اليونان ولن يحرقوا بيوتها، ولن ينظروا بعين العداوة إلى جميع سكان دولة ما، رجالًا ونساء وأطفالًا، وإنما يعادون مصدر الشقاق وحده، وهو عادة عدد ضئيل من الناس. وعلى ذلك، فهم لا يرضون بأن يخربوا أرضًا أو يهدموا بيوتًا معظم سكانها أصدقاء لهم، وهم لا يمضون في عداواتهم إلى ما بعد الحد الذي يُضطر فيه المذنبون، تحت ضغط الأبرياء المعذبين، إلى أن يسلكوا سلوكًا قويمًا.
فقال: إني لأسلِّم معك بأن سلوك مواطنينا نحو خصومهم يجب أن يسير على هذا النحو، وبأن عليهم أن يعاملوا الأجانب كما يعامل اليونانيون الآن بعضهم بعضًا.
– فليكن من القوانين إذن ألا يخرب حراسنا الأرض ولا يحرقوا البيوت.
– لنسن هذا القانون، ولنعترف بأنه قانون عادل كالباقين.
هذه الدولة لا تتحقق إلا عندما يصبح الفلاسفة ملوكًا.
ولكني أعتقد، يا سقراط، أننا لو تركناك على هذا النحو فلن تذكر مطلقًا ذلك الموضوع الذي استبعدته منذ برهة لتدخل في كل هذه التفصيلات، وأعني به موضوع إمكان قيام دولة لها مثل هذا الدستور، والوسائل المؤدية إلى ذلك. إني لأسلم معك بأن هذا الدستور لو تحقق، لجلب للدولة التي يتحقق فيها فوائد جمة. وأستطيع أن أضيف، من جانبي، إلى هذه الفوائد بعضًا مما أغفلت ذكره، وأعني بها أنه على قدر العنف الذي يحارب به محاربونا أعداءهم، يزداد تكاتفهم فيما بينهم؛ إذ إن قرابتهم وثيقة، والأسماء التي يطلقونها على أنفسهم هي أسماء الأخوة أو الآباء أو الأبناء، كما أن إشراك النساء في القتال، سواء وضعن في الصفوف الأمامية مع الرجال، أم اصطففن خلف الجيش المحارب الإرهاب العدو، ولكي يستعان بهن عند الحاجة؛ أقول إن في هذا الإشراك ما يجعل محاربينا أبطالًا لا يهزمون. أما في وقت السلم، فإنهم سينعمون بخيرات هائلة لم نذكر عنها شيئًا.
ولكني ما دمت أتفق معك على أن تطبيق دستورنا يؤدي إلى التمتع بكل هذه الخيرات وبغيرها، فليس لك أن تواصل الكلام في الدستور ذاته، وإنما لنحاول أن نثبت لأنفسنا أن من الممكن تحقيقه، وندرس وسائل هذا التحقيق، وندع جانبًا كل ما عدا ذلك من الموضوعات.
فأجاب: الحق أنك كلما أمعنت في انتحال هذه الأعذار، ازددنا نحن إلحاحًا عليك في أن توضح لنا وسيلة تحقيق هذا الدستور. فلتتحدث إذن وكفاك إضاعة للوقت.
– حسن، فلأبدأ بتذكيركم بأننا ما وصلنا إلى هذه النقطة إلا من أجل البحث عن طبيعة العدل والظلم.
– هذا صحيح، ولكن فيمَ يهمنا هذا؟
– لا شيء، ولكنا إذا وصلنا إلى كشف طبيعة العدالة، فهل تشترط على مَنْ يتصف بالعدل أن تكون شخصيته مماثلة تمامًا لما نعرفه عن العدالة، وأن يكون في هوية تامة معها، أم يكفينا أن يقترب منها بقدر الإمكان، وأن يكون أقرب إليها من كل مَنْ عداه مِنَ الناس؟
– هذا وحده يكفينا.
– وعلى ذلك، فإننا عندما أخذنا نبحث عن ماهية العدالة، وعما يكونه الرجل العادل، إن أمكن وجوده، وعن ماهية الظلم وما يكونه الظالم، إنما كنا نبحث عن ذلك لكي نهتدي إلى أنموذج. فمهمتنا كانت تأمل هذين الرجلين، والتفكير في مدى سعادتهما أو شقائهما، لكي نصل إلى أن أشبه الناس بهما يلقى مصيرًا قريبًا كل القرب من مصيرهما. أما إمكان تحقيق هذه النماذج بالفعل، فذلك ما لم يدخل في نطاق مشروعنا.
– إن ما تقوله هو الحق.
– فإذا ما قام مصور يرسم وجهًا ذا جمال نموذجي، وحدد كل ملامحه بدقة كاملة، فهل تظن أن عجزه عن إثبات إمكان وجود شخص كهذا بالفعل هو أمر ينقص من قدره؟
– كلا بالتأكيد.
– فلنقل إذن: ألم نتتبع بدورنا أنموذج الدولة الكاملة في هذا الحديث؟
– بلى.
– فهل تعتقد أن ما قلناه يفقد قيمته إن لم نستطع أن نثبت إمكان تكوين دولة على هذا النحو؟
– كلا بالتأكيد.
– فتلك إذن حقيقة هذا الموضوع. ولكن إذا تعين عليَّ، إرضاءً لك، أن أحاول إثبات أهم الوسائل التي يمكن بها تحقيق مثل هذه الدولة، ومدى إمكان تحقيقها، فلا بدَّ أن أسألك الاعتراف بأن هذا المبدأ ينطبق في هذه الحالة أيضًا.
– وما هو؟
(٤٧٣) – أتعتقد أن النظرية يمكن أن تتحقق عمليًّا على نحو كامل؟ ألا تقضي طبيعة الأشياء بأن يكون الفعل العملي أبعد عن الحقيقة من الكلام؟ إن الناس قد يعتقدون بعكس ذلك، ولكن أتوافقني أنت على هذا الرأي؟
– إني لأوافقك.
– فلا تطلب مني إذن أن أحقق بالفعل كل ما عرضته في الحديث. ولكن إن أمكنني أن أهتدي إلى الوسائل التي تتيح إقامة دولة شديدة الشبه بمثلنا الأعلى هذا، فلتسلم عندئذٍ بأنني قد أثبت ما نطلبه، وهو إمكان تحقيق دستورنا. ألن تكون راضيًا بهذه النتيجة؟ إنني، على الأقل، راضٍ بها.
– وأنا كذلك.
– إن علينا أن نوضح الآن العيوب التي تجعل حكم الدول الحالية مختلفًا عن حكم دولتنا، ونبحث في التعديلات التي تؤدي بها إلى أن تكتسب روح دستورنا. ومن الواجب أن تكون هذه التعديلات بسيطة قدر الإمكان، أي أن تقتصر على نقطة واحدة، أو على نقطتين. وعلى أية حال فلنجعل التغيُّرات، على قدر استطاعتنا، قليلة الأهمية.
– هذا حسن جدًّا.
– وإذن، فلنغير فيها شيئًا واحدًا، وأنا على ثقة من أن في وسعي أن أثبت لك كيف ينقلب وجه الدولة من أساسه. وصحيح أن هذا التغيير ليس بالأمر البسيط ولا بالهين، ولكنه ممكن.
– وما هو؟
– إن عليَّ الآن أن أواجه ما وصفته بأنه ثالثة الأمواج وأعتاها، ولكن ينبغي أن أفصح عن رأيي الغريب، حتى لو تحولت الموجة إلى ضحكات تغمرني بالسخرية وتغرقني بالاستهزاء. فلتتأمل ما سأقوله لك.
– قل.
– ما لم يصبح الفلاسفة ملوكًا في بلادهم، أو يصبح أولئك الذين نسميهم الآن ملوكًا وحكامًا فلاسفة جادين متعمقين، وما لم تتجمع السلطة السياسية والفلسفة في فرد واحد، وما لم يحدث، من جهة أخرى، أن قانونًا صارمًا يصدر باستبعاد أولئك الذين تؤهلهم مقدرتهم لأحد هذين الأمرين دون الآخر من إدارة شئون الدولة؛ ما لم يحدث ذلك كله، فلن تهدأ، يا عزيزي جلوكون، حدة الشرور التي تصيب الدولة بل ولا تلك التي تصيب الجنس البشري بأكمله. وما لم يتحقق ذلك، فلن يتسنى لهذه الدولة التي رسمنا هنا خطوطها العامة أن تولد، وأن يكتمل نموها. ذلك ما كنت أتردد في إعلانه منذ وقت طويل، إدراكًا مني لمدى مخالفته للآراء الشائعة. ومع ذلك، فمن الصعب أن يتصور المرء كيف يمكن أن يتحقق الخير للدولة أو للفرد على أي نحو آخر.
فهتف: يا له من رأي يا سقراط، ويا له من تصريح ذلك الذي أدليت به! (٤٧٤) لا بدَّ أنك تتوقع الآن، بعد ما صرحت به، أن يقوم عدد من الناس، ليسوا ممن يُستهان بهم، بخلع ستراتهم في الحال، والتسلُّح بما تصل إليه أيديهم، ومهاجمتك بكل قواهم، ليعاملوك بما تستحق. فإن لم تصدهم بقوة الحُجة، وإن لم تستطع أن تنجو منهم، فستعلم جيدًا كيف يكون المرء هدفًا للسخرية والاحتقار.
فقلت: إنك أنت الذي دفعت بي إلى هذا الموقف الحرج.
فقال: إنني لأغبط نفسي على ذلك، ولكن ثق أنني لن أتخلى عنك، وإنما سأعينك بكل قواي، أعني بتمنياتي وتشجيعي. وربما كان في وسعي أن أجيب عن أسئلتك على نحو أصلح مما يجيب به غيري. فلتحاول إذن، وقد اكتسبت بهذه المعونة قوة، أن تثبت للمرتابين أن الحق معك.
تعريف الفيلسوف
فقلت: سأحاول إذن، ما دمت أجد فيك حليفًا يشد أزري.
إنه ليبدو لي من الضروري، إن شئت أن أنجو من أولئك الذين تتحدث عنهم، أن أصف لهم نوع الفلاسفة الذين نقول إن علينا توليتهم الحكم، حتى إذا ما ازدادوا بهم علمًا، أمكننا أن ندافع عن أنفسنا بأن نبين أن الطبيعة قد فطرت البعض بحيث يتعلق بالفلسفة ويحكم الدولة، وفطرت البعض الآخر بحيث يعجز عن التفلسف ويطيع مَن يحكمه.
– إن هذا هو وقت بحث هذا الموضوع.
– حسن، فلتتبعني لترى إن كنت رائدًا صالحًا.
– سر في طريقك إذن.
– أهناك ما يدعوني إلى أن أذكرك بأننا عندما نقول عن شخص إنه يحب شيئًا ما فلا بدَّ — إن كانت تلك الكلمة صحيحة — من أن يبدي حبه لذلك الشيء بأكمله، لا لجزء منه فحسب؟
– أظن أن عليك أن تذكرني بذلك؛ لأنني لا أذكره جيدًا.
– لقد كان الأجدر بإجابتك هذه شخصًا أقل منك خبرة بالحب يا جلوكون. فلا بدَّ أنك تعلم أن كل شاب في زهرة العمر يخلب لب رجل يقدر الحب ويتذوقه مثلك، ويبدو له جديرًا برعايته وعنايته. أليست هذه طريقتك في السلوك نحو مَن تحبهم؟ إن أحدهم لو كان مقوس الأنف لأطريت فيه ذلك فأسميته رشيقًا. ولو كان ذا أنف مجدوع، لقلت إنه ذو مظهر ملوكي. ولو كان أنفه مستقيمًا، لقلت إنه تام التناسق. أما ذوو البشرة السمراء من الصبية، فإن مظهرهم عسكري خشن، وذوو البشرة البيضاء أبناء الآلهة، كما أن من الشائع الحديث عن البشرة الشاحبة وهو فيما أرى تعبير غير مطابق؛ إذ إنه هو اللفظ الذي يعبر به المحب عن عدم وجود عيب في بشرة محبوبة. وبالاختصار، فإنك تلجأ إلى كل الحُجج، وتغني بكل الأنغام، حتى لا يفلت منك واحد ممن هم في زهرة العمر.
(٤٧٥) – إن كنت تتخذني مثالًا لوصف سلوك المحبين وأحوالهم، فإني أوافقك لغرض الجدل.
– ولنتأمل أيضًا محبي الخمر: ألا تراهم يسلكون إزاءه على نفس النحو وينتحلون شتى المعاذير ليحتسوا أي نوع منه؟
– هذا صحيح.
– ولا بدَّ أنك قد لاحظت أيضًا، عن الطموحين، إنهم إن لم يمكنهم قيادة جيش بأسره، اكتفوا بقيادة فرقة منه، وإن لم يمكنهم أن يحظوا بتكريم علية القوم وسادتهم، اكتفوا بتكريم الأتباع وعامة الناس، حرصًا منهم على أن يكرموا على أي نحو.
– هذا صحيح كل الصحة.
– فهل توافق إذن على أننا عندما نقول عن شخص إنه يرغب شيئًا ما، فإننا نعني أنه يرغبه بتمامه دون تمييز؟
– أجل.
– ألا يجدر بنا إذن أن نقول عن الفيلسوف بدوره أنه لا يعشق الحكمة من وجهها هذا أو ذاك، وإنما يعشقها كلها؟
– هذا صحيح.
– فإن وجد شخص ينفر من المعرفة، وبخاصة إن كان لا يزال حدثًا لا يميز الطيب من الرديء، فإننا نقول عنه إنه لا يحب المعرفة أو الحكمة، مثلما ينبغي ألا نقول عمن يأنف من الأكل إنه جائع أو إنه يشعر برغبة في الأكل، أو إنه نهم، وإنما نقول إنه متقزز.
– إنك لعلى حق في هذا.
– أما إذا كان المرء ميالًا إلى تذوق كل المعارف، وكان عكوفًا على اكتساب العلم، نهمًا إلى الاطلاع، ففي هذه الحالة وحدها يحق لنا أن نسميه فيلسوفًا.
فأجاب جلوكون: إن مَنْ يستمع إلى قولك هذا يستنتج أن هذه الصفة تتوافر في أفراد كثيرين، يكونون مجموعة غير متآلفة. فيبدو لي أن حب الاستطلاع، والميل إلى كل ما هو جديد في التجربة، هو الذي يُكسب الناس الميل إلى كل ما يمكن رؤيته وسماعه في الحفلات الموسيقية. وهذه فئة يكون من الغرابة بمكان أن نضعها في مصاف الفلاسفة؛ إذ إن أفرادها لا يجشمون أنفسهم أبدًا عناء الاشتراك في مناقشة فلسفية أو ما يشبهها، وإنما يجرون في كل مكان ليستمعوا إلى كل الطقوس الديونيزية، حريصين على ألا تفوتهم واحدة منها، سواء في المدينة أو في الريف، وكأنهم ملزمون، بموجب تعاقد صريح، بالاستماع إليها كلها. فهل ترى أن حب الاستطلاع عند هؤلاء، وكذلك عند هواة الفنون الأخرى الأقل شأنًا، يعطيهم الحق في أن يسموا أنفسهم فلاسفة؟
فقلت: «ما كان هذا رأيي قط. فهؤلاء ليس لهم من الفلسفة إلا المظهر.»
فسأل: وإذن فمَن هم الفلاسفة الحقيقيون في رأيك؟
– إنهم أولئك الذين يعشقون الحقيقة.
– هذا حسن. ولكن لتفصح عن فكرتك.
– ليس هذا بالأمر الهين لو كنت أحدث غيرك. أما أنت، فأظنك تتفق معي في هذا الأمر.
– وما هو؟
(٤٧٦) – إنه لما كان الجميل عكس القبيح، فهما شيئان.
– بلا جدال.
– وما داما اثنين، فكل منهما واحد.
– أوافقك أيضًا على ذلك.
– هذا صحيح.
فاستطردت قائلًا: وعلى أساس هذه الملاحظة، أستطيع أن أميز بين أولئك الذين أطلقت عليهم اسم محبي الفنون وأصحاب الشئون العلمية، وبين الفلاسفة الذين يعنينا هنا أمرهم، والذين هم وحدهم الجديرون بهذا الاسم.
– فقال: أفصح عن فكرتك.
فقلت: إن محبي الأنغام والمناظر تستهويهم الأصوات العذبة والألوان البديعة والأشكال الجميلة وكل ما يتمثل فيه الجمال، ولكن ليست لديهم القدرة الفكرية على تأمل الجميل في ذاته أو التمتع به.
فقال: هو كذلك حقًّا.
– أما أولئك الذين يتسنى لهم أن يرقوا إلى الجميل في ذاته، وأن يتأملوا ماهيته، فهم نادرون حقًّا، أليس كذلك؟
– إنهم نادرون بالتأكيد.
العلم والظن
فإذا كان هناك شخص يؤمن بوجود الأشياء الجميلة، دون أن يؤمن بوجود الجمال في ذاته، ويعجز عن أن يتتبع من أراد أن يطلعه عليه، فهل تظن أن هذا الشخص يحيا بحق؟ أليست حياته كلها حلمًا؟ فلنتأمل معنى الحلم. أليس هو خلط المرء سواء في يقظته أو في منامه، بين الشبيه المحاكي وبين الشيء الواقعي الذي يحاكيه هذا الشبيه؟
– في رأيي أنا على الأقل أن هذا هو الحلم.
– أما ذلك الذي يسلم بوجود الجمال في ذاته، ويتسنى له أن يتذوق هذا الجمال في ماهيته، وكذلك الأشياء التي تشارك فيه، دون أن يخلط بين هذه الأشياء وبين الجمال، وبين الجمال وبين هذه الأشياء، فهل تراه شخصًا حالمًا أم متيقظًا؟
فقال: إنه متيقظ بالتأكيد.
– وإذن فتفكير ذلك الرجل العارف يستحق أن يسمى معرفة، أما تفكير الآخر، الذي يبني أحكامه على مظاهر، فليس إلا ظنًّا.
– بلا شك.
– ولكن إذا هب في وجهنا ذلك الرجل الذي قلنا عنه إن تفكيره ظن لا علم، واعترض على رأينا، ألا يكون الأجدر بنا أن نهدئه ونقنعه بالحسنى، بدلًا من أن نخبره صراحة أن ذهنه مختل؟
– هذا ما يجب علينا أن نفعله.
– حسن، فلنبحث فيما يمكننا أن نجيب به عليه، أم أنك تود منا أن نوجه إليه سؤالًا، ونؤكد له أنه لو كان على علم بشيء، فنحن لسنا غيورين منه، وإنما يسعدنا أن نلقى رجلًا له علم بشيء؟ سنسأله قائلين: أجبنا، هل العارف يعرف شيئًا ما أم لا يعرف شيئًا؟ فلتجب أنت يا جلوكون نيابة عنه.
(٤٧٧) فقال: سأجيب بأنه لا بدَّ أن يعرف شيئًا ما.
– شيئًا موجودًا أم غير موجود؟
– بل شيئًا موجودًا؛ إذ كيف نعرف شيئًا غير موجود؟
– وهكذا فلا بدَّ أن نوقن، مهما كانت وجهة النظر التي نتخذها، بأن ما يوجد على نحو كامل يعرف على نحو كامل، وما لا يوجد على الإطلاق، لا يعرف على الإطلاق؟
– هذا مؤكد.
– حسن. ولكن إذا كان ثمة أشياء من طبيعتها أنها توجد ولا توجد في الوقت نفسه، ألن تحتل هذه موقعًا وسطًا بين الوجود الخالص واللاوجود المطلق؟
– بلى.
– ولمَّا كانت المعرفة تتعلق بالموجود، والجهل يجب أن يلحق باللاموجود، فعلينا أن نبحث لهذا الشيء الوسط عن شيء يقع بين المعرفة والجهل، إن أمكن وجود شيء كهذا.
– بالتأكيد.
– أليس هناك شيء اسمه الظن؟
– بلا شك.
– وهل هو ملكة مختلفة عن المعرفة، أم أنه هو المعرفة ذاتها؟
– إنه ملكة مختلفة.
– وإذن فلا بدَّ أن يكون موضوع الظن شيئًا وموضوع المعرفة شيئًا آخر تبعًا لقدرة كل منهما.
– أجل.
– على أن الموضوع الطبيعي للمعرفة هو الوجود، أعني معرفة حقيقة الوجود. ومع ذلك يبدو لي أن علينا، قبل أن نواصل سيرنا، أن نحدد فكرة معينة.
– ما هي؟
– فلنقل إن الملكات هي أنواع القوى التي تتيح لنا، ولكل فاعل آخر، أن نفعل ما يمكننا أن نفعله. فالبصر والسمع مثلًا ملكتان بهذا المعنى. أتراك تفهم ما أعني بهذا الاسم العام؟
– أجل، إني لأفهم ما تعنيه.
– سأنبئك إذن عن رأيي في الملكات. إنني لا أستطيع أن أرى فيها لونًا ولا شكلًا، ولا أية صفة من تلك الصفات التي تتيح لي، في حالة الأشياء الأخرى العديدة، أن أميز الواحد منها عن الآخر. وكل ما أستطيع أن أفعله في حالة الملكة هو أن أتأمل موضوعها وتأثيراتها، وعلى هذا الأساس أستطيع تحديد كل منها، بحيث أقول بهوية تلك التي تتخذ لنفسها موضوعًا واحدًا وتؤدي إلى نفس التأثير، في حين أقول باختلاف تلك التي يختلف موضوعها وتؤدي إلى تأثيرات مختلفة. فهل هذه هي الطريقة التي تميز بها أنت بدورك الملكات بعضها عن بعض؟
– أجل.
– والآن فلنعد، أيها الصديق الكريم، إلى المعرفة، أتدرجها ضمن الملكات، أم ضمن فئة أخرى؟
فقال: إنها ملكة، بل إنها لأقوى الملكات.
– وما قولك في الظن؟
– إننا لا نستطيع أن ندرج الظن تحت نوع آخر؛ إذ إنه ليس إلا الملكة التي تتيح لنا الحكم على ظواهر الأمور.
– ولكنك قد سلمت منذ برهة وجيزة بأن المعرفة والظن مختلفان.
– أجل؛ لأنه ليس من المعقول أن يخلط المرء مَنْ هو معصوم من الخطأ بمن هو معرض للخطأ.
(٤٧٨) – فقلت: حسنًا. فنحن إذن متفقان على هذه المسألة، وهي أن المعرفة والظن مختلفان.
– أجل.
– ولمَّا كانت قدرة كل منهما تختلف عن قدرة الآخر، فلا بدَّ أن يكون لكل منهما موضوع مختلف.
– هذا ضروري.
– على أن موضوع المعرفة هو الموجود، وقدرتها في أن تعرفه على ما هو عليه، أليس كذلك؟
– أجل.
– أما الظن، فهو القدرة على إدراك الظاهر.
– أجل.
– فهل للظن نفس الموضوع الذي تدركه المعرفة. وهل يمكن أن يكون الشيء الواحد موضوعًا للمعرفة والظن في آنٍ واحد، أم أن هذا محال؟
فقال: هذا محال، تبعًا للمبادئ التي سلمنا بها؛ ذلك لأنه إذا صح أن للملكات موضوعات مختلفة، وأن المعرفة والظن ملكتان، وملكتان مختلفتان، كما نؤكد، فإنه يترتب على ذلك استحالة أن يكون الشيء نفسه موضوعًا للمعرفة وللظن في آنٍ واحد.
– وعلى ذلك، فلو كان موضوع المعرفة هو الموجود، فلا بدَّ أن يكون موضوع الظن شيئًا غير الموجود؟
– أجل.
– أيكون هو اللاموجود، أم أن من المحال كذلك أن يكون اللاموجود موضوعًا حتى للظن؟ فلتفكر في الأمر؛ إن من لديه ظن، لا بدَّ أن يكون لديه ظن بشيء ما، أم تعتقد أن من الممكن أن يكون لديه ظن لا ينطبق على شيء؟
– هذا محال.
– فمن لديه ظن، لديه إذن ظن بشيء ما؟
– أجل.
– ولكن اللاموجود ليس شيئًا، بل هو لا شيء، إن شئنا الدقة في التعبير.
– بالتأكيد.
– ولكننا قلنا: إن الجهل متعلق باللاموجود، والمعرفة بالموجود.
– هذا صحيح.
– وإذن فالظن لا يتعلق بالموجود ولا باللاموجود.
– كلا.
– وعلى ذلك فلا يمكن أن يكون الظن جهلًا ولا علمًا.
– يبدو ذلك.
– فهل هو يتجاوز الاثنين معًا، وهل هو أكثر وضوحًا من العلم أو أشد غموضًا من الجهل؟
– لا هذا ولا ذاك.
فاستطردت قائلًا: «وإذن فالظن يبدو لك أشد غموضًا من العلم وأكثر وضوحًا من الجهل؟»
– هذا ما يبدو لي.
– فهو إذن بين الاثنين؟
– أجل.
– فالظن إذن شيء وسط بين العلم والجهل؟
– بالتأكيد.
– ألم نقل من قبل إننا لو صادفنا شيئًا يوجد ولا يوجد في نفس الآن، فإن هذا الشيء يحتل موقعًا وسطًا بين الوجود الخالص واللاوجود المطلق، ولا يكون موضوعًا لعلم ولا لجهل، وإنما لملكة بين الجهل والعلم؟
– لقد قلنا ذلك حقًّا.
– وها نحن أولاء قد رأينا أن تلك الملكة المتوسطة هي ما نسميه بالظن.
– أجل.
– بقي علينا إذن أن نبحث في ذلك الشيء الذي يشارك في الوجود واللاوجود، والذي لا يمكن أن يجد، في الحق وجودًا خالصًا أو لاوجودًا مطلقًا. فإن اهتدينا إليه، ففي وسعنا حقًّا أن نعده موضوعًا للظن، وبذلك ننسب الموضوعين المتطرفين إلى الملكتين المتطرفتين، وننسب الموضوع الوسط إلى الملكة الوسطى. أليس هذا ما يجدر بنا أن نفعله؟
– بلى.
(٤٧٩) – فإن اتفقنا على ذلك، فإني أطلب برد من ذلك المعارض الشجاع الذي لا يؤمن بوجود الجميل في ذاته، أو أي مثال للجمال المطلق يظل دائمًا ثابتًا وفي هوية مع ذاته، والذي لا يعترف إلا بالكثرة من الأشياء الجميلة — ذلك الذي يحب الأشياء كما تظهر، ولا يطيق أن يتحدث إليه مخلوق عن الجمال الواحد، والعدالة الواحدة، وما إلى ذلك. سأقول له: تأمل أيها الصديق. أيوجد بين ذلك الجمع الكبير من الأشياء الجميلة، ما ليس فيه جانب قبيح، أو بين الأفعال العادلة ما ليس فيه جانب من الظلم، أو بين الأمور الصالحة ما ليس فيه جانب غير صالح؟
فأجاب: كلا، إن الأشياء الجميلة لا بدَّ أن تبدو قبيحة في وجه من أوجهها، وكذلك الحال في كل الصفات الأخرى التي تحدثت عنها.
– وبالمثل، فإن الأشياء العديدة المزدوجة ينبغي أن نعدها أنصافًا مثلما نعدها أزواجًا.
– أجل.
– والأشياء الكبيرة والصغيرة، والخفيفة والثقيلة، أتصدق عليها واحدة من هاتين الصفتين المتقابلتين أكثر مما تصدق عليها الصفة المضادة؟
– كلا؛ لأن لكل منها نصيبًا من الصفتين معًا.
– وإذن فأيًّا كانت الصفات التي ننسبها إلى هذه الأشياء العديدة، فهل يحق لنا القول إن هذه الصفات موجودة فيها على نحو مطلق، أكثر مما يحق لنا القول إنها غير موجودة فيها؟
فاستطردت قائلًا: فهل تعلم ما يجدر عمله بالنسبة إلى هذه الأمور؟ أليس أفضل ما نفعله هو أن نضعها بين الوجود واللاوجود؛ ذلك لأنها لا يمكن أن تكون أكثر غموضًا من الوجود، وبالتالي لا يمكن أن تكون أقل وجودًا منه، ولا يمكن أن تكون أكثر وضوحًا من الوجود، وبالتالي أكثر وجودًا منه.
– هذا عين الصواب.
– وهكذا نكون قد اهتدينا، على ما يبدو، إلى أن الأفكار المختلفة التي لدى العامة من الجمال وما شاكله من الصفات تحلق — إن جاز هذا التعبير — في الفراغ الواقع بين الوجود المطلق واللاوجود المطلق.
– أجل.
– ولكنا قد اتفقنا من قبل على أننا إن وجدنا شيئًا من هذا النوع، فالواجب أن نقول إنه يتعلق بالظن لا بالعلم؛ إذ إن هذه هي الملكة الوسطى التي تدرك الأشياء المحلقة بين الطرفين.
– لقد اتفقنا على ذلك بالفعل.
– وإذن فسنقول عن أولئك الذين يتأملون الكثرة من الأشياء الجميلة، دون أن يروا الجميل في ذاته، ويعجزون عن تتبع من يود أن يرشدهم إليه، وعن أولئك الذين يتأملون الكثرة من الأشياء العادلة ولا يرون العادل في ذاته، وهكذا دواليك؛ سنقول عن هؤلاء إن كل ما لديهم ظنون فحسب، وإنهم يفتقرون إلى أية معرفة حقة بموضوعات ظنهم.
فقال: هذا أمر لا شك فيه.
– ولكن ما قولك فيمن يتأملون الأشياء في ذاتها، والتي تظل دائمًا في هوية مع ذاتها؟ ألا نقول عنهم إن لديهم معرفة، لا مجرد ظن؟
– هذا أيضًا أمر لا شك فيه.
(٤٨٠) – كما نقول بالتالي إن هؤلاء يتعلقون بالأمور التي هي موضوع للعلم، أما أولئك فيتجه تعلقهم إلى الأمور التي هي موضوعات للظن؛ ذلك لأن الأخيرين، كما تذكر، هم الذين يطربون لسماع الأصوات الجميلة ولمرأى الألوان الجميلة وكل ما شابه ذلك من مظاهر الجمال، ولكنهم لا يطيقون أن يتحدث إليهم أحد عن الجميل في ذاته بوصفه شيئًا حقيقيًّا.
– إني لأذكر ذلك.
– ألا يكون من الإنصاف أن نطلق عليهم اسم محبي الظن بدلًا من محبي الحكمة؟ وهل يحق لهم أن يغضبوا لهذا الوصف؟
فقال: كلا، إذا استمعوا لنصيحتي؛ إذ ليس لأحد أن يغضب من الحقيقة.
– فعلينا إذن أن نطلق اسم الفلاسفة، لا محبي الظن، على أولئك الذين يتعلقون في كل الأحوال بحقائق الأشياء.
– بلا جدال.